القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ثمّ قال (١) : فائدة : إذا تعارض ما يقتضي إيجاب شيء مع ما يقتضي تحريمه فإنّهما يتعارضان كما قاله في «المحصول» (٢) وغيره ، حتّى لا يعمل بأحدهما إلّا لمرجّح ، لأنّ الخبر المحرّم يتضمّن استحقاق العقاب على الفعل ، والموجب يتضمّنه على التّرك. وجزم الآمديّ (٣) وجماعة (٤) بترجيح المحرّم لاعتنائه بدفع المفاسد.

ولكن ذكر الآمدي وابن الحاجب أيضا أنّه يرجّح الأمر بالفعل على النّهي عنه.

وفي معنى ما ذكرناه ما لو دار الأمر بين ترك المستحبّ وفعل المنهيّ عنه (٥).

ثمّ ذكر له فروعا.

أقول : ومن ذلك يظهر أنّ مرادهم من الجمع بين الدّليلين هو ما ذكرنا من أنّ المراد العمل بها على مقتضى طريقة أهل اللّسان في إخراج الكلام عن الظّاهر ، لا مطلق التّوجيه والتّأويل كيفما اتّفق.

ويظهر بطلان ما قد يتخيّل أنّ الجمع حينئذ أن يحمل الأمر على الرّخصة ، والنّهي على المرجوحيّة ، إذ ذلك خروج عن مقتضى الدّليلين بلا دليل ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات واختيار أحدهما وطرح الآخر بسبب التّرجيح ، أو العمل على أحدهما لو لم يحصل مرجّح من باب التّخيير ، كما سيجيء ، ومطلق الاعتناء بالدّليلين والجمع بينهما لا يصير موجبا للتأويل.

__________________

(١) ص ٢٨٧.

(٢) راجع ٤ / ١٣٠٩.

(٣) في «الإحكام في أصول الأحكام» ٤ / ٢٥٩ ، ٢٦٩.

(٤) كابن الحاجب في «المنتهى» ص ١٦٧.

(٥) انتهى كلام الشهيد.

٣٦١

لا يقال : إنّ التّعارض وعدم إمكان العمل على حقيقة الأمارتين قرينة على إرادة المعنى المجازيّ المحتمل ، فإن اتّحد المجاز فهو متعيّن ، وإلّا فالأقرب ، وإن لم يتفاوت فالتّخيير ، وذلك لأنّ المظنون أنّ أصل الأمارتين من الشّارع وإن حصل الإشكال في المراد حينئذ بسبب التّناقض والتّعارض.

لأنّا نقول أوّلا : إنّا نمنع الظنّ بكون الأمارتين من الشّارع مع حصول التّناقض ، بل المظنون إنّما هو أحدهما.

سلّمنا ، لكن لا نعلم أنّه لا بدّ أن يكون مدلول كلّ واحد منهما مراد الشّارع ولو على سبيل المجاز ، إذ يحتمل أن يكون أحدهما واردا مورد التّقيّة فيجب إلغاؤها رأسا ، فلا دليل على وجوب التّأويل واستعمال كلّ منهما إذا لم يقم دليل عليه ، بل لا دليل على جوازه إن أريد الاستدلال به.

نعم ، لا تضايق [نضايق] عن تأويل المرجوح بما لا ينافي الرّاجح كما فعله الشيخ رحمه‌الله (١) من باب الاحتمال ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه في الاستدلال ، فإذا أردت المعنى الحقيقيّ لقول : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فهو : أنّه يجب التّفحّص والتفتيش عن القرائن والعلامات حتّى يظهر لك المعنى الصّحيح والمراد اللّائق بشرط عدم إخراج الأقوى عن ظاهره كما بيّنّا سابقا.

وحقيقته يرجع الى أنّه لا بدّ أن يتأمّل حتّى يظهر أنّ الموضوع في الأمارتين واحد أو مختلف ، وأنّ تعارض الظّاهر فيهما هل هو واقعيّ أو هو كذلك في نظر الظّاهر ، ثمّ العمل على مقتضاه.

فخذ هذا ودع عنك ما سواه ممّا يتعاوره الغافلون العادون عن التحقّق.

__________________

(١) راجع «العدة» ١ / ١٤٣.

٣٦٢

ثمّ إنّ المعارضة بين الأمر والنّهي قد يكون بسبب ورودهما على موضع واحد فيحصل الاشتباه في الحكم ، وقد يكون بسبب اشتباه الموضوع بين المأمور به والمنهيّ عنه ، كاختلاط موتى المسلمين بموتى الكفّار فيتردّد الأمر بين وجوب غسلهم والصلاة عليهم وحرمتهما ، والمشهور وجوب غسلهم جميعا والصلاة عليهم لكن بقصد المسلمين ، فيكون من باب تخصيص العامّ بالنيّة.

ثمّ ذكر في «التمهيد» (١) بعد ذلك تعارض الأصلين وقال : إنّه يعمل بالأرجح منهما بالاعتضاد ، فإن فقد ففي المسألة وجهان ، وفروع ذلك كثيرة جدّا ، وذكر كثيرا منها.

منها : مسألة تعارض الاستصحابين في الذّبابة التي وقعت على نجاسة رطبة ثمّ سقطت بالقرب على ثوب ، وشكّ في جفاف النّجاسة ، واستوجه في «التمهيد» (٢) نجاسة الثوب حينئذ لأنّه استصحاب الرّطوبة طارئ على طهارة الثّوب.

وفيه : تأمّل. وقد أشرنا في مبحث الأدلّة العقليّة الى جواز العمل بالأصل المتنافيين في الجملة ، فراجع.

__________________

(١) ص ٢٨٨.

(٢) ص ٢٩٠.

٣٦٣

قانون

تعادل الدّليلين عبارة عن تساوي اعتقاد مدلوليهما ، ولا ريب في إمكانه ووقوعه عقلا ، لحصول البرق المتواتر في زمن الصّيف ، فتواتره يدلّ على المطّرد كونه في الصّيف على عدمه.

وأما شرعا فاختلفوا فيه.

والأشهر الأظهر إمكانه ووقوعه خلافا لبعض العامّة.

لنا : أنّه لا يمتنع أن يخبرنا رجلان متساويان في العدل والثّقة والصّدق بحكمين متنافيين ، والعلم به ضروريّ.

وتعادل الأمارتين قد يكون في المسألة ، كحديثين متساويين دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر حرمته.

وقد يكون في موضوعهما كالأمارتين المختلفين في تعيين القبلة مع تساويهما.

وقد يكون في الحكم والقضاء كاليدين والبيّنتين المتساويتين.

وأيضا قد يكون التّعادل في حكم مع تنافي الفعلين كالمثال الثاني أو بالعكس كالمثال الأوّل.

واحتجّ المنكر : بأنّه لو تعادل الأمارتان على الحظر والإباحة ، فلا يجوز العمل بهما معا لتنافيهما ، ولا تركهما معا للزوم العبث في وضعهما على الحكيم ، ولا بواحد معيّن منهما للزوم التّرجيح بلا مرجّح ، ولا بواحد بعينه فإنّه في معنى إباحة الفعل ، فيرجع الى الثّالث ، فإنّ الإباحة هو واحد معيّن منهما.

وفيه : أنّا نختار تركهما ونرجع الى الأصل ولا محذور إذا لم يثبت في الخارج

٣٦٤

انحصار التّكليف فيهما ، وإن ثبت فنختار الرّابع ، ونقول : إنّه لا يستلزم الإباحة ، بل إنّما يستلزمها لو اختارها لا مطلقا ، وهو مثل التّخيير بين تقليد مجتهدين متساويين في العلم والعمل مع مخالفتهما في الإباحة والحظر. فباختيار تقليد المبيح يصير مباحا ، وباختيار تقليد الحاظر ، يصير محظورا.

ثمّ إنّ المجتهد يختار في العمل بأيّ الأمارتين شاء ، ويخيّر مقلّده كذلك.

وأمّا التّخيير في الحكم والقضاء ، فالتّعيين الى القاضي ، ولا يجوز تخيير المتداعيين لمنافاته مع قطع الخصومات لاختلاف الدّواعي.

وفي جواز اختيار القاضي ترجيح إحداهما في صورة ، وأخرى في أخرى ، قولان ، الأقوى : نعم ، لعدم المانع.

ثمّ إنّهم اختلفوا في صورة التّعادل ، فالمشهور المعروف من محقّقي أصحابنا : التّخيير.

وقيل : بتساقطهما والرّجوع الى الأصل.

وقيل : بالتوقّف ، وسيجيء تمام الكلام.

٣٦٥

قانون

التّرجيح في اللّغة : هو جعل الشّيء راجحا.

وفي الاصطلاح : هو اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها. وهو المناسب للتعارض والتّعادل اللّذين يستعملان معه في هذا الباب ، فإنّهما صفتان للأمارة لا فعلان للمجتهد ، وكذلك التّرجيح.

نعم يستعمل التّرجيح بمعنى آخر ، وهو تقديم المجتهد إحدى الأمارتين على الأخرى للعمل بها. ولمّا لم يكن ذلك إلّا في الأمارتين لعدم تصوّر التّعارض في غيرهما كما مرّ ، فيحتاج الى مرجّح التّقديم حذرا عن التّحكّم ، وذلك المرجّح هو اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها.

فهذا الاقتران الذي هو سبب التّرجيح سمّي في اصطلاح القوم بالتّرجيح.

فما عرّفه بعضهم (١) بتقديم أمارة على أخرى في العمل بمؤدّاها قبالا للتعريف الذي ذكرنا ، ليس في محلّه ، إذ التّعريف الأوّل إنّما هو لنفس الأمارة الرّاجحة ، والثّاني لفعل المجتهد ، مع أنّه يمكن أن يقال : مبدأ الاشتقاق فيهما أيضا مختلف كما أشرنا إليه في لفظ التّرجيح بلا مرجّح في مبحث أخبار الآحاد ، فإنّ مبدأ الاشتقاق في فعل المجتهد هو الاختيار والتّقديم كلفظ التّرجيح في اللّفظ المذكور.

وفي التّرجيح الذي هو صفة الأمارة ، هو الرّجحان بمعنى الاشتمال على المزيّة والمصلحة ، كلفظ المرجّح في اللّفظ المذكور ، فلا معنى لترجيح التّعريف الثّاني

__________________

(١) كالشيخ البهائي في «الزبدة» ص ١٦٩.

٣٦٦

على التّعريف الأوّل كما فعله المحقّق البهائيّ ، والشّارح الجواد ـ رحمهما‌الله ـ إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.

نعم ، للاعتراض عليه وجه لو لم يثبت الاصطلاح بإطلاق التّرجيح على فعل المجتهد أيضا ، ولعلّ المناقشة إنّما هو على من يمنع ذلك.

ووجهه ، أنّ مصدر التّفعيل أنسب بفعل المجتهد من الأمارة ، والأمر في ذلك سهل ، وإذا حصل التّرجيح لإحدى الأمارتين ، يجب تقديمها لئلّا يلزم ترجيح المرجوح.

وقيل : إنّ الحكم حينئذ أيضا إمّا التّخيير أو التّوقّف ، لأنّ زيادة الظنّ لو كانت معتبرة في الأمارات لكانت معتبرة في الشّهادات ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وفيه : منع الملازمة وبطلان التّالي كليهما ، لأنّ المدار في البيّنة على التّعبّد بخلاف الاجتهاد. ثمّ إنّ المرجّحات تتصوّر في كلّ الأمارات ، ولكنّهم خصّوا الكلام بذكر المرجّحات في الأخبار ، ونحن أيضا نذكرها أوّلا ثمّ نشير الى حكم الباقي.

فنقول : إنّ التّرجيح بينهما إمّا من جهة السّند أو من جهة المتن أو من جهة الاعتضاد بالأمور الخارجة.

واعلم ، أنّ مرادنا في هذا المقام من كون كلّ من المذكورات مرجّحا إنّما هو إذا قطع النّظر عن غيره من المرجّحات. ففي مقام ذكر كلّ منهما لا ينبغي اشتراط عدم المرجوحيّة من جهة أخرى كما يظهر من العلّامة رحمه‌الله في «النّهاية» حيث اشترط في كون علوّ الإسناد مرجّحا ، أن لا يكون في سند الرّواية الأخرى كثرة الرّواة وتعدّدها في كلّ طبقة ، وأن يتساووا في سائر الصّفات ، فإنّه ممّا لا حاجة إليه هاهنا.

٣٦٧

أمّا التّرجيح من جهة السّند فمن وجوه :

الأوّل : كثرة الرّواة ، أي تعدّدها في كلّ طبقة ، فيرجّح ما رواته أكثر لقوّة الظنّ لتعاضد الظّنون الحاصلة بعضها ببعض ، وهذا هو الذي قد ينتهي الى التّواتر وإفادة اليقين.

الثّاني : قلّة الوسائط ، وهو الذي يسمّونه علوّ الإسناد (١) ، فهو راجح على ما كثرت وسائطه ، لأنّ تطرّق احتمال الكذب والسّهو والغلط وغيرها في الأوّل أقلّ وهو واضح.

وعارضه العلّامة رحمه‌الله في «النّهاية» بالنّدور والقلّة فيكون مرجوحا من هذه الجهة.

وهذا إنّما يتمّ فيما لم يعلم إدراك كلّ من الوسائط للآخر ، وكانت الفاصلة بين المرويّ له والإمام عليه‌السلام المرويّ عنه مدّة يستبعد طول عمر هذه الوسائط بحيث يستوعبها. وأمّا فيما علم فيه الحال وإدراك كلّ منهما لمن فوقه وشاع روايته عنه ، فلا وجه له.

الثّالث : رجحان راوي إحداهما على الأخرى من حيث الصّفات الموجبة لرجحان الظنّ مثل : الفقه ، والعدالة ، والضّبط ، والفطنة ، والورع.

ولا يخفى وجه التّرجيح ، لأنّ الفقه يوجب معرفة أسباب الحكم وموارد وروده ومناسبة حال المرويّ له وكيفية الرّواية ، وذكر حال السّماع ممّا يتفاوت به فهم المخاطب لمعنى الحديث ، وكذلك سائر الصّفات المذكورة يوجب الظنّ بالصّدق وعدم الغفلة ، فيحصل الفرق بين العالم والأعلم ، والورع والأورع ، والضّابط

__________________

(١) في نسخة الأصل (الأسناد).

٣٦٨

والأضبط ، وهكذا.

وليس ذلك من قبيل المجتهدين إلّا إذا جعلناهما من باب الأمارة للمقلّد كأمارتي المجتهد ، وقد عرفت الإشكال فيه ، فيندرج في ذلك تفاوت مراتب العدالة بسبب تزكية الواحد أو الاثنين أو الأكثر أو أمور أخرى مثل كون أحد الرّاويين مباشرا للقضيّة دون الآخر ، كما يقدّم رواية أبي رافع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج بميمونة وهو محلّ وكان هو السّفير بينهما على رواية ابن عبّاس بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكحها وهو محرم ، وكذلك كون أحدهما مشافها للمرويّ عنه دون الآخر ، وكذلك كون أحدهما قريبا منه والآخر بعيدا ، وهكذا.

ويندرج في التّرجيح باعتبار السّند ما كان أحد الرّاويين غير مشتبه الإسم دون الآخر.

وأمّا التّرجيح من جهة المتن ، فهو أيضا من وجوه :

الأوّل : تقديم المرويّ باللّفظ على المرويّ بالمعنى ، وتسوية الشيخ رحمه‌الله (١) بينهما إذا كان راوي المعنى معروفا بالضّبط والمعرفة ضعيف ، وهذه المعرفة شرط جواز ذلك ، لا شرط المساواة ، ولا ريب أنّ الأوّل أبعد من الزّلل مطلقا.

الثاني : تقديم المقروّ من الشيخ على المقروّ عليه.

الثالث : تقدّم المتأكّد الدّلالة على غيرها ، سواء كان من جهة تعذّر مواضع الدّلالة في أحدهما دون الآخر أو من جهة أخرى ، مثل تأكّد الحكم بالقسم والتّغليظ كما في بعض أخبار القصر (٢) : «قصّر ، وإن لم تفعل فقد والله خالفت

__________________

(١) في «العدة» ١ / ١٥٢.

(٢) «الوسائل» ٨ / ٥١٢ باب ٢١ من أبواب صلاة المسافر ، ح ٢ [١١٣١٣].

٣٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

ومثل ما كان أحدهما معلّلا دون الآخر ، أو يكون دلالة أحدهما بعنوان الحقيقة والآخر بعنوان المجاز ، أو أحدهما بعنوان المجاز الأقرب والآخر بالأبعد ، أو أحدهما بعنوان المنطوق والآخر بالمفهوم ، أو أحدهما بالعموم والآخر بالخصوص.

ولا يذهب عليك أنّ المراد من ترجيح الخاصّ على العامّ هنا تقديم الخاصّ على القدر المساوي له من مدلول العامّ ، فيكون بينهما تناقض حينئذ ، ولا يمكن الجمع فيحتاج الى التّرجيح.

ولا ريب أنّ الخاصّ أرجح من العامّ للمنصوصيّة والظّهور ، فهذا لا ينافي قولهم : بأنّ في التّخصيص جمعا بين الدّليلين ، وأنّ الجمع مقدّم على التّرجيح ، فإذا لوحظ مجموع مدلول العامّ مع الخاصّ ، فيمكن الجمع بينهما ، وبذلك يندرج الكلام فيه تحت قاعدة تقديم الجمع على التّرجيح.

وإذا لوحظ أنّ في الجمع لا بدّ من ترجيح الخاصّ على القدر المساوي له من العامّ وينحصر الأمر في إبقاء الخاصّ على حاله وإسقاط ما يساويه من العامّ أو إبقاء القدر المساوي له من العامّ وإسقاط الخاصّ ، فيندرج تحت قاعدة التّعارض والتّرجيح.

ومثل ما كان أحدهما عامّا مخصّصا والآخر غير مخصّص ، أو كان التّخصيص في أحدهما أقلّ ، وفي الآخر أكثر.

الرّابع : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على الرّكيك ، وربّما يعتبر الأفصحيّة أيضا. ووجههما أنّهم عليهم‌السلام أفصح النّاس ، فالأفصح أشبه بكلامهم ، ويورث الظنّ بالصّدق.

والتّحقيق في ذلك ، أنّ الفصاحة إذا كانت ممّا يستبعد صدورها عن غير

٣٧٠

مثلهم عليهم‌السلام كعبارات «نهج البلاغة» و «الصّحيفة السجّادية عليه‌السلام» وبعض كلماتهم الأخر من الخطب والأدعية فلا ريب أنّه من المرجّحات ، بل من أقواها ، وإلّا فالّذي يظهر من تتبّع الأخبار سيّما في مسائل الفروع أنّهم عليهم‌السلام لم يكونوا معتنين بشأن الفصاحة ولم تتفاوت كلماتهم فضل تفاوت مع الرّعيّة ، بحيث يمكن التّمييز بذلك وحصول الرجحان والظنّ معه.

الخامس : أن يكون دلالة أحدهما على المراد محتاجا الى توسّط واسطة دون الآخر ، فالثّاني مقدّم على الأوّل.

وأما التّرجيح بالاعتضادات الخارجة ، فمن وجوه :

الأوّل : اعتضاد أحدهما بدليل آخر ، إذ لا ريب في قوّة الظنّ في جانب المعتضد.

وكذلك إذا كان أحد المعاضدين أقوى من الآخر إذا اعتضد كلّ منهما بدليل.

الثّاني : اعتضاد أحدهما بعمل المشهور ، سيّما المتقدّمين لقرب عهدهم بزمان الأئمة عليهم‌السلام ، وتمكّنهم من معرفة حال الأخبار أزيد من المتأخّرين.

ويقع الإشكال فيما لو كان أحدهما موافقا للقدماء ، والآخر موافقا للمتأخّرين وتعارض الشّهرتان ، فإنّ تقدّم القدماء وقرب عهدهم وتمكّنهم من القرائن والأمارات يورث الظنّ بإصابتهم ، وكون المتأخّرين أكثر فحصا وأدقّ نظرا مع معرفتهم بسبق القدماء وقرب عهدهم وهجرهم مع ذلك قولهم يورث الظنّ بإصابتهم ، ولكلّ وجه ، وتتفاوت المقامات ، ولا بدّ للمجتهد من التأمّل في كلّ مقام ، فربّما كان اجتماع القدماء على حديث لأجل شدّة التّقيّة الباعثة على اختفاء الحقّ لاقتضاء سالف الزّمان ذلك ، ولمّا ظهر الحال بعده بالتّدريج للمتأخّرين فذهبوا الى خلافه. وربّما كان اجتماعهم لأجل قرينة خفيّة على المتأخّرين ، فلا بدّ

٣٧١

من التّأمّل والتّفحّص من ذلك.

والحاصل ، أنّ المدار على حصول الظنّ ، وهو تابع للمقامات والشّهرة كالإجماع ينقسم الى القطعيّ والظّنّيّ بالاطّلاع عليها أو بالنّقل ، وربّما يتعارض النّقلان كما وقع في مسألة عدد الرّضعات بالنّسبة الى العشرة والخمس عشرة ، وربّما جمع بينهما بأنّ اشتهار الأوّل بين القدماء والثّاني بين المتأخّرين.

الثالث : موافقة الأصل ومخالفته ، ويقال للموافق : المقرّر ، والمخالف : النّاقل.

فبعضهم رجّح المقرّر لأنّه موجب لحمل كلام الشّارع على التّأسيس والإفادة دون التّأكيد ، فإنّ العمل على المقرّر موجب لتقديم النّاقل عليه. يعني أنّ الشّارع حكم أوّلا بالنّاقل. وفائدته رفع حكم الأصل ، ثمّ قال بالمقرّر لرفع حكم النّاقل ، فكلّ وقع في محلّه.

ولو عمل بالنّاقل لزم الحكم بتأخّره عن المقرّر فيكون وقوع المقرّر قبله بلا فائدة لاستفادة مفاده من العقل ، فيكون تأكيدا لا تأسيسا ، وأنت خبير بضعف هذا الاستدلال ، لأنّ الأحكام الموافقة للأصل ما فوق حدّ الإحصاء ، وهذا الاعتبار الضّعيف لا يرفع هذه الغلبة.

وبعضهم رجّح النّاقل لأنّه يستفاد منه ما لا يستفاد إلّا منه ، بخلاف المقرّر ، فحمل كلام الشّارع على التّأسيس أولى ، وبأنّ العمل به يقتضي تقليل النّسخ لأنّه إنّما يزيل حكم العقل ، بخلاف المقرّر فإنّه يزيل حكم النّقل بعد ما أزال هو حكم العقل.

ويضعّف الأوّل : بأنّ ذلك إذا قدّرنا تقدّم المقرّر ، وإن قدّرناه متأخّرا فليس كذلك.

والثّاني مع أنّه معارض : بأنّ ذلك نسخ للأقوى بالأضعف ، لأنّ المنسوخ حينئذ

٣٧٢

هو العقل والمقرّر معا إنّما يتمّ أن لو قلنا : بأنّ رفع حكم العقل بالنّاقل نسخ ، وليس كذلك.

والتّحقيق ، أنّ ما علم فيه التّاريخ من كلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إشكال في تقديم المتأخّر ناقلا كان أو مقرّرا.

وفي مجهول التّاريخ لا بدّ من التّوقّف ، هذا إذا علم بصدورهما معا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا مع عدم العلم بالصّدور ، فالكلام فيه كما لو كانا في أخبار الأئمة عليهم‌السلام ، فإنّ مع فرض عدم النّسخ في كلامهم ، لا يبقى إلّا احتمال الخطأ في أحدهما أو التقيّة ، فسواء كانا قطعيّين عنهم عليهم‌السلام أو ظنّيين ، فالأقوى تقديم المقرّر لكونه معاضدا بدليل آخر وهو العقل ، فيكون أرجح في النّظر ، سواء علم التاريخ في كلامهم أم لم يعلم.

وكيف كان ، فالأقوى ترجيح المقرّر في الأدلّة التي بأيدينا اليوم والعمل على ذلك.

الرّابع : مخالفة العامّة ، فيرجّح المخالف على الموافق لاحتمال التّقيّة فيه ، وقد أشير إليه في روايات كثيرة ، وذلك إمّا بموافقة الرّواية لجميعهم أو الّذين يعاصرون الإمام عليه‌السلام المرويّ عنه أو يعاشرون ذلك الرّاوي ، فإنّهم مختلفون في المسائل جدّا ، وكانت التّقيّة مختلفة بملاحظة مذاهبهم ، فلا بدّ من ملاحظة حال الرّاوي والمرويّ عنه. فقد نقل عن تواريخ العامّة أنّ مدار أهل الكوفة في عصر الصادق عليه‌السلام كان على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثّوري ورجل آخر ، وأهل مكّة على فتاوى ابن جريح ، وأهل مدينة على فتاوى مالك ورجل آخر ، وأهل مصر على فتاوى اللّيث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك ، وهكذا كانوا مختلفين باختلافات شتّى الى أن استقرّت مذاهبهم في الأربعة في

٣٧٣

سنة خمس وستّين وثلاث مائة ، فلا بدّ من التّأمّل في الحمل على التّقيّة والرّجوع الى دلالة نفس الرّواية على ذلك ، أو قرينة خارجة أو مناسبة لحال الرّاوي أو المرويّ عنه ، أو غير ذلك ، لا الحمل بمجرّد موافقته لبعضهم على أيّ نحو يكون. ولا يبعد كفاية مجرّد الاحتمال إذا لم يتحقّق الاحتمال في الخبر الآخر أصلا.

ثمّ إنّ المرجّحات الاجتهادية وما يوجب الظنّ بالصحّة كثيرة يندرج أكثرها فيما ذكرناه ، وقد مرّ الإشارة الى بعضها في مباحث الأخبار ، وعلى المجتهد أن يتحرّى ويتّبع ما يورثه الظنّ ، وأن يكون بصيرا في أمره ولا يكتفي بملاحظة رجال السّند في تصحيح الخبر وتقديمه على ما ليس بنقيّ السّند بحسب المصطلح المتأخّر ، كما أشرنا الى ذلك في مباحث الأخبار ، فإنّ هاهنا مرجّحات كثيرة لم يذكرها العلماء ، مع أنّ ملاحظة سند الأخبار أيضا إشكالا لا بدّ أنّ ينبّه له لئلّا يبادر بالتّصحيح أو التّضعيف.

وقد ذكر العلّامة المجلسيّ رحمه‌الله كلاما في «أربعينه» ولا بأس بإيراده لكثرة فوائده فإنّه قال في الحديث الخامس والثّلاثين الذي رواه الكلينيّ رحمه‌الله عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير ، بعد ما حقّق وبيّن أنّ محمّد بن إسماعيل هذا هو البندقيّ النّيشابوريّ : إنّ جهالته لا يقدح في صحّة الحديث لوجوه :

الأوّل : أنّ رواية الكلينيّ رحمه‌الله عنه في أكثر الأخبار التي أوردها في «الكافي» واعتماده عليه ، يدلّ على ثقته وعدالته وفضله وفهمه.

الثّاني : أنّ الفضل لقرب عهده بالكلينيّ واشتهاره بين المحدّثين لم يكن الكلينيّ يحتاج الى واسطة قويّة بينه وبينه ، ولهذا اكتفى به في كثير من الأخبار.

الثالث : أنّ الظّاهر أنّ هذا الخبر مأخوذ من كتاب ابن أبي عمير وكتب ابن أبي

٣٧٤

عمير كانت أشهر عند المحدّثين من الأصول الأربعة عندنا ، بل كانت الأصول المعتبرة الأربع مائة أظهر من الشّمس في رابعة النّهار ، فكما أنّا لا نحتاج الى سند لهذه الأصول الأربعة ، وإذا أوردنا سندا فليس إلّا للتيمّن والتّبرّك والاقتداء بسنّة السّلف ، وربّما لم يبال بذكر سند فيه ضعف أو جهالة لذلك ، فكذا هؤلاء الأكابر من المؤلّفين لذلك كانوا يكتفون بذكر سند واحد الى الكتب المشهورة وإن كان فيه ضعيف أو مجهول ، وهذا باب واسع شاف نافع إن أتيتها يظهر لك صحّة كثير من الأخبار التي وصفها القوم بالضّعف.

ولنا على ذلك شواهد كثيرة لا تظهر على غيرنا إلّا بممارسة الأخبار وتتبّع سيرة قدماء علمائنا الأخيار.

ولنذكر هنا بعض تلك الشّواهد لينتفع بها من لم يسلك مسالك المتعسّف المعاند.

الأوّل : أنّك ترى الكليني رحمه‌الله يذكر سندا متّصلا الى ابن محبوب أو الى ابن أبي عمير أو الى غيره من أصحاب الكتب المشهورة ، ثمّ يبتدئ بابن محبوب مثلا ويترك ما تقدّمه من السّند ، وليس ذلك إلّا لأنّه أخذ الخبر من كتابه ، فيكتفي بإيراد السّند مرّة واحدة ، فيظنّ من لا رويّة له في الحديث أنّ الخبر مرسل.

الثّاني : أنّك ترى الكلينيّ والشيخ وغيرهما يروون خبرا واحدا في موضع ويذكرون سندا الى صاحب الكتاب ، ثمّ يوردون هذا الخبر بعينه في موضع آخر بسند آخر الى صاحب الكتاب أو بضمّ سند أو أسانيد غيره إليه ، وتراهم لهم أسانيد صحاح في خبر يذكرونها في موضع ثمّ يكتفون بذكر سند ضعيف في موضع آخر ، ولم يكن ذلك إلّا لعدم اعتنائهم بإيراد تلك الأسانيد لاشتهار هذه الكتب عندهم.

الثّالث : أنّك ترى الصّدوق مع كونه متأخّرا عن الكلينيّ أخذ الأخبار في

٣٧٥

«الفقيه» عن الأصول المعتمدة واكتفى بذكر الأسانيد في «الفهرست» ، وذكر لكلّ كتاب أسانيد صحيحة ومعتبرة ، ولو كان ذكر الخبر مع سنده لاكتفى بسند واحد اختصارا ، ولذا صار «الفقيه» متضمّنا للصّحاح أكثر من سائر الكتب ، والعجب ممّن تأخّره كيف لم يقتف أثره لتكثير الفائدة وقلّة حجم الكتاب.

فظهر أنّهم كانوا يأخذون الأخبار من الكتب وكانت الكتب عندهم معروفة مشهورة متواترة.

الرّابع : أنّك ترى الشيخ رحمه‌الله إذا اضطرّ في الجمع بين الأخبار الى القدح في سند لا يقدح فيمن هو قبل صاحب الكتاب من مشايخ الإجازة ، بل يقدح إمّا في صاحب الكتاب أو فيمن بعده من الرّواة كعليّ بن حديد وأضرابه ، مع أنّه في الرّجال ضعّف جماعة ممّن يقعون في أوائل الأسانيد.

الخامس : أنّك ترى جماعة من القدماء والمتوسّطين يصفون خبرا بالصحّة مع اشتماله على جماعة لم يوثّقوا ، فغفل المتأخّرون عن ذلك واعترضوا عليهم ، كأحمد بن محمّد بن الوليد ، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن أبان ، وأضرابهم ، وليس ذلك إلّا لما ذكرنا.

السّادس : أنّ الشيخ رحمه‌الله فعل مثل ما فعل الصّدوق رحمه‌الله لكن لم يترك الأسانيد طرّا في كتبه فاشتبه الأمر على المتأخّرين ، لأنّ الشيخ رحمه‌الله عمل لذلك كتاب «الفهرست» وذكر فيه أسماء المحدّثين والرّواة من الإماميّة وكتبه وطرقه إليهم ، وذكر قليلا من ذلك في مختتم كتابي «التّهذيب» و «الاستبصار» ، فإذا أورد رواية ظهر على المتتبّع الممارس أنّه أخذه من شيء من تلك الأصول المعتبرة. وكان للشيخ رحمه‌الله في «الفهرست» إليه سند صحيح ، فالخبر صحيح مع صحّة سند

٣٧٦

الكتاب الى الإمام عليه‌السلام وإن اكتفى الشيخ رحمه‌الله عند إيراد الخبر بسند فيه ضعف.

السّابع : أنّ الشيخ ذكر في «الفهرست» (١) عند ترجمة محمّد بن بابويه القمّي ما هذا لفظه : له نحو من ثلاث مائة مصنّف ، أخبرني بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا منهم الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان ، وأبو عبد الله الحسين بن عبد الله الغضائري ، وأبو الحسين بن جعفر بن الحسن بن حسكة القمّي ، وأبو زكريّا محمّد بن سليمان الحمراني ، كلّهم عنه. انتهى.

فظهر أنّ الشيخ رحمه‌الله روى جميع مرويّات الصّدوق نوّر الله ضريحهما بتلك الأسانيد الصّحيحة ، فكلّما روى الشيخ خبرا من بعض الأصول التي ذكرها الصّدوق في «فهرسته» بسند صحيح ، فسنده الى هذا الأصل صحيح وإن لم يذكر في «الفهرست» سندا صحيحا إليه.

وهذا أيضا باب غامض دقيق ينفع في الأخبار التي لم تصل إلينا من مؤلّفات الصّدوق ، فإذا أحطت خبرا بما ذكرنا لك من غوامض أسرار الأخبار ـ وإن كان ما تركنا أكثر ممّا أوردنا ـ وأصغيت إليه بسمع اليقين ونسيت تعسّفات المتعسّفين وتأويلات المتكلّفين ، لا أظنّك ترتاب في حقيّة هذا الباب ولا يحتاج بعد ذلك الى تكلّفات الأخباريين في تصحيح الأخبار ، والله الموفق للخير والصواب. انتهى كلامه (٢) أعلى الله مقامه.

ثمّ اعلم أنّ هاهنا روايات كثيرة وردت عن أئمتنا عليهم‌السلام في علاج التّعارض بين الأخبار وترجيحها تنيف على ثلاثين وتقرب أربعين على ما وصل إلينا ، وهي

__________________

(١) «الفهرست» ٢٣٨ الرقم ٧١٠.

(٢) كلام المجلسي في «أربعينه».

٣٧٧

مختلفة في أنفسها.

ففي كثير منها حكم بتقديم ما وافق كتاب الله تعالى ، وفي بعضها أو سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، بل وفي كثير منها ، أنّ ما يخالف كتاب الله تعالى باطل وزخرف ، وفي كثير منها ، الأمر بترك ما وافق العامّة وأنّه باطل ، وفي بعضها ، العرض على كتاب الله ثمّ على أحاديث العامّة ، وفي طائفة منها ، التّخيير أوّلا من دون ملاحظة المرجّح ، وفي بعضها ، الأمر بالإرجاء والتوقّف أوّلا حتّى يلقى من يخبره ، وأنّه ، في سعة حتّى يلقاه ، وفي بعضها تفصيل طويل.

ومثل ما رواه الكليني رحمه‌الله (١) ، عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة أيحلّ ذلك؟ الى أن قال : فكيف يصنعان؟

قال عليه‌السلام : «ينظران الى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا». الى أن قال : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا من النّاظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟فقال عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت الى ما حكم به الآخر».

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟

قال : فقال عليه‌السلام : «ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به ،

__________________

(١) في «الكافي» ١ / ٥٤ باب اختلاف الحديث ح ١٠ ، «الوسائل» ٢٧ / ١٠٦ باب ٩ ح ١ [٣٣٣٣٤].

٣٧٨

المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ الى الله تعالى. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين وقد رواهما الثّقات عنكم؟

قال عليه‌السلام : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة».

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟قال عليه‌السلام : «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».

قلت : جعلت فداك : فإن وافقهما الخبران جميعا؟

قال عليه‌السلام : «ينظر الى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال عليه‌السلام : «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

وروى ابن جمهور في «غوالي اللئالى» (١) عن العلّامة رحمه‌الله مرفوعا الى زرارة قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان [أو الحديث] المتعارضان فبأيّهما آخذ؟

فقال عليه‌السلام : «يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النّادر».

__________________

(١) ٤ / ١٣٣ ح ٢٢٩.

٣٧٩

فقلت : يا سيدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم؟

فقال عليه‌السلام : «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك».

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟

فقال عليه‌السلام : «انظر الى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه ، خذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم».

فقلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط».

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر».

وفي رواية أنّه عليه‌السلام قال : «فإذن فارجه حتّى تلقى إمامك فتسأله». انتهى كلام «الغوالي».

وأنت خبير بأنّ العمل على هذه الأخبار لا يمكن ، لتعارضها وتناقضها ، ففي بعضها قدّم اعتبار صفات الرّاوي بالاجتماع ، كما في رواية ابن حنظلة بمرتبتين على العرض على الكتاب ، وفي بعضها قدّم العرض على الكتاب ولم يعتبر شيء آخر ، وفي بعضها قدّم الشّهرة على الصّفات ، وفي بعضها العرض على العامّة ، الى غير ذلك من المناقضات ، وقد تصدّى بعضهم للجمع بينها بوجوه لا تكاد تنتظم تحت ضابطة يمكن الرّكون إليها ، لا نطيل بذكرها وذكر ما فيها.

وتحقيق المقام ، أنّا نقول : لا شك أنّ تلك الأخبار أخبار الآحاد ، وقد مرّ أنّ حجّية أخبار الآحاد إمّا من جهة الأدلّة الدّالّة على حجّيتها بنفسها ، كآية النبأ والإجماع ، أو من جهة أنّه ممّا يحصل به الظنّ ومن جهة أنّه ظنّ المجتهد ، وقد اخترنا الثّاني وبيّنّا عدم تماميّة الدّليل عليه إلّا من جهة أنّه ظنّ المجتهد ، فحينئذ

٣٨٠