القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الأموات.

وفيه : مع أنّ التّمييز ممكن للعلم بتواريخ كتب المعتمدين وفتاويهم أنّه إنّما يتمّ فيما علم فيه تغيّر الرّأي ، واحتمال التّجدّد لا يضرّ للأصل كالحيّ.

وهاهنا وجوه أخر ضعيفة جدّا لا نطيل الكلام بذكرها وذكر ما فيها.

ثمّ إنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله (١) قال في آخر كلامه : على أنّ القول بالجواز قليل الجدوى على أصولنا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة ، وفرض العامّيّ فيها الرّجوع الى المجتهد ، وحينئذ فالقائل بالجواز إن كان ميّتا ، فالرّجوع الى فتواه فيها دور ظاهر ، وإن كان حيّا ، فاتّباعه فيها والعمل بفتوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرّجوع الى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ ، بل قد حكى الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب. انتهى كلامه رحمه‌الله.

وقد ذكرنا ما يقرب من بعض هذا الكلام في مسألة تجزّي الاجتهاد أيضا.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ الفائدة عظيمة جدّا سيّما لمقلّد مجتهد مات مجتهده وهو مستحضر لفتاويه كلّها ، وكذلك لمن شاركه في العصر القادر على الأخذ عنه بالرّواية.

فكأنّه رحمه‌الله أراد بقوله : على أصولنا ، التّعريض الى أنّ العامّة لمّا كان بناؤهم على العمل بمذاهب الأئمة الأربعة ، فهو كثير النّفع عندهم لا عندنا ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

قوله رحمه‌الله : لأنّ المسألة اجتهاديّة.

__________________

(١) ص ٥٤٠

٣٤١

فيه : ما عرفت مرارا أنّ هذه المسألة من توابع المسائل الكلاميّة ويجب فيها الاجتهاد لا التّقليد على التّفصيل الذي مرّ مرارا من معذوريّة الغافل وكفاية الظنّ مع عدم إمكان تحصيل العلم ولو بالاعتماد على قول عالم حيّ أو ميّت ، ولا يشترط في معرفة هذه المسألة شرائط الاجتهاد في الفروع ، مع أنّا لو سلّمنا كون المسألة فرعيّة ، فإنّما يتمّ الكلام على القول بعدم التّجزّي ، وأمّا على القول به ، فيجتهد في هذه المسألة ويقلّد الأموات في الباقي.

قوله رحمه‌الله : فالقائل بالجواز إن كان ميّتا ... الخ.

قلنا : نختار أوّلا الأوّل.

قوله رحمه‌الله : فالرّجوع الى فتواه فيها دور.

فيه : أنّه إذا قاده العقل الى متابعته في هذه المسألة الأصولية لحسن ظنّه به ، فلا دور ، لتوقّف تقليده في الفروع حينئذ على الاعتماد على قوله بسبب حكم عقله في مسألة أصولية ، مع أنّه ينتقض بالمقلّد الذي يقلّد العالم الأصوليّ في الأخذ عن العالم الأصوليّ دون الأخباريّ ، ثمّ يرجع الى ذلك العالم الأصوليّ في الفروع بسبب قوله.

ثانيا : الثّاني وما ذكره من بعده عن الاعتبار ، بعيد عن الاعتبار ، إذ لا بعد فيه أصلا سيّما في البلاد التي لم يوجد فيها مجتهد حيّ وأمكنهم العمل بالرّواية عن الميّت ، فاتّفق وصول مجتهد حيّ بها بعنوان العبور والمرور فيستفتونه في جواز تقليد الأموات ، ثمّ يعملون على قولهم.

قوله رحمه‌الله : مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا رحمهم‌الله.

قد عرفت الإشكال في تحقّق الإجماع ، وغاية الأمر أنّه إجماع منقول ظنّي ، فإذا حصل الظنّ للعامّيّ بقول الميّت في المسألة الفرعيّة أنّه حكم الله تعالى في

٣٤٢

الواقع ، فكيف يعارض به الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول على عدم جواز العمل بتقليد الميّت كما مرّ نظيره.

فحاصل التّحقيق في المسألة ، أنّ المقلّد أيضا كالمجتهد ، بناؤه على العمل بالظنّ لا محض التعبّد في تقليد المجتهد وما يتوهّم أنّ المقلّد لا يتفطّن غالبا لأنّ عمله على قول المجتهد من جهة أنّه مظنون أنّه حكم الله تعالى ، بل إنّما يعمل لأنّه يحسب إجمالا أنّ العمل بما يقوله حكم الله تعالى في حقّه ، لا أنّ الأحكام الخاصّة كلّ واحد واحد منها بالخصوص مظنون له أنّه حكم الله تعالى ، فهو فاسد إذ الدّاعي على المتابعة هو الإتيان بما أراد الله تعالى منه في كلّ واقعة ، وقد شبّ على هذا المعنى من الفطام الى أن شاب فيه ، فإنّ الطّفل في أوّل الإدراك يجزم بأنّ ما علّمه أمّه وأبوه هو نفس حكم الله تعالى في الواقع فضلا عن حصول الظنّ به ، وكذلك يترقّى على هذا الحال ويبدّل معلّمه بمعلّم آخر أعلم من الأوّل ، الى أن يصل الى حدّ تقليد المجتهد ، فلو لم ندّع أنّه جازم بأنّه حكم الله تعالى ، فلا نصغي الى قولك : فإنّه غير ظانّ ، فإذا آل الأمر الى العمل بالظنّ فكلّ ما حصل له الظنّ بعد سدّ باب العلم فهو تكليفه سواء كان ذلك بتقليد الحيّ أو الميّت ، وسواء انحصر ظنّه في شخص أو اختار أحد الظّنون المتساوية لعدم المرجّح.

ثمّ إنّ العمل بكتب الموتى ليس عين تقليد الميّت ، فإنّه في الغالب اجتهاد في فهم مرادهم ، وهو في غاية الصّعوبة ، إن لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، ولذلك فصّل بعض علمائنا وهو الشيخ ركن الدّين محمّد بن عليّ الجرجاني في «شرح المبادئ» على ما نقل عنه قال : والأشبه أن يقال : إنّ المستفتي إن وجد المجتهد لم يجز له الاستفتاء من الحاكي سواء كان عن حيّ أو ميّت لأنّه مكلّف بالأخذ بأقوى الظّنّين ، فيتعيّن عليه كالمجتهد فإنّه يجب عليه العمل بأقوى الدّليلين ، فإن لم يجد ،

٣٤٣

فلا يخلو إمّا أن يجد من يحكي عن الحيّ أو لا. فإن وجده تعيّن أيضا ، وإن لم يجده ، فإمّا أن يجد من يحكي عن الميّت أو لا ، فإن وجده وجب الأخذ بقوله ، وإن لم يجد ، وجب الأخذ من كتب المجتهدين الماضين.

ونقل مثل ذلك عن الشيخ عليّ بن هلال رحمه‌الله (١) أيضا.

وأنت بعد الإحاطة بما حقّقناه هنا ، وفي تقليد الأعلم وغيره ، تعرف حقيقة الحال ، وأنّ المعيار متابعة ما يظنّ أنّه حكم الله تعالى ، أو أنّه أحد من الأمور المتساوية نسبتها الى ما هو حكم الله تعالى ، أو الى ما يحصل به الظنّ بما يفيد الظنّ بأنّه حكم الله تعالى.

والرّواية عن المجتهد والفهم عن كتابه بالاجتهاد من هذا القبيل ، ففي كلّ مرتبة من المراتب مكلّف بالظنّ بحكم الله تعالى منحصرا أو في واحد من المحتملات المتساوية.

__________________

(١) قال في حقه السيد حسين بن السيد حيدر الحسيني الكركي العاملي في إجازة له : الشيخ الجليل شيخ الاسلام حقا علي بن هلال الكركي الشّهيد والده بمنشار. وفي «الأعيان» ٨ / ٣٦٩ : كان من تلاميذ المحقق الثاني الشيخ علي بن عبد العالي الكركي وتوفي عن بنت واحدة فاضلة ، وكانت زوجة الشيخ البهائي ورثت من أبيها جميع كتبه البالغة خمسة آلاف مجلد ، وكان أبوها جاء بتلك الكتب من بلاد الهند فأوقفها الشيخ البهائي كسائر كتبه وكان مقرّب من الشاه طهماسب الصفوي ، بعد وفاة شيخه المحقق الكركي جعل شيخ الاسلام بأصبهان ثم انتقل ذلك المنصب الى ختنه الشيخ البهائي ، له كتاب «الطهارة» كبير حسن الفوائد ، مشتمل على أمات مباحث الطهارة وعليه حواش لولد المحقق الكركي الشيخ عبد العالي ، وينقل منه عن الشهيد الثاني. توفي سنة ٩٨٤ في اصفهان ونقل هو والشيخ عبد العالي ابن المحقق الثاني الى مشهد الرضا عليه‌السلام.

٣٤٤

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين (١) فصّل تفصيلا آخر وقال بجواز تقليد من علم من حاله أنّه لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصّريحة أو الظّاهرة الواضحة دون الأفراد الخفيّة للعمومات واللّوازم الغير البيّنة اللّزوم للملزومات ، كالصّدوقين ومن شابههما من القدماء حيّا كان أو ميّتا ، ولا يجوز تقليد من يعمل باللّوازم والأفراد الخفيّة حيّا كان أو ميّتا. وهذا في غاية السّخافة والغرابة ، إذ جلّ الأحكام والفتاوى التي تحتاج إليها الرّعيّة إنّما يستنبط من القسمين الأخيرين ، وغالب احتياج النّاس الى المجتهد إنّما هو في ذلك.

وأغرب منه ما بني عليه هذا الحكم ، وهو أنّ كثرة اختلافهم في القسمين الأخيرين كاشف عن غلطهم ، بخلاف الاختلاف الحاصل في القسمين الأوّلين ، فإنّه يرجع الى اختلاف الأخبار ، فإنّ عدم الاعتماد على الأخيرين إن كان لكون الاختلاف ناشئا عن عدم إصابة الحقّ ، فالاختلاف في العمل بالأخبار أيضا مبنيّ على اختلافهم في التّرجيحات المأمور بها بينها ، فالتّرجيح إنّما يصدر من رأي المجتهد وفكره ، والغلط فيه أيضا غير عزيز ، مع أنّ الفرق بين الظّواهر والنّصوص وغيرها أيضا من الأمور الاجتهادية ، فربّ ظاهر عند بعضهم هو خفيّ عند آخر ، وبالعكس ، الى غير ذلك من المفاسد الواردة على هذا التّفصيل ، لا يخفى على من تأمّله.

__________________

(١) الفاضل التوني في «الوافية» ص ٢٩٦.

٣٤٥

تنبيه

اختلفوا في جواز خلوّ العصر عن المجتهد.

ذهب الأكثرون الى جوازه.

ومنعه الحنابلة.

والأوّل أظهر.

وربّما فرّع عدم الجواز على القول بعدم جواز تقليد الميّت ، ويلزم على القائلين بجواز تقليد الميّت أيضا على هذا أنّه يجب أن لا يخلو العصر من الرّواية عن الموتى أيضا ، ولا يخفى ضعف التّفريع ، وستعرف وجهه.

لنا : أنّه لا دليل على الاستحالة ، وما يستدلّ به من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي على الحقّ حتّى يأتي أمر الله أو يظهر الدجّال» (١).

لا دلالة فيه على المقصود لمنع استلزام كون طائفة على الحقّ على وجود المجتهد ، إذ يكفي فيه كونها على الحقّ ولو بالإتيان بما اقتضاه التّكليف على حسب الوسع والطّاقة.

وكذلك لا يدلّ عليه ما ثبت عندنا : «إنّ لله تعالى في كلّ عصر حجّة يبيّن لهم ما يحتاجون إليه» (٢).

فإنّ ذلك منقوض بعدم الوصول الى الإمام عليه‌السلام الذي هو الحجّة الواقعيّة.

__________________

(١) «المستصفى» : ١٤٢ ، «الاحكام للآمدي» ١ / ٢١٠.

(٢) في رواية من «البحار» ١٠ / ٣٥٢ ح ١ : وأنّ الأرض لا تخلو من حجه الله تعالى على خلقه في كل عصر وأوان الخ ... وقد جاء في مثل هذا كثير ، راجع باب أحاديث : انّ الأرض لا تخلو من حجّة في «الكافي» ١ / ١٧٨.

٣٤٦

وتحقيق هذا المطلب أنّه لم يعلم من النّواميس الإلهيّة والطّريقة المستقرّة في سلوكه مع عباده لزوم تبليغ الأحكام والشّرائع السّمعية الى كلّ أحد من العالمين في كلّ عصر ومصر بحيث لم يشذّ منهم واحد ، بل [كان] يكتفي بالبلوغ الى الأغلب فيما جرت (١) العادة ببلوغه إيّاهم ، بل يكتفي بالبلوغ في الجملة ، كما هو المشاهد في حال نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ من المعلوم أنّه لم يصل كلّ طريقة الإسلام الى جميع أطراف العالم في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ولا الى جميع آحاد المكلّفين في الأمصار القريبة منه.

وكذلك الحال في الأئمة عليهم الصلاة والسلام بعده ، بل الأمر فيهم أظهر وأجلى ، لعدم اقتدار أغلبهم على نشر الأقلّ من التّكاليف أيضا.

وكذلك لم تجر العادة بأخذ الحاضرين عنده وعندهم عليهم‌السلام جميع ما بلّغوه على ما هو عليه في نفس الأمر ، بل كانوا يكتفون عنهم بما يفهمونه ويقرّرونهم على ذلك ، كما أشرنا إليه مرارا ، سيّما في مباحث خبر الواحد.

فلزوم الرّجوع الى المجتهد الحيّ على القول به إنّما هو مع الإمكان ، وعلى قدر ما جرت (٢) العادة بوصول حكمه الى المقلّدين.

وهذا فعلى القول بجواز تقليد الميّت فربّما لا يتمكّن المكلّفون على الرّواية عن الموتى أيضا ، ولا على درك مقاصدهم من كتبهم أو لا يجدون من الكتب شيئا.

فلا فائدة في تجويز تقليد الموتى للفرار عن الإشكال المذكور أيضا.

فمقتضى سيرة الله تعالى مع عباده على ما هو مقتضى العدل والعقل والمشاهدة بالعيان ، هو العمل على ما علم أنّه من الله تعالى ، سواء كان باليقين المصطلح أو

__________________

(١ ـ ٢) في نسخة الأصل (جرى).

٣٤٧

باعتقاد المكلّف ثمّ بالظنّ به من الباب الذي هو الحجّة من المجتهد الحيّ إن اشترطناه ، أو بالرّواية عن الميّت أيضا إن قلنا به.

ثمّ ما يحصل به الظنّ من تقليد العوامّ ، وفي كلّ ذلك إمّا بالتّعيين ، أو من جهة كونه أحد الظّنون.

وأمّا لزوم العمل بالاحتياط فلم يقم علينا حجّة به كما حقّقناه في محلّه ، فإنّه لا دليل على وجوبه عقلا ولا شرعا ، لا عند المقلّدين حيث يريدون الاجتهاد في المسألة من جهة كونها كلاميّة ، ولا عند المجتهدين النّاظرين في المسألة لأجل إرشاد العوامّ وأمرهم بما يستكملون به نفوسهم لما بيّناه ، بل تكليفهم أن لا يتركوا مجموع المحتملات التي يقطعون أو يظنّون أنّ التّكليف ليس بخارج عنها.

والحاصل ، أنّ اشتراط العمل بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام أو المجتهد الحيّ أو الرّواية عن الموتى أو عن كتبهم في كلّ عصر ، ليس إلّا بالنّسبة الى المتمكّنين ، ولا يجب على الله تعالى تمكين الكلّ عن ذلك ، إذ لو كان واجبا تمكّن الكلّ عن ذلك ، والتّالي باطل كما عرفت ، فالمقدّم مثله ، فالشّأن حينئذ في بيان تكليف غير المتمكّنين ، وقد عرفت أنّ الاحتياط واجب ، فيعملون على مقتضى أصل البراءة في التّعيين وفي لزوم الإتيان المتعدّد والمتكرّر.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا يقال : إنّه لم يجز تقليد الميّت فيلزم في العصر الخالي عن المجتهد الحيّ أن يكون كلّهم فسّاقا لتركهم الواجب الكفائيّ ، فتتعطّل الأحكام.

لأنّا نقول : مع أنّ الإشكال يرد على القول بجوازه حينئذ أيضا من جهة تعطّل القضاء لأنّه مختصّ بالمجتهد عندهم ومنقوض بالصّنائع الواجبات الكفائيّة غالبا ، إنّ الوجوب الكفائيّ إنّما يسلّم مع الإمكان.

٣٤٨

والقول : بأنّ انعدام المجتهد في جميع الأوقات من جهة تقصير المكلّفين ، ممنوع ، مع أنّه إن قصّر طبقة من المكلّفين فانعدم المجتهد ، فلا بحث على الطّبقة الثّانية لاستحالة تحصيل الاجتهاد من دون الأسناد [الاستاد].

والكلام فيه هو الكلام في غيبة الإمام عليه‌السلام بسبب تقصير الرّعيّة في الطّبقة الأولى ، وإن كان يمكن دفع ذلك بأنّه لعلّة عدم قابليّة الطّبقة الثّانية وعدم تهيّؤهم لظهوره عليه‌السلام ، ومعرفة إمامهم أنّه إذا ظهر لا يعتنونه من جهة سوء سريرتهم وقبح اختيارهم ، صار سببا لعدم ظهوره في الطّبقة الثانية أيضا ، بخلاف المجتهد.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا يقال : إنّ تقليد الأموات لو كان جائزا لخرج الاجتهاد عن الوجوب الكفائيّ ، لأنّ المسلّم من وجوبه الكفائيّ إنّما هو في الجملة ، وهو وقت ثبوت الاحتياج ، مع أنّه يمكن منع الملازمة أيضا ، إذ العادة قاضية بعدم كفاية تقليد الأموات في جميع ما يحتاج إليه النّاس في كلّ عصر ، سيّما في الفروع المتجدّدة والأحكام الحادثة ، وخصوصا من جهة أنّ حصول الاجتهاد أمر تدريجيّ وليس بدفعيّ ، فعدم الاحتياج في آن من الأوان لا يستلزم رفع وجوبه لتدارك الحوائج المترقّبة. والتّقاعد منه يوجب التّعطيل عند نزول الواقعة ، فالحكمة الإلهيّة تقتضي تحصيله قبل نزول الواقعة.

هذا كلّه مع أنّ القضاء يحتاج الى المجتهد الحيّ عندهم ، فلا يكفي جواز تقليد الميّت في الأحكام مطلقا.

٣٤٩

خاتمة

في

التّعارض والتّعادل والتّراجيح

قانون

تعارض الدّليلين عبارة عن تنافي مدلوليهما ، وهو لا يكون في قطعيّين لاستحالة اجتماع النّقيضين.

وما ذكرنا في مباحث الإجماع من إمكان تحقيق الإجماع على طرفي النّقيض ، فهو ليس على حكم واحد ، بل إنّما هو على الحكمين المختلفين بسبب الأشخاص والأوقات ، مثل ما لو انعقد الإجماع على ما هو مقتضى التّقيّة مرّة ، وعلى ما هو الحقّ مرّة أخرى.

وحقيقة ذلك أيضا يرجع الى العدم ، لأنّ ذلك إنّما يتصوّر بالنّسبة الى الشخصين ، اطّلع أحدهما على أحد الإجماعين والآخر ، على الآخر وإلّا فبالنّسبة الى الشّخص الواحد لا يتّحد مورد الإجماع ، وكذلك الخبران القطعيّان كذلك.

وكذلك لا يكون في قطعيّ وظنيّ لانتفاء الظنّ عند حصول القطع.

فالتّعارض إنّما يكون بين دليلين ظنّيين ، وهو قد يحصل بين المتناقضين ، وقد يحصل بين العموم والخصوص المطلقين ، وقد يحصل بين العموم والخصوص من

٣٥٠

وجه ، وقد يحصل في غير ذلك.

وقالوا : إنّ العمل بهما من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكلّيّة.

ومرادهم من الأولويّة التّعيين ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(١). وهو صريح العلّامة رحمه‌الله في «التهذيب» (٢).

ويحصل الجمع بين الدّليلين غالبا بحمل العامّ على الخاصّ في العامّ والخاصّ المطلقين.

ويحمل [وبحمل] كلّ من المتناقضين على بعض أفراد موضوع الحكم.

وأمّا الأعمّ والأخصّ من وجه ، فلا يمكن تخصيص كلّ منهما بالآخر للزوم التّساقط ، اللهم إلّا أن يرجع أحدهما الى بعض أفراد العامّ ويبقى الآخر على عمومه ، كما سنشير إليه. وإن لم يمكن ذلك ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة.

وأما بين الأمر والنّهي ، فقد يمكن الجمع بحمل الأمر على الرّخصة والنّهي على المرجوحيّة ، فيحصل الكراهة. ولا يلتفتون في هذا المقام الى ملاحظة التّراجيح والقوّة والضّعف كما أشرنا إليه في مبحث تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة.

وقال في «تمهيد القواعد» (٣) في مقام التّعليل لهذا الحكم : لأنّ الأصل في كلّ واحد منهما هو الإعمال ، فيجمع بينهما بما أمكن ، لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح.

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) في «التهذيب» ص ٢٧٨ ، وإن أمكن العمل بكل منهما من وجه دون وجه ؛ تعيّن.

(٣) ص ٢٨٣.

٣٥١

ولم أتحقّق معنى قوله : لاستحالة التّرجيح من غير مرجّح ، إذ المفروض عدم ملاحظة المرجّح ، وإلّا فقد يوجد المرجّح لأحدهما.

وتوجيهه أن يقال : إنّ مراده إذا أمكن العمل بكلّ منهما ولو كان بإرجاع التّوجيه الى كليهما ، فمع ذلك لو عمل بأحدهما وترك الآخر فيلزم التّرجيح بلا مرجّح ، إذ المفروض أنّ موضوع الحكمين متغاير في الدّليلين ، فلا معنى لملاحظة المرجّح بينهما ، لأنّ كلّ واحد من الدّليلين حينئذ دليل على حكم شيء آخر ، فضعف أحدهما بالنّسبة الى الآخر لا يصير منشأ لترك مدلوله.

وذلك كما لو فرضنا أنّ واحدة من المسائل الفقهيّة تثبت بنصّ الكتاب ، وأخرى مباينة لها بخبر واحد ، فبعد ملاحظة القرائن المخرجة للّفظ عن الظّاهر يصير موضوع الدّليلين مختلفا ، فالعمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، إذ كلّ منهما قام دليل على طبقة [طبقه] ، وتكليف المكلّف في كلّ مسألة العمل بمقتضى ما يدلّ عليه دليلها ، فالعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

هذا ، ولكنّ الإشكال في معنى قولهم : هذا ومرادهم من الجمع ، فإن كان مرادهم وجوب التّفحّص والتّفتيش عن القرائن والأمارات اللّفظيّة والحاليّة والتّعارفيّة وتحصيل ما ظهر للمجتهد أنّه قرينة على إرادة خلاف الظّاهر من كلّ من الدّليلين ، كما في صلاة العاري قائما أو جالسا كما مرّ ، أو من أحدهما كما في العامّ والخاصّ المطلقين ، كما أشرنا في موضعه.

أو كما في العامّ والخاصّ من وجه ، كما إذا قامت (١) قرينة على إرادة بعض الأفراد في أحدهما دون الآخر ، وهكذا.

__________________

(١) في نسخة الأصل (قام).

٣٥٢

فلا ريب أنّ الأمر كما ذكروه ، ولكن ينبغي التّأمّل في القرينة أنّه إذا قامت على معنى خلاف الظّاهر في الدّليل الأقوى لم يوجب تقديم الأضعف على الأقوى ، بل لا بدّ أن تكون تلك القرينة قويّة بحيث يغلب قوّته على ظهور الدّليل الأقوى حتّى لا يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى.

مثلا ، إذا وقع التّعارض بين خبر الواحد وظاهر الكتاب ، ولكن كان هناك خبر آخر معمول به عند المعظم ، أنّ المراد بظاهر الكتاب هو خلاف ظاهره ، فيعمل على الدليلين ، ولم يستلزم ذلك تقديم الأضعف على الأقوى.

مثلا إذا ورد خبر في جواز التكلّم والقراءة عند سماع صوت قارئ القرآن ، فهو معارض لقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(١) فحينئذ نقول : إنّ صحيحة زرارة (٢) المفسّرة للآية بقوله عليه‌السلام : «يعني في القراءة خلف الإمام». قرينة لإرادة خلاف الظّاهر من الآية.

فحينئذ يجمع بين العمل بالرّواية الأولى وظاهر القرآن ، بحمله على القراءة خلف الإمام ، فيجوز التّكلّم والقراءة في غير خلف الإمام عند قراءة القرآن ، وإن كان مرادهم كما هو ظاهر كلماتهم أنّ محض الجمع بين الدّليلين يكفي لإخراج لأحدهما أو كليهما عن الظّاهر.

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤.

(٢) في «تفسير العيّاشي» الأعراف ح ١٣٣ عن زرارة قال أبو جعفر عليه‌السلام : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) في الفريضة خلف الإمام (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وفيه أيضا في الحديث ١٣٤ عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها ، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.

٣٥٣

وإن لم يظهر للمجتهد قرينة توجب ظهور المعنى الخلاف الظّاهر له بحيث يمكن التمسّك به في مقام الاستدلال ، فلا دليل عليه ولا برهان يرشد إليه ، بل ربّما يوجب هجر الدّليل الشرعيّ رأسا ، والأخذ بما لم يصدر من الشّارع أصلا ، فلا دليل على إرجاع كلّ من المتناقضين الى بعض الأفراد لبعض المناسبات الجزئيّة والاستحسانات كما فعلوه في حمل الولد في الأحاديث الدالّة على حضانة الأب على الذّكر والأمّ على الأنثى ، إلّا أن تكون الشّهرة قرينة على أنّه كان هناك دليل يدلّ عليه خفيّ علينا كما في صلاة العاري.

وإن كان بناؤهم في ذلك على محض الجمع بين الدّليلين ؛ فلا وجه له ، بل خلاف المستفاد من الأخبار ، فإنّهم عليهم‌السلام إذا كانوا سألوا عن اختلاف الأخبار حكموا بالرّجوع الى المرجّحات من ملاحظة الأفقه والأعدل الى غير ذلك ، ولم يحكموا بالجمع مهما أمكن حتّى بالمعنى المذكور ، بل يظهر من كثير من الأخبار أنّهم عليهم‌السلام كانوا يتكلّمون على سبيل الاختلاف والتّعارض أنّهم عليهم‌السلام قالوا «إنّ الاختلاف منّا وإنّه أبقى لنا ولهم» (١).

__________________

(١) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة فأجابني ، قال : ثمّ جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرّجلان ، قلت : يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتك قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به الآخر ، قال : فقال : يا زرارة إن هذا خير لنا وابقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لقصدكم النّاس ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم. فقلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النّار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال : فسكت ، فأعدت عليه ثلاث مرّات ، فأجابني ، بمثل جواب أبيه. راجع «البحار» ٢ / ٢٣٦ ح ٢٤ ، ومثله ـ

٣٥٤

وربّما يجيبون عن إشكال الاختلاف الوارد في أخبارهم وأخبار آبائهم عليهم‌السلام باختيار أحدها ولم ينكروا الاختلاف ولم يأمروهم بالجمع بينهما ولو بالتّأويلات البعيدة.

وأما الشيخ رحمه‌الله فما بنى عليه من التّأويل فهو ليس من باب الجمع بين الدّليلين غالبا ، بل هو يلاحظ المرجّحات أوّلا ويقدّم الرّاجح ، ثمّ يذكر المخالف ويؤوّله بما لا ينافي الرّاجح لما ذكره في أوّل «التّهذيب» (١) من أنّ بعض الشّيعة ارتدّ عن المذهب بسبب حصول التّناقض في أخبار الأئمة عليهم‌السلام ، وأراد بذلك رفع التّناقض بإبداء الاحتمال الغير المنافي.

وحاصله ، أنّ هذا الحديث إذا كان محتملا لهذا المعنى ، فلا تناقض ، لاحتمال أن يكون مرادهم عليهم‌السلام ذلك ، وكان عليه قرينة حاليّة أو مقاليّة ذهبت بالحوادث ، ولكنّ هذا لا يصير حجّة شرعيّة ولا يجوز التمسّك به بمحض الاحتمال ، إذ الحجّة إنّما هي (٢) القطع بمراد الشّارع أو الظنّ القائم مقامه ، وأمّا مجرّد الاحتمال فكلّا.

والحاصل ، أنّه لا ريب ولا شكّ في وجود التّعارض بين الأدلّة الفقهيّة ، فما وجد فيها قرينة من نفس المتعارضين أو من خبر معتبر أو إجماع بسيط أو مركّب أو نحو ذلك توجب انفهام معنى يمكن معها العمل بكليهما على الوجه الصّحيح

__________________

ـ في «الكافي» ١ / ٦٧ باب اختلاف الحديث ح ١٠. وفي رواية عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : اختلاف أصحابي لكم رحمة ، وقال : إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد. وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه‌السلام : أنّا فعلت ذلك بكم لو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم «البحار» ٢ / ٢٣٦ ح ٢٣.

(١) في مقدمة المؤلّف : ج ١ ص ١.

(٢) في نسخة الأصل (هو).

٣٥٥

المدلول عليه بالدّلالة الحقيقيّة أو المجازيّة المعتبرة الظّاهرة ، والعلاقة بسبب وجود القرينة الظّاهرة الواضحة بحيث لم يوجب طرح الأقوى وإخراجه عن الظّاهر بسبب الأضعف ، فلا شكّ ولا ريب حينئذ في وجوب الجمع بينهما وعدم جواز طرح أحدهما.

وأمّا إذا لم يقم عليه حجّة ولا قرينة توجب حمل اللّفظ عليه عرفا ولغة ، فلا حجّة فيه ، سيّما إذا وجب الخروج عن ظاهر الأقوى الى الأضعف.

ولكن لا مانع من إبداء الاحتمال في مقام رفع التّناقض في نفس الأمر ، كما فعله الشيخ رحمه‌الله ، ولكن بشرط أن لا يجعل حجّة في حكم شرعيّ ، فإن كان مرادهم من قولهم : الجمع مهما أمكن أولى من طرح أحد المذكورين ، فنعم الوفاق.

وإن أرادوا أولويّته في غير ذلك أيضا ، ووجوب تعاطي التّأويل في أحد الدّليلين وإخراجه عن الظّاهر أو كليهما بمحض الجمع بينهما فلا دليل عليه.

ومن جميع ذلك ظهر أنّ محض كون إحدى الأمارتين عامّا مطلقا والأخرى خاصّا مطلقا لا يوجب التّخصيص ، وإن كان العامّ أقوى بسبب الاعتضادات ، ولذلك ترى الفقهاء كثيرا ما يطرحون النصّ لمخالفته للأصل ، مع أنّ الأصل عامّ وهو خاصّ.

ومن تلك المواضع ردّ رواية سيف بن عميرة الصّحيحة أو الموثّقة الدالّة على جواز التمتّع بأمة المرأة بدون إذنها ، بأنّها منافية للأصل ، وهو تحريم التّصرّف في مال الغير ، فيحتاج الى قرينة قويّة تكسر التّخصيص سورة العامّ كما في المثال الذي قدّمناه.

وقد استدلّ بعضهم ، في تقديم الجمع بين الدّليلين : بأنّ دلالة اللّفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة للدلالة على كلّ مفهومه ، ودلالته على كلّ مفهومه أصليّة ، فإذا

٣٥٦

عملنا بكلّ واحد منهما من وجه دون آخر ، فقد تركنا العمل بالدّلالة التّابعة ، وإذا عملنا بأحدهما وتركنا العمل بالآخر بالكليّة ، تركنا العمل بالدّلالة الأصليّة ، ولا شكّ في أنّ الأوّل أولى.

واعترضه العلّامة رحمه‌الله في «النّهاية» على ما نقل عنه : بأنّ العمل بكلّ واحد منهما ، من وجه عمل بالدّلالة التّابعة من الدّليلين معا ، والعمل بأحدهما دون الآخر عمل بالدّلالة الأصليّة والتّابعة في أحد الدّليلين وإبطالهما في الآخر ، ولا شكّ في أولويّة العمل بالأصل ، وتابع على العمل بالتّابعين وإبطال الأصلين.

وتنظّر فيه بعضهم ، بأنّ العمل بتابع وأصل إنّما يكون راجحا على العمل بالتّابعين إذا كانا من دليلين ، أمّا إذا كانا من دليل واحد وكان التّابعان من دليلين ، فلا ، وهو ظاهر. فإنّ فيه تعطيلا للّفظ الآخر وإلغاء له بالكلّيّة ، ومن المعلوم أنّ التّأويل أولى من التّعطيل.

أقول : ويظهر ما في هذا النّظر ممّا قدّمناه.

وتحقيق المعارضة أنّ العمل بالدّليلين حينئذ خروج عن كلام الشّارع رأسا ، لاستحالة العمل على حقيقتهما وعدم قرينة معيّنة لذلك التجوّز ، بحيث يكون مقبولا عند أهل اللّسان ، بخلاف ما لو عمل على حقيقة أحدهما ، فإنّه لا مانع منه ، ولا مؤاخذة في ترك الآخر لأصل البراءة واستحالة العمل عليهما معا على ما وردا عليه ، وخصوصا مع ملاحظة ما ورد من الشّارع من التّخيير في العمل بأيّهما.

ثمّ إنّ الشّهيد الثّاني رحمه‌الله (١) بعد ذكر ما نقلنا عنه في التعارض ولزوم الجمع بين الدّليلين مهما أمكن ، جعل من فروع الجمع بين الدّليلين إعمال البيّنتين القائمتين

__________________

(١) في «التمهيد» ص ٢٨٤.

٣٥٧

على مالكيّة رجلين يدهما ثابتة على الدّار على السّواء أو لم يكن يد أحدهما عليهما.

والتّحقيق فيه ، أنّ ذلك يصحّ بعد ملاحظة التّراجيح في البيّنتين وانتفائهما وتعادلهما.

وكيف كان ، فيمكن القدح في ذلك التّفريع لإمكان استناد التّنصيف الى ترجيح بيّنة الدّاخل ، فيعطى كلّ منهما ما في يده ، أو ترجيح بيّنة الخارج ، فيعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ، إذ دخول اليد وخروجها أعمّ من الحقيقيّ والاعتباريّ كما حقّق في محلّه.

ويمكن استناده الى التّعارض والتّساقط والتّحالف ، فينصّف بعد التّحالف ، فيجري مجرى ما لو ثبت يداهما عليهما ولم يكن هناك بيّنة ، كما هو المشهور.

ولكن يقع الإشكال هنا في وجه التّنصيف ، ولعلّ وجهه أنّ اليد وإن كانت دالّة على الملك ، لكنها إنّما تدلّ على الملك في الجملة لا بعنوان الاستيعاب فقط بحيث يعمّ جميع الموارد.

فالقدر المسلّم فيما يثبت اليدان عليها على السّواء إنّما هو الملك في الجملة لكلّ منهما ، وهو مقتضى حمل فعل المسلم على الصحّة منضمّا الى دلالة يده على الملكية بحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر فيحكم بالشّراكة ، إذ هو مقتضى توارد اليدين على وجه الصحّة والحكم بالتّسوية لرفع التّحكّم ، ولكنّ هذا لا يتمّ في الدّليلين اللّفظيين اللّذين هما حقيقة ومجاز مطلقا ، بل يحتاج الى قرينة مصحّحة لإرادة خلاف الظّاهر.

٣٥٨

ثمّ قال (١) بعد التّفريع المذكور : ولو كان بين الدّليلين عموم وخصوص من وجه ، طلب التّرجيح بينهما لأنّه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر أولى من العكس.

وذكر من جملة فروعه تفضيل فعل النّافلة في البيت على المسجد الحرام ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد الحرام» (٢) ، يقتضي تفضيل فعلها فيه على البيت لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيما عداه». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» (٣). يقتضي تفضيل فعلها فيه على المسجد الحرام ومسجد المدينة.

قال : ويترجّح (٤) الثّاني بأنّ حكمة اختيار البيت عن المسجد هو البعد عن الرّياء المؤدّي الى إحباط الأجر بالكليّة ، وهو حاصل مع المسجدين.

وأمّا حكمة المسجدين فهي الشّرف المقتضي لزيادة الفضيلة على ما عداهما ، مع اشتراك الكلّ في الصحّة وحصول الثّواب ، ومحصّل الصحّة أولى من محصّل الزّيادة.

ويمكن ردّ هذا الى الأوّل ـ يعني صورة التّعارض التي يجمع فيها بين الدّليلين مهما أمكن ـ فيعمل بكلّ منهما من وجه بأن يحمل عموم فضيلة المسجد على

__________________

(١) الشهيد في «التمهيد» ص ٢٨٤.

(٢) «الوسائل» ٥ / ٢٧٩ باب ٥٧ من أبواب أحكام المساجد ح ٥ وفيه : تتمّة الحديث إلّا المسجد الحرام فإنّه أفضل منه.

(٣) «صحيح البخاري» ١ / ١٨٦ باب صلاة الليل ، «صحيح مسلم» ٢ / ٢٠٩ كتاب صلاة المسافرين ح ٢١٣ ، «مسند أحمد» ٥ / ١٨٢ «الموطّأ» ١ / ١٣٠ صلاة الجماعة ح ٤.

(٤) في المصدر (ويرجّح).

٣٥٩

الفريضة وعموم فضيلة البيت على النّافلة ، لأنّ النّافلة أقرب الى مظنّة الرّياء من الفريضة ، وهذا هو الأصحّ ، وفيه مع ذلك إعمال الدّليلين ، وهو أولى من إطراح أحدهما (١).

أقول : الفرق بين المقامين ، أنّ في الأوّل يرجّح الرّواية الدالّة على فعل النّافلة في البيت ، ويطرح دلالة الرّواية الأولى على استحبابها في المسجد في ضمن عموم : «صلاة في مسجدي».

وفي الثاني لم يطرح تلك الدلالة ، بل خصّ عمومها بأمر خارجيّ. وحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلاة في مسجدي» ، على إرادة صلاة فريضة.

والأمر الخارجيّ هو عدم مزاحمة الرّياء للفريضة غالبا ، فهو قرينة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد منها صلاة الفريضة ، فالجمع بين الدّليلين صار بإبقاء أحد العامّين من وجه على عمومه وهو ما عدا البيت. وتخصيص العامّ الآخر وهو : «صلاة في مسجدي» ، بالفريضة بأمر خارجيّ لا بالعامّ الآخر حتّى يلزم المحذور.

فظهر بذلك إمكان الجمع بين العامّين من وجه في العمل في الجملة ، ولكن لا بدّ أن تكون القرينة ممّا يعتمد عليها كما أشرنا سابقا.

والذي ذكر هنا ليس بذلك المعتمد ، إلّا أنّ عمل الأصحاب والشّهرة بينهم صار قرينة مرجّحة لهذا الحمل. وإن وردت روايات معتبرة في استحباب النّافلة في المسجد أيضا ، وعمل بها الشّهيد الثّاني رحمه‌الله في بعض تأليفاته ، ثمّ ذكر في «التّمهيد» (٢) فروعا أخر للعامّين من وجه.

__________________

(١) انتهى كلام الشهيد.

(٢) ص ٢٨٥.

٣٦٠