القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

للأقربيّة الى نفس الأمر بإرادة الأقرب إليه بالنّسبة الى سائر الأحياء ، إذ ذلك ليس معنى الظنّ النّفس الأمريّ.

فظهر أنّ المعيار لا بدّ أن يكون في أوّل الأمر هو الرّاجح في نفس الأمر وإن كان هو قول الميّت.

وهذا الكلام بالنّظر الى ملاحظة الكلامين المختلفين في المقتضى ، أعني قولهم : بتقديم الأعلم والأورع ، وقولهم : بوجوب تقليد الحيّ.

وأمّا التّحقيق ، فهو أنّ الإفتاء والتقليد ليس من باب البيّنة ، بل هو حكم عقليّ ، فإنّ مبناه وجوب معرفة أحكام الله تعالى إمّا علما أو ظنّا ، وهو مثل وجوب معرفة الله تعالى ومعرفة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمثال ذلك من المسائل العلميّة العقليّة ، فإذا حصل العلم الإجماليّ للمقلّد بأنّ لله تعالى أحكاما وشرائع ، فهو إمّا بنفسه في صدد تحصيله ، أو بتنبيه الآمرين بالمعروف.

وكيف كان فإمّا يحصل له الجزم بحكم الله تعالى ولو بتقليد أمّه أو الظنّ به أو الظنّ بأحد الأمور التي حكم الله تعالى فيها ، سواء كان غافلا وأدّاه فهمه الى مرتبة من تلك المراتب ، أو متفطّنا وحصل له بحسن ظنّه بمرشده أحد المذكورات.

ولا ريب أنّ الأدلّة الدالّة على جواز التقليد من النّقل والعقل أيضا إنّما يدلّ على لزوم تتبّع نفس الأمر علما أو ظنّا ، فإنّ آية النّفر تدلّ على أنّ البعيدين عن ساحة الشّارع ومن يقوم مقامه ، لا بدّ أن يحصّلوا حكمهم النّفس الأمريّ بالأخذ عن النّافرين ، إمّا علما أو ظنّا ، وكذلك الأخبار الدالّة على ذلك ، وكذلك دليل العقل يقتضي وجوب تحصيل تلك الأحكام إمّا علما بها أو ظنّا تفصيليّا ، أو ظنّا إجماليّا ، أو بالأخذ بأحد من الأمور التي توجب ذلك.

وظنّي أنّ الذي دعا من قال من أصحابنا بكون الفتوى مثل البيّنة ، هو ما اشتهر

٦١

بينهم من عدم جواز تقليد الميّت ، وهو مع ما فيه على إطلاقه ممّا سيجيء في محلّه ، أنّ في كلامهم ما ينافيه أيضا كما عرفت.

ومن ذلك يظهر بطلان قول خصمائنا في المسألة القائلين بحرمة عمل المجتهد على الظنّ إلّا الظّنون المعلوم الحجّية ، إذ ليس معنى قولنا : إنّ المسألة الفقهيّة إذا كانت الشّهرة تدلّ على أحد طرفيها وخبر الواحد على الطرف الآخر ، يقدّم مقتضى الخبر فيها ، لأنّه معلوم الحجّية دون مقتضى الشّهرة ، إلّا أنّ الشّارع جعل الخبر كالبيّنة دون الشّهرة ، لا أنّه يجوز العمل بهذا الظنّ دون ذلك ، لعدم إمكان اجتماع الظنّين في موضوع واحد.

فمقتضى ذلك لزوم العمل بخبر الواحد وإن لم يفد الظنّ بالحكم بخصوص المسألة في نفس الأمر ، وهو كما ترى مخالف لكلمات الخصماء فضلا عن موافقينا في القول ، ولا يمكنهم القلب علينا بأنّ ذلك يرد عليكم بالنسبة الى القياس لو حصل منه الظنّ في أحد طرفي المسألة وكان في الطّرف الآخر خبر مثلا ، لعدم حصول الظنّ النّفس الأمريّ حينئذ بالخبر ، فيكون العمل به حينئذ تعبّديّا ، وذلك لأنّا لا نمنع حصول الظنّ بالقياس سيّما فيما خالفه خبر وسنشير إليه.

سلّمنا ، لكن نقول حينئذ : لا نعمل بالقياس ولا بالخبر ، لحرمة هذا وعدم حصول الظنّ بهذا ، بل نعمل بالأصول والقواعد ، فنحكم بالتّخيير حينئذ ، وعلمنا حينئذ على ما هو مقتضى القياس لو اخترناه ليس من جهة انّه مقتضاه ، بل لأنّه أحد طرفي التّخيير.

وأمّا على طريقتهم ، فيعملون بالخبر لأنّه حجّة وإن لم يفد الظنّ أصلا ، مع أنّ ذلك كيف يجتمع مع ما التزموه من مراعاة التّراجيح بينها إذا اختلف ، ولزوم تحصيل ما هو أقرب الى نفس الأمر كما يستفاد من ملاحظة الأخبار العلاجيّة ،

٦٢

سيّما مقبولة عمر بن حنظلة ، ولا ريب أنّ ذلك ليس من باب التعبّد ، بل سنذكر في الخاتمة بأوضح بيان بطلان بناء رفع التّعارض بين الأخبار بالأخبار العلاجيّة ، وأنّه لا مناص في باب التّراجيح عن الاعتماد على الظنّ.

والمراد بالبناء على الظنّ هو الظنّ بنفس [في نفس] الأمر لا الظنّ بنفس الأمر ، بشرط أن يكون الظنّ حاصلا من الخبر من حيث إنّه خبر ، وحصول الظنّ بنفس الأمر في نفس الأمر قد يحصل بالشّهرة دون الخبر ، فيكون مقتضى الخبر حينئذ موهوما ، فلو عملنا عليه حينئذ لما عملنا أصلا بالظنّ النّفس الأمريّ في نفس الأمر ، هذا خلف.

فإذا أردت التّعميم والتّخصيص في أصل حرمة العمل بالظنّ ، فيصحّ أن يقال : إنّه لا يجوز العمل بالظنّ إلّا في حال الاضطرار مثلا ، لا أنّه يجوز العمل بالظنّ في المسألة الخاصّة بسبب الشّهرة ، ويجوز فيها بسبب الخبر.

وقد مرّ منّا ما يدلّ على بطلان القول بأنّ حجّية خبر الواحد مثل حجّية البيّنة ، وقد ذكرنا أنّ آية النّبأ لا تدلّ على أنّ حجّيته ليس إلّا من جهة إفادة الظنّ من حيث هو ، وذكرنا أيضا اشتراط العدالة في الرّاوي أيضا لأجل بيان تفاوت مراتب الظّنون ، وينادي بذلك سائر الكلمات والأخبار الواردة في علاج التّعارض ، سيّما مقبولة عمر بن حنظلة ، وسنذكرها في آخر الكتاب ، فإنّ كلّها يدلّ على أنّ ذلك من باب تحقيق مراتب الظنّ.

وأيضا المستفاد من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد سيّما الأخبار العلاجيّة أنّ الظنّ الحاصل بالرّوايات حجّة ، لا أنّه حجّة من حيث إنّه خبر ورواية ، فعلى مدّعي الخصوصيّة الإثبات كما في البيّنة ، وأنّى له بإثباتها.

فإن قلت : ما ذكرته يرد على التّراجيح المذكورة في تعارض البيّنات فإنّها

٦٣

أيضا مبنيّة على تحصيل الأقرب الى نفس الأمر ، فيلزم على هذا عدم كون البيّنة أيضا تعبّديّة ، ولا بدّ أن تكون تابعة للظنّ النّفس الأمريّ.

قلت : قد ثبت كون البيّنة تعبّديّة بالدّليل ، ومحدودة عند الشّارع بالحصر المقرّر الثّابت ، بخلاف مثل خبر الواحد وتقليد الحيّ ، فإنّ غايتهما ثبوت حجّيتهما لا انحصار الحجّية فيهما ، ولا استبعاد في أن يبني الشّارع إثبات المطالب على شيء خاص تعبّدا كما فعله في قاعدة اليقين.

ثمّ لا استبعاد بعد ذلك في صورة تعارض أشخاص هذه التعبّديّات في الحكم ، بالرّجوع الى تحصيل ما هو الأقرب الى نفس الأمر منها ، كما في قاعدتين من قواعد اليقين إذا تعارضتا كما في الذّبابة الواقعة على الثّوب الطّاهر من نجاسة رطبة عن قريب ، فإذا تعارضت البيّنتان فلا مانع من أن يحكم الشّارع بالعمل على ما هو أرجح منهما حصولا من حيث المدلول بالنّسبة الى نفس الأمر إن لم يكن هناك ظنّ ثالث منع عن تحصيل الأقرب الى نفس الأمر في نفس الأمر ، وإن فرض ذلك ، فيكون الرّجوع الى المرجّحات أيضا تعبّديّا ، كما يظهر من ملاحظة كلام العلماء في تعارض بيّنة الدّاخل والخارج. فإنّ ترجيح أحدهما على الآخر إمّا من جهة القرب النّفس الأمريّ ، كإفادة اليد الظنّ بذلك ، والاستصحاب ونحوهما منضمّا الى الأخبار الواردة في تقديم الدّاخل ، أو كإفادة كون التّأسيس أولى من التّأكيد ونحوه الخارج.

وإن كان هناك ظنّ ثالث منع عن تحصيل الظنّ النّفس الأمريّ بأحدهما ، فنقتصر في المرجّحات على التعبّد ونعمل بما ورد في الأخبار من تقديم أيّهما تعبّدا. ثمّ لا مانع بعد ذلك في تعارض تلك الأخبار الواردة في حكمها أيضا من العمل بالظنّ النّفس الأمريّ بالنّظر الى متابعة أيّهما تعبّدا.

٦٤

ولا يمكن جريان ذلك في الأخبار المتعارضة في المسألة الفقهيّة إذ لا يمكن حمل الأخبار العلاجيّة على التعبّد كما سنشير إليه في الخاتمة ، بخلاف ما دلّ على تقديم ذي اليد على غيره أو العكس ، مع أنّ ظاهر كلامهم في البيّنات مفروض فيما انحصر الحقّ بين اثنين وتعارض البيّنات ، وحينئذ فلا مانع من مراعاة نفس الأمر ، وهؤلاء لا يقولون بهذا التّفصيل ، ولا يمكنهم القول به فيما لو كان هناك ظنّ ثالث خارج عن الخبرين لم يعتبر شرعا لعدم دلالة الأخبار العلاجيّة عليه حينئذ كما سنبيّنه في الخاتمة ، وليس شيء آخر يدلّ عليه ، وكذلك الكلام في التقليد والفتاوى.

فإن قلت : إنّ ما دلّ على حرمة العمل بالقياس مثلا يدلّ على كون العمل بغيره ، مثل الخبر الواحد تعبّديا كالعمل بالبيّنة ، فهذا أيضا كالحصر والتّحديد في البيّنة.

قلت : لا دلالة في ذلك على ذلك ، إذ هو إنّما يتمّ لو سلّمنا كون العمل بالقياس منهيّا لكونه مفيدا لهذا الظنّ الخاصّ ، وكون العمل بالخبر جائزا لكونه مفيدا لهذا الظنّ الخاص ، وكلاهما ممنوعان.

أمّا الأوّل ، فلأنّا لا نمنع كون القياس مفيدا للظنّ ، سيّما بعد ما ورد في الأخبار المتواترة المنع عنه ، وخصوصا بعد ملاحظة ما ذكروه في بيان عدم الجواز من جهة أنّ دين الله تعالى لا يصاب بالقياس (١) ، لأنّ الحكم الكامنة في الأشياء لا يعلمها إلّا الله الحكيم العليم.

__________________

(١) «إنّ دين الله لا يصاب بالمقائيس» «الكافي» ١ / ١٠٧ باب البدع والرّأي والمقاييس ح ٧.

٦٥

وقد روى في «الكافي» (١) في القويّ عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عليه الصلاة والسلام عن القياس فقال : «ما لكم والقياس إنّ الله تعالى لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

ومع ملاحظة جمع الشّارع بين المختلفات في الحكم وتفريقه بين المؤتلفات ، فكيف يجعل مجرّد المناسبة والمماثلة منشأ للقياس ، ألا ترى أنّهم ذكروا في أخبار كثيرة أنّ أوّل من قاس إبليس ، وذكروا في وجه الرّدع أنّه لم يعرف الفرق بين النّار والطّين ، وبين آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ونفسه ، فقاس آدم عليه‌السلام بالطّين.

ففي رواية الحسين بن ميّاح (٢) عن أبيه عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام (٣) قال : «إنّ إبليس قاس نفسه بآدم عليه‌السلام ، فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٤) ، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم عليه‌السلام بالنّار ، كان ذلك أكثر نورا وضياء من النّار.

وفي معناه رواية عيسى بن عبد الله القرشي (٥).

وقد ذكروا عليهم‌السلام في الأخبار مواضع شتّى في ردّ أبي حنيفة ، تدلّ على عدم صحّة القياس في الأصل ، مثل أنّ القتل يثبت بشاهدين ، والزّنا لا يثبت إلّا بأربع ، مع أنّ القتل أكبر ، والمنيّ يوجب الغسل ، والبول يوجب الوضوء مع أنّه أكبر ، وأنّ

__________________

(١) ١ / ١١١ باب البدع والرّأى والمقاييس ح ١٦

(٢) في نسخة الأصل (صبّاح) وفي اخرى (صيّاح).

(٣) «الكافي» ١ / ١١٢ باب ١٩ البدع والرّأي والمقاييس ح ١٨.

(٤) الأعراف : ١٢.

(٥) في «الكافي» نفس الباب السّابق ح ٢٠.

٦٦

صوم الحائض يقضى دون صلاتها مع أنّها أكبر ، وجعل للرجل في الميراث سهمان وللمرأة سهم مع أنّها أضعف ، وأنّ يد السّارق تقطع بعشرة دراهم وتؤدّى بخمسة آلالف (١) درهم ، وهي مذكورة في «العلل» وغيرها ، ويظهر بطلانه من ملاحظة منزوحات البئر أيضا.

والحاصل ، أنّ ما لا يستقلّ العقل بإدراك الحكمة والمصلحة فيه قاطعا به [و] لا يجوز الحكم بكون المصلحة والحكمة فيه شيئا تدركه (٢) الأوهام البادية ، فإمّا لا يحصل الظنّ في القياس أصلا ، أو هو ظنّ باد لا يعتنى به لما يظهر بطلانه وفساد مبناه من ملاحظة هذه الأحكام.

وبالجملة ، الحكم بعدم كونه مفيدا للظنّ ليس ببعيد ، بل هو المتعيّن بعد التأمّل وملاحظة ما ذكر ، وإن كان يفيد الظنّ في بادئ النّظر وحين الغفلة.

فظهر من جميع ذلك ، أنّ المنع عن القياس لعلّه من جهة عدم إفادته الظنّ بأنّ الشّارع حكم بكذا لأنّه ظنّ خاص لا يجوز العمل به ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد بمنعهم عليهم‌السلام عن القياس هو المنع عن التّشريع والبدعة ، والاستقلال بالحكم بمحض ما تفهمه (٣) الأوهام الضّعيفة والأحلام السّخيفة ، فإنّ القائسين كانوا يحكمون بمجرّد ملاحظة العلّة من قبل أنفسهم ، ولذلك نعمل نحن على ما يستفاد العلّة فيه من النصّ بالصّريح أو بالتّنبيه.

وتوضيح هذا المطلب ، أنّ لكلّ مصلحة موجودة لشيء في نفس الأمر حكما

__________________

(١) في نسخة الأصل (ألف).

(٢) في نسخة الأصل (يدركه).

(٣) في نسخة الأصل (يفهمه).

٦٧

في نفس الأمر يترتّب عليه ، فإن كان شيء في نفس الأمر سمّا ، فحكمه في نفس الأمر لزوم الاجتناب عنه لو اطّلع عليه.

وكذلك إذا كان شيء في نفس الأمر ترياقا ، فحكمه في نفس الأمر لزوم الارتكاب لو اطّلع عليه ، والعقل يستقلّ بهذا الحكم. فهؤلاء القائسون إذا رأوا أنّ الله تعالى حكم بحكم في شيء خاصّ ، فيتحيّرون في تحصيل العلّة والحكمة الباعثة على الحكم ، فإذا حصل لهم الظنّ بالعلّة ، فيحكمون من عند أنفسهم بالحكم المذكور في الشّيء المماثل ، لاقتضاء العلّة ذلك ، لا لأنّ الشّارع حكمه في ذلك أيضا كذا لأجل هذه العلّة وقولهم تبع له ، بخلاف الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد وما في معناها ، فإنّه معتبر لأجل أنّه كاشف عن قول الشّارع وحكمه ،

فروى الكليني (١) عن محمّد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه الصلاة والسلام ، الى أن قال : فربّما ورد علينا الشّيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيء فنظرنا الى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به. فقال : «هيهات هيهات ، في ذلك والله هلك من هلك يا بن حكيم. قال : ثمّ قال : لعن الله فلانا كان يقول : قال عليّ وقلت» ، الحديث.

ويؤدي مؤدّاه موثّقة سماعة عنه عليه‌السلام وعن الزّمخشري في «ربيع الأبرار» وقال يوسف بن أسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة حديث وأكثر.

قيل : مثل ما ذا؟

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «هو للفرس سهمان وللرّاجل سهم». قال أبو حنيفة:لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن.

__________________

(١) في «الكافي» ١ / ٥٦ ح ٩.

٦٨

«واشعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البدن» ، وقال أبو حنيفة : الإشعار مثلة.

وقال : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا». وقال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار.

«وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا وأقرع أصحابه». وقال أبو حنيفة : القرعة قمار.

وأمّا الثاني ، يعني أنّ تجويزهم عليهم‌السلام للعمل بخبر الواحد ليس لأجل أنّه ظنّ مخصوص ، بل لكونه مفيدا للظنّ بمرادهم عليهم‌السلام فقد مرّ وجهه.

وفذلكة المقام ، أنّ الحكم الشرعيّ هو ما كتب الله على عباده في نفس الأمر ، والكاشف عنه ، والدّليل عليه هو كلامه وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمنائه ، والعقل القاطع.

والمراد بكلامه تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمنائه هو ما هو المراد منها في نفس الأمر ، فإن تحقّق العلم بالمذكورات للمكلّف ، فقد أدرك الحكم وعلم به ، وإن لم يتحقّق العلم به ، فتكليفه الظنّ به ، لما مرّ بيانه.

ثمّ إنّ هاهنا ظنونا قابلة لتجويز العمل بها من الشّارع وهي أقسام :

منها : ما يثبت أصل الحكم ، كخبر الواحد ، والإجماع المنقول ، والظنّ بالإجماع والشّهرة.

ومنها : ما يثبت تحقّق سبب الحكم ووجود الموضوع الذي يستتبع الحكم كالغلبة والعادة ، والقرائن التي يعتبرونها في باب ترجيح الظّاهر على الأصل ، وأحد الأصلين المعتضدين به على الآخر ، والبيّنة والإقرار واليد.

فالتّرخيص بالعمل من الشّارع في الفرقة الأولى إنّما هو ترخيص للعمل بالظنّ بحكم الله تعالى ، وفي الفرقة الثّانية ترخيص للعمل بترتيب الحكم الثّابت المعلوم للموضوع المعلوم ، وتفريع المسبّب المعلوم للسّبب المعلوم بمجرّد الظنّ الحاصل

٦٩

بتحقّق ذلك الموضوع ، ووجود ذلك السّبب.

والكلام في الفرقة الثانية لا ينحصر في أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشّرعيّة في أمثال زماننا ، بل هو حكم وضعيّ وضعه الشّارع مطلقا وفي جميع الأحوال ، بل هو ثابت في بعضها ولو أمكن حصول العلم كما يحمل فعل المسلم على الصحّة وإن أمكن التّفتيش وتحصيل العلم بنفس الأمر.

والحاصل ، أنّ هناك أمورا تتّبع لأجل وضع الشّارع مع قطع النّظر عن إصابة نفس الأمر وعدمه ، سواء كان مظنون الإصابة أو عدمه أو المظنون العدم.

فمنها : العمل على الظّاهر من الغلبة والعادة والقرائن التي قد حصل الاختلاف في تعيين موارد العمل بها ، وإن كان العمل بها في الجملة إجماعيّا.

ومنها : العمل على قاعدة اليقين التي هي أعمّ من الاستصحاب ، إذ الاستصحاب مأخوذ فيه الظنّ ، بخلاف قاعدة اليقين ، فإنّها يعمل عليها وإن لم يحصل الظنّ بمفادّ مقتضاه ، بل ولو ظنّ بعدمه.

ومنها : الرّجوع الى القرعة ، فإنّها أيضا حكم وضعيّ يترتّب عليه الحكم بتحقّق الموضوع والسّبب ليترتّب عليهما الحكم والمسبّب وإن لم يحصل الظنّ به في نفس الأمر ، فحينئذ نقول : النّزاع بيننا وبين خصمائنا إن كان في مثل الفرقة الثّانية ، فقد عرفت أنّهم لا يتمكّنون من النّزاع فيه ، إذ العمل عليها في الجملة إجماعيّ ، لا بمعنى أنّ الإجماع وقع في العمل ببعضها حتّى يقال : إنّ ذلك إنّما هو للإجماع ، بل بمعنى أنّه إجماعيّ أنّ العمل عليه جائز في الجملة ، وتعيين موضعه إنّما هو تابع لرأي المجتهد بحسب ترجيحه وتقديمه ولا اختصاص له بأمثال زماننا.

وإن كان في الفرقة الأولى ، فنقول : أيّ دليل دلّهم على جواز العمل بخبر الواحد دون الشّهرة وأخويها.

٧٠

فإن كان الدّليل هو الإجماع والأخبار الدالّة على الجواز ، فنقول : إنّهما على تسليمهما إنّما يدلّان على أنّه يجوز العمل بغيرها ، ونفي جواز العمل بالغير إنّما يتمّ لو سلّم أصالة تحريم العمل بالظنّ ، وقد عرفت الحال ، وجواز العمل بها مطلق وليس مقيّدا بأنّه لأجل الظنّ الحاصل منها ، وإن قيّد بذلك فلا يتصوّر له معنى إلّا أنّ مدلول الأخبار قائم مقام الحكم الشّرعيّ وإن لم يفد الظنّ أيضا جعلا له من باب الوضع أو أنّ غير الأخبار مثل الشّهرة والظنّ بالإجماع ممّا لا يحصل بهما الظنّ.

والثاني ممّا يكذّبه الوجدان بل العيان ، والأوّل ممّا لا تصدّقه (١) الأخبار وكلام الأخيار ، ولا النّظر والاعتبار ، بل المستفاد من الأخبار والفتاوى والاعتبار هو أنّ العمل بها لأجل أنّها مخبرة عن الإمام وكاشفة عن مراد الملك العلّام إخبارا ظنّيا وكشفا راجحيّا.

ولا ريب أنّه قد يحصل من اشتهار العمل بين الأصحاب ظنّ بأنّه مراد الامام عليه‌السلام ، ومذهبه لا يحصل من خبر معارض لها وإن عمل بها نادر من الأصحاب ، والاعتبار شاهد على أنّ حصول الظنّ بنفس الأمر لا يتفاوت بتفاوت الأسباب إلّا إذا كان السّبب ممّا لا يحصل به الظنّ ، كالقياس على ما بيّنا ، بل الظنّ بالإجماع أقوى في إفادة الظنّ بمذهب الإمام عليه‌السلام عن الخبر الواحد.

وبالجملة ، مرجع الظنّ بالإجماع والشّهرة الى الظنّ بقول الإمام عليه‌السلام كالخبر ، وعلى من يفرّق إبداء الفارق ، فلا بدّ إمّا من القول بأنّ خبر الواحد كاليقين السّابق في قاعدة اليقين ، فكما يجب أن يتبع حكم اليقين السّابق وإن لم يحصل الظنّ

__________________

(١) في نسخة الأصل (يصدّقه).

٧١

ببقائه ، ولو حصل الظنّ بعدمه فيجب العمل بخبر الواحد ، وإن لم يورث الظنّ بنفس الأمر ، بل ولو كان خلافه مظنونا.

وإمّا من القول بأنّ أخويها لا يفيدان الظنّ ، وإلّا فظنّ المجتهد بنفس الأمر ليس أمرا اختياريّا حتّى يحصل بسبب الخبر مع رجحان مقتضى الشّهرة في نظره ، فلم يبق شيء من الظّنون إلّا مثل الرّمل والنّجوم ، وأنت خبير بأنّها ممّا لا سبيل لها الى الحكم الشّرعيّ حتّى يقال بإمكان حصول الظنّ بها ، فلا حاجة الى الآخر.

نعم قد يحصل الظنّ بها في الأسباب والموضوعات ، كالقبلة ودخول الوقت في مثل الآلات التي يستفاد منها السّاعة والقبلة ، ولا ننكر جواز العمل بها مع عدم ظنّ أقوى منها.

ثمّ إنّ الأخباريّين أنكروا الاكتفاء بالظنّ وحرّموا العمل عليه ، ونفوا الاجتهاد والإفتاء والتقليد ، ظنّا منهم بأنّ باب العلم غير منسدّ بدعوى أنّ أخبارنا قطعيّة فيحرم العمل بالظنّ ، ويجب متابعة الأخبار ، ويحرم التقليد ، بل يجب على كلّ أحد متابعة كلام المعصومينعليهم‌السلام.

وهذا كلام لا يفهمه غيرهم ، فإنّ دعوى قطعيّة أخبارنا مع أنّ البديهة تنادي بفسادها ـ وسنشرحها مفصّلا في شرائط الاجتهاد ـ لا تفيد طائلا مع ظنيّة دلالتها واختلالاتها واختلافاتها وتعارضها وعدم المناص عن تلك الاختلالات إلّا بالظّنون الاجتهاديّة لاختلاف الأخبار الواردة في العلاج أيضا بحيث لا يمكن الجمع بينهما بنوع يدلّ عليه دليل قطعيّ.

ويدلّ على جواز الإفتاء والتقليد مضافا الى البراهين العقليّة المقدّمة والآتية

٧٢

الآيات والأخبار ، مثل : آية النفر ، وقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(١) ، وقول الصادق عليه الصلاة والسلام لأبان بن تغلب : «أفت» (٢) ، أو : عليكم بفلان وفلان ، و : خذوا معالم دينكم عن فلان.

والطّريقة المستمرّة في الأعصار السّابقة الى زمان الائمّة عليهم‌السلام من رجوع النّسوان والعوامّ الى قول العلماء من دون أن ينقلوا لهم متن الحديث.

وكيف يمكن فهم الحديث للعجميّ القحّ ، ومن أين ينفع ترجمة العالم إلّا مع اعتماد العامّيّ على فهمه واجتهاده في فهم معناه ، الى غير ذلك من المفاسد التي لا تعدّ ولا تحصى فيما ذكروه ، وقد مرّ بعض كلماتهم في مسألة البحث عن مخصّص العامّ ، وسيجيء بعض منها في شرائط الاجتهاد.

والحقّ ، أنّ الوقت أشرف من أن يصرف في ذكرها وذكر الجواب عنها ، ولذلك طوى فحول العلماء ذكر كلماتهم في كتب الأصول ولم يتعرّضوا لذكرها وذكر ما فيها ، ولمّا شاع في الأعصار المتأخّرة هذه الطّريقة وتكلّم بعض أصحابنا في بعضها ، لم نخل هذا الكتاب من الإشارة الى بعض كلماتهم ودفعها ، والخبير البصير يكفيه ملاحظة ما ذكرنا في هذا الكتاب عمّا لم نذكره ، نسأل الله العصمة في كلّ باب ، فإنّه وليّ الخير والصّواب.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) «الوسائل» ج ٢٠ خاتمة الكتاب باب الهمزة ص ١١٦ ح ٤.

٧٣

قانون

اختلفوا في جواز التّجزّي في الاجتهاد.

وتحقيق القول فيه يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي : أنّ جواز الاجتهاد والتّقليد ووجوب الرّجوع الى المجتهد ، من المسائل الكلاميّة المتعلّقة بأصول الدّين والمذهب ، لا من أصول الفقه ، ولا من فروعه ، فهو يجري مجرى وجوب إطاعة الإمام عليه‌السلام وتعيينه ، لأنّه لا مناص عن لزوم معرفة أنّ الحجّة بعد غيبة الإمام عليه‌السلام من هو ، ولا دخل لذلك في مسائل الفروع.

فإنّ المراد «بالفروع» هو الأحكام المتعلّقة بكيفيّة العمل بلا واسطة ، وتسمّى الأحكام العمليّة أيضا ، ومقابلها الأصول وهي الاعتقادات التي لا تتعلّق بالتكليف بلا واسطة ، وإن كان لها تعلّق بها في الجملة ، ولا في مسائل أصول الفقه ، فإنّها الباحثة عن عوارض الأدلّة ، وليس ذلك من عوارض الأدلّة أيضا كما لا يخفى ، بل معرفة حقيقة الاجتهاد والمجتهد أيضا ليس من مسائل أصول الفقه ، ولذلك جعل بعضهم الاجتهاد والتّرجيح من جملة موضوع هذا العلم.

والحاصل ، أنّ الرّجوع الى العالم بأحكام الشّرع في غير حضرة الإمام عليه‌السلام من مسائل أصول الدّين والمذهب التي تثبت بالعقل وبالنقل أيضا ، مثل المعاد ، ومثل وجوب الإمام عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرعيّة ونحوهما. فكما لا بدّ للمكلّف الاعتقاد بمتابعة الإمام عليه‌السلام إمّا بالعقل أو بالنصّ ، فكذا لا بدّ من الاعتقاد بوجوب متابعة العالم بعد فقد الإمام عليه‌السلام إمّا بالعقل أو بالنّقل ، وهذا حال عدم حضور الإمام عليه‌السلام سواء كان في حال حياته وظهوره أو في حال غيبته المنقطعة.

أمّا العقل ، فلأنّ كلّ من يدخل في أهل ديننا مثلا يعلم بالضّرورة من شرع

٧٤

نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ له أحكاما كثيرة في كلّ شيء على سبيل الإجمال ، وأنّ التكليف باق لم ينقطع ، وأنّه لا بدّ ممّن يعلم هذه الأحكام على سبيل التفصيل يمكن الرجوع إليه لئلّا يلزم التكليف بالمحال ، وليس ذلك إلّا في جملة العلماء.

وأمّا النّقل ، فلكلّ ما ورد من الأمر بالسّؤال عن أهل الذّكر ، وما ورد من الأمر بالرّجوع الى أصحابهم عليهم‌السلام في الأحكام مع بداهة شركتنا مع الحاضرين في التكليف.

بقي الكلام في تحديد العالم وبيان المراد منه ، ولا ريب أنّ العالم بأحكامهم على سبيل القطع بأجمعها داخل فيه.

وكذلك الظّاهر أنّ العالم بها ظنّا من الطّرق الصّحيحة وهو المسمّى بالمجتهد أيضا داخل فيه ، سواء كان في ظهور الإمام عليه‌السلام أو غيبته المنقطعة.

ولا ريب ولا شكّ في جواز الأخذ منه إذا كان عالما بكلّ الأحكام أو ظانّا لها على الوجه المذكور ، وهو المسمّى بالمجتهد المطلق والمجتهد في الكلّ ، وكذلك إذا كان عالما بالبعض على سبيل القطع في خصوص ما علمه.

وأمّا جوازه عن الظانّ ببعضها من الطّرق الصّحيحة على الوجه الذي ظنّه المجتهد المطلق وهو المسمّى بالمتجزّي ، وعن الظانّ ببعضها أو كلّها من غير جهة الطّرق الصّحيحة كعالم آخر غير بالغ رتبة الاجتهاد ليس له من العلم حظّ إلّا التقليد بمجتهد أو غير مجتهد ففيهما خلاف وإشكال ، فهاهنا مقامان :

الأوّل : أنّه هل يجوز الأخذ عن غير المجتهد كالعامّيّ البحت أو من هو أرفع درجة منه ، ولكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد أم لا؟

والثاني : هل يصحّ الرّجوع الى المتجزّي أم لا؟

وهل يجوز للمتجزّي العمل بظنّه أم لا؟

٧٥

فمجمل التّحقيق فيهما ، أنّ من أوجب الرّجوع الى المجتهد المصطلح إن أراد مطلقا حتّى على الغافل والجاهل رأسا ، فهو خروج عن مذهب الإمامية وذهاب الى القول بجواز تكليف ما لا يطاق.

ومن جوّز الرّجوع الى غيره ، إن أراد ذلك مع تفطّنه لاحتمال بطلان ما ارتكبه من الأخذ عن غير المجتهد ، واحتمال وجوب الأخذ عن المجتهد فهو خروج عن مقتضى الدّليل ، وتقصير في حقّ التكليف ، إذ كما أنّ غير الغافل إذا تفطّن بوجوب القول بالخليفة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفطّن للاختلاف أو لزوم معرفة حال الإمام عليه‌السلام ، وأنّه لا بدّ من اتّصافه بوصف يمتاز به عمّا عداه وقصّر في الاجتهاد في تعيينه ، واكتفى بتقليد أبيه أو أستاده أو غيرهما ، فهو مؤاخذ ومعاقب.

فكذلك فيما نحن فيه ، لا بدّ أن يتفحّص ويتأمّل في أنّ ما يعلم ثبوته إجمالا بضرورة الدّين ، ويعلم أنّه يجب عليه إتيانه والامتثال به من ذا الذي يجب أن يرجع إليه في بيان تفاصيلها.

وأمّا الغافل عن لزوم التأمّل في المرجع ، والمطاع الذي يعتقد أنّه لا إمام إلّا من قال والده بإمامته ، ولا يختلج بباله احتمال سواه ، ولا يبلغ فطنته فوق ذلك.

وكذلك من يعتقد أنّ أحكام الدّين هو ما علّمه أبوه أو أمّه ، ولا يختلج بباله احتمال سواه كالأطفال في أوائل البلوغ سيّما أطفال العوام ، بل ونسوانهم وأكثر رجالهم ، مندرجون في عنوان الغافل ، وتكليف الغافل قبيح ، والعبادات الصّادرة منهم إن وافقت (١) الواقع ونفس الأمر فلا قضاء عليهم أيضا ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، وتكليفهم في هذا الحين ليس إلّا ذلك ، بل ولو لم يعلم مطابقته للواقع

__________________

(١) في نسخة الأصل (وافق).

٧٦

أيضا ، بل ولو علم عدم مطابقته للواقع أيضا لعيّن ما ذكر.

وأمّا من تفطّن وقصّر فهو معاقب وإن طابقت (١) عباداته للواقع.

وأمّا القضاء ، ففيما لم يطابق الواقع فلا إشكال فيه ، وفيما لم يعلم فيه المطابقة وعدمها الظّاهر أيضا وجوب القضاء ، إنّما الإشكال في صورة المطابقة ، ولا يبعد القول بوجوب القضاء أيضا حينئذ لعدم صحّة قصد التقرّب في هذه العبادة ، فيكون باطلا.

فحينئذ قول مشهور علمائنا من بطلان عبادة من لم يأخذها من المجتهد ولو طابقت (٢) الواقع ، لا بدّ أن ينزّل على ذلك ، ولكن كلام كثير منهم مطلق.

ومرادهم من قولهم : إنّ الجاهل غير معذور إلّا في موارد خاصّة ، هو الجاهل تفصيلا لا إجمالا أيضا.

لا يقال : إنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج ظنّ المجتهد المطلق ومقلّده بالإجماع وبقي الباقي.

لأنّا نقول : إنّ الطّفل في أوّل البلوغ لا يمكنه معرفة وجوب الأخذ من المجتهد ولا معرفة المجتهد وشرائطه غالبا ، ولا يجب عليه تحصيل ذلك قبل البلوغ.

سلّمنا ، لكن يمكن في حقّه أن لا يتفطّن لذلك وكان غافلا عن وجوب تحصيل ذلك ، ولم يظهر له ما يوجب تزلزله ، بل يعتقد بسبب حسن ظنّه بوالديه أو بمعلّمه أنّ العبادات والأحكام إنّما هي ما يعلّمه هؤلاء وعلّموها إيّاه ، سيّما إذا كان أبوه من العلماء في الجملة ، وإن لم يكن له قوّة الاستنباط ، ولم يكن ناقلا عن مجتهد

__________________

(١ ـ ٢) في نسخة الأصل (طابق).

(٢) في نسخة الأصل (طابق).

٧٧

ولا مقلّدا له ، فهل تقول : هذا الطفل الغافل الذي لا يختلج بباله احتمال أنّ المقصود منه غير ذلك أن يعذّبه الله تعالى على ترك التقليد ، وعلى فعل العبادة على النّهج الذي علّمه هؤلاء.

فإن قلت : لا يوجد هذا الفرض.

قلنا : كلامنا على هذا الموضوع ، ومع تسليمك الكبرى ، فلا يضرّنا القدح في الصّغرى ، لأنّها وجدانيّة ، مع أنّ إنكار ذلك مكابرة ومخالفة للحسّ والبديهة.

ثمّ إذا صار الطّفل أكبر قليلا وزاد اطّلاعه ومعرفته بسبب معاشرة النّاس وملاقاته لمن هو أعلم من هؤلاء ، ورأى مخالفة من هو أفهم من هؤلاء إيّاهم ، يرتفع ظنّه السّابق ويميل الى ما قال هؤلاء ، ويعتقد أنّ الشّريعة إنّما هي (١) ذلك لا ما علّمه هؤلاء الأوّلون ، وفي هذه المرتبة أيضا غافل عن احتمال أن يكون التّكليف غير ذلك ، وعن احتمال أن يوجد شخص أعلم من هذا الأعلم ، وتكليفه هو العمل بظنّه الذي اطمأنّ به الى أن يعثر على الفقيه في الكلّ والمجتهد المطلق.

ومرادنا من المجتهد هنا مقابل المقلّد والعامّي ، لا المجتهد المصطلح الذي هو مقابل الأخباريّ ، فإنّ العالم الأخباريّ أيضا مجتهد بهذا المعنى.

والحاصل ، أنّ المراد من المجتهد في هذا المقام هو البصير الذي يجوز الرّجوع إليه ، ثمّ إذا تدرّج الى أن يحصل له العلم وقوّة فهم الأدلّة في الجملة ، فيظهر له أنّ الطّريق إنّما هو الاستنباط عن الأدلّة وتحصيل ما هو مراد الشّارع عن تلك الأدلّة.

ثمّ إنّ في هذه المرحلة عرضا عريضا من أنّ المعتبر هنا هل هو مجرّد الظنّ الحاصل من الدّليل علي أيّ نحو يكون ، أو لا بدّ أن يكون على وفق قواعد

__________________

(١) في نسخة الأصل (هو).

٧٨

المجتهدين ، أو على وفق قواعد الأخباريّين؟

وهل يكفي التّجزّي في الاجتهاد أو يجب أن يصير مجتهدا مطلقا؟

وهل يشترط في الاجتهاد جميع الشّرائط التي سنذكرها أو بعضها ، أو هل يجوز الاكتفاء بالاستنباط الأوّل ، أو يجب التكرير في كلّ واقعة؟

وهل يجوز الاكتفاء بمجرّد حصول الظنّ ، أو لا بدّ من تحصيل الظنّ القويّ؟

فكلّ هذه المراتب مراتب الظّنون ، ولا سبيل الى العلم في أكثرها.

فالقول : بأنّ البرهان القاطع إنّما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، وغيره داخل في الظنّ المحرّم الممنوع منه شطط من الكلام ، إذ قد أثبتنا أنّ الأصل حين انسداد باب العلم هو العمل بالظنّ الى أن يثبت المخرج عنه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا صعوبة بيان القدر المجمع عليه من المجتهد المطلق ، فإنّ كلّ واحد من الأخباريّين والمجتهدين يغلّط صاحبه في الطّريقة ، والقول بإخراج الأخباريّين عن زمرة العلماء أيضا شطط من الكلام ، فهل تجد في نفسك الرّخصة في أن تقول : مثل الشيخ الفاضل المتبحّر الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ليس حقيقا لأن يقلّد ولا يجوز الاستفتاء عنه ، ولا يجوز له العمل برأيه لأنّه أخباريّ؟

أو تقول : إنّ العلّامة على الإطلاق الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ليس أهلا لذلك؟

فظهر أنّ المجمع عليه هو القدر المشترك الموجود في ضمن أحد أفراده المبهم عندنا ، وتعيينه ليس إلّا باجتهادنا وظنّنا ، فأين المجمع عليه حتّى نتّكل عليه.

فيبقى المجتهد بالاصطلاح المتأخّر والأخباريّ والمتجزّي كلّها داخلة تحت دليل جواز العمل بالظنّ ، مع أنّ غاية ما ثبت على هذا الشّخص الإجماع على

٧٩

جواز العمل بالظّن للمجتهد في الكلّ وهو في غيره متأمّل.

وذلك لا يوجب تعيين العمل على الأوّل وحكمه بحرمة غيره ، والأصل ينفي تعيين الوجوب ، والذي ثبت اشتغال الذّمة هو وجوب أن لا يترك مقتضى كليهما معا ، لا وجوب أحدهما المعيّن عند الله تعالى المبهم عنده مع عدم العلم بتعيينه كما أشرنا في مباحث الأصل والاستصحاب ، فراجع ، وتأمّل ، ثمّ نتنزّل هكذا الى أن يصل الى الطّفل في أوّل البلوغ.

وممّا ذكر ، يظهر أنّه يجوز أن يبقى ظنّ المتجزّي بحاله مع مخالفة المجتهد المطلق أيضا.

ثمّ اعلم أنّ مراتب الظّنون المذكورة مختلفة في أنّ صاحبها قد يتفطّن لكونه ظنّا وقد لا يتفطّن ويحسبه علما بحسب الاطمئنان الحاصل له ، وذلك لا ينافي كونه ظنّا إذ ليس كلّ أحد واجد لشيء عالما بذلك الشّيء ، بل قد نعلم شيئا ولا نعلم أنّا نعلمه فلا ينافي ما ذكرنا عدم تفرقة الطّفل في أوّل البلوغ مثلا بين الظنّ والعلم.

واعلم أيضا ، أنّ لكلّ مرتبة من تلك المراتب مدركا هو دليل الحكم ودليلا على جواز العمل به ، كما هو

الشّأن في القطعيّات أيضا ، فمدرك الطّفل في تكاليفه هو قول أبيه أو أمّه أو معلّمه ، ودليله على حجّية ذلك عليه هو ما استحسنه من أنّه أكبر منه ، وأقرب الى الشّرع وأسنّ منه ، فلا بدّ أن يكون مطّلعا بحال الشّرع ، وهكذا دليل من ترقّى عن هذه المرتبة بالنّسبة الى معلّمه الأوّل ، وهكذا الى أن يحصل له قوّة الاستنباط ، فمدركه حينئذ هو أدلّة الفقه ، ودليله على الحجّية هو كبراه الكليّة الثّابتة بالدّليل ، مثل الإجماع ولزوم التكليف بما لا يطاق ، وسدّ باب العلم عليه إلّا من هذه الجهة ، ولا فرق في أنّ الدّليل على حجّية الاستنباط من المدرك ، وأنّه يجوز له الاستنباط ممّا لا بدّ منه بين المجتهد وغيره ، والمتجزّي وغيره.

٨٠