القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الاجتهاد فيما ثبت جواز العمل به منها ، وترجيح بعضها على بعض ، لا في إثبات ما يجوز العمل به منها وما لا يجوز ، فكما أنّ الأخبار الواردة في تعيين الإمام إذا تشاحّ الأئمّة أو المأمومون إنّما هو بعد صلاحيّة الأئمّة للإمامة ، فكذلك فيما نحن فيه.

فإن قلت : نعم ، ولكن هذه الدّعوى تندرج في دعوى الإجماع على حجّية الظنّ المتعلّق بالكتاب ، فإنّه يقتضي حجّية ما يفهم من قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية. فالآية تدلّ على حجّية خبر العادل وخبر الفاسق الذي تثبّت خبره ، فأكثر هذه الأقسام إمّا داخلة في منطوق الآية أو مفهومها.

قلت : أوّلا : قولكم بحجّية الخبر الضعيف المنجبر بالعمل إن كان من جهة التبيّن فالتبيّن يقتضي بظاهره حصول العلم بالصّدق لا كفاية الظّن.

سلّمنا كفاية الظّنّ بتقريب أنّ العدالة أيضا لا تفيد (١) أزيد منه ، فإذا دلّت (٢) الآية بمفهومها على سماع خبر العدل المفيد للظنّ ، فلم لم يكتف في جانب المنطوق بالظنّ الحاصل من التثبّت بمقدار ما يحصل من خبر العدل ، لكن نقول : يلزم من هذا جواز العمل بالشّهرة أيضا ، إذ هو أيضا بناء مفيد للظنّ من جهة التثبّت.

فإن قلت : إنّ البناء ظاهر في الخبر عن اليقين ، والشّهرة إخبار عن الرّأي والاجتهاد.

قلت : فما تقول في التزكية لأجل إثبات العدالة ، أليس هي غالبا مبتنية على

__________________

(١) في نسخة الأصل (يفيد).

(٢) في نسخة الأصل (دل).

٤١

الإخبار عن الرّأي والاجتهاد ، فإن جعلت النبأ أعمّ ليشملها ، فيشمل الشّهرة أيضا ، وإن جعلته مخصوصا بالإخبار عن المحسوسات واليقينيّات [واليقينات] فبما (١) تعتمد على إثبات العدالة التي هو شرط قبول [القبول] الخبر في نفسه؟

وإن اعتمدت فيها على الظنّ الاجتهاديّ فما الدّليل على حجّية هذا الظنّ. والاعتماد على الإجماع الذي ادّعيت يدير الكلام ، مع أنّا نقول : إنّ تلك الآية تدلّ على أنّ الحجّية إنّما هو من أجل حصول الظنّ ، فإنّ الاعتماد على العلّة يقتضي أنّ الاكتفاء بالعدل أيضا إنّما هو لأجل حصول الظنّ بخبره ، وذلك واضح ممّا ذكرنا ، فإنّ إصابة القوم بجهالة علّة لعدم الاعتماد إلّا على ما يفيد الظنّ بالصّدق وذلك لا ينحصر في الخبر ، فدلّت (٢) الآية على الاكتفاء بالاطمئنان الظنّي ، فالتمسّك بالآية ينفعنا ولا يضرّنا.

ومن ذلك يحصل قوّة اخرى لما ذهب [ذهبنا] إليه ، فإنّ ذلك يخرّب مدار أمر الخصم في الاعتماد على الإجماع على حجّية الظّنون المتعلّقة بالآية والأخبار في غير جهة الاستنباط والدلالة ، ويثبت أنّ المعتمد إنّما هو الظنّ المورث للاطمئنان عادة.

ويتشعّب من ذلك أحكام كثيرة وقوانين كليّة كلّها مبنيّة على ذلك حينئذ ، ويحصل التّخلّص من الإشكال في وجه الاعتماد في مثل تزكية الرّاوي ، وقبول قول الطبيب في المرض المبيح للفطر والتيمّم ، وفي إنبات اللّحم وشدّ العظم ، وقول المقوّم والقاسم والمترجم ، وغير ذلك ممّا هو في غاية الكثرة في أبواب الفقه ، فقد

__________________

(١) في نسخة الأصل (فبم).

(٢) في نسخة الأصل «فدل».

٤٢

تراهم يختلفون ويتردّدون في كفاية الواحد في الامور المذكورة لأجل تردّدهم في أنّها خبر أو شهادة.

وممّا ذكرنا تعرف أنّه لا حاجة الى ذلك ، بل هذه الأمور من جزئيّات ظنّ المجتهد في الموضوعات ، والمعتمد إنّما هو الظنّ ، وهذه الآية أيضا تدلّ على الاعتماد بملاحظة العلّة ، مع أنّ في الاستدلال بالآية في حجّية أصل خبر الواحد إشكالات عظيمة ، من جملتها أنّه لا تدلّ (١) على جواز العمل بخبر الواحد منفردا وإن كان الرّاوي عدلا أيضا ، وذلك لأنّ النّبأ أعمّ من الرّواية والشهادة وغيرهما من أقسام الخبر المقابل للإنشاء ، وقد اعتبروا التعدّد في الشهادة ، واكتفوا بالواحد في الرّواية ، ومع ذلك استدلّوا في المقامين لاشتراط العدالة بآية النّبأ ، فإن كانت (٢) الآية دليلا على اشتراط العدالة في الشّهادة ، فيلزم أن يكون المراد من الآية أنّ الرّجل الواحد العادل كلامه مطاع في الجملة ، ولكن لم يعلم أنّه منفردا ، أو بشرط انضمامه مع الغير ليشمل المقامين ، فلا يدلّ على قبول قول الواحد منفردا في غير الشّهادة ، كما لا يخفى. وإرادة قبوله منفردا بالنّسبة الى غير الشهادة ، ومنضمّا الى الغير في الشهادة في استعمال واحد غير صحيح ، كما حقّقناه في محلّه ، إذ هو استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ معا.

والقول بأنّ الأصل والظّاهر من الآية كفاية الواحد ، والشّهادة مخرج بالدّليل ، مع كون الآية ظاهرة فيما هو بالشهادة أشبه من كونها إخبارا عن شخص معيّن مستلزم لتخصيص المنطوق بالخبر ، لثبوت الدّليل في الخارج على عدم كفاية

__________________

(١) في نسخة الأصل (لا يدل).

(٢) في نسخة الأصل (كان).

٤٣

التثبّت للفاسق في الشّهادة ، فلا يمكن الاستدلال بالآية على عدم قبول شهادة الفاسق والمخالف ، فيلزم عليهم أحد الأمرين إمّا بطلان الاستدلال بكفاية الانفراد في الرّواية ، أو الاستدلال باشتراط انتفاء الفسق والخلاف في الشّاهد.

والثاني أظهر ، نظرا الى الأمر بالتثبّت ، فلا بدّ في تصحيح الاستدلال بالآية على حجّية الخبر منفردا إبطال استدلالهم بها في الشّهادة ، ولا غائلة في التزامه لثبوت دليل آخر في الشهادة.

ولكن يبقى ما ذكرناه من الإيراد ، أعني أنّ الآية تدلّ على حجّية الخبر من حيث إنّه موجب للاعتماد الحاصل بالظنّ ، لا من حيث إنّه خبر كما يقتضيه التعليل ، فهذه الآية أيضا لنا لا علينا. فظاهر الكتاب الذي هو مدارهم في حجّية الخبر أيضا بعد فرض تسليم كونه إجماعيّا يثبت مدّعانا.

وممّا يؤيد ذلك ، أنّ العدالة المشترطة في قبول خبر الواحد قد تحتاج الى الإثبات.

واختلفوا في ثبوتها بتزكية العدل الواحد وعدمه.

فقيل : بثبوت العدالة بتزكية الواحد مطلقا.

وقيل : بالاحتياج الى الاثنين مطلقا.

وقيل : بثبوتها في الرّاوي بالواحد دون الشّاهد.

فإن قيل : بأنّ التزكية شهادة ، فلا معنى للتفصيل ، للزوم التعدّد في الشّاهد.

وإن قيل : بأنّها خبر ، فما وجه اعتبار التعدّد فيها في الشّاهد.

فالتّحقيق كفاية الواحد في الرّاوي لأجل حصول الظنّ بالرّواية بمجرّد تعديل عدل واحد لراويها ، لا لأنّه خبر واحد ويكفي فيه الواحد ، ولا لأجل أنّه شهادة ، ولا يشترط فيها التعدّد هنا بالخصوص.

٤٤

أمّا أنّ ذلك لأجل حصول الظنّ الاجتهاديّ لا لأجل كونه خبرا ، فلأنّ المتبادر من الخبر والنّبأ في الآية هو ما يخبر عن الواقع بعنوان الجزم ، والتزكية غالبا مبنيّة على الاجتهاد والظنّ فهو من قبيل الفتوى ، وحجّية الفتوى إنّما هو للإجماع أو لآية النّفر أو لغيرهما من الأخبار ، لا لأنّه خبر واحد.

وهذه الأدلّة مفقودة في التزكية كما لا يخفى ، فهو من باب العمل بقول الطبيب وأهل الخبرة ، غاية الأمر اتّصافها بكونها نبأ تبعا ، وبالعرض من جهة الإخبار عن موافقة ما يقوله لنفس الأمر بظنّه وبحسب معتقده ، وهذا لا يجدي في حجّيتها من حيث إنّها نبأ ، فإنّ المناط في الحجّية هاهنا أيضا هو الظنّ ، وهذا إخبار عمّا يوجبه ، وحجّية قول الطبيب وأهل الخبرة لأجل كونهما موجبا للظنّ ، وتردّد الفقهاء اختلافهم في الاكتفاء بالواحد والاثنين فيهما متفرّعا على كونهما خبرا أو شهادة لا وجه له ، فإنّهما ليسا بداخلين في أحدهما ظاهرا ، فيكفي العدل الواحد ، بل من يحصل به الوثوق وإن كان كافرا.

وأمّا أنّه ليس بشهادة ، فلابتنائها غالبا على العلم واعتبار التعدّد فيها. فالقول بأنّها شهادة ولم يعتبر فيها العدد هنا يحتاج الى دليل ، كما أنّ من فصّل واكتفى هنا بالواحد دون الشّاهد تمسّك بالإجماع.

والحاصل ، أنّ من يقول بأنّ التّزكية شهادة ، فلا بدّ أن يكون اكتفاؤه بالشّاهد الواحد لأجل كفاية الظنّ ، لا لأنّه شهادة ، واعتباره التعدّد في تزكية الشّاهد لعدم اعتبار الظنّ هنا ولزوم العلم أو ما يقوم مقامه.

ومن يقول بأنّها رواية ، لا بدّ أن يقول بتخصيص حجّية خبر الواحد ، ويشترط تعدّد الخبر فيما لو كان الإخبار في تزكية الشّاهد ، فيعتبر الرّوايتين لا الشّاهدين ، مع هذا [وهذا مع] ورود المنع عليه بكونها نبأ وخبرا غير مأنوس بمحاوراتهم ،

٤٥

فإنّا لم نسمع من أحد اشتراط الرّوايتين في شيء واحد ، وإنّما سمعنا اعتبار الشّاهدين.

فالمحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الاعتبار في التزكية إنّما هو بالظنّ الاجتهاديّ ، وهذا الظنّ لم يحصل من الكتاب ولا من السنّة ، إذ قد عرفت إخراجه من لفظ النبأ في الأغلب.

نعم يمكن استنباط حكمه من العلّة المستفادة من آية النّبإ ، وقد بيّنّا أنّه يثبت مقصودنا ، فهو لنا لا علينا.

ثمّ استمع لما يتلى عليك ممّا وعدناك سابقا من ذكر بعض كلمات الفقهاء الدالّة على كون مطلق الظنّ للمجتهد حجّة.

فمنها : ما تداول بينهم من ترجيح الظّاهر على الأصل ، وترجيح أحد الأصلين بسبب اعتضاده بالظّاهر ، والعمل على الظّاهر من حيث هو ظاهر في كلماتهم في الجملة إجماعيّ.

ولنذكر بعض كلماتهم في هذا الباب ، وعليك بملاحظة الباقي.

قال الشهيد الثاني رحمه‌الله في «تمهيد القواعد» في خاتمة باب التّعارض : إذا تعارض الأصل والظّاهر ، فإن كان الظّاهر حجّة يجب قبولها شرعا كالشّهادة والرّواية والإخبار ، فهو مقدّم على الأصل بغير إشكال ، وإن لم يكن كذلك ، بل كان مستنده العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظنّ ونحو ذلك ، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت الى الظّاهر ، وهو الأغلب ، وتارة يعمل بالظّاهر ولا يلتفت الى هذا الأصل ، وتارة يخرج في المسألة خلاف.

فهاهنا أقسام :

الأوّل : ما ترك العمل بالأصل للحجّة الشرعيّة ، وهو قول من يجب العمل بقوله ،

٤٦

وله صور كثيرة :

منها : شهادة العدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه ، وساق الكلام في الفروع الى أن قال : القسم الثاني : ما عمل بالأصل ولم يلتفت الى القرائن الخارجة الظّاهرة ، وله صور كثيرة :

منها : إذا تيقّن الطهارة أو النجاسة في ماء أو ثوب أو أرض أو بدن ، وشكّ في زوالها ، فإنّه يبنى على الأصل وإن دلّ الظّاهر على خلافه ، الى أن قال : القسم الثالث : ما عمل فيه بالظّاهر ولم يلتفت الى الأصل ، وله صور :

منها : إذا شكّ بعد الفراغ من الطهارة أو الصلاة أو غيرهما من العبادات في فعل من أفعالها بحيث يترتّب عليه حكم ، فإنّه لا يلتفت الى الشّك ، وإن كان الأصل عدم الإتيان وعدم براءة الذّمة من التكليف به ، ولكنّ الظّاهر من أفعال المكلّفين بالعبادات أن تقع على الوجه المأمور به ، فيرجّح هذا الظّاهر على الأصل ، وللحرج (١).

وساق الكلام في ذكر فروع كثيرة لذلك ، ثمّ قال : القسم الرابع : ما اختلف في ترجيح الظّاهر فيه على الأصل أو بالعكس ، وهو أمور : منها : غسالة الحمّام ، الى آخر ما ذكره.

أقول : لا ريب أنّ الأصل من الأدلّة الشرعيّة ومعارضة الظّاهر معه لا يمكن إلّا مع كونه دليلا أيضا ، ثمّ إنّ الظهور إذا كان من دليل آخر معلوم حجّيته مع قطع النظر عن الظّهور كالرّواية والشّاهد وغيرهما ، فتقديمه على الأصل إنّما هو من جهة الدّليل الخارجيّ من إجماع أو غيره ، وإلّا فالظّهور إن كان ممّا يمكن إثبات الحكم به ، فما وجه تقديم غيره عليه مطلقا ، وإن كان لا يمكن إثبات الحكم به ، فما

__________________

(١) معطوف على محذوف.

٤٧

معنى تقديمه على الأصل في بعض المواضع.

فإن قلت : تقديمه على الأصل في كلّ ما قدّم عليه إنّما هو بالدّليل لا من حيث هو ظهور.

قلت : فحينئذ فأيّ فائدة في عقد هذا الباب ، فالكلام في التّرجيح يدور مدار الدّليل القائم على حقيّة ما هو الظّاهر المطابق له ، فيرجّح على الأصل ، والدّليلين المتخالفين الموافق أحدهما للأصل والآخر للظاهر ، فيرجّح الأقوى منهما بسبب المعاضدات والمرجّحات على الآخر.

وأنت كما ترى الكتب الفقهيّة والأصوليّة مشحونة بذكر المواضع التي وقع التّعارض بين الأصل ونفس الظّاهر ، ويتكلّمون عليها ويختلفون فيها ، فبعضهم يرجّح الظّاهر ، وبعضهم يرجّح الأصل ، بل الظّاهر من كلام العلماء أنّ الشّارع جعل ذلك مناطا للحكم الشّرعيّ ، ويبني في بعض المواضع الحكم على الظّاهر ، وفي بعضها على الأصل بحيث يظهر من كلامهم أنّ الظّاهر أيضا أصل من الأصول ، وذلك كما في نفي الضّرر [الضّر] ونفي الحرج.

فقد تراهم يعقدون لنفي الضّرر والحرج بابا في الأصول ، ثمّ يذكرون من فروعها القصر في السّفر والتيمّم عند الضّرورة ، والخيار عند الغبن ، وغير ذلك ، وإلّا فمع حكم الشّارع بوجوب القصر أو التيمّم ، لا حاجة الى الاعتماد على الضّرر والحرج ، ولذلك يستدلّ الفقهاء بنفي الضّرر والحرج مستقلّا في غاية الكثرة من غير نظر الى ورود نصّ بالخصوص فيما نوافقه ، وكذلك الكلام في قاعدة اليقين وغير ذلك.

وكلامهم في هذا الباب أيضا نظير البابين المتقدّمين ، فلاحظهم يذكرون بعد عقد الباب في ذكر الفروع الأمثلة التي ثبت من الشّارع تقديم الأصل كما في

٤٨

الطّهارات والنّجاسات ، كقولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١). و : «حتّى يستيقن» (٢). حتّى اكتفوا فيه بالاحتمال البعيد ، بل قد يجوّزون الحيلة في إخفاء الأمر ، كما روي أنّه عليه‌السلام رشّ على ثوبه الماء بعد الخروج عن الخلاء لأجل دفع لزوم الاجتناب عن البول لو فرض رؤيته فيه بعد الخروج ، معلّلا فعله بأن يقال : لو حصل الشّك أنّ هذا من ذلك.

وكذلك في تقديم الظّاهر ، مثل ما لو حصل الشّك في شيء من أجزاء الصّلاة بعد الدّخول في جزء آخر ، فإنّ الظّاهر أنّ المكلّف لا يخرج من فعل إلّا بعد الإتيان به ، وهذه المسألة أيضا قد ثبت بإجماعهم وأخبارهم ، وكذلك العمل بمقتضى الظنّ في الصلاة.

وبالجملة ، الذي يظهر من كلام العلماء أنّ هاهنا قواعد مقتبسة من الأدلّة الشّرعيّة المعروفة ، مثل الضّرورة ، ونفي الضّرر ، ونفي الحرج ، ولزوم البيّنة ، وقاعدة اليقين ، يعني لزوم العمل على مقتضى ما حصل اليقين به حتّى يثبت الواقع ، ومن جملتها استصحاب براءة الذمّة وغيرها من أقسام الاستصحاب ، ومثل ما حصل الظنّ به وكان ظاهرا بسبب العادة أو الغلبة أو غلبة الظنّ من جهة القرائن ، ونحو ذلك ، وكلّ ذلك ممّا استفيد جواز الاعتماد عليها من الشّارع ، إمّا من جهة التّنبيه ، أو من جهة التّنصيص.

والنّسبة بين المذكورات عموم من وجه ، فكما أنّه قد يحصل بين نفس الأدلّة

__________________

(١) «تهذيب الأحكام» ١ / ٢٨٥ ح ٨٣٢ ، «الوسائل» ٣ / ٤٦٧ ح ٤١٩٥.

(٢) «كل ماء طاهر حتى يستيقن أنّه قذر» ، «الكافي» ٣ / ١ ح ٢ ، «التهذيب» ١ / ٢١٥ ح ٦١٩.

٤٩

من الآيات والأخبار عموم من وجه ، فكذلك في المذكورات ، فقد يقع بين قاعدة اليقين وقاعدة العمل بالظّاهر تعارض من وجه ، وهذا هو الذي ذكره الأصوليّون. ونقلوا اختلاف الفقهاء في موارد ترجيح بعضها على بعض ، فما وقع الإجماع على أحد الطّرفين ، فلا إشكال فيه ، وما اختلف فيه ، فإمّا يعتضد أحد الطرفين برواية أو ظاهر آية أو نحوهما ، فيرجّح على الآخر ، وما لم يحصل فيه شيء من ذلك فإمّا يحصل للمجتهد ظنّ في التّرجيح من جهة الاعتضاد بظاهر آخر أو أصل آخر فيعمل عليه ، وإمّا لا يحصل ، فيتوقّف فيه فيعمل على مقتضاه من التخيير أو الاحتياط.

فظهر من جميع ما ذكرنا ، أنّ الظّاهر والظنّ الحاصل من العادة والغلبة والقرائن أيضا ممّا اعتمد عليه الشّارع ، وهذا باب مطّرد في الفقه لا ينكره إلّا من لا خبرة له بطرائقهم.

فإن قلت : إنّ كلماتهم هذه في بيان تحقيق معنى المدّعى في صورة الدّعوى ، فمن يقدّم الظّاهر فإنّما يريد أنّ الظهور يقتضي كون من يخالفه مدّعيا ، فهذا التحقيق حقيقة اللّفظ المدّعى الوارد في الأخبار.

فقولهم : إنّ الظّاهر مقدّم على الأصل ، يريدون أنّ من يدّعي الظّاهر هو المنكر ، ويقدّم قوله مع فقد البيّنة ، وذلك كما يقدّمون قول البائع في تمام الكيل والوزن على قول المشتري بنقصه مع حضور المشتري حين الكيل ، لأنّ الظّاهر أنّ المشتري لا يسامح في ذلك ، فالقول قول البائع وهكذا.

قلت : ليس كذلك ، بل كلامهم أعمّ من ذلك كما ترى خلافهم في غسالة الحمّام وطين الطريق وغيرهما ، وكذلك الكلام في التّرجيح بين الزّوجين المتداعيين في مقدار المهر ، حيث تدّعي الزّوجة مهر المثل ، والزّوج أقلّ منه ، فالكلام فيه يرجع

٥٠

الى ترجيح أحدهما مع قطع النّظر عن كون أحدهما مدّعيا والآخر منكرا.

وكذلك في متاع البيت لو تداعياه مع ثبوت يدهما معا عليه أو يد وارثهما [ورائهما].

ويظهر ذلك غاية الوضوح فيما لم يكن هناك تداع أصلا ، مثل ما لو كان الوارثان صغيرين وأراد الحاكم إحقاق الحقّ ، مع أنّا نقول : القول في تحقّق [تحقيق] المدّعي والمنكر أيضا مبنيّ على ذلك ـ يعني العمل على الظنّ ـ فإنّهم عرّفوا المدّعي بتعريفين :

أحدهما : أنّه من يترك لو ترك.

والثاني : أنّه من يدّعي أمرا خفيّا بخلاف الآخر ، فيكون الرّاجح هو قول الآخر ، والرّجحان إمّا من جهة مطابقته للأصل ، أو الظّاهر ، فإذا تواردا ، فلا إشكال ، وإن كان موافقا لأحدهما دون الآخر ، فيبني على تقديم الأصل أو الظّاهر.

فالكلام في تقديم أحدهما على الآخر أصل من الأصول ، ومن فروعه معرفة المدّعي والمنكر ، فتقديم المنكر ، لأجل أنّ قوله موافق للظّاهر مثلا ، لا أنّ الظّاهر مقدّم ، لأنّ القائل به هو المنكر والقول قوله وعلى المدّعي البيّنة. ولعلّ ما يظهر من بعض الأصحاب أنّ الأقوال في تعريف المدّعي ثلاثة :

أحدها : من يترك لو ترك.

والثاني : من يدّعي خلاف الظّاهر.

والثالث : من يدّعي خلاف الأصل مسامحة باعتبار ملاحظة المآل ، وإلّا فالأقوال فيه حقيقة اثنان كما يظهر من سائر الفقهاء ، وصرّح باثنينيّة القولين فخر

٥١

المحقّقين في «الإيضاح» (١).

فإن قلت : غاية ما أفاده هذا الباب تجويزهم العمل بالظنّ ، والظّاهر في الموضوع لا في نفس الحكم الشّرعيّ ، ومحلّ البحث حرمة العمل بالظنّ في نفس الحكم الشّرعيّ ، فلاحظه وتتبّع موارد تقديم الظّاهر ، فإنّ المراد في العمل بالظّاهر في الغسالة أو في طين الطّريق أو غيرهما أنّ ظنّ حصول ملاقاة النّجاسة يوجب الحكم بالنّجاسة ، فإنّ ملاقاة النّجس من الأسباب الشرعيّة الموجبة للحكم بنجاسة الملاقي ، وكذلك الظنّ بكون الجلد المطروح مذكّى إذا كان مقرونا بقرينة مفيدة للظنّ ، ككونه جلدا لكتبنا التي لا يتداوله الكفّار غالبا ، مع أنّ الأصل عدم التذكية.

وكذلك الظنّ بكون الشّهر السّابق على رمضان تماما بسبب غلبة كون شهر تماما وشهر آخر ناقصا وهكذا الى آخر السّنة ، وكون رمضان ناقصا لذلك يوجب الظن بكون اليوم الآخر من رمضان عيدا ، فبسبب الظنّ بكونه عيدا يجوز الإفطار على قول من يعمل بهذا الظّاهر ، وهكذا العمل على الصّحة فيما لو شكّ في جزء من الصلاة بعد خروجه إلى جزء آخر ، فإنّ كون المكلّف غالبا بحيث لا يخرج عن فعل إلّا بعد أدائه ، يوجب الظنّ بوقوع الفعل ، فيترتّب عليه حكمه من الإجزاء وعدم لزوم العود.

وهكذا الكلام فيمن يدّعي صحّة المعاملة إذا اختلف فيها ، مثلا إذا تنازعا في كون العقد حال الجنون أو الإقامة أو الصّغر والكبر أو الرّشد وعدمه ، وهكذا ، فالظنّ بكونه كبيرا حينئذ أو رشيدا أو عاقلا ، يترتّب عليه الحكم بمقتضاه من

__________________

(١) «ايضاح الفوائد» ٤ / ٣٢٢.

٥٢

الصحّة.

وكذا النّزاع فيما لو ادّعت الزّوجة المهر وأنكر الزّوج من الأصل ، فإنّ الظّاهر أنّ المرأة لا تخلو من مهر ، بل ومن مهر المثل ، فحصول الظنّ بثبوت المهر أو مهر المثل يوجب الحكم بلزومه عليه.

وهكذا في كلّ ما يرد عليك من مواضع معارضة الأصل والظّاهر ، فكلّها من باب إثبات الموضوع بالظنّ ليترتّب عليه الحكم ، ولا نزاع في جواز العمل بالظنّ في الموضوع ، وإنّما المراد أنّه لا يجوز إثبات الحكم من رأس بالظنّ ، فلا يجوز أن يقال : الشّيء الفلانيّ واجب للشهرة أو حرام كذلك ، لا أنّ الشّيء الفلانيّ الثّابت حكمه في الواقع قد ظنّ وقوعه ، فيترتّب عليه حكمه.

قلت : إنّ السّبب أيضا من الأحكام الشرعيّة الوضعية ، مع أنّه لا دليل على جواز العمل بالظنّ في وجود الموضوعات في إثبات الحكم ، والذي قرع سمعك في ذلك إنّما هو في ماهيّة الموضوع ومفهومه من حيث يرجع فيه الى اللّغة والعرف ويتمسّك فيه بالأصول الظنيّة ، مثل أصل الحقيقة ، وأصالة عدم النّقل ، ونحو ذلك كالبيع والإقباض والتصرّف والعيب ، ونحو ذلك.

وكذا الكلام في مثل مقدار القيمة والأرش ونحو ذلك ، مع إشكال في بعضها أنّه هل هو من باب الاضطرار وكونه من جملة ظنون المجتهد ، أو أنّه من باب الخبر والرّواية أو الشّهادة ، ومن هذا الباب تزكية العدل أيضا.

وأمّا الكلام في ثبوت الموضوع في الخارج حتّى يترتّب عليه الحكم ، فلم يثبت على جواز العمل بالظنّ فيه دليل بالخصوص ، من إجماع أو خبر قطعيّ فإن كان من جهة انسداد باب العلم وكون ذلك من جملة ظنون المجتهد ، فهو إنّما ينفعنا ولا ينفعك ، فإنّ ذلك ليس بخصوصية كونه في الموضوع ، بل هو عامّ.

٥٣

والحاصل ، أنّ في موارد تقديم الظّاهر على الأصل اقتحاما في الحكم الشّرعيّ بمجرّد ظنّ بحصول سببه ، ونحن نطالبكم بدليل هذا الحكم وجواز العمل بهذا الظنّ.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : إمّا تسلّم أنّ العمل على الظّاهر ممّا استفيد من الشّرع ، فهو قاطع الكلام من رأس. فإنّ الظّاهر ، معناه ما يوجب الظنّ كائنا ما كان ، خصوصا مع ملاحظة تصريحهم بالاكتفاء بغلبة الظنّ والقرائن.

وإن لم تسلّم ذلك ، فإمّا أن تقول : إنّ الفقهاء أسّسوا هذا الأساس بعد غيبة الإمام عليه‌السلام وانقطاعهم عن تحصيل العلم ، فهو أيضا يكفينا.

الظّاهر إجماعهم على ذلك في الجملة ، وإنّما اختلافهم في بعض الموارد دون بعض وإن لم تسلّم ذلك أيضا.

وقلت : إنّ ذلك إنّما هو في كلام أكثرهم أو بعضهم لا جميعهم حتّى يكون إجماعا.

فنقول : إنّ ذلك أيضا يكفينا ، لأنّ بذلك يدفع دعوى إجماعك على أنّ حجّية ظواهر الكتاب ونحوه من باب الإجماع على الخصوصيّة لا من حيث إنّها ظنّ ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان كلّ المفتين بذلك ممّن لا يكون ممّن اعتمد عليها من حيث إنّه ظنّ المجتهد ، وأنّى لك بإثباته مع ملاحظة ما ذكر ، وإذا بلغ الكلام الى هنا فإن كان أمكنك نوع من الفرار بادّعاء فرق بين الموضوع ونفس الحكم على النّهج الذي نبّهناك عليه.

فنقول : وإن فتحنا بهذا التّقرير لك بابا ، ولكن اغلق ذلك عليك إغلاقا آخر ، فإنّ كلامهم ينادي بأعلى صوته أنّ هذا الباب أيضا يحتاج الى الاعتماد على ظنّ المجتهد من حيث هو في باب التّرجيح بين معارضات الأصل والظّاهر ، فقد اختلفوا غاية الاختلاف ، ورجّح بعضهم الظّاهر في بعض المواضع ، والآخر

٥٤

الأصل ، وعكسوا في موضع آخر ، فانقطع المناص إلّا عن الرّجوع الى ظنّ المجتهد ، بل هناك إشكال آخر ، وهو أنّ من جملة الظّواهر غلبة الصحّة في أفعال المسلمين ، ولا ريب أنّه يختلف باختلاف الأوقات والأزمان ، فقد لا يحصل الظنّ أبدا في فعل جماعة منهم أو في زمان دون زمان ، فيحتاج تعيين أصل الظّواهر والتمييز في نفسها الى اجتهاد آخر فضلا عن ملاحظة متعارضاتها. ويؤيّد ما ذكرنا كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في «نهج البلاغة» (١) : «إذا استولى الصّلاح على الزّمان وأهله ، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرر».

ثمّ اعلم أنّ قاعدة اليقين المستفادة من الأخبار لا بدّ أن يكون معناها : لا يجوز نقض اليقين النّفس الأمريّ أو الظنّ اليقينيّ العمل إلّا باليقين كذلك. والمفروض أنّ ظهور حصول سبب الحكم من جهة الغلبة أو القرائن ، ظنّ يقينيّ العمل ، وإلّا لما جاز تقديمه على الأصل مطلقا ، فيصير مفاد القاعدة : جواز نقض اليقين السّابق بكلّ ظنّ حصل بتحقّق سبب الحكم المخالف للحكم الأوّل ، فحينئذ يحتاج فيما يعمل على الأصل ويترك الظّاهر الى دليل خارجيّ.

فتقديم الأصل على الظّاهر هو مخالف للقاعدة ومخصّص لها ، يصير المعنى حينئذ : يجوز نقض اليقين السّابق بأيّ من المعنيين باليقين اللّاحق بأيّ من المعنيّين إلّا في مثل اليقين بالطهارة مثلا في ثوب المصلّي أو بدنه ، فإنّه لا يجوز نقضه باليقين اللّاحق مطلقا ، بل إنّما يجوز نقضه باليقين النّفس الأمريّ مثل رؤية

__________________

(١) قصار الحكم رقم ١١٤.

٥٥

وقوع البول عليه أو مع بعض الظّنون القطعيّة العمل ، كشهادة العدلين لو قلنا بقبولها لا مطلق غلبة الظنّ بحصول السّبب وملاقاة النجاسة ، أو نقول : إنّ المراد باليقين في الموضعين أو في خصوص اليقين الثاني هو النّفس الأمريّ ، والعمل بالظّاهر يحتاج الى الدّليل ، يعني لا يجوز النقض إلّا باليقين النّفس الأمريّ إلّا في بعض صور الظّاهر الذي ثبت العمل عليه بدليل خارجي.

وعلى هذا فتقديم الظّاهر على الأصل مخالف للقاعدة ، فإمّا لا بدّ من القول بتقديم الأصل مطلقا ، أو الظّاهر مطلقا ، فما وجه الفرق والتفصيل إلّا من أجل متابعة الأدلّة الخارجية ، وهو خروج عن ملاحظة الأصل والظّاهر.

والتّحقيق ، أنّ تنبيهات الشّارع في الأخبار يفيد اعتبار غلبة الظنّ لا خصوص الظنّ الحاصل من الغلبة ، فلاحظ أخبار غسالة الحمّام ، وأخبار مسألة تداعي الزّوجين ، وسائر سير الشّارع من تغسيل الميّت المجهول في بلد الإسلام ، واستحباب السّلام ووجوب الردّ في بلاد المسلمين مع الجهالة ، وأمثال ذلك ، فتتبّع كلماتهم في موارد إعمال الظّاهر ، ولاحظهم لا يقتصرون بالظنّ الحاصل من الغلبة.

وإذا تحقّق لك ما ذكرناه ، يمكنك أن تطرد الكلام الى جانب حجّية الشّهرة وأمثالها ، مثل الظنّ بتحقّق الإجماع ممّا يثبت بها نفس الحكم الشرعيّ وإدراجها فيما حصل الظنّ بسبب الحكم الشّرعيّ ، فإنّ اعتمادنا على الشّهرة مثلا لأنّ ملاحظة كثرة فتاوى العلماء الصّالحين يورث الظنّ بوجود سبب لهذا الحكم الذي أفتوا به من خبر أو إجماع ، فالظنّ بالسّبب يوجب الظنّ المسبّب [بالمسبّب] ، فإذا جاز الاكتفاء بظنّ السّبب في إجزاء المسبّب عليه فنقول به في مثل الشّهرة أيضا ، فليتدبّر.

٥٦

ومنها : ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» (١) في مواقيت القضاء في مسألة الجهل بترتيب الفوائت. قال : ولو ظنّ سبق بعض ، فالأقرب العمل بظنّه لأنّه راجح فلا يعمل بالمرجوح.

فإنّ هذا التّعليل يفيد جواز العمل بالظنّ مطلقا ، كما لا يخفى.

ثمّ قال في الباب المذكور في مسألة ما لو فاته ما لم يحصه : قضى حتّى يغلب على الظنّ الوفاء.

الى أن قال (٢) : وللفاضل وجه بالبناء على الأقلّ لأنّه المتيقّن ، ولأنّ الظّاهر أنّ المسلم لا يترك الصلاة.

ومنها : ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» (٣) في حجّية الاستصحاب : أنّه لو لم يجب العمل بالظنّ ، لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وهو بديهيّ البطلان ، وهذا أيضا يقتضي العموم ، وأمثال ذلك كثيرة.

ومنها : ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» (٤) في مسألة حجّية الشّهرة ، فإنّه تمسّك في ذلك بقوة الظنّ ، وهذا أيضا يفيد العموم.

ومنها : ما ذكره العلّامة في «المختلف» (٥) في وجوب استقبال القبلة في دفن الميّت حيث تمسّك فيه بالشّهرة ، وقد استدلّ في استحباب رفع اليدين بالتكبيرات ، في صلاة الأموات أيضا بالشّهرة ، ولكنّه يمكن أن يخدش بأنّه من

__________________

(١) ٢ / ٤٣٤ الفصل الرابع.

(٢) «الذكرى» ٢ / ٤٣٧.

(٣) «نهاية الأحكام» ١ / ٤٤٨.

(٤) ١ / ٥٢.

(٥) «مختلف الشيعة» ٢ / ٣٢٤.

٥٧

أجل المسامحة في السّنن.

ومنها : تردّداتهم وتوقّفاتهم في كثير من المسائل من جهة الأصل ، وإطلاق كلام الأصحاب بخلافه.

ومنها : ما ذكره العلّامة في «المنتهى» (١) في مسألة إلحاق صوم غير رمضان من الصّيام الواجب به في بطلانه بتعمّد الجنابة حتّى الصباح ، فإنّ قاعدتهم في التوقّف هو تعارض أدلّتي الطّرفين في خصوص المسألة ، وإن كان مذهبهم التخيير بالنّظر الى عموم أمثال ذلك ، كما صرّح به فخر المحقّقين رحمه‌الله في رسالته الموسومة «بجامع الفوائد» في شرح ديباجة «القواعد».

ومنها : قولهم بتقديم الأعدل والأورع في التقليد ، معلّلين بكونه أرجح وآكد وأقوى ، وإن كان لنا كلام على إطلاق القول بالأرجحيّة ، سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك يظهر أنّ البناء فيه على الظنّ ، كما أنّ المجتهد أيضا بناؤه على الظنّ في متابعة الأمارة واختيار الأقوى. ومن ذلك يظهر بطلان القول ببطلان تقليد الميّت مطلقا ، مستدلا بأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج الظنّ الحاصل له من متابعة الحيّ ، وبقي الباقي ، فإنّه لا معنى لذلك إلّا العمل على قول الحيّ تعبّدا ، لا لأنّه مظنون ، وإلّا فكثيرا ما لا يحصل الظنّ بقول الحيّ مع وجود قول الميّت الأعلم الأورع ، ومع حصول قوّة الظنّ في جانب الميّت لا يكون العمل بقول الحيّ إلّا من محض التعبّد ، والقول : بأنّ قول الميّت لا يفيد الظنّ جزاف من القول ، إذ لا مدخليّة للموت والحياة في حصول الظنّ إذ كلاهما إنّما يعتمدان على أدلّة متّحدة المأخذ.

__________________

(١) راجع «منتهى المطلب» ج ٩ ، ص ٧٩ ـ ما يمسك عنه الصّائم.

٥٨

والحاصل ، أنّ الجاهل الغافل معذور في العمل بما يجزم به أو يظنّ به ، إذ حكم الله تعالى من أيّ طريق يكون كما سنحقّقه إن شاء الله تعالى.

فالعامّيّ ما دام غافلا ليس تكليفه إلّا ما أذعن به ، وبعد تفطّنه للإشكالات والخلافات فهو مكلّف بما أدّاه إليه علمه أو ظنّه.

فيبقى الكلام في تحقيق العلماء للمسألة لأجل تنبيه العوامّ وإرشادهم من باب الاستكمال وإقامة المعروف ، فالعلماء حين مناظرتهم في المسألة إمّا يلاحظون حال المسألة في نفس الأمر ، بمعنى أنّهم يباحثون ويناظرون في أنّ المعتمد في نفس الأمر أيّ شخص هو حتّى يأمروا المقلّد المتفطّن بمتابعته ، فحينئذ لا معنى لاستدلالهم بحرمة العمل بالظنّ إلّا الظنّ الحاصل بتقليد الحيّ ، بل لا بدّ لهم حينئذ أن يقولوا : أن لا اعتماد على قول أحد في نفس الأمر إلّا على قول المجتهد الحيّ ، فأيّها المقلّدون المتفطّنون عملوا على هذا دون غيره ، فحينئذ لا بدّ أن يثبتوا أنّ قول الميّت ليس بمعتمد ، وقول الحيّ معتمد ، ولا مدخليّة هناك لأصالة حرمة العمل بالظنّ ولا مناص في ذلك إلّا بالتمسّك بأمر تعبّديّ ، وليس لهم في ذلك شيء إلّا الشّهرة ، وظاهر دعوى الإجماع من بعضهم ، وسنبيّن ضعفه في محلّه.

وإمّا يلاحظون الظّنون الحاصلة للمقلّد المتفطّن بالنّسبة الى قول الأحياء والأموات ، أو هما معا ، ويقولون : أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ للمقلّد إلّا الظنّ الحاصل من تقليد الحيّ ، فيبقى الظنّ الحاصل من تقليد الميّت حراما ، فلا يجوز له العمل به بتقريب تعليمهم إيّاه أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ وتنبيههم [وتنبيهه] عليه ، وأنت خبير بأنّ الظّاهر من الظنّ في أدلّة حرمته هو الظنّ النّفس الأمريّ ، والظنّان النّفس الأمريّان على طرفي النّقض [النّقيض] ممّا لا يجتمعان أبدا ، فلا

٥٩

يمكن أن يقال : إن حصل الظنّ النّفس الأمريّ بقول الميّت ، والظنّ النّفس الأمريّ على خلافه بقول الحيّ ، فأصالة حرمة العمل بالظنّ يقتضي عدم جواز العمل به ، خرج تقليد الحيّ بالإجماع ، وبقي تقليد الميّت تحت العموم.

وكذلك لا يمكن هذا الكلام إذا حصل الظنّ النّفس الأمريّ بقول الميّت فقط ، إذ ليس حينئذ ما حصل بقول الحيّ ظنّا وكذا العكس ، فلا بدّ أن يقال : المراد بالظنّ في آيات التّحريم هي (١) الأمور التي تفيد الظنّ لو خلّيت وطبعها ، فالعمل عليها حرام إلّا ما أخرجه الدّليل كتقليد الحيّ ، أو يقال : المراد بالظنّ في الآيات هو عدم العلم ، يعني يحرم العمل بغير علم إلّا فيما أخرجه الدّليل ، كتقليد الحيّ ، فحينئذ يصير وجوب متابعة الحيّ دون الميّت من باب التعبّد ، ويصير العمل بقول الحيّ من باب البيّنة ، فإنّ حجّيتها من باب وضع الشّارع إلّا من باب إفادتها الظنّ ، وإن كان غالبا يفيد الظنّ فهو أيضا من باب التعبّد ، ولذلك يسمع في بعض المواضع شهادة رجل وامرأتين ، ولا يسمع في موضع آخر وإن أفاد الظنّ أقوى من شهادة رجلين ، وهكذا.

وإذا صار من باب التعبّد فكيف يتمّ ذلك مع لزوم متابعة الأعلم والأورع في الأحياء لكونه أرجح وأقوى ، مع أنّ ذلك تحصيل للظنّ النّفس الأمريّ ، فلو فرض حصول الظنّ النّفس الأمريّ بقول الميّت وعدول المقلّد عنه الى الأحياء المختلفين مع الميّت في القول ، المتفرّقين في الآراء ، فكيف يقال بعد تحرّي الأقوى والأرجح والأقرب من فتاوى الأحياء الى نفس الأمر أنّ هذا أقرب الى نفس الأمر ، مع أنّ المفروض كون فتوى الميّت عنده أقرب الى نفس الأمر ، ولا معنى

__________________

(١) في نسخة الأصل (هو).

٦٠