القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الفتوى قد يجوز نقضها (١) بالحكم وقد لا يجوز.

وأمّا الصّورة التي يجوز ، فهو ما لو وقع النّزاع في أوّل زمان العقد إمّا قبله أو بعده بعد الاطّلاع على أنّ له حقّ الدّعوى وإن طالت (٢) المدّة.

وأمّا الصّورة التي لا يجوز ، فهو ما لو تراضيا المتعاقدان على عقد مع معرفتهما بكون المسألة خلافيّة ، بأن بنيا على تقليد مجتهد واحد أو ما يقوم مقامه ، كما لو كانا جاهلين بلزوم التّقليد رأسا ثمّ عرفا بعد ذلك الخلاف وسبيل النّزاع ودعتهما الهوى الى المنازعة ، فالأظهر عندي عدم نقض الفتوى هناك أيضا بالحكم.

تنبيه

إذا تخالف البكر والوليّ ، وكانت البكر مقلّدة لمن يحكم باستقلالها ، والوليّ مقلّد لمن يحكم باستقلاله ، فإن وقع العقد من أحدهما قبل المرافعة فلا يحكم ببطلانه ، ولا يمنع عن مقتضاه حتّى تقع (٣) المرافعة ، فإن ترافعا عند من يوافق البكر فيلزم نكاحها ، ويلزم الوليّ بالسّكوت.

وإن ترافعا عند من يوافق الوليّ وصدر العقد من الوليّ ، فيلزم عقده ويبطل دعوى البكر ، ولو صدر عنهما عقدان ، فقد مرّ الكلام فيه.

والغرض هنا بيان أنّ عدم تحقّق المرافعة لا يوجب بطلان العقد ، وهو ظاهر. وكذا الكلام لو كانا مجتهدين أو غافلين جاهلين رأسا ، وكون العقد في معرض

__________________

(١) في نسخة الأصل (نقضه).

(٢) في نسخة الأصل (طال).

(٣) في نسخة الأصل (يقع).

٣٢١

الزّوال بسبب احتمال الحكم على خلافه بعد المرافعة لا يوجب الحكم بعدم ترتّب الآثار عليه ما لم يعرض له كسائر المعاملات ، ونظيره كثير لا حاجة الى ذكرها.

بقي الكلام في بيان جواز النّقض إذا ظهر بطلان الحكم أو الفتوى.

فاعلم أنّهم قالوا : إنّ عدم جواز النّقض إنّما هو إذا لم يخالف قاطعا.

وفسّره التّفتازاني : بالنصّ القطعيّ والقياس الجليّ.

وقال السيّد عميد الدّين : لا يجوز نقض الحكم ما لم يكن منافيا لمقتضى دليل قطعيّ كنصّ أو إجماع أو قياس جليّ. وهو ما نصّ الشّارع فيه على الحكم وعلّته نصّا قاطعا ، وثبتت (١) تلك العلّة في الفرع قطعا ، فإنّه حينئذ ينتقض إجماعا لظهور خطأه قطعا.

ومراد فقهائنا كالعلّامة في «الإرشاد» (٢) وغيره من البطلان حيث قال : وكلّ حكم ظهر بطلانه للحاكم قبل العزل أو بعده أو لغيره ينقضه ويبطله هو (٣) ، ذلك أعني المخالفة للدليل القطعيّ أو ظهور التّقصير فيه فيما ليس له دليل قطعيّ ، وكان من الاجتهاديّات لا مجرّد تغيّر الرّأي ، فإنّه ليس بظهور البطلان مطلقا ، إذ ربّما يتغيّر رأي المجتهد ويحصل له التّرجيح للرأي الآخر ، مع أنّه لا يظهر له بطلان الأوّل ويحتمل بعد صحّته أيضا ، فهو لا يجوز نقضه إلّا مع ثبوت التّقصير في الاجتهاد.

__________________

(١) في نسخة الأصل (ثبت).

(٢) «إرشاد الأذهان الى أحكام الايمان» ٢ / ١٤١.

(٣) مع تصرّف في العبارة من المصنّف وإلّا فكلام العلّامة هو : وكل حكم ظهر بطلانه فإنّه ينقضه ، سواء كان الحاكم [الحكم] هو أو غيره ... الخ.

٣٢٢

وما ذكره المحقّق الأردبيلي في «شرح الإرشاد» (١) في تحقيق ظهور البطلان يؤول الى ظهور التّقصير في الاجتهاد لأجل قلّة التّتبّع وحسن الظنّ لبعض الكتب ، والاعتماد على مجرّد ما نقله بعض المحقّقين ، وجعل معيار ذلك والقاعدة الدالّة عليه هو مخالفة ما لو فرض الاطّلاع عليه لتتبّعه من الأدلّة ، وأنّ عدم الاطّلاع كان من جهة التّقصير.

فعلى هذا لا يضرّ مخالفة رواية لم يعثر عليها لأجل كونها في الكتب الغير المتداولة مثل «قرب الإسناد» (٢) و «المحاسن» (٣) أو لأجل كونها في غير بابها المعهود.

وكذلك لا يضرّ مخالفة بعض التّرجيحات في تعارض الأحوال أو مقتضى بعض المرجّحات المذكورة للجمع بين الأخبار بسبب تفاوت مراتب الظّنّ في الحالين ، فقد يتردّد الأمر بين حديثين صحيحين يدقّ الفرق في رجحان أحدهما على الآخر ، وقد يتردّد الأمر بين اختيار التّخصيص على الإضمار أو بالعكس ، وهكذا.

فهذا لا يقال له : ظهور بطلان الاجتهاد ، بل يقال : إنّه تغيّر رأيه ، ولكن يضرّ مخالفة حديث صحيح غير شاذّ مذكور في بابه المعهود فضلا عن الآية والإجماع والقياس الجليّ ، وغير ذلك ، فإنّ مخالفة المذكورات كاشفة عن التّقصير في الاجتهاد ، بل عدم الاجتهاد الصّحيح.

__________________

(١) «مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان» ١٢ / ٨٥.

(٢) لأبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري من أصحاب الامام العسكري عليه‌السلام.

(٣) لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي من أصحاب الامام الرضا والجواد عليهما‌السلام كما في «فهرست» ابن النّديم.

٣٢٣

وعلى ذلك ينزّل كلام الشهيد رحمه‌الله في «الدروس» (١) حيث قال : ينقض الحكم إذا علم بطلانه سواء كان الحاكم أو غيره ، وسواء أنفذه الجاهل به أم لا. ويحصل ذلك بمخالفة نصّ الكتاب أو المتواتر من السنّة أو الإجماع ، أو خبر واحد صحيح غير شاذّ ، أو مفهوم الموافقة أو منصوص العلّة عند بعض الأصحاب ، بخلاف ما لو تعارض فيه الأخبار ، وإن كان بعضها أقوى بنوع من المرجّحات. انتهى ملخّصا.

واستشكل المقام الشّهيد الثاني في «المسالك» (٢) سيّما في عبارة الشهيد هذه في غير الثّلاثة الأول ، لأنّ خبر الواحد من المسائل الخلافيّة ، ودليله ظنيّ ، فمخالفته لا يضرّ.

وكذلك الكلام في مفهوم الموافقة في المنصوص العلّة ، فمخالفته لا يستلزم البطلان ، وعلى ما نزّله عليه المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله فيندفع الإشكال.

ثمّ إنّ المحقّق الأردبيلي قال : إنّ في صورة ظهور البطلان ينقض الحكم والفتوى كلاهما ، وفي صورة تغيّر الرّأي لا ينقض شيء منهما ، وهذا هو الذي أشرنا إليه من أنّ ظاهره عدم الفرق بين الحكم والفتوى في عدم النّقض.

وهذا هو التّحقيق في المسألة ، نعم ، يجوز المخالفة للحكم الأوّل في الفتوى فيما وقع النّزاع وترافعا عند الحاكم على التّفصيل الذي قدّمناه ، وفيما بعد التّغيير موضوع آخر ، وفيما لم يناف ما أثبته الفتوى من الأحكام الملزومة الاستمراريّة.

هذا في الحقيقة لا يسمّى نقضا ولا يطلق عليه النّقض كما صرّح به التّفتازاني ، بل هو عمل بالرّأي الآخر ، فلا يرد على المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله أنّه لم يقلّ أنّ الفتوى

__________________

(١) ٢ / ٧٦ ، وكذا نقله أيضا في «المسالك» ١٣ / ٢٩٠.

(٢) «مسالك الأفهام» ١٣ / ٢٩٠.

٣٢٤

يجوز نقضه ، فلم يبق بين الحكم والفتوى فرق في عدم جواز النّقض ، والفرق إنّما هو في جواز المخالفة في الجملة في الفتوى دون الحكم.

ثمّ إنّ المعيار الذي أخذه المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله ، وبنى عليه كلام الشهيد رحمه‌الله أيضا غير مطّرد سيّما بالنّسبة الى المفاهيم ومنصوص العلّة.

وبالجملة ، كلامهم في هذا المقام غير وافية بإفادة المرام وغير منقّحة ، وقد ذكرت لك ما أدّاني إليه النّظر القاصر ، ورجاء العفو عن الزّلل من الله الغافر.

٣٢٥

قانون

إذا عمل العامّيّ بقول مجتهد في حكم مسألة ، لا يجوز الرّجوع الى غيره في هذه المسألة ، ونقل عليه الإجماع المؤالف والمخالف.

ولعلّ وجهه ، أنّ قول المجتهد كالأمارة الرّاجحة ، فلا يجوز العدول عنها بلا وجه مع أنّه يوجب اختلال النّظام غالبا ، إذ قد يتغيّر دواعي المقلّدين آناً فآنا.

ثمّ إن ظهر له رجحان بسبب العلم والورع للغير فيجوز العدول على ما اختاره الأصحاب من تقديم الأرجح بسبب العلم والورع.

والأولى أن يجعل الرّجحان أعمّ من ظهور ما لم يظهر له من أحواله من العلم والورع أو ظهور خطئه في هذا الاجتهاد الخاصّ من الخارج.

وأمّا في غير تلك المسألة فالأظهر الجواز ، للأصل ، وعدم المانع وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار.

والظّاهر أنّ الكلام لا يتفاوت فيما لو التزم المقلّد تقليد مجتهد خاصّ أو لم يلتزم.

والعامّة فرّقوا بينهما ، واختلفوا فيما لو التزم ، كأن يختار متابعة الشّافعيّ أو أبي حنيفة ، على أقوال :

ثالثها : أنّه كالأوّل يعني غير المستلزم ، وقد مرّ الكلام فيه.

٣٢٦

قانون

اختلفوا في أنّ غير المجتهد هل له أن يفتي بمذهب مجتهد من عند نفسه من دون أن يحكي عنه.

الحقّ ، العدم ، لأنّه تدليس ، وقول بما لا يعلم ، فإنّ ظاهره الإخبار عن علمه.

وللعلّامة أقوال شتّى ، أشهرها عندهم :

الفرق بين المطّلع على المأخذ وغير المطّلع ، فيجوز للأوّل ، دون الثّاني.

وربّما ادّعى بعضهم الإجماع على الجواز في الأوّل ، دون الثّاني.

وفرّق بعضهم : بين وجود المجتهد وعدمه ، فجوّز في الثّاني دون الأوّل ، والكلّ ضعيف.

٣٢٧

قانون

لا يشترط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بلا خلاف ظاهر بينهم.

. واحتجّوا عليه : بالإجماع على جواز رجوع الحائض الى الزّوج العامّيّ إذا روى عن المفتي ، وبلزوم العسر والحرج ، بل الظّاهر الاعتماد على مكتوبه مع أمن التّزوير ، ويدلّ عليه العمل بكتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم الصلاة والسلام في أزمنتهم ، وللزوم العسر والحرج لولاه.

وفي جواز العمل بالرّواية عن المجتهد الميّت خلاف ، والمشهور عند أصحابنا : العدم.

وعندهم : الجواز ، ولذلك صار بناؤهم على تقليد الأئمة الأربعة ، بل على الاجتهاد في أقوالهم والعمل به.

ومنهم من فصّل ، فمنع مع وجود الحيّ لا مع عدمه.

والقائل بالجواز من الأصحاب المتأخّرين : قليل ، بل لم نعرف بالخصوص قائلا إلّا عن جماعة من متأخّري المتأخّرين من الأخباريين. ونقل في «الذّكرى» (١) قولا به ولم يذكر قائله.

فالاحتجاجات المذكورة لنفي الحجّية في كلام الأصحاب كلّها ضعيفة ، أقواها ما اختاره صاحب «المعالم رحمه‌الله» (٢) ، ومرجعه الى أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ.

وما دلّ على جواز التّقليد أمران :

__________________

(١) ١ / ٤٤.

(٢) ص ٥٤٠.

٣٢٨

الأوّل : الإجماع الذي نقله جماعة من العلماء على الإذن للعوامّ في الاستفتاء وهو ظاهر ، بل صريح في الأحياء.

والثاني : لزوم العسر والحرج لولاه ، وهو لا يثبت جواز تقليد الميّت مطلقا حتّى لو كان هناك حيّ ، بل صرّح بعضهم بالإجماع (١) ، على العدم مع وجود الحيّ.

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام ، يحتاج الى تجديد الكلام في أنّ الأصل في أمثال زماننا ذلك جواز العمل بالظنّ للمجتهد إلّا ما ثبت حرمته ، أو الأصل حرمة العمل به إلّا ما ثبت جوازه.

وقد عرفت في مباحث الأخبار أنّ الحقّ هو الأوّل ، لأنّ إثبات الظنّ المعلوم الحجّية ، دونه خرط القتاد. وغايته إثبات حجّية أخبار الآحاد ، وظواهر الكتاب ، وأصل البراءة ، والاستصحاب. وقد عرفت أنّ إثبات حجّية أخبار الآحاد لم يدلّ عليه دليل إلّا مجرّد كونه ظنّ المجتهد ، إذ الاعتماد على الإجماع المنقول عن الشيخ يستلزم الدّور ، إذ الدّليل على حجّيته هو الدّليل على حجّية الخبر.

ودعوى الإجماع القطعيّ عليه من عند أنفسنا لو تكلّفناها بملاحظة أحوال السّلف ، فإنّما هو في الجملة لما ترى من النّزاع في اشتراط الصّحبة باصطلاح المتأخّرين ، أو كفاية مطلق التّوثيق أو مجرّد التحرّز عن الكذب أو مطلق المدح ، ثمّ في معنى العدالة وعدد الكبائر ، ثمّ في كفاية انجبار الضّعاف بالشّهرة أو اعتبار مطلق تصحيح القدماء ، ثمّ بعد كلّ ذلك في علاج التّعارض ، فلم يخلص في مورد الإجماع شيء ينفعنا ، ولا مناص عن التعلّق بما يحصل به الظنّ.

__________________

(١) ومثله نقل في «العالم» ص ٥٤١.

٣٢٩

والاعتماد على الأخبار الواردة في جواز العمل بأخبار الآحاد ، وضبطها وتدوينها وعلاج تعارضها ليس إلّا اعتمادا بأخبار الآحاد لمنع قطعيّتها ، وكذلك الحال في الاستصحاب وأصل البراءة ، فإنّ الدّليل عليهما إن كان هو الأخبار فيدور لكونها آحادا ، وإن كان حصول الظنّ ، فهو المقصود.

وكذلك حجّية الكتاب لمنع الإجماع على حجّيته مع أنّ القدر المجمع عليه لو سلّم هو النّصوص ، والظّاهر الذي لم يعارضه شيء ، وإلّا فالخلاف في المفاهيم وأنواع الدّلالات وصور معارضات عامّها مع خاصّ الأخبار وغير ذلك ، ممّا لا يخفى على أحد ، مع أنّ مسائل الفقه جلّها ، بل كلّها ممّا لا يتمّ بواحد من الظّنون المعلوم الحجّية ، أي بالقدر الذي علم حجّيته ، فلا يجدي حصول القطع في بعض أجزاء المسألة قطعيّة تمامها ، كما لا ينفع قطعيّة إحدى المقدّمتين في القياس قطعيّة نتيجتها.

فالحقّ أن يقال : نحن مكلّفون في أمثال زماننا ، وسبيل العلم بالأحكام منسدّ والتّكليف بما لا يطاق قبيح ، فليس لنا إلّا تحصيل الظنّ بحكم الله الواقعيّ ، فإذا تعيّن المظنون فهو ، وإن تردّد بين أمور فالمكلّف به هو أحدها.

ثمّ قد عرفت الإشكال الوارد على استثناء القياس ونظائره من جملة الظّنون من أنّ الدّليل العقليّ والبرهان القطعيّ لا يقبل التّخصيص وجوابه.

ونزيد هنا ـ توضيحا ـ أنّ وجه هذا الاستثناء إمّا أنّه من جهة عدم إفادته الظنّ بملاحظة طريقة الشّرع من جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات.

وإمّا من جهة أنّ النّهي عنه مقدّم على حالة الاضطرار ، فبعد ما ثبت بالبديهة حرمته ، وقع الكلام في العمل بسائر الظّنون وجرى عليه البرهان العقليّ.

وإمّا من جهة أنّ الشّارع كما أذن لنا العمل ببعض الظّنون كأخبار الآحاد ، نهانا

٣٣٠

عن بعض الظّنون ، كالقياس ، خرجنا عن التّمسّك بمقتضى النّصّ في جواز العمل بأخبار الآحاد ، وادّعينا أنّ حجّيتها ليس من جهة نصّ الشّارع ، بل من جهة أنّه ظنّ المجتهد لما عرفت من عدم الفائدة ، لأنّ القدر المقطوع به منه في غاية القلّة ، فلا يعرف أين ما هو مورد الإجماع والقطع من جملة أخبار الآحاد حتّى يجوز العمل به ، وإن كان يعرف ، ففي غاية القلّة ، بخلاف حرمة القياس فإنّه معلوم ، ولذلك نقول : بأنّ منصوص العلّة ، وفحوى الخطاب ليسا بقياس لا أنّهما من القياس الجائز دون الحرام ، فلا غائلة في التّمسّك في حرمة القياس بالنّصّ دون جواز العمل بخبر الواحد ، فتأمّل حتى تعرف الفرق.

هذا حال المجتهد ، وأمّا العامّيّ فإمّا أن نقول : إنّ رجوعه الى المجتهد تعبّديّ ومقتضى النّصّ والدّليل مثل قولهم عليهم‌السلام لأبان بن تغلب : «أفت» (١). وأمرهم عليهم‌السلام بالرّجوع الى زرارة ، ويونس (٢) وأخذ المعالم عنهم ، وأمثال ذلك بضميمة دعوى الإجماع أو البديهة على الاشتراك في التكليف أو من جهة الدّليل العقليّ بأنّه مكلّف يقينا بالحكم الواقعي ، وباب العلم إليه منسدّ ، فلا مناص له عن الظنّ.

والمعتمد في أمثال زماننا هو الثّاني كما لا يخفى ، لإمكان القدح في الأوّل بمنع الدّلالة على التّقليد المصطلح وإن كان الظّاهر خلافه ، ولأنّه ليس ممّا يحصل به العلم للمقلّد ، ولا الظنّ إلّا من جهة تقليد غيره.

سلّمنا ، لكنّه لا يفيد إلّا الظنّ فيرجع الى الثّاني.

وكذلك الكلام في الإجماع لعدم حصول العلم للمقلّد بالإجماع ، غايته هو

__________________

(١) «الوسائل» ج ٢٠ خاتمة الكتاب باب الهمزة ص ١١٦ ح ٤.

(٢) وكذا زكريا بن آدم ، راجع «البحار» ٢ / ٢٥١ ح ٦٨ ، ٦٧ ، ٦٦.

٣٣١

الثّبوت في الجملة ، ويحتاج في تعيين من يجب تقليده أيضا الى العمل بالظّنّ.

وإذا اعتمدنا على الوجه العقليّ فنقول : إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم رجوعه الى العالم بالحكم ، وحينئذ فإمّا نتكلّم في حال نفس العامّيّ ومراتب فهمه وتميّزه ، وإمّا نتكلّم في نفس الأمر ومعرفة أصل المسألة وتمييز العلماء وتحقيقهم لأصل المسألة في الإرشاد والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أمّا الأوّل ، فيظهر حاله ممّا قدّمنا في مباحث الكلام في معرفة أصول الدّين وغيره من أنّ العامّيّ مكلّف على مقتضى فهمه وإدراكه ، حتّى لو ظهر له أنّ حكم الله تعالى هو ما قال له أمّه وأبوه العامّيّ ، فهو تكليفه ولا يؤاخذ على ذلك ، وإذا ظهر له وجوب الرّجوع الى العلماء المستنبطين فكذلك ، فهو مكلّف بمقتضى فهمه من تمييز العلماء ، فإذا لم يظهر له الفرق بين الأصوليّ والأخباري ، والكلّيّ المتجزّي ، والمتكرّر النّظر وغيره ، والحيّ والميّت ، فهو أيضا تكليفه الرّجوع الى القدر المشترك ، ويلزمه التّخيير إذا لم يحصل له التّرجيح ، وكذلك بين الأصوليين الأحياء مثلا لو ظهر له رجحانهم على غيرهم.

والحاصل ، أنّه مكلّف بما ظهر عنده وترجّح في نظره أنّ قوله هو حكم الله تعالى في نفس الأمر ، إمّا بالخصوص أو بكونه أحد الأمور المظنون كون واحد منها حكم الله تعالى في نفس الأمر.

والحياة بمجرّدها لا يوجب الظّنّ له بكون حكم الله في نفس الأمر هو ما قاله الحيّ ، وكذلك للأعلميّة إذا لم ينحصر الأمر في الأعلم كما أشرنا سابقا.

فالمعيار هو ما حصل به الرّجحان ، فقد يحصل ذلك في الحيّ ، وقد يحصل في الميّت ، ومن ذلك يظهر حال تحقيق العلماء للمسألة فيما بينهم وبناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يثبت على العامي إلّا وجوب الرّجوع الى ما

٣٣٢

هو الأقرب الى ظنّه أنّه حكم الله تعالى في نفس الأمر ، وحينئذ فرجوعه الى فهم ذلك وتمييزه من مسائله الكلاميّة ومقاصده الأصوليّة التي لا دليل على لزوم التّقليد فيها ، وليس عليه متابعة العلماء.

نعم ، لو ظهر له بعد أمر العلماء بخلافه وتنبيههم إيّاه بخطئه خلاف ما فهمه ، فهو مكلّف به حينئذ لأنّه هو مقتضى تمييزه وإدراكه ، لا لأنّه تقليد لذلك العالم.

والحاصل ، أنّ العامّيّ في ذلك كأحد العلماء ، ومناطه في العمل هو حصول الظنّ بحكم الله تعالى ، فلو خلص عن ورطات النّزاع بين الأصوليّ والأخباريّ مثلا وعرف بفهمه أو بتعليم عالم إيّاه حقيّة طريقة الأصوليّ بحيث يحصل له التّمييز بالاستقلال ولو من جهة الاعتماد على هذا العالم لا من جهة محض تقليده ، ثمّ دار أمره في مسائل الفروع بين تقليد رجلين أصوليّين أحدهما حيّ والآخر ميّت ، وحصل له الرّجحان في أنّ متابعة ذلك الميّت أقرب الى حكم الله تعالى ، للأمارات الخارجة والقرائن الدّالّة عليه ، ولو بسبب مدح العلماء ووصفهم ذلك الميّت بالاتّفاق والتّحقيق ، فكيف يجب أو يجوز للعالم الذي لا يجوّز تقليد الميّت منعه عن ذلك إذا لم يحصل له الظنّ بقوله : بأنّ ما فهمه باطل.

والحاصل ، أنّ التّحقيق أنّ معيار تقليد المقلّد أيضا هو حصول الظنّ بحكم الله تعالى ، فإن قلت : نعم ، ولكنّ شهرة عمل الأصحاب بالمنع عن تقليد الموتى ، بل ظهور دعوى الإجماع من بعضهم على حرمته مع وجود الحيّ يوجب للمقلّد الظنّ بأنّ متابعة هذا الميّت ليس حكم الله تعالى في نفس الأمر إذ المقلّد أعمّ من العامّيّ البحت ، فقد يطّلع على الشّهرة والإجماع المنقول ، فيصير هذا من قبيل العمل بالقياس المستثنى من مطلق ظنّ المجتهد.

قلت : أمّا أوّلا : فهذا ليس من باب القياس ، لكون حرمته قطعيّا ، وغاية الشّهرة

٣٣٣

والإجماع المنقول هو الظنّ ، وما ذكرناه برهان قطعيّ لا يجوز تخصيصه بالظنّ.

وثانيا : إنّ دعوى الإجماع في المسائل الأصوليّة سيّما مثل ذلك في غاية البعد ، لعدم تداوله ما بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وأنّه من المباحث الحادثة ، ويشبه أن يكون منشأ حدوث التكلّم فيه هو إجماع العامّة على متابعة الأئمة الأربعة ، ويشهد بذلك بعض استدلالاتهم الآتية ، المناسب لمذهبهم ، فلاحظها.

وثالثا : إنّا لو سلّمنا عدم القطع بأصل لزوم متابعة الظنّ للمقلّد ، وقلنا : بأنّه ظنّ لا يقاوم هذا الظنّ الحاصل بالدّليل الذي ذكرنا حتّى يخصّصه.

ورابعا : إنّا نقول : نمنع حصول الظّنّ منه أصلا مع حصول الظنّ بخصوص المسألة الفرعية التي قلّد فيها الميّت.

فإن قلت : إنّ المسألة الأصوليّة أحقّ بالتّقديم ، وحصول الظنّ في الفروع تابع ، فإذا حصل الظنّ بعدم جواز تقليد الميّت في الأصول ، فكيف يحصل الظنّ بفتواه في المسائل الفرعية الخاصة.

قلت : نحن لم نلتفت الى الآن الى القاعدة الكلّيّة ، بل كان نظرنا الى محض الظنّ الحاصل في خصوص المسائل من جهة أنّها فتاوى خاصّة مأخوذة من أدلّة خاصة ، فلا يرد علينا ما ذكرت.

ومع الإغماض عن ذلك نقول : لا ريب أنّ الحياة والموت لا مدخليّة لهما في الظنّ بحكم الله الواقعيّ ، بل إنّما هو تابع للمأخذ ، فإنّ القول بعدم جواز تقليد الميّت لأجل موته ، وجواز تقليد الحيّ لأجل حياته ، إنّما يصحّ من أجل محض التعبّد ، ويكون ذلك حكما واقعيّا للحكم الظّاهريّ ، فيؤول الكلام الى أنّ المقلّد يظنّ من جهة الشّهرة والإجماع المنقول ، بأنّ حكم الله الواقعيّ في حقّه لحكم الله الظّاهريّ له متابعة الأحياء لا الموتى ، لا أنّه يظنّ أنّ الحكم الواقعي في حقّه في

٣٣٤

المسائل الفرعيّة هو ما أخذه عن الحيّ لا الميّت.

فهاهنا مقامان من الكلام لا ارتباط لأحدهما بالآخر ، وقد حصّل المقلّد في كلّ من المقامين ظنّا ، فعليك بلزوم ترجيح بناء المقلّد على ما أدّاه إليه الظنّ في الحكم الظّاهريّ ، دون ما أدّاه إليه الظنّ في الحكم الواقعيّ.

ولا ريب أنّ البناء على الثاني أرجح ، لكشفه عن الواقع ، ولأنّ المتتبّع يحكم بأنّ مراد الشّارع هو تحصيل الأقرب الى نفس الأمر ، لا مجرّد ما يقتضيه الدّليل ، وفي مقبولة عمر بن حنظلة وما في معناه من الأخبار دلالة على ذلك بالنسبة الى المجتهد والمقلّد كليهما فلاحظها.

وبالجملة ، على [عن] المقلّد بقول المجتهد ليس من باب التعبّد المحض ، بل لأنّه كاشف عن نفس الأمر ظنّا ، كما أنّ عمل المجتهد على الأدلّة كذلك أيضا.

ومن هنا يظهر بطلان القول بأنّ المجتهد إنّما يعمل على الظّنون المعلوم الحجّية دون غيرها ، فإنّه لا معنى له ، إلّا أنّ غير تلك الظّنون ليست بظنّ ، وإن قلنا : بكونها ظنّا ، فلا معنى لحصول الظنّ بغيرها مع كونها آكد في إفادة الظنّ ، إذ المراد من الظنّ الظنّ النّفس الأمريّ لا بشرط ، لا الظنّ بالشّيء لو فرض عدم شيء آخر يفيد الظنّ بخلافه ، بل لا يفهم من الظنّ المعلوم الحجّية إلّا أنّ المشهور جوّز العمل بها مطلقا لا بشرط أنّها هي ، فكأنّ الشّارع حين قال : اعمل بخبر الواحد ، إنّما أراد : اعمل بالظنّ ، لا بالظنّ الحاصل من الخبر لأنّه خبر ، وهذا ممّا يحتاج فهمه الى لطف قريحة ثاقبة مرتاضة.

فعلم من جميع ذلك أنّ الدّليل في التّقليد ليس هو محض الإجماعات المنقولة حتّى يقال : إنّها صريحة في الأحياء ، بل هو انسداد باب العلم ، وانحصار المناص في الظنّ ، والاعتماد على أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وأنّ القدر اليقينيّ هو إخراج

٣٣٥

تقليد الأحياء أيضا ، غير واضح لما مرّ مرارا.

ونزيدك هنا توضيحا ، ونقول : على فرض تسليم عموم ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ ، فهو مخصوص يقينا بظنّ المجتهد والمقلّد في الجملة.

فإن قلنا : بأنّ ظنّ المجتهد والمقلّد مجمل ، فيرد عليه حينئذ أنّ العامّ المخصّص بالمجمل لا حجّية فيه في القدر المجمل ، فلم يثبت حرمة ما لم يعمل إخراجه من العامّ واحتمل دخوله.

وإن أردنا أن نثبت القدر المعيّن وندفع الإجمال ، فلا ريب أنّه لا يمكن إلّا ظنّ ، فإنّ هذا الأصل لا يتفاوت الحال فيه بين المجتهد والمقلّد ، فكما أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا ظنّ المجتهد ، فكذلك الأصل حرمة العمل به إلّا الظنّ المقلّد لذلك المجتهد ، وكما أنّ ظنّ المجتهد أمر اجتهاديّ غير معلوم ولا متعيّن انّه أيّ فرد منه ، هل هو ظنّ المجتهد في الكلّ أو المتجزّي على طريقة الأصوليّ والأخباريّ.

ثمّ هل هو ظنّ من جدّد النّظر في الواقعة أو من اكتفى فيه باستصحاب حال النّظر السّابق ، ونحو ذلك من الاحتمالات المحتاج بترجّح [بترجيح] أحدهما الى العمل بالظنّ ؛ فكذلك الكلام في تقليد المجتهد يحتمل فيه هذه الاحتمالات.

ومن جملة الاحتمالات [في تقليد] جانب المقلّد هو جواز تقليد الميّت وعدمه ، وليس اختيار أحد المذكورات هناك أيضا إلّا بالظّنّ والتّرجيح.

والحاصل ، أنّ الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ استدلال بالظنّ بلا ريب ، سيّما مع التّصريح باستثناء بعض أفرادها.

فمعنى قولنا : الأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا ظنّ المجتهد ، وإلّا تقليد المجتهد الحيّ.

معناه : انّا نظنّ حرمة العمل بغيرهما ، ونظنّ أنّ حكم الله تعالى في حقّنا ترك

٣٣٦

العمل بغيرهما [بغيرها] ، فإذا حصل الظّنّ للمقلّد بأنّ ما قاله الميّت هو حكم الله تعالى ، فكيف يقول مع ذلك : إنّي أظنّ أنّه ليس حكم الله تعالى. نظير ما يقول المجتهد : إنّي أظنّ أنّ النّظر الأوّل في الواقعة كاف للاستصحاب ، وأصالة عدم مانع في مقابلة أصالة حرمة غير ما علم يقينا جوازه ، وهو ما تكرّر منه النّظر ، فيرجع الكلام الى التّرجيح بين العامّ المخصّص في الجملة ، والخاصّ الحاصل بخصوص المقام ، فيجب متابعة ما هو الرّاجح في النّظر.

فتأمّل بفكر دقيق ونظر عميق حتّى تعرف الحقّ والتّحقيق في كلّ ما يتنازع فيه من الظّنون مثل الخبر الواحد ، والإجماع المنقول بخبر الواحد ، وغيرهما أيضا.

فإنّ التّحقيق عدم جواز التمسّك في نفي حجّيتها بالعمومات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، إذ غايتها الظنّ بأنّ العمل بالظنّ حرام ، ومقتضى هذه الأدلّة المتنازع فيها حصول الظنّ بها بحكم الله تعالى ، فكيف يصحّ القول بأنّ المظنون أنّ حكم الله تعالى في نفس الأمر هو حرمة العمل بالظنّ ، مع القول بأنّ المظنون أنّ حكم الله تعالى في نفس الأمر هو ما يقتضيه هذا الدّليل الظنّي ، ولم يرجّح الظّنّ الأوّل على الظّنّ الثّاني ، مع أنّ الثّاني في معنى الخاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ لو فرض كون ذلك مسألة فقهيّة ، وسيجيء تمام الكلام.

فظهر من جميع ذلك ، أنّه لا مناص عن الاعتماد على الظنّ مطلقا حين انسداد باب العمل [العلم] ، وكما علم ممّا ذكرنا أنّ الدّليل ليس منحصرا في الإجماعات المنقولة التي نقلها صاحب «المعالم» (١) رحمه‌الله ، علم أنّ الدّليل فيه ليس محض لزوم العسر والحرج أيضا حتّى يقال : باندفاعه بتقليد الحيّ ، لأنّه لا يتمّ به إطلاق المنع ،

__________________

(١) راجع ص ٥٢٦ من «المعالم» ، وكذا ص ٥٤٠

٣٣٧

بل هو اعتراف بجوازه إذا لم يوجد حيّ مع أنّ المطلوب العموم.

يرد عليه : أنّ هذا الاستدلال إنّما هو إبطال وجوب الاجتهاد عينا على العوامّ ردّا على فقهاء حلب ومن قال بمقالتهم ، لا لأجل جواز التّقليد ، بل الدّليل عليه هو ما ذكرنا من البرهان العقليّ من انسداد باب العلم ، وانحصار الطّريق في العمل على ما هو أقرب الى الحقّ النّفس الأمريّ في نظر المكلّف بحسب طاقته وفهمه.

نعم ، يجب على العلماء العارفين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذا ثبت عندهم بطلان طريقة المقلّد إذا كانت المسألة تقليديّة.

وأما المسائل الأصولية كما نحن فيه ، فلا يجب فيه التّقليد ، بل لا يجوز مع ظهور خلافه.

ومن جميع ذلك يظهر حال مباحثة العلماء ومناظرتهم في المسألة ، وتحقيق الحال ليثمر في الإرشاد والأمر بما هو موجب للاستكمال والرّدع عمّا هو يثمر النّقص والوبال ، فإنّه لا يمكن للمجتهد حينئذ الاستدلال على حرمة العمل بتقليد الميّت بأصل حرمة العمل بالظنّ ، فإنّه قد بطل جوازه بالبرهان العقليّ.

فإنّ سدّ باب العلم يوجب جواز العمل بالظنّ ، كما أنّ ظنّ المجتهد يحصل من الأمارات الفقهيّة ، فظنّ المقلّد يحصل بمتابعة المجتهد ، والمفروض حصول الظنّ للمقلّد بتقليد الميّت.

ولا ريب أنّ العمل بالظنّ الحاصل من عمومات حرمة العمل بالظنّ مبطل للعمل بالظنّ ، وما يستلزم وجوده وعدمه ، فهو باطل ، فبقي الكلام في إثبات المطلب بشيء غير الظنّ بحرمة العمل بالظنّ ، كالتمسّك بالشّهرة والإجماع المنقول ، فإنّهما يدلّان على بطلانه من حيث هو لا من حيث إنّه ظنّ.

وعلى فرض تسليم حصول هذا الظنّ ، ففي لزوم أمر المقلّد به إشكال ، سيّما إذا

٣٣٨

كان المقلّد عارفا معتمدا على ظنّه الحاصل بالمسائل الفرعيّة من تقليد ذلك الميّت.

وكذلك الكلام في سائر المسائل الكلاميّة من توابع أصول الدّين الذي لا يثبت إلّا بالظنّ.

والحاصل ، أنّ المقلّد إذا حصل له الظنّ في الفروع بقول الميّت ، فلا معنى لترك هذا الرّاجح والعمل بقول المجتهد بترك تقليد الميّت ، مع بقاء ذلك الظّنّ بالحكم الفرعيّ.

وممّا يؤيّد أنّ بناء المقلّد أيضا على الظّنون ، كالمجتهد ، لا محض التّعبد ، تقديم الأعلم لأنّه أقوى الأمارتين كما مرّ ، والإجماعات المنقولة في تقديم الأعلم أوضح ، وأكثر ممّا نقل في منع تقليد الميّت.

وقد علّل في الأوّل بكونه أقوى وأرجح ، وممّا يؤيّد ويؤكّد كون البناء في الاجتهاد والتّقليد على الظنّ والرّجحان لا محض التّعبد عدم جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر ، كما صرّحوا به ، معلّلين بأنّ ظنّه أقرب وأرجح.

نعم ، إذا كان المقلّد ممّن يزول ظنّه الحاصل بتقليد الميّت في الفروع بسبب قول مجتهد له : إنّه لا يجوز تقليد الميّت ، بسبب قصور فطنته وقلّة ذكائه ، فلا يبعد القول : بوجوب تركه ورجوعه الى تقليد الحيّ ، فينحصر الثّمرة في النّزاع بين العلماء في ذلك ، ولكنّ الكلام في وجوب التّنبيه على ذلك من باب الأمر بالمعروف والإرشاد كالمسائل الفرعيّة وعدمه فليتأمّل.

أمّا سائر أدلّتهم ، فأقواها أنّ المقدّمات الظّنيّة ليس بينها وبين نتائجها لزوم عقليّ. فدلائل الفقه لمّا كانت ظنّيّة ، لم يكن حجّيتها إلّا باعتبار الظّنّ الحاصل معها ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السّند ، ولا يمكن

٣٣٩

التّمسّك بالاستصحاب لاشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب.

وفيه : أوّلا : منع امتناع بقائه لقيام العلوم بالنّفس النّاطقة.

ولئن سلّمنا زوال العلوم والاعتقادات القائمة بالنّفس بواسطة انكشاف نفس الأمر وارتفاع الظنّ وحصول اليقين بأحد الطّرفين أو بقائها خاليا عن الاعتقاد.

فنقول : إنّه لا مانع من أن يكون مستند الحكم هو ظنّه السّابق المقترن به مع عدم العلم بالمزيل حال الحياة ، مع أنّ جواز التّقليد للمقلّد يدلّ على جواز التّقليد ولذلك مال بعضهم الى جواز التّقليد للمقلّد الذي كان يقلّده في حياته بخلاف التّقليد الابتدائيّ ، واستقربه بعض المحقّقين من المتأخّرين.

ويمكن أن يعمّم الاستصحاب بالنّسبة الى الكلّ ، فإنّ حكم كلّ من كان يطّلع على ذلك المجتهد في حال حياته وعرفه بقابليّة التّقليد له ، كان جواز التّقليد له ، فهذا الحكم مستصحب لهؤلاء المقلّدين.

ومنها : أنّ المجتهد إذا مات ، سقط اعتبار قوله ، ولهذا قد ينعقد الإجماع على خلافه.

وفيه : أنّه لا يلائم مذهبنا في الإجماع ، فإنّه لا عبرة عندنا بقول آحاد المجمعين ، بل إنّما هو لكشف الاتّفاق عن رأي رئيسهم ، ولذلك نقول : بعدم ضرر مخالفة معروف النّسب مع الحياة أيضا.

ومنها : أنّ متابعة الأعلم والأورع واجب بالإجماع ، ولا يمكن معرفته في الأموات.

وفيه : ما عرفت من عدم صحّة إطلاق هذا الكلام ، ومنع هذا الإجماع أنّ تلك المعرفة ممكنة بتتبّع الأخبار والسّير.

ومنها : أنّ المجتهد إذا تغيّر رأيه ، يجب العمل برأيه الأخير ، وهو غير متميّز في

٣٤٠