القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

إحداهما : الجواز ، وعدم الجواز.

والثّانية : الصّحّة ، والبطلان.

وأمّا الأوّل : فيتبع المقلّد رأي مجتهده فيه.

وأمّا الثّاني : هو أيضا ظاهر مع التّراضي ، وببنائهما على متابعة مجتهد في الأصل وفي الاستمرار. ولمّا كان قد يحصل فيه النّزاع من جهة المنع عن ترتّب الآثار ، فيحتاج الى التّرافع ورفع النّزاع.

ثمّ إنّ النّزاع بين طرفي العقود والمعاملات إمّا أن يكون من محض مخالفة الطّبع ، أو من جهة مخالفة الطّرفين في حكم الشّرع ، بأن يكونا مجتهدين متخالفين أو مقلّدين لمجتهدين مخالفين ، فلنمثّل هناك مثلا ليتّضح الأمر ، وهو مثال عقد البكر البالغة الرّشيدة مع وجود الأب ، ولها صور عديدة :

الأولى : أن يكونا مقلّدين لمجتهد يرى أنّ الخيار لها.

الثّانية : الصّورة بحالها مع كون رأيه أنّ الخيار للوليّ ، ولا إشكال في الجواز والصّحة في الصّورتين.

الثالثة : أن يكونا مقلّدين لمجتهد واحد ولكن وقع النّزاع بينهما بحسب الطّبع والهوى ، ولا ريب حينئذ أيضا في صحّة ما وافق رأي المجتهد ، وبطلان ما خالفه ، كما لا ريب في جوازه.

الرّابعة : أن يكون أحدهما مقلّدا لمجتهد والآخر مقلّدا لمجتهد آخر مخالف له ، أو يكونان مجتهدين مخالفي الرّأي ، [إن] قلنا بعدم اشتراط الذّكورة في المجتهد كما هو الظّاهر ، وحينئذ فإمّا أن يتنازعا قبل العقد أو بعد عقد كلّ منهما لرجل على حدة ، أو بعد عقد أحدهما ، وفي كلّ من الصّور يحتاج الى المرافعة الى مجتهد ، فإن كان النّزاع قبل العقد ، فإن وافق رأي الحاكم لأحدهما ، فيحكم له ، وإن كان

٣٠١

رأيه التّخيير في العمل لو فرض قول به في هذه المسألة أو في مسألة أخرى ، فالتّعيين بيد الحاكم أو بالقرعة ، وإن تنازعا بعد عقد كلّ منهما ، فإن ترتّبا ، فالحكم لما وافق رأي الحاكم إن كان رأيه التّعيين والحكم لما يختاره إن كان رأيه التّخيير. وإن تقارنا زمانا ، فيظهر حكمه ممّا تقدم.

وممّا ذكرنا ، يظهر أحكام صور أخرى متصوّرة هنا ، مثل ما لو لم يكونا مجتهدين ولا مقلّدين ، أو كان أحدهما مجتهدا أو مقلّدا والآخر جاهلا أو غافلا ، وسيجيء تمام الكلام.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّهم ذكروا أنّه لا يجوز نقض الحكم في الاجتهاديّات من الحاكم إذا تغيّر اجتهاده ، ولا من غيره إذا خالفه ما لم يخالفا [يخالف] قاطعا ، بخلاف الفتوى.

واحتجّوا عليه : بأنّ جواز نقضه يؤدّي الى جواز نقض النّقض من مجتهد آخر ، فيتسلسل ويفوت مصلحة نصب الحاكم ، وهو فصل الخصومات.

وادّعوا الإجماع عليه ، ويدلّ عليه الاستصحاب ونفي العسر والحرج.

وأمّا جواز نقض الفتوى فكلامهم في ذلك غير محرّر ، فإن أرادوا جواز نقض الفتوى بالحكم بعد تحقّق المرافعة والمخاصمة ، فله وجه في الجملة كما أشرنا ، فإنّ أحد طرفي الدّعوى إن بنى مطلبه على فتوى مجتهد ، والآخر على خلافه ، وتخاصما عند الحاكم ، فله نقض مقتضى الفتوى بحكمه إذا خالفه رأيه في المسألة ، وكذا إذا كانا مجتهدين ، وسنذكر وجه التّقييد بقولنا في الجملة.

وإن أرادوا جواز نقض الفتوى بالفتوى ، فهو مشكل. والذي نقطع بأنّهم أرادوه من جواز نقض الفتوى في هذا المقام أنّه يجوز مخالفة المفتي ، أمّا من المستفتي ، فإذا لم يعمل بعد بالفتوى ، لأنّ إجماعهم إنّما انعقد على عدم جواز العدل وبعد [العدول

٣٠٢

بعد] العمل ما لم يظهر بطلان الفتوى من رأس أو عدم استحقاق المجتهد للتقليد.

وأمّا قبل العمل ، فجوّزوا العدول وإن اعتقد بالحكم بتقليد مجتهده ، وكذلك بعد العمل في واقعة أخرى إذا تغيّر رأي مجتهده أو تبدّل مجتهده بمجتهد آخر يخالفه.

وأمّا المفتون فمطلقا ، لجواز عمل كلّ مجتهد على ما رآه وإن كان مخالفا للآخر ، وهذا هو ظاهر الشّهيد رحمه‌الله ، فإنّه قال في «القواعد» (١) بعد العبارة التي نقلناها عنه في مباحث الأخبار : وبالجملة ، فالفتوى ليس فيها منع للغير عن مخالفة مقتضاها من المفتين ولا من المستفتين ، أمّا من المفتين فظاهر ، وأمّا من المستفتين ، فلأنّ المستفتي له أن يستفتي آخر ، الى آخر ما ذكره.

وأمّا جواز نقض الفتوى بالفتوى بمعنى إبطالها من رأس أو تغييرها من الحال مطلقا ، ففيه غموض وإشكال ، وتوضيحه ، أنّ الفتوى على أقسام :

منها : ما يستلزم الاستدامة ما لم يطرأ عليه مزيل بحكم وضعيّ.

ومنها : ما لا يستلزمه.

فالأوّل : مثل الفتوى في العقود والإيقاعات.

والثّاني : مثل الفتوى في نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، وعدم نجاسة الكرّ ، وأمثال ذلك من حلّيّة المطاعم وحرمتها ، ممّا اختلف فيه ، وغير ذلك. فإن فرض أن يفتي أحد بجواز عقد البكر بإذنها وفرضنا غيبة أبيها ، وعقدناها بتلك (٢) الفتوى ، ثمّ تغيّر رأي المجتهد قبل حضور أبيها وقبل تحقّق المخاصمة والمرافعة

__________________

(١) ١ / ٣٢١.

(٢) في نسخة الأصل (بذلك).

٣٠٣

بينهما ، فالعمل على هذه (١) الفتوى وإجراء العقد عليها ممّا يستلزم الدّوام ، فإنّ العقد يقتضي الاستمرار ، إمّا دائما أو الى أجل كالمنقطع. وقطع الاستمرار فيه يتوقّف على ما وضعه الشّارع لذلك ، مثل الطّلاق والارتداد وانقضاء المدّة أو هبتها ، وحصول الرّضاع اللّاحق أو ثبوت الرّضاع السّابق إذا لم يعلم الزّوجان بحال الرّضاع قبل العقد ، ولم يثبت في آية وخبر أنّ تجدّد الرّأي من القواطع. وكذلك بجواز نكاح المتراضعين بعشر رضعات عند من لا يراه محرّما ، وكذلك بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا ، وبين أرواث (٢) ما يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل لحمه في غير عذرة الإنسان ، وغيرهما ممّا لا يحصى. وكما أنّ مقتضى الحكم رفع النّزاع ، ومقتضى نصب الحاكم عدم جواز مخالفته في الحكم لئلّا يناقض الغرض المقصود منه ، فكذلك مقتضى الرّجوع الى المفتي ، ونصب المفتي لإرشاد المستفتين ان يبنوا أمر دينهم وشرائعهم ومعاشهم ومعادهم على قوله.

فالشّارع الذي جوّز رجوع المستفتي الى المفتي في جواز النّكاح وعدمه ، وجواز البيع وعدمه ، رخّصه [في] أن يبني أمر معاشه ومعاملاته على فتوى مفتيه.

وأمر المعاش بعضه ممّا هو من الأمور الدّائمة ، فاليوم الذي يحصل فيه الرّخصة للمستفتي في إيجاد ذلك الأمر الذي هو من الأمور الدّائمة ، فقد حصلت (٣) الرّخصة لإدامته. وكما أنّ مخالفة الحاكم ومناقضة حكمه ينافي الظّلم [النظام]

__________________

(١) في نسخة الأصل (هذا).

(٢) روث وأرواث جمع روثة وهو رجيع ذوات الحوافر.

(٣) في نسخة الأصل (حصل).

٣٠٤

ويوجب عدم الاستقرار ، فكذلك مخالفة المفتي في هذا القسم من الفتوى.

ولا يضرّ تجدّد رجحان الحرمة في نظر المقلّد من جهة تغيير رأي مجتهده حتّى يستبعد جواز التّصرّف مع رجحان الحرمة ، كما لا يضرّ ذلك في صورة الحكم مع تغيّر الرّأي.

وكذلك الكلام في المجتهد إذا تغيّر رأيه وكان هو صاحب المعاملات والنّكاح ، ولا يستبعد ذلك فيه ، كما لا يستبعد لو طرأ عليه حكم حاكم آخر كما ذكروه.

وأمّا الحكم بوجوب الاجتناب عن الماء القليل الملاقي للنجس ، فليس حكما بشيء يوجب الاستمرار والدّوام ، إذ وجوب الاجتناب ليس ممّا يستلزم هذا المعنى ، وكذلك الحكم بجواز الاستعمال لا يستلزم الدّوام ، وإن استعمله ، فبعد تجدّد الرّأي يحكم بغسل ما لاقاه ، ووجوب الاجتناب عنه ، بل هو كذلك إذا أفتى بنجاسة قدح خاصّ وقع فيه النّجاسة قطعا ، كما أشرنا إليه سابقا أيضا ، إذ الحكم بنجاسته لا يستلزم دوام ذلك الحكم ما دام القدح باقيا ، فيجوز القول بعدم الوجوب إذا تجدّد الرّأي مع كون الماء باقيا على حاله ، وكذا العكس.

والحاصل ، أنّ الحكم بوجوب الاجتناب أو عدمه لا يستلزم الدّوام مطلقا ، ولكن حكم الزّوجيّة إذا حصلت بسبب الفتوى ، يستلزم الدّوام ، إذ العلّة الموجدة في الثّانية هي العلّة المبقية بعد العمل بها بخلاف الأولى ، بل لك أن تقول : إنّ هذا ليس من مسألة نقض الفتوى وعدمه ، بل هو من النّزاع في جواز نقض ما حصل من الفتوى ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، بخلاف أصل الفتوى ، فإنّه يجوز نقضه ومخالفته مطلقا بلا اختلاف في الموارد ، وإن شئت إجراء هذا الكلام في العقود ، فافرض المثال فيما أفتى المجتهد بجواز النّكاح ثمّ تجدّد رأيه قبل التّزويج ، فإنّ ذلك ممّا يجوز نقضه بلا إشكال كما لو تجدّد الرّأي في نجاسة القليل وعدمها قبل

٣٠٥

الاستعمال أيضا ، وهذا بخلاف الحكم فإنّه لا يجوز نقضه ، سواء عمل به أم لا.

إذا عرفت هذا ، علمت أنّه لا يتمّ تفريع حرمة المنكوحة بلا وليّ وإن كان بتجويز المجتهد إذا تغيّر رأي مجتهده ، إن لم يلحقه حكم حاكم ولم يباشر عقدها الحاكم بنفسه أو بترخيصه على أنّه متابعة للفتوى ، ويجوز نقضه وفسخه إذا تجدّد رأي المجتهد أو مات وجاء مجتهد آخر يخالفه ، بخلاف ما إذا وقع العقد بفعل الحاكم أو رخصته الخاصّة.

وكذلك عقد العارفة بالمخالف إذا وقع بتقليد مجتهد يرى ذلك ، بل قال بعضهم : إنّه يحرم عليه مع لحوق حكم الحاكم أيضا ، وكذلك في المجتهد الذي نكح امرأة جاز نكاحها عنده لنفسه أوّلا ، ثمّ تغيّر رأيه ورآها حراما. قالوا : يحرم عليه إلّا أن يلحقه حكم حاكم ، وبعضهم حرّمه مع لحوق حكم الحاكم أيضا.

ووجه عدم التّماميّة منع جواز نقض الفتوى بالفتوى مطلقا ، كما أشرنا ، بل المسلّم إنّما هو قبل العمل ، كما يظهر من استدلال الشّهيد رحمه‌الله المتقدّم ، فإنّ جواز العدول إنّما هو قبل العمل إجماعا ، كما سيجيء في القانون الآتي.

وكذلك يتحقّق بترك العمل على مقتضى الفتوى الأولى فيما يتجدّد بعد ذلك من الموارد الواردة عليه ، فعدم لحوق النّقض بالحكم حينئذ إنّما هو لعدم التحقّق في الحكم بسبب الامتناع بالذّات ، إذ الحكم إنّما هو شخص واحد لا يتجاوز الى مورد آخر ، بخلاف الفتوى ، فكلّ حكم مشتمل على الفتوى فهو يتعدّى وينتقض من حيث الفتوى في مادّة أخرى ، ولا يتعدّى من حيث الحكم ولا ينتقض.

ويدلّ على عدم جواز النّقض في الفتوى بالمعنى المذكور أيضا ، الاستصحاب ولزوم العسر والحرج ، ولزوم الهرج والمرج ، وعدم الانتظام في أمر الفروج والأموال والأملاك وغيرها ، مع أنّ التّحقيق أنّ الرّأي لم يتجدّد في المسألة في

٣٠٦

الصّورة المفروضة ، فإنّ الرّأي إنّما هو جواز التّزويج أو عدم جوازه ، لا جواز فسخ التّزويج الحاصل على النّهج المشروع المكلّف به حينئذ وعدمه ، وترتّب الفسخ وعدمه على جواز العقد وعدمه يحتاج الى دليل.

والحاصل ، أنّ جواز نقض الفتوى بالفتوى في أمثال العقود والإيقاعات بعد وقوعها مطلقا مشكل ، ولم يظهر عليه دليل.

وما يظهر من دعوى الاتّفاق من كلام بعضهم فيما لو تغيّر رأي المجتهد في المعاملة التي حلّلها أوّلا وبنى عليها لنفسها وحرّمها ، فهو ممنوع ، مع أنّ دعوى الإجماع على المسائل التي لم تثبت تداولها في زمان الأئمة عليهم‌السلام بعيدة لا يعبأ بها ، ولو فرض أن نقول بإمكانه. وقلنا : بأنّه إجماع منقول ، فهو لا يقاوم ما ذكرناها من الأدلّة. ولو سلّمناه فإنّما نسلّم في مورده ، وهو ما لو تغيّر رأي المجتهد وكان الواقعة مختصّة به ، وسيجيء كلام المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله في عدم جواز نقض الفتوى بتغيير الاجتهاد.

وإن قلنا : بنقضها ، فلا بدّ أن نقول ببطلان المهر المسمّى مثلا ، ولزوم مهر المثل وعدم استحقاق الإنفاق ، وجواز الرّجوع الى ما أنفقه ، وغير ذلك ، إذ المذكورات من توابع العقد الصّحيح ، والمفروض انتقاضه.

ولو قلنا : بصحّته الى الحين ونقضه من حين التّغيير ، وأنّ المراد جواز العمل بالرّأي الثّاني من حين التّغيير لا إبطال العمل بالرّأي الأوّل من رأس ، فمع أنّه ليس بنقض حقيقي ، بل ليس بتغيير رأي حقيقة في هذه المادّة الخاصّة كما أشرنا سابقا ، لأنّه ليس حكما بتحريم العقد مثلا بعد الحكم بحلّه ، بل هو حكم بحرمة الاستدامة بعد الحكم بحلّه ، المستلزم لحلّ استدامته ، فلا بدّ من القول بلزوم الإطلاق والتزام توابع العقد الصّحيح ، إذ ذلك الانفساخ من باب الارتداد لا من باب ثبوت الرّضاع

٣٠٧

السّابق ، ولم يقل به أحد.

وبالجملة ، مدار الكلّ من زمان غيبة الإمام عليه‌السلام الى الآن على تقليد المجتهدين ، بل الغالب في الخلائق أنّهم لا يجتهدون ولا يقلّدون. هب أمر هؤلاء فاسد ، ولكن أمر المقلّدين في البلاد البعيدة الّذين لا مناص لهم عن التّقليد وأوج معرفتهم هو ذلك ، إنّما هو على العمل بفتوى مجتهدهم في العبادات والمعاملات ، ولا ريب أنّ المعاملات أكثرها خلافيّة ، وهذا الإشكال يجري في كلّها ، فلا بدّ لكلّ مقلّد أن يجري بيعه وإجارته ومزارعته ونكاحه وطلاقه ، كلّها في حضور المجتهد أو بمباشرته أو بمرافعته ، لو سلّمنا أنّ بمحض ذلك يتحقّق الحكم وإن لم يحصل الخصام بالفعل ، وإلّا فليستعدّ لفسخ مناكحاته ومعاملاته ، وتبدّل حالاته بمجرّد تبدّل رأي مجتهده أو تبدّله بآخر ، ثمّ بعد الفسخ بسبب تغيّر الرّأي أو التّجدّد لتصحيحه ثانيا برأي آخر ، ثمّ فسخه برأي آخر ، وهكذا ، فيستلزم التّسلسل وعدم الاستقرار ، ولا أقل من موت مجتهده مع قول أكثر العلماء ، بل كلّهم على ما ادّعاه بعضهم من عدم جواز تقليد الموتى ، وأنّ النّاس صنفان : إمّا مجتهد ، وإمّا مقلّد ، فلا بدّ أن يعرض جميع معاملاته التي فعل ، وكلّ ما في تحت يده ممّا حصل له بمعاملاته على مجتهد آخر ليمضيه أو ليفسخه.

والحاصل ، أنّ كلّ ما دلّ على جواز العمل برأي المجتهد وهو لزوم العسر والحرج وغيره ، يدلّ على جواز البقاء على مقتضى أمثال هذه العقود والمعاملات ، وممّا يتفرّع على ما ذكرنا ، جاز نكاح امرأة وقع طلاقها على خلاف رأيه. مثلا : اختلف العلماء في بعض أقسام الطّلاق ، فعلى القول باختصاص عدم جواز النّقض بالحكم دون الفتوى ، يلزم أن يحكم المجتهد الذي يرى بطلان ذلك برجوع المرأة الى الرجل إذا وقع الطلاق بتقليد مجتهد يرى ذلك وإن لم يحصل

٣٠٨

مخاصمة ومرافعة ، أو لا بدّ أن يباشر الطلاق المجتهد بنفسه بقصد الإطلاق والإلزام ، أو يأذن فيه بالخصوص كذلك أو يمضيه بعد الوقوع لو سلّمنا كفايتها مطلقا في صيرورتها حكما.

وأمّا على ما حقّقناه من عدم جواز نقض الفتوى أيضا بالفتوى ، وجواز إمضاء أحكامها وإن خالف رأيه فيجوز للمجتهد الذي لا يرى صحّة مثل هذا الطّلاق إمضاءه إذا وقع بتقليد مجتهد يجوّزه ، ومعنى إمضائه الحكم ، بترتّب آثاره عليه ، ومن جواز نكاح هذه المطلّقة لغيره. فكما قلنا : إنّه لا يجوز للمجتهد الذي لا يرى نكاح الباكرة بدون إذن الوليّ أن ينقض النّكاح الواقع بتقليد مجتهد يجوّزه قبل تحقّق المرافعة ، فكذا لا يجوز له أن يمنع نكاح المطلّقة على غير مقتضى رأيه ، لأنّ ذلك من آثار الطّلاق ، فإمضاؤه وإبقاؤه معناه حكمه بترتّب آثاره عليه ، وجواز عقدها ثانيا من آثاره ، وذلك نظير الحكم بين المتخالفين ، فكما أنّ معنى عدم جواز نقضه لمجتهد آخر هو لزوم ترتّب ثمراته عليه وإن خالف رأيه ، فيحلّ لذلك المجتهد الأكل من المال الذي انتقل الى المدّعي بحكم الحاكم المخالف له في الرّأي ، بل لو ادّعى عليه أحد بعد ذلك في هذا المال ولم يقم البيّنة ، فيحكم بكون المال ماله ، وهكذا سائر الثّمرات ، فكذا الفتوى.

والقول بعدم جواز نكاح من وقع طلاقها كذلك في عصر المجتهد الثّاني عسر عظيم.

فإن قيل : يندفع العسر ، بادّعاء المرأة خلوّها عن المانع عند من لم يطّلع بحقيقة الحال.

قلنا : لا يتمّ ذلك فيما لو علم كونها مطلّقة في الجملة.

فإن قيل : عدم المعرفة بخصوصية الطّلاق كاف لحمله على الصّحيح.

٣٠٩

قلنا : ذلك باطل ، إذ الصّحيح إذا كان مختلفا فيه ، فيحمل على الصّحيح عند الفاعل لا عند هذا المجتهد.

وممّا ذكرنا ، يندفع ما عسى أن يورد على الأصل المسلّم عند الكلّ من حمل أفعال المسلمين على الصّحّة في كلّ ما كان من هذا القبيل ـ يعني العقود والإيقاعات المستعقبة للآثار التي عليها بناء معاش الخلق ـ فنرى المسلمين في كلّ عصر ومصر ليس بناؤهم في البيع والشّرى والقرض والنّكاح والطّلاق وسلوك علمائهم معهم إلّا على الحمل على ترتّب الآثار مع احتمال أن تكون معاملاتهم على غير طبق ما يصحّ عند ذلك العالم ، وإلّا فلا معنى لحمل فعل كلّ مسلم على الصحّة مع كون أغلب الأفعال محتملا لوجوه كثيرة ، بعضها باطلة عند الكلّ ، وبعضها صحيحة عند الكلّ ، وبعضها ممّا اختلف فيه.

ففي الغالب يحصل احتمال مخالفة ما وقع من المعاملة لما هو رأي هذا الذي يحملها على الصحّة ، ومع ذلك لا يلتفتون إليه. فترى العلماء يجرون أحكام الزّوجية بين الزّوجين من دون الفحص عن حالهما أنّ النّكاح هل وقع صحيحا بينهما أم لا ، مع أنّ احتمال كون الزّوجيّة باطلة عند ذلك العالم ليس باحتمال نادر لا يلتفت إليه ، فإنّه يحتمل أن تكون الزّوجة باكرة تزوّجت بزوجها بدون إذن أبيها أو متراضعة معه بعشر رضعات ، مع أنّ ذلك العالم لا يجوّزهما ، أو النّكاح وقع على شرط يبطل النّكاح بسببه عند ذلك الحاكم.

وكذلك البيوع وسائر المعاملات ، فإنّ الخلاف في العقود والإيقاعات والمداينات في غاية الكثرة ، ومع ذلك فبناء العلماء والعوامّ على ترتّب آثار أفعال النّاس من دون تفحّص عن ذلك.

وأنت خبير بأنّ مجرّد حمل فعل المسلم على الصّحة لا يكفي في ذلك ، لما

٣١٠

ذكرنا من أنّ المراد بحمل فعله على الصّحّة هو الصّحّة عند الفاعل لا عند الحامل ، والصحّة عند الفاعل كيف ينفع في ترتّب الآثار عند الحامل ، فعدم الفحص عن ذلك إنّما يترتّب على أنّ تلك الأسباب من العقود والإيقاعات إذا وقعت على وجه صحيح عند الفاعل ، فلا بدّ أن يترتّب عليها مسبّباتها وإن لم يكن كذلك عند الحامل.

لا يقال : إنّ ذلك مبنيّ على قاعدة أخرى ، وهو إلحاق النّادر بالغالب بادّعاء أنّ الغالب في تلك الأسباب من العقود والإيقاعات وغيرهما هو الصّحّة عند الكلّ ، فإنّ ذلك ممّا لا يخفى على المطّلع بالفقه والخلافات الحاصلة فيه ، سيّما وكلّ واحد من أبواب الفقه مستتبعة للمخالفات الكثيرة في توابعها.

ففي الطّلاق مثلا ، نقول خلافات كثيرة ، من جهة الألفاظ في الصّيغة ومن جهة الأحكام والشّرائط في كلّ واحد من أقسامه ، وأنّه هل وقع رجعيّا أو خلعيّا؟ فإن كان رجعيّا فهل وقع على اللّفظ الصّحيح عند الحامل أم لا؟ وهل وقع عند رجلين عدلين سوى من يجري صيغة الطّلاق أو كان أحد العدلين هو وكيل الزّوج؟ وأنّ العدلين هل كانا عادلين على ما هو مذهب الحامل أو الزّوج أو الوكيل؟ فإنّ في العدالة والكاشف عنها اختلافا معروفا. وهل وقع الطّلاق في حضور العدلين مع معرفتهما للزوجين أم لا؟ وهل وقع الطّلاق في حال الحمل أو غيره ، أو في الغيبة أو الحضور ، وإن كان في حال الحمل فهل كان في المرّة الأولى أو الثّانية؟ ففي كلّ ذلك اختلافات.

وإن كان خلعيّا فهل تحقّقت (١) الشّروط فيه من الكراهة على النّهج المطلوب

__________________

(١) في نسخة الاصل (تحقّق).

٣١١

أم لا ، وعلى الوجه الذي يعتبر عند الحامل أو الفاعل ، لوقوع الخلاف في حدّ الكراهة ، وفي صحّة الطّلاق بعوض من دون الكراهة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى.

وكذلك الكلام في النّكاح والبيع والقرض ممّا يطول الكلام بذكرها.

ثمّ مع قطع النّظر عن تلك الاختلافات في أصل تلك الأبواب أو المسائل ، هل وقع ذلك بالاجتهاد أو التّقليد أو بدون أحدهما. وعلى الثّالث فهل كان ذلك مع الغفلة والجهالة أو مع التّقصير والمسامحة؟ وهل يترتّب الآثار على القسم الثّالث بقسميه أو بأحد القسمين منه دون الآخر؟ وهكذا.

وبالجملة ، تغيّر الرّأي في أصل المعاملة وتبدّل المجتهد إنّما يقتضي إنشاء المعاملة بعد ذلك لو أراد إنشاء معاملة جديدة على الرّأي الثّاني ، لا إبطال ما يترتّب على الرّأي الأوّل أو قول المجتهد الأوّل ، ولو حصل به أنحاء الانتقالات والتّصرّفات مثل ان جعل المبيع مهرا للزوجة وانتقل من الزّوجة الى وارثها وباع الوارث بغيره وهكذا ، ولا ريب أنّ كلّ ذلك عسر وحرج عظيم ينفيه العقل والشّرع.

ولو فرض أنّ المجتهد الثّاني اخترع هذا الرّأي ، وقال : هذا إبداع رأي لا تجدّد رأي ، وتغيّره يعني أنّ رأيي لزوم إبطال آثار الرّأي الأوّل ، فكلامنا حينئذ مع ذلك المجتهد وبيان عذره عند الله تعالى وإقامة البرهان ، وهو خارج عن موضوع المسألة.

نعم ، إذا ظهر عنه بطلان الرّأي السّابق من رأس ، فهو كلام آخر غير تغيّر الرّأي ، فإنّ من تغيّر رأيه في الاجتهاديّات لا يحكم ببطلان الاجتهاد السّابق ، ولذلك ربّما يعود الى الرّأي السّابق أيضا ، وسيجيء الكلام فيه.

وبالجملة ، الكلام في العقود مخالف للعبادات ، فلو تجدّد رأيه في وجوب

٣١٢

قراءة السّورة بعد ما كان يرى استحبابها في الرّكعة الثّانية ، فيجب عليه القراءة في الثّانية ، وكذا لو تغيّر رأي مجتهده ، وهكذا الحال في القبلة إذا تجدّد الرّأي في الرّكعة الثّانية.

ويقع الإشكال فيما لو جعل فرش المسجد من آجر معمول من الطّين النّجس تقليدا لمن يرى الخزفيّة استحالة ، ثمّ تجدّد الرّأي أو تغيّر المجتهد ، فهل يجب نزعه وتبديله أم لا ، وأنّه ممّا يفيد الاستمرار كالزّوجيّة حتّى يرد عليه عدم جواز النّزع ، أو لأنّ المناط في ذلك هو تبعيد المسجد عن النّجاسة وهو متجدّد آناً فآنا ، وليس ممّا يناط بالاستمرار والدّوام ، ولا يبعد التّفصيل بأن يقال : لا يجب النّزع ، ويجب الاجتناب.

وأشكل منه لو حكم بجواز بناء المسجد عن ذلك الآجر ، فإن قلنا بوجوب تبعيد مطلق المسجد حتّى جدرانه عن النّجس ، فيلزم تخريب المسجد ، وهو مشكل.

فإن قلت : قد ذكرت أنّ الفتوى يجوز نقضها بالحكم وإنّ ما لا دليل عليه هو نقض الفتوى بالفتوى ، وكثير ممّا ذكرته في نقضها بالفتوى من المفاسد ، يجري في نقضها بالحكم أيضا ، مثل لزوم العسر والحرج وغيره.

قلت : تحقّق المخاصمة غالبا إنّما هو في أوّل الأمر ، ولا يترتّب عليه عسر وحرج ، ولو فرض تحقّقها بعد مدّة ، فتحقّقها مع عدم ثبوت التّراضي عليه في أوّل الأمر نادر ولا يلزمه من المفاسد في ذلك ما يلزم من المفاسد في أصل نقض الفتوى بالفتوى.

واتّباع نفي العسر والحرج في ذلك عن أحد المتخاصمين يوجب ثبوته على الآخر ، بخلاف صور الفتوى التي لم يحصل فيها مخاصمة ، كما هو الغالب في

٣١٣

المسائل الخلافيّة التي هي مبنى أمور معاش الخلق ، ومع ثبوت التّراضي في أوّل الأمر مثل : إن بنيا في المسائل الخلافيّة على رأي مجتهد ، ثمّ بعد ذلك حصل الاختلاف بينهما بمجرّد الطّبع والهوى أو بسبب التمسّك بتغيّر رأي المجتهد أو تبدّله بآخر وترافعا الى مجتهد يرى ذلك باطلا ، فالحكم بجواز النّقض في ذلك أيضا مشكل ، للزوم أكثر ما ذكر عليه.

وفذلكة المقام في بيان حال تجدّد الرّأي وحصول المخالفة بين الرّأيين ، وبيان الصّور التي يحصل المخالفة بين الرّأيين ، وبيان ما يجوز نقضه بالحكم وما لا يجوز ، إنّ الصّور التي يتصوّر فيها تخالف الرّأيين مع قطع النّظر عن المرافعة والمخاصمة خمسة.

الأولى

مخالفة المجتهد لرأيه السّابق بسبب التغيّر وتبدّل الحكم بالنّسبة إليه ، كما إذا عقد الباكرة بنفسه بدون إذن الوليّ ثمّ تجدّد رأيه ، فالمشهور بينهم ، بل ادّعى عليه السيّد عميد الدّين الاتّفاق أنّه يبني على الرّأي الثّاني ، فيحرم عليه زوجته.

قالوا : إلّا أن يلحقه حكم حاكم قبل ذلك ، فلا تحرم عليه لكثرة قوّة الحكم ، وتأمّل فيه بعضهم لأنّ الحرام لا يصير حلالا بسبب الحكم.

أقول : ويشكل الحكم بالتّحريم وإن لم يلحق به حكم ، لعدم الدّليل عليه. غاية ما يدلّ عليه أدلّة حرمة النّكاح بدون إذن الوليّ هو النّكاح الابتدائيّ لا استمراره بعد وقوعه على ما هو مقتضى تكليفه ، مع أنّه لو قلنا بالحرمة فينفسخ النّكاح ، ولا يحتاج الى الطّلاق.

وهذا الفسخ إنّما هو لما ظهر عليه من عدم جواز نكاحها من رأس ، لا عدم

٣١٤

جواز إمساكها فيما بعد فقط. فغاية الأمر عدم الإثم عليه ، فليس هذا من باب الارتداد ، بل هو من باب ثبوت الرّضاع السّابق المثبت لمهر المثل على الأظهر لظهور فساده من رأس ، وإذا كان كذلك ، فإذا انفسخ النّكاح بتجدّد الرّأي ، فجاز لها التّزوّج بغيره ، فإذا تزوّجت بالغير ثمّ تجدّد رأيه فظهر له بعد ذلك جواز العقد وصحّته رأسا ، فمقتضى العمل على الرّأي الثّاني هو جواز الدّخول بها والنّظر إليها ، وإن كان في حال الغير ، لأنّ تجدّد رأيه كشف عن صحّة العقد من رأس ، لا جواز العقد عليه بعد التّجدّد ، ولم يفسخ العقد الأوّل إلّا تجدّد الرّأي ومظنّة الحرمة ، ولم يقع منه طلاق أو ارتداد أو نحو ذلك حتّى يحتاج العود الى عقد جديد ، وهلم جرّا إذا تجدّد رأيه بعد ذلك ، وهكذا ، فيشكل الحكم بالحرمة بتجدّد الرّأي وإن لم يحكم به حاكم.

وما ادّعاه السيد عميد الدّين من الإجماع ، فهو ممنوع ، كما أشرنا.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا حكمهم بعدم الحرمة إذا لحقه حكم حاكم ، فإنّ الدّليل على الحليّة بعد حكم الحاكم مع تغيّر الاجتهاد إن كان هو الإجماع فهو ممنوع ، لوجود الخلاف فيه ، وإن كان هو لزوم التّسلسل وعدم الاستقرار لولاه ، والعسر والحرج يلزم ذلك في الفتوى أيضا ، ومخالفة المجتهد لرأي نفسه أيضا كما أشرنا.

وكذا الكلام في المقلّد الذي نكحها بدون إذن الوليّ إذا تغيّر رأي مجتهده ، فقالوا فيه أيضا : يحرم عليه إذا تجدّد رأي مجتهده ، إلّا أن يلحقه حكم حاكم ، لكنّ السيّد عميد الدّين رحمه‌الله هنا لم يدّع الاجماع ، بل جعل الحرمة أظهر ، والكلام فيه كما مرّ ، بل هو أظهر هنا.

٣١٥

الثّانية

مخالفة المجتهد لمجتهد آخر ، ولا ريب أنّه ليس له مزاحمته ، ولا مزاحمة مقلّده إذا قلّده. والظّاهر أنّه يجوز له أن يبني على صحّة ما حصل بفعلهما ، ويترتّب الآثار عليهما كما أشرنا في تفريع مسائل الطّلاق.

وكذلك الكلام في مقلّد ذلك المجتهد إذا تبع مجتهده.

الثّالث

مخالفته لمن لم يكن مجتهدا ولم يعلم من حاله أنّه مقلّد لمجتهد أم لا.

والأظهر عدم وجوب مزاحمته أيضا ، حملا لفعله على الصحّة ، بل الأمر كذلك لو مات مجتهده أيضا بناء على ما سنحقّقه فيما بعد من عدم الدّليل على بطلان تقليد الميّت سيّما فيما كان مقلّدا له ، سيّما في المسألة الّتي قلّده ، سيّما في العقود والمعاملات ، بل الدّليل على الجواز.

الرّابعة

مخالفته لمن علم أنّه بنى على أحد الأقوال في المسألة بتقليد من لا يجوز تقليده مع كونه جاهلا بوجوب التّقليد أو غافلا. والأظهر فيه وجوب مزاحمته في الإرشاد والهداية في الأخذ والعمل ، لكنّ الحكم ببطلان عقد أخذه كذلك مع موافقته لأحد الأدلّة الاجتهادية المطابقة للأقوال الموجودة في المسألة ؛ مشكل.

والتّحقيق في ذلك يظهر ممّا قدّمناه في أوائل باب الاجتهاد والتّقليد ، ونقول هنا أيضا : الغافل الجاهل إذا اعتقد أنّ حكم الله تعالى في حقّه هو جواز العقد ، وأنّه

٣١٦

يترتّب عليه آثاره ، فالظّاهر ترتّب الآثار وصحّته ما لم يظهر كونه باطلا من رأس ، بأن يكون خارجا عن الأقوال المتحقّقة في تلك المسألة ، وعن مقتضى أحد الأمارات الشّرعيّة القائمة عليها ، فإنّه إذا كان حكما موافقا لأحد الأقوال في المسألة فهو كما لو كان مقلّدا لأحد من المجتهدين المختلفين في المسألة ، وكما لا يجوز نقض الفتوى للمجتهد المخالف ، فلا يجوز نقض ما بنى عليه ذلك الغافل الجاهل باعتقاد أنّه حكم الله تعالى في حقّه ، إذ لا دليل على بطلانه ، غاية الأمر أنّ ذلك المجتهد يترجّح في نظره خلافه.

وأمّا الحكم ببطلانه في نفس الأمر فكلّا [و] إذا كان تكليفه حين الجهل والغفلة هو البناء على هذا العقد ، فلا بدّ من القول باستدامة آثاره كما كان الحال كذلك في المقلّد للمجتهد بعد تغيّر الرّأي ، وكما كان قولنا ببقاء آثار العقد الحاصل بتقليد المجتهد مبنيّا على الاعتماد على ما هو حجّة عنده من فتوى مجتهده ، فكذا هنا مبنيّ على الاعتماد على ما هو حجّة عنده من فتوى والده العاميّ أو غيره من الّذين لم يكونوا مجتهدين ولا مخبرين عن مجتهد ، مع أنّ المعاملات من باب الحكم الوضعيّ ، ولا مدخليّة للعلم والجهل فيها ، ولا يشترط صحّتها بالنيّة وقصد الامتثال.

ولو قلنا : بأنّ العقد المبنيّ على معتقد العاقد الجاهل الغافل مع موافقته لأحد الأقوال في المسألة باطلا من جهة عدم صدوره عن الاجتهاد أو التّقليد ، فيلزم البطلان في أكثر المعاملات الواقعة في زمان مع عدم أخذها عن المجتهد وإن وافق رأي مجتهد العصر ، وأنت خبير بأنّه خلاف المعهود من طرائق السّلف والخلف ، فلو تزاوج المتراضعان بعشر رضعات مثلا من دون معرفتهما بالمسألة ولا بوجوب التّقليد والأخذ من المجتهد ، فيجب على المجتهد الذي لا يقول بكون ذلك محرّما أيضا نقضه إذا اطّلع عليه ، لأنّه لم يحصل من جهة التّقليد ، وكذلك

٣١٧

سائر المعاملات. ومحض توافق ذلك لرأي المجتهد الموجود من باب الاتّفاق لا يجعله موافقا لنفس الأمر ، ولا يوجب صحّته ، وكذا إجازته بعد الاطّلاع لا يوجب صحّته من أوّل الأمر ، كما لا يخفى ، لأنّ علّة البطلان بالفرض هو إنشاء العقد بدون تقليد ولم يعهد مثل ذلك الحكم من العلماء ، ولو كان ذلك لازما لما تركه الآمرون بالمعروف والنّاهون عن المنكر ، ولشاع وذاع بحيث لم يختف هذا الاختفاء ، ويؤيّده الاستصحاب ونفي العسر والحرج وغيرهما أيضا.

الخامسة

مخالفته لمن كان كذلك ، ولكن لم يكن جاهلا بالمرّة وغافلا ، بل ترك التّقليد مسامحة،ولا ريب في لزوم الهداية والإرشاد في الأخذ والعمل.

وأمّا الكلام في بطلان العقد الذي أوقعه كذلك ، إذا وافق إحدى الأدلّة والأقوال في المسألة ، ففيه إشكال.

ويمكن توجيه القول بعدم جواز النّقض للمجتهد فيه أيضا إذا وافق إحدى الأقوال في المسألة ؛ بأنّ جواز النّقض للمجتهد المخالف له إن كان لأنّه مخالف له ومظنونه أنّه خلاف حكم الله تعالى ، وأنّه ليس بسبب يترتّب عليه حكم شرعيّ ، فلا بدّ من القول بجواز النّقض فيما لو قلّد المجتهد الآخر أيضا ، لأنّه مخالف لحكم الله تعالى بحسب ظنّه وقد بيّنّا بطلانه. وإن كان لأنّه لم يتّبع فيه مجتهدا وعدم جواز نقضه فيما لو تبع المجتهد إنّما هو لأنّه تبع المجتهد وأدّى مقتضى تكليفه.

فيرد عليه : أنّه على ما ذكرت من مدخليّته متابعة المجتهد في ترتّب الأثر ، فلا بدّ أن يجب عليه النّقض لو وافق رأيه أيضا ، لأنّه لم يأخذه من المجتهد ، وهو فاسد لأنّ الحكم الوضعيّ لا مدخليّة في ترتّب الآثار عليه للعلم والجهل.

٣١٨

وقصد الامتثال وعدمه إنّما ذلك في العبادات لأجل اشتراط النيّة وقصد التّقرّب والامتثال فيها ، وهو لا يتمّ إلّا مع العلم أو الظنّ بأنّه حكم الله تعالى.

فلو زوّج أحد ابنته بأحد مع علمه بحصول عشر رضعات بينهما مع أنّه سمع الخلاف فيه بين العلماء ، أو باع العنب لمن يعمل خمرا ، وهكذا ، وسمعه المجتهد الذي رأيه موافق لذلك ، فلا يجوز نقضه لأنّه يصدق عليه أنّه نكاح وبيع ، ويترتّب عليهما أحكامهما ، غاية الأمر كونه منهيّا عنه بدون الأخذ من المجتهد ، والنّهي مع أنّه لا يدلّ على الفساد في المعاملات إنّما تعلّق هنا بأمر خارج عن المعاملة ، وإن كان لأنّه لمّا سمع الخلاف في المسألة يحصل له التّردّد عند إجراء الصّيغة ، فلا يتحقّق منه الإنشاء.

ففيه : أنّا لا نسلّم حصول التّردّد في الإيقاع سيّما في جميع الموارد ، غاية الأمر التردّد في الوقوع ، وهو لا ينافي الجزم في الإيقاع.

فإن قلت : الأصل عدم ترتّب الأثر ، والقدر الثّابت من التّرتيب هو ما حصلت (١) المعاملة بالاجتهاد أو بالتقليد ، غاية الأمر دخول الغافل والجاهل مع اعتقاد الترتّب فيه أيضا.

وأمّا المتفطّن المسامح فلم يعلم دخول معاملاته تحت ما يترتّب عليه الأثر.

قلت : لا ريب أنّ الدّليل الشرعيّ يرفع الأصل ، والحكم الوضعيّ بنفسه رافع للأصل من دون مدخليّته للعلم والجهل ، غاية الأمر حصول الاختلاف في الحكم الوضعيّ بسبب بعض شرائطه ، فيدور الكلام السّابق.

ونقول : إنّ الحكم بعدم ترتّب الأثر إمّا لأجل بطلانه في نفس الأمر ، وإمّا لأجل

__________________

(١) في نسخة الأصل (حصل).

٣١٩

أنّه مخالف لرأي هذا المجتهد ، وإمّا لأنّه لم يحصل من جهة اجتهاد ولا تقليد.

والأوّل ، خلاف المفروض لأنّه من المسائل الاجتهاديّة.

والثّاني ، يوجب الحكم بالبطلان لو كان مأخوذا من مجتهد آخر مخالف له أيضا.

والثالث ، لا مدخليّة له في الحكم الوضعيّ إذ لو كان له مدخليّة لجرى فيما وافق رأيه أيضا.

والحاصل ، أنّ الأقوال في المسألة الاجتهاديّة مبنيّة على الأمارات الشّرعيّة ، والمفروض عدم ظهور بطلان أحدها ، فلا يتمّ الحكم بالبطلان ، غاية الأمر عدم جواز اختيار أحدها لهذا المسامح رجما بالغيب.

وأمّا مع اختياره لذلك ، فالحكم بجواز النّقض أيضا يحتاج الى دليل ، سيّما إذا وقع العقد بتراض من الطّرفين ولم يقع بينهما منازعة أصلا ، وسيّما إذا وافق اجتهاد المجتهد الّذي يريد نقضه ، وإذا لم يجز النّقض فيلزمه ترتّب الآثار.

وأمّا ما دلّ على لزوم الأخذ من المجتهد ، وأنّ ما خالف الأمارات الشّرعيّة والأقوال المتداولة تكون باطلة ، فلم يحضرني ما يدلّ على بطلان مثل ما نحن فيه ممّا وافق من المعاملات على طبق واحد من الأقوال ، وإن كان مع المسامحة وأصالة عدم الوجوب وعدم ثبوت التّكليف بفسخ مقتضى هذا العقد أيضا يعاضده.

والحقّ ، أنّ المقام بعد لا يصفو عند شوب الإشكال ، وإن كان الأظهر الصّحة سيّما فيما وافق رأي المجتهد.

هذا حال أقسام تخالف الآراء في الفتوى ، وأمّا بيان حال الحكم وجواز النّقض به ، فهو أنّ الحكم الصّادر من الحاكم لا يجوز نقضه ، لا بالحكم ولا بالفتوى بالاتّفاق ما لم يظهر بطلانه رأسا ، وإن اختلف الرّأي من نفس الحاكم أو غيره ، وأنّ

٣٢٠