القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

تنبيه

اعلم أنّ المراد بالاجتهاد في قولنا : الاجتهاد يتوقّف على تلك الملكة ، يمكن أن يجعل بمعنى ملكة الاجتهاد كما عرّفه شيخنا البهائي رحمه‌الله (١) وقد تقدّم.

وبمعنى الفعليّة : وهو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ.

وما يتوهّم أنّه لا يصحّ على الأوّل لأنّ الملكة هي (٢) نفس الاجتهاد لاشترطه ، فهو مندفع بأنّ الملكة التي هي نفس الاجتهاد هي الملكة الخاصة المترتّبة على مجموع شرائط الفقه التي من جملتها الملكة العامّة ، أعني تمكّن ردّ مطلق الجزئيّات الى الكلّيّات ، والفروع الى الأصول وجزئيّات الفقه الى كلّيّاته ، فلا تغفل.

وأمّا ما يتوقّف كمال الاجتهاد عليه ، فهو أمور.

الأوّل : علم المعاني والبيان والبديع ، ونقل عن الشهيد الثّاني رحمه‌الله (٣) والشيخ الأحمد بن المتوّج البحراني أنّه جعل الثّلاثة من شرائط أصل الاجتهاد. وعن السيّد رحمه‌الله أيضا أنه جعل الأوّلين من الشّرائط ، وغيرهم جعلوا هذه العلوم من المكمّلات.

والحق ، أنّ بعض الأوّلين ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد ، مثل مباحث القصر والإنشاء ، والخبر من علم المعاني ، وما يتعلّق بمباحث الحقيقة والمجاز ، وأقسام الدّلالة من علم البيان ، لكنّ القدر المحتاج إليه منهما مذكور في كتب الأصول غالبا ، وهو لا ينافي كونهما ممّا يتوقّف عليه أصل الاجتهاد.

ثمّ إن جعلنا الأبلغيّة والأفصحيّة من مرجّحات الأخبار والأدلّة ، فلا ريب حينئذ في الاحتياج الى العلوم الثّلاثة ، إذ لا يعرفان عادة في أمثال هذا الزّمان إلّا

__________________

(١) في «الزبدة» ١٥٩.

(٢) في نسخة الأصل (هو).

(٣) في «منية المريد» ٢٧٨.

٢٨١

بملاحظة العلوم الثّلاثة.

والتّحقيق ، أنّ الفصاحة إذا أوجب العلم بكون الكلام عن المعصوم عليه‌السلام أو الظنّ المتاخم كما يظهر من ملاحظة «نهج البلاغة» و «الصّحيفة السّجّاديّة عليه‌السلام» وسائر كلمات أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فمدخليّته واضحة.

وكذلك إذا أوجب رجحان كون الحديث من الإمام عليه‌السلام بحيث صار معارضه موهوما عند المجتهد ، ولكنّ ذلك نادر في أخبار الفروع.

والثاني : بعض مسائل الهيئة مثل ما يتعلّق بكرويّة الأرض لمعرفة تقارب مطالع البلاد وتباعدها. ويترتّب عليه جواز كون أوّل الشّهر في أرض غير ما هو أوّله في بلد آخر ، وجواز كون الشّهر ثمانية وعشرين يوما لبعض الأشخاص ، ولا يبعد كون ذلك من الشّرائط.

ويمكن أن يقال : يكفي في ذلك للفقيه العمل على مقتضى قولهم عليهم‌السلام : «صم للرّؤية وأفطر للرّؤية» (١). وكذلك الحال في معرفة القبلة ، فإنّه يكفيه الاستقبال فيما يمكن له العلم ، والعمل بالظنّ فيما لا يمكن. والعمل بما ورد في المضطرّ لو لم يحصل له الظنّ أيضا.

والثالث : بعض مسائل الطّبّ ، للاحتياج الى معرفة القرن ، والمرض المبيح للفطر ، وأمثال ذلك ، وليس ذلك من الشّرائط ، لأنّ شأن الفقيه بيان الحكم باعتبار الشّرطيّات لا بيان أطرافها ، فيقول : القرن يوجب التّسلّط على الفسخ في النّكاح ، والمرض المضرّ يبيح الفطر.

وأمّا حقيقة القرن والمرض فليس معرفتهما شأن الفقيه ، وإلّا لزم أن يعلم الفقيه جميع العلوم والصّنائع أو أغلبها ، لاحتياج أطراف الشّرطيّات إليها ، مثلا يجب

__________________

(١) «الوسائل» ١٠ / ٢٥٧ باب ٣ علامة شهر رمضان ح ١٣٣٥٧.

٢٨٢

على الفقيه أن يحكم بأنّ المبيع إذا خرج معيبا فللمشتري الخيار أو إن ظهر له الغبن فله الخيار أو يثبت في الأمر الفلانيّ الأرش ، وأمّا معرفة العيب والغبن والأرش فلا يجب عليه كما لا يخفى.

والرّابع : هو بعض مسائل الهندسة مثل ما لو باع بشكل العروس (١) مثلا ، ويظهر الوجه ممّا تقدم.

والخامس : بعض مسائل الحساب مثل : الجبر ، والمقابلة ، والخطائين ، والأربعة المتناسبة ممّا يستخرج بواسطتها المجهولات.

ويظهر وجه عدم الاشتراط ممّا تقدم ، فإنّ شأن الفقيه فيما لو سئل عنه إذا قال أحد : لزيد عليّ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عليّ عشرة إلّا نصف ما لزيد ، أن يقول : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فلا يجب عليه تعيين المقدار.

ثمّ إنّ القدر الواجب من تلك الشّرائط المتقدّمة هو ما يندفع به الحاجة ، فلا يجب صرف العمر الكثير في تحصيل المهارة في كلّ واحد منها ، فإنّ الفقه الذي هو ذو المقدّمة يحتاج الى صرف العامّة العمر فيه ، فصرف العمر في مقدّماته يوجب عدم الوصول الى ذي المقدّمة ، مع أنّ الفقه أيضا مقدّمة للعمل والعبادة ، فلا بدّ من عدم الغفلة وصرف العمر فيما لا يعنيه.

__________________

(١) وهو على ما ذكره في أشكال التّأسيس وتحرير اقليدس شكل برهن فيه بمثلث قائم الزّاوية ، وسمي بشكل العروس لكثرة فائدته يقال : حال عروس أي كثير الفائدة في فنّ الهندسة.

٢٨٣

قانون

يشترط في المفتي الذي يرجع إليه المقلّد بعد الاجتهاد أن يكون : مؤمنا ، عدلا.

والظّاهر أنّ اشتراط الإيمان إجماعيّ أو مبنيّ على عدم جواز الرّجوع الى أحكام المخالفين مع مخالفة الحكم لنا ، وإلّا فلو فرض أنّ مخالفا ثقة صدق وأفتى على وفق أصولنا وطريقتنا بحيث يحصل الاطمئنان بمساواته مع المفتي من أصحابنا في الاستنباط عن أصولنا ، كما كان جماعة من أصحابنا مفتي الفرق والعامّة كانوا يعتمدون عليهم ، فيشكل الحكم بعدم جواز الرّجوع إليه.

وعدم الاعتقاد بالحكم لا ينافي عدم التّقصير في الاستنباط وعدم الكذب في الإخبار عنه.

وأمّا العدالة فظاهرهم الوفاق على اعتباره ، وإن كان يمكن القول بكفاية الوثوق في الاستنباط والصّدق ، نظير ما كان يقوله الشيخ رحمه‌الله في أخبار المتحرّز عن الكذب مع كونهم فاسقين بسائر الجوارح أيضا.

ويشترط في صحّة رجوع المقلّد إليه علمه بكونه جامع شرائط الإفتاء بالمخالطة المطّلعة على حاله أو بإخبار جماعة تفيد العلم ، وقيل : أو بشهادة العدلين ، وفيه إشكال.

وذهب العلّامة رحمه‌الله في «التهذيب» (١) الى كفاية الظنّ ، قال : لا يشترط في المستفتي علمه بصحّة اجتهاد المفتي ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(٢) من

__________________

(١) ص ٢٩٢.

(٢) النّحل : ٤٣.

٢٨٤

غير تقييد ، بل (١) يجب عليه أن يقلّد من يغلب على ظنّه أنّه من أهل الاجتهاد والورع ، وإنّما يحصل (٢) له هذا الظنّ برؤيته له منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ، واجتماع المسلمين على استفتائه وتعظيمه.

وقال المحقّق رحمه‌الله (٣) : ولا يكتفي العامّيّ بمشاهدة المفتي متصدّرا ، ولا داعيا الى نفسه ، ولا مدّعيا ، ولا بإقبال العامّة عليه ، ولا باتّصافه بالزّهد والورع ، فإنّه قد يكون غالطا في نفسه أو مغالطا ، بل لا بدّ أن يعلم منه الاتّصاف بالشّرائط المعتبرة من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه إيّاه.

وقال في «المعالم» (٤) بعد نقل كلام العلّامة والمحقّق كلّ ما نقلنا : وكلام المحقّق رحمه‌الله هو الأقوى ووجهه واضح لا يحتاج الى البيان.

واحتجاج العلّامة رحمه‌الله بالآية على ما صرّح ، صار إليه مردود.

أمّا أوّلا : فلمنع العموم فيها ، وقد نبّه عليه في «النّهاية».

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير العموم لا بدّ من تخصيص أهل الذّكر بمن جمع شرائط الفتوى بالنّظر الى سؤال الاستفتاء للاتّفاق على عدم وجوب استفتاء غيره ، بل عدم جوازه. وحينئذ فلا بدّ من العلم بحصول الشّرائط أو ما يقوم مقام العلم ، وهو شهادة العدلين.

ويظهر من كلام المرتضى رحمه‌الله (٥) الموافقة لما ذكره المحقّق رحمه‌الله حيث قال :

__________________

(١) في المصدر (لكن).

(٢) في المصدر (للمستفتي).

(٣) في «المعارج» ص ٢٠١.

(٤) ص ٥٣٧.

(٥) في «الذريعة» ٢ / ٨٠١.

٢٨٥

وللعامّي طريق الى معرفة صفة من يجب عليه أن يستفتيه ، لأنّه يعلم بالمخالطة والأخبار المتواترة حال العلماء في البلد الذي يسكنه ، ورتبتهم في العلم والصّيانة ـ أيضا ـ والدّيانة.

قال (١) : وليس يطعن في هذه الجملة قول من يبطل الفتيا (٢) ، ويقول : كيف يعلمه عالما وهو لا يعلم شيئا من علومه ، لأنّا نعلم أعلم النّاس بالتّجارة والصّناعة (٣) في البلد وإن لم نعلم شيئا من التجارة والصناعة ، وكذلك العلم بالنّحو واللّغة وفنون الآداب. انتهى كلامهرحمه‌الله.

وتحقيق المقام على ما أسّسنا عليه الأساس في المباحث المتقدّمة ، أنّ الجاهل والغافل من العوامّ الّذين لا تمييز لهم ، لا تكليف عليهم إلّا بما بلغه طاقتهم وعقولهم ، إنّما الكلام في أهل الفطنة والذّكاء والتمييز منهم ، وطلبة العلوم البصيرين [البصريين] بأحوال أهل العلم الغير البالغين مرتبة الاجتهاد في بيان حال العلماء في مناظراتهم وتحقيق المسائل في نفس الأمر ليترتّب عليه العلم بحقيقة الحال ، ويتفرّع عليه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

فنقول : الأقوى وإن كان بالنّظر الى بادئ النّظر ، هو اشتراط العلم مع الإمكان والاكتفاء بالظنّ مع عدمه ، ولكن دقيق النّظر يعطي كفاية الظنّ مطلقا ، للأصل ولزوم العسر غالبا.

فإن قلت : إنّ الأصل ارتفع باشتغال الذّمّة بالأخذ عن المجتهد وهو لا يرتفع إلّا

__________________

(١) السيد في «الذريعة» أيضا.

(٢) في المصدر (الفتوى).

(٣) في المصدر (والصّياغة).

٢٨٦

بالعلم به.

قلنا : اشتغال الذّمّة بأزيد من الأخذ عمّن ظنّ اجتهاده ، غير معلوم.

وكذلك الجواب عن الإجماع لو تمسّك به ، بتقريب أن يقال : الإجماع منعقد على وجوب الأخذ من المجتهد وهو لا يحصل إلّا لمن علم كونه مجتهدا ، فإنّ الإجماع إنّما هو على القدر المشترك ، وهل ذلك إلّا موضع النّزاع.

ويدلّ عليه أيضا أنّ اعتبار العلم يوجب العسر والحرج غالبا.

ويظهر ثمرة هذا النّزاع فيما لو كان عالم في بلد وهو في نفس الأمر ليس بمجتهد ، لكن كلّ من دونه من العلماء في ذلك البلد بعضهم يعتقدون اجتهاده ، وبعضهم يظنّون ، فهؤلاء الظّانون إذا تفطّنوا لهذه المسألة ، أعني جواز العمل بالظنّ في ذلك وعدم الجواز ، فهل يجب عليهم التّفحّص من الخارج والتّفتيش حتّى يحصل لهم العلم أم لا؟

وأمّا من لم يتفطّن للمسألة أو جزم بكونه مجتهدا مع مخالفته لنفس الأمر ، فلا إشكال في أنّه ليس عليه شيء.

والحاصل ، أنّه لا دليل على وجوب تحصيل العلم ، نعم ، هو أولى وأحوط.

وممّا حقّقناه يعلم أنّ المراد بالذي يكتفى به هو الظنّ بعد بذل الجهد ، لا الظنّ البادئ كما قلناه في الظنّ بعدم المخصّص في مبحث جواز العمل بالعامّ قبل الفحص ، فلا يعترض المتوهّم أنّه لا وجه للاكتفاء بمطلق الظنّ.

ثمّ إنّ الظّاهر أنّ مراد العلّامة رحمه‌الله من الاعتماد على إقبال النّاس واجتماع المسلمين على الاستفتاء كما هو ظاهر كلامه (١) اشتمالهم على أهل العلم والفهم

__________________

(١) في «تهذيبه» ص ٢٩٢.

٢٨٧

والفطانة ، وإلّا فاجتماع مطلق العوامّ لا يفيد الظنّ بشيء إلّا أن يكون ذلك على سبيل الاستمرار الكاشف عن استحقاق الرّجوع إليه ، لحكم العادة بارتداعهم إذا وصل إليهم خلاف ما فهموه بمرور الأيّام المتطاولة.

ثمّ إنّ الكلام مع اتّحاد المفتي واضح ، ومع التعدّد ، فإن تساووا في العلم والورع واتّفقوا في الفتوى ، فلا إشكال أيضا في التّخيير.

وربّما يقال : إذا اتّفقوا ولكن تفاوتوا في العلم والورع ، فيقدّم الأعلم.

وفيه : إشكال ، ويظهر وجهه ممّا يأتي بطريق الأولى.

وإن اختلفوا في الفتوى ، فإن تساووا في العلم والورع ، فهو مخيّر في تقليد أيّهم شاء ، لعدم المرجّح ، وإن كان بعضهم أعلم وأورع من غيره ، فالمعروف من مذهب أصحابنا ، بل ذكر بعضهم (١) أنّه لا خلاف فيه عندنا أنّه يقدّم على غيره ، لأنّه أقوى وأرجح ، واتّباعه أولى وأحقّ ، وأنّه بمنزلة الأمارتين على المجتهد.

واختلف فيه العامّة ، فمنهم من وافقنا على ذلك (٢) ، والأكثرون سوّوا بين الأفضل وغيره لاشتراك الجميع في الاجتهاد والعدالة المصحّحين للتقليد ، ولأنّ المفضولين من الصّحابة وغيره كانوا يفتون من غير نكير.

أقول : إن ثبت الإجماع مختار الأصحاب فهو ، وأنّى له بإثباته في أمثال هذه

__________________

(١) وهو الظاهر من كلام البهائي في «الزّبدة» ص ١٦٥ ، والعلّامة في «التهذيب» ص ٢٩٣ ، والمحقّق في «المعارج» ص ٢٠١ ، وصاحب «المعالم» ص ٥٣٨.

(٢) في «المستصفى» وقال قوم : تجب مراجعه الأفضل ، فإن استووا تخيّر بينهم وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى ، بل لا تجب إلّا مراجعة من علم بالعلم والعدالة. وقال أيضا : ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصّحابة ، واختار القاضي انّه يتخيّر والأولى عندي انّه يلزمه اتباع الأفضل.

٢٨٨

المسائل ، وإلّا فالاعتماد على هذا الظّهور والرّجحان مشكل ، وتشبيهه بأمارة المجتهد قياس مع الفارق.

وفي كلام المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله في «شرح الإرشاد» منع تقديم الأفضل في المحاكمة.

والتّحقيق ، أنّهم إن أرادوا أنّ عمل المقلّد بظنّ المجتهد إنّما هو لأجل أنّه محصّل للظنّ بحكم الله الواقعيّ ، والمجتهدان المختلفان أمارتان على ذلك الحكم كأمارتي المجتهد عليه.

ففيه : أنّه لا نسلّم على الإطلاق ، فإنّ مقلّدا كان في بلده مجتهدان أحدهما أعلم من الآخر وهما مختلفان في الفتوى وفرض في عصره وجود مجتهدين آخرين في بلاد آخر ، فكيف يحصل له الظّنّ بأنّ قول أعلم المجتهدين الّذين في بلده هو حكم الله الواقعي دون من هو أدون منه مع احتماله أن يكون بعض المجتهدين الّذين في البلاد الأخر مخالفا لذلك الأعلم وموافقا للأدون مع كونه مساويا للأعلم في العلم أو أعلم منه؟

وإن سلّمنا نفي أعلميّة الغير بأصل العدم لكون الزّيادة من الحوادث ، ولكن إذا علم وجود الأعلم من ذلك الأعلم واحتمل موافقته لذلك الأدون ، فلا مناص فيه عمّا ذكرنا ، فيرجع مآل دعوى الرّجحان وادّعاء حصول الظنّ بقول الأعلم حينئذ الى إفادة الظنّ بقيد هذا الحال ، وهذا الشّرط ، يعني أنّ فرض انحصار المجتهد في هذين الموجودين في بلده ، فيكون العمل على قول الأعلم أقرب وأرجح ، وليس هذا معنى حصول الظنّ بحكم الله الواقعيّ لا بشرط ، وعلى الإطلاق الذي هو مقصود النّاظرين في هذه المسائل.

ولا يمكن دعوى ذلك مع ملاحظة فتاوى الأموات أيضا ، فإنّ دعوى حصول

٢٨٩

الظنّ بحكم الله الواقعيّ من قول المجتهد الحيّ الذي هو أدون بمراتب شتّى من المجتهد الميّت دون قول ذلك الميّت مجازفة من القول.

فإن قلت : إنّ فتوى الميّت مخرج بالدّليل على عدم جواز العمل بقوله.

قلت : الدّليل العقليّ أعني سدّ باب العلم الموجب للعمل بالظنّ مع بقاء التّكليف ضرورة ، وقبح تكليف ما لا يطاق لا يقبل التّخصيص ، إلّا أن يذبّ عن ذلك بما يذبّ عن إخراج القياس والاستحسان ، وسيجيء تمام الكلام.

وعلى هذا ، فلا بدّ أن يقال بالتّخيير بين الأعلم وغيره ، فحينئذ يكون حكم الله الواقعيّ بحسب ظنّ أحدهما ، بل أحد المجتهدين الموجودين في العالم ، بل الميّتين أيضا لو جوّزنا للعمل بقولهم ، فإذا تردّد الحكم الواقعيّ بين هؤلاء ، فمقتضى الدّليل التّخيير. وإن أرادوا أنّ ذلك حكم آخر ينوب مناب الحكم الواقعيّ يجوز العمل بالظنّ وإن لم يحصل الظنّ بالحكم الواقعيّ كالتقيّة النائبة عن مرّ الحق ، فلا دليل حينئذ على وجوب ترجيح الأعلم.

فإنّ الذي ثبت من الدّليل أنّه إذا لم يمكن للمقلّد العلم بحكم الله الواقعيّ ، يجوز العمل بظنّ من تمكّن من استنباط الحكم من هذه الأدلّة.

وأمّا انّ ظنّ هذا الشّخص هل هو كاشف عن الواقعيّ أو لا ، فلا يحتاج إليه على هذا الفرض ، وحينئذ فلا دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى لاعتبار الأقوى والأقرب والأرجح ، لأنّ قولنا : حكم الله الظّاهريّ هو ما كان أرجح ، لا بدّ له من متعلّق ومن بيان أنّ أرجحيّته في أيّ شيء.

فإن قلت : المراد ما كان أرجح وأظهر في أنّه هو حكم الله الظّاهريّ ، فهو دور.

وإن قلت : المراد ما كان أرجح بالنّسبة الى ما أراده الله تعالى في الواقع عنّا فهو الظنّ بحكم الله الواقعيّ ، والمفروض عدمه.

٢٩٠

والحاصل ، أنّ الأدلّة الشّرعيّة هي حاكية عن حكم الله الواقعيّ ، والتّرجيح الحاصل فيها والأظهريّة المتعلّقة بها إنّما هو بالنّسبة الى ما هو المراد في الواقع ، فلا يصحّ فرض احتمال إرادة حكم الله الظّاهري غير كونه ظاهرا انّه حكم الله الواقعي.

لا يقال : إنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ خرج الأقوى بالاجماع ، ولا دليل على العمل بالأضعف ، لأنّا نقول : قد بيّنّا سابقا أنّه لا أصل لهذا الأصل ، فلا نعيد ، واشتغال الذّمّة أيضا لم يثبت إلّا بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ، والأصل عدم لزوم الزّيادة ، فلو كانوا يفصّلون بأنّه إذا انحصر المجتهد في العالم في الأعلم وغير الأعلم ولم يكن هناك ميّت أعلم أيضا ، فهناك رجّح [ترجّح] أقوى الأمارتين القائمتين على الحكم الواقعيّ على الآخر لكان له وجه. ولكنّه فرض ناء [نادر] في المقلّد في المجتهد أيضا بالنّسبة الى أمارته.

فنقول : لزوم عمله على أقوى الأمارتين إنّما هو إذا أراد تحصيل ما هو أقرب الى الواقع ، والظّنّ بحكم الله النّفس الأمريّ ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كان مقيّدا بشرط وحال.

فلو فرض أنّ مجتهد لم يقدر على تحصيل الأسباب وكتب الأخبار وتحصيل أقوال الفقهاء ، وانحصر تكليفه في الاجتهاد فيما عنده من الأسباب مع فرض علمه بوجود شيء آخر من الأسباب ، ولكن هو لا يتمكّن منه ، واحتمال مدخليّة الغير في مطلبه احتمالا ظاهرا ، فتحصيل الظنّ له حينئذ إنّما هو بشرط هذه الأسباب وفي هذه الحال لا مطلقا ، وهو ليس معنى تحصيل الظنّ بالحكم الواقعي.

نعم ، المجتهد الذي جمع الأسباب واستفرغ وسعه في التّحصيل ونفى وجود ما يحتمل أن يعارض دليل مختاره ويترجّح عليه بأصل العدم ، يمكنه تحصيل الظنّ

٢٩١

بالحكم الواقعيّ.

والقول : بأنّ الأصل عدم مخالفة ما وجد من الأسباب في العالم ، وهو لا يتمكّن منه لما عنده من الأسباب غلط فاحش ، لأنّ الأصل لا يتفاوت بالنّسبة الى الموافقة والمخالفة كما لا يخفى.

فحينئذ فالقول : بوجوب تقديم قول الأعلم للمقلّد على الإطلاق ، لا يتمّ.

ودعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل مع أنّها غير ظاهرة منهم وغير واضحة في نفسها ، يظهر بطلانها من استنادهم في دعواهم هذه الى أنّه أقرب وآكد وأرجح.

وأيضا لا يلائم الجمع بين دعوى الإجماع على متابعة الأعلم في إثبات المطلب ، وبين الاستناد الى أنّه أقرب وأرجح ، فإنّ الاستناد الى الثّاني وهو كونه أقرب وآكد استنادا الى الدّليل العقليّ ، والاستناد الى الأوّل استنادا الى التعبّد ، والدّليل العقليّ لا يقبل التّخصيص والتّقييد ، وقد مرّ نظير ذلك في أدلّة حجّية خبر الواحد.

والحاصل ، أنّ المعيار في رجوع المقلّد الى المجتهد إن كان هو العمل بالظنّ عند تعذّر العلم بالحكم النّفس الأمريّ ، فهو تابع لحصول الظنّ لا بشرط من أيّ جهة كان وإن كان بتقليد الميّت ، ولا معنى لحصول الظنّ بشرط حال ووقت.

وإن كان المعيار هو الإجماع أو غيره من الأدلّة الشّرعيّة ، فهو مقصور على ما يدلّ عليه الدّليل.

ودعوى الإجماع على متابعة الأعلم أيضا لم يثبت إلّا في الأعلم الذي لم يعلم مخالفته لأعلم آخر أو علم عدم مخالفته له ، بل الظّاهر من دعوى الإجماع على متابعة الأعلم هو الأعلم على الإطلاق لا أعلم بلد المقلّد.

٢٩٢

هذا إذا كان أحدهما أعلم وأورع من الآخر ، وإن اختلفا وكان أحدهما أورع والآخر أعلم ، فقيل : يقدّم الأعلم ، لأنّ الورع المعتبر في العدالة يكفي في اجتهاد الأعلم ولا يحتاج الى الزّيادة التي في الأورع ، وذلك يحجزه عن التّقصير ، ولكن زيادة العلم في الآخر يوجب زيادة الاتقان في الفتوى.

وقيل بتقديم الأورع.

ويمكن الاستدلال بأنّ زيادة الورع يوجب تحمّل المشقة في استفراغ الوسع أزيد ممّا هو دون الوسع ، وإن كان الامتثال يحصل بما لا يوجب العسر والحرج ، وذلك قد يوجب إدراك بعض ما لا يدركه الأعلم ، لكون استفراغ وسعه أقلّ منه. ويظهر التحقيق هنا ممّا حقّقناه آنفا.

٢٩٣

قانون

اختلفوا في جواز بناء المجتهد في الفتوى على الاجتهاد السّابق على أقوال :

ثالثها : العدم ، إلّا إذا تذكّر دليل المسألة ومأخذها ، فإذا نسيها وجب عليه التّكرار ، فإن وافق الأوّل فهو ، وإلّا فيجب عليه العمل على الآخر.

وقيل : إن مضى زمان وتغيّر حال يجوز معه زيادة قوّته واطّلاعه على الأدلّة ، فيجب التّكرار ، وإلّا فلا.

للأوّل : الاستصحاب ، وأصالة عدم الوجوب.

وللثاني : احتمال تغيّر الرّأي بالنّظر ، فلا يبقى الظنّ.

والثالث : كون المسألة مربوطة بدليلها حينئذ بخلاف ما لم يتذكّر.

ويظهر دليل التّفصيل الأخير ممّا ذكر.

والحقّ هو الأوّل ، لما ذكر ، وللزوم العسر والحرج ، ومجرّد احتمال التّغيير لا يوجب زوال الظنّ كما لا يخفى.

نعم ، لو عرض له بسبب السّوانح وتغيّر الأحوال وتفاوت الأوقات وتبدّل رأيه في بعض المسائل الأصولية شكّ في المسألة بحيث زال الظنّ ولو من جهة الاستصحاب أيضا وتساوى الطّرفان ، فيجب عليه تكرار النّظر ، ثمّ من تجدّد رأيه بسبب التّكرار ، هل يجب أن يعلم مقلّده بذلك ليرجع عن قوله الأوّل. الأظهر عدم الوجوب.

وما يتوهّم من أنّ المستفتي حينئذ يبقى عمله بلا دليل ولا موجب ، فيجب ردعه ؛ مدفوع ، بأنّ ظنّ بقاء الموجب بالاستصحاب كاف له ، والأصل عدم وجوب الإخبار.

٢٩٤

ثمّ إنّا قد أشرنا الى الفرق بين الحكم والفتوى في مباحث الأخبار ، ونزيد لك هنا.

ونقول : إنّ المراد بالفتوى هو الإخبار عن الله تعالى بحكم مسألة ، سواء كان بعنوان العموم كما لو قال : الماء القليل ينجس بملاقاة النّجاسة ، أو الخصوص كقوله : هذا القدح من الماء ينجس بملاقاته لقطرة من البول ، وفي معناه قوله : اجتنبه ، وإن كان إنشاء باللّفظ.

والحكم هو إلزام خاصّ أو إطلاق خاصّ في واقعة خاصّة متعلّقة بأمر المعاش فيما يقع فيه الخصومة بين العباد ، مطابقة لحكم الله تعالى في نظر المجتهد في هذه الواقعة وغيرها ممّا يندرج تحت كلّي.

فالفتوى حينئذ هو أنّ كلّ ما كان مثل هذه الواقعة الخاصّة ، فحكمه كذا.

وهذه الواقعة حكمها في الواقع كذا ، والحكم هو الإمضاء والإنفاذ والإلزام لذلك الحكم العامّ في هذه الواقعة الخاصّة بعنوان أنّه إنشاء من قبل الحاكم لا إخبار عن الله تعالى فيها.

والظّاهر أنّ إنشاء الحكم من الحاكم كما يحصل بقوله : حكمت بكذا ، أو أمضيت كذا ، أو أنفذت كذا ، يحصل بقوله لمن يحكم له بمال : تصرّف في كذا ، وهذا لك ، أو يقول للمرأة : تزوّجي بفلان ، وكذلك تزويجها بنفسه لغيره ، ونحو ذلك.

ومن خواصّ الحكم عدم التّعدية عن الواقعة المخصوصة التي وقع فيها الى غيرها وإن كان موافقا لها بعينها ، وعدم جواز نقضه ، بخلاف الفتوى ، فإنّه يتعدّى من الواقعة الخاصّة الى ما يوافقها ، ويجوز نقضها بالمعنى الذي سنذكره.

وقد يشتبه الأمر بين الفتوى والحكم كما أشرنا إليه في مبحث تصرّف

٢٩٥

المعصوم عليه‌السلام من حكاية هند زوجة أبي سفيان.

ثمّ إنّ رفع الخصومة إمّا أن يكون بعد التّداعي والتّرافع من الخصمين بالفعل ، أو من أحدهما مع غيبة الآخر أو صغره أو نحو ذلك.

وإما أن يكون قبل ذلك إذا كان هناك خصومة متصوّرة بالقوّة ويكون من شأن الواقعة حصول الخصومة فيها.

مثال الأوّل : أن يدّعي أحد مالا في يد حاضر أو غائب أو صغير ، ورفع أمره الى الحاكم وحكم به له.

ومثال الثاني : أن يعقد الحاكم بكرا [باكرة] بالغة رشيدة يعتقد هو حياة والدها وتعتقد هي موته ، لأحد أو يأذن لأحد في إجراء الصّيغة ، فإنّه ليس هنا خصومة بالفعل كما لا يخفى.

ومن أمثلة نكاح أحد المتراضعين بعشر رضعات للآخر بنفسه أو بترخيصه لهما مع عدم تفطّن أحدهما للمسألة والإشكال فيها ، بل وعدم علمهما بحصول الرّضاع أصلا ، مثل أن يسأل والد المتراضعين الجاهلين بالحال عن جواز تزاوجهما بعد ما علم الوالدان به ، وثبت عند الحاكم أيضا ورخّص لهما بالتّزويج ولم يعلماهما الحال أصلا ، فإنّه لا ريب أنّ هناك خصومة بالقوّة بين الزّوجين بعد حصول العلم لهما أو لأحدهما بالرّضاع بعد ذلك ، ولكنّ الإشكال في أنّ الظّاهر من تقييد الحكم برفع الخصومة وجعل ذلك غاية له ، لزوم قصد الحاكم لذلك ، فيخرج كثير من الأمثلة منه ، وذلك أشبه حكاية هند ، والمائز بينهما هو القصد.

وعلى ما ذكرنا ، فالفرق بين إعطاء زكاة مال التّجارة لفقير بتقليد مجتهد ، وأخذ المجتهد تلك الزّكاة وإعطائها الفقير مطلقا حتّى فيما لم يتفطّن صاحب المال للخلاف في المسألة أصلا ولا المجتهد ، لأنّ ذلك قد يصير موردا للنزاع بين الفقير

٢٩٦

وصاحب المال حينئذ مشكل ، اللهم إلّا أن يقال : المراد بالأخذ هو الأخذ على سبيل الحكم ورفع الخصومة المتصوّرة قصدا ، وعلى ذلك ينزل تمثيل الشهيد رحمه‌الله بذلك للحكم في «القواعد».

وكذلك القول : بأنّ المجتهد إذا أوقع عقد البكر بدون إذن أبيها أو أذن للغير في تزويجها ، فهو لازم لا يجوز نقضه ، بخلاف ما إذا أوقعها غيره. فإنّ الأوّل حكم لا يجوز نقضه ، بخلاف الثّاني على الإطلاق ، مشكل ، إذا المسلّم إنّما هو حكم لا يصدر إلّا عن مجتهد ، ولا يثمر إلّا إذا صدر عنه لا أنّ كلّ ما صدر عن المجتهد فيما يتضمّن خصومة بالقوّة ، فهو حكم.

والحاصل ، أنّ الصّدور عن المجتهد من شرائط صحة الحكم لا من مميّزات ماهيّته.

نعم ، إذا كان مقصود المجتهد قطع الخصومة المتصوّرة ، فكما يجوز أن يقطعها بقوله : جوّزت لك التّزويج بدون إذن أبيك ، وحكمت لك بهذا ، يجوز أن يقطعها بإجراء الصّيغة بنفسه ، فهذا هو الذي يصير حكما ، لا مطلق إجراء الصّيغة.

والإشكال في صورة الإذن للغير أظهر ، فإنّه يصير من باب حكاية هند زوجة أبي سفيان.

وأمّا توهّم عدم جواز التّزويج فيما نحن فيه إلّا من المجتهد أو بإذنه ، فهو ممّا لم يذهب إليه أحد.

ثمّ اعلم أنّه يرد على تعريف الحكم أيضا عدم الانعكاس بالحكم بالحدود ، وممّا يختصّ بحقوق الله تعالى كشرب الخمر والزّنا سيّما إذا لم يدّع على الزّاني والشّارب أحد حتّى يقع الخصومة بينهما. وقد صرّحوا بكون ذلك حكما كما ينادي به قولهم في مسألة جواز عمل الحاكم بعلمه وعدمه ، والتّفصيل بالجواز في

٢٩٧

حقوق الله تعالى دون حقوق النّاس. وكذلك استدلالهم للجواز بعموم قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٢) الآية. والتّتميم بعدم القول بالفصل وغير ذلك.

وكذلك يرد عليه الحكم بثبوت الهلال ، فإنّهم جعلوه من باب الحكم ، ولا ريب أنّه متعلّق بالمعاد لا بالمعاش ، فالتّقييد بالتعلّق بالمعاش يخرجه عن الحدّ. وكذلك تقييد الحدّ برفع الخصومة لانتفائه فيه غالبا.

وممّا يدلّ على أنّهم جعلوه من باب الحكم تصريحهم بالخلاف في كفاية قول الحاكم بأنّه يوم فطر ، واختاره في «الدّروس» (٣) ، ورجّحه في «المدارك» (٤) استنادا الى عموم ما دلّ على أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه ، ولأنّه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرّجوع الى حكمه كغيره من الأحكام ، والعلم أقوى من البيّنة.

ولا ريب أنّ أدلّتهم التي أقاموها على عدم جواز نقض الحكم كما سيأتي بيانه ، يتفاوت بالنسبة الى هذه الأقسام ، سيّما الإجماع إذ هو من الأدلّة الشّرعيّة ، ولا بدّ أن يعلم حال مورده في الشّرع ، وأنّ أيّ هذه المعاني وقع الإجماع عليه.

ويمكن توجيه المقام لإدخال مثل الحكم بيوم الفطر ، بأن يراد بأمر المعاش أمور لا اختصاص لها بالشّارع ، بل هي من موضوعات حكمه ، فيرجع الى أنّه هل تحقّق الرّؤية أم لا ، وهل تمّ عدد الشّهر أم لا. ولا مدخل لذلك في أصل الحكم الشّرعيّ وإن كان يرجع الى الحكم الشّرعيّ باعتبار قطع النّزاع ، وبتضمّن أنّ

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النّور : ٢.

(٣) للشّهيد الأوّل : ص ١ / ٣٤٩

(٤) للسيّد محمد العاملي : ١ / ١٧١.

٢٩٨

الشّارع حكم بأن يحكم الحاكم أنّ هذا اليوم يوم الفطر.

ومن فروع كونه من الحكم بثبوت حلول الآجال فيما تنازع فيه الخصمان ، مثل : ما لو باع أحد بالبيع المشروط فيه الخيار الى أوّل الشّهر الفلاني الذي يترتّب عليه اللزوم بانتفاء الشّرط في أوّل الشّهر ، ثمّ وقع النّزاع بينهما في اليوم الخاصّ في أنّه أوّل الشّهر أم لا ، فيكفي في ذلك حكم الحاكم بأنّه أوّل الشّهر ، فيترتّب عليه اللزوم وعدمه ، ولا يحتاج الى حكمه باللزوم وعدم اللزوم. فالحكم بأنّه أوّل الشهر حكم ، وحكمه باللزوم أو عدمه حكم آخر ، ولإدخال الحدّ الشّرعيّ بإرادة ثبوت الموجب وعدمه ، والخصومة في ذلك متصوّرة أيضا بين العباد في التّصديق والتّكذيب والموافقة والمخالفة ، فالمناص في تعميم الحكم للمذكورات هو قصد ضمّ الحاكم بحكمه رفع ما عسى أن يتصوّر من المخالفة والخصومة أيضا ، وإن لم يكن بالفعل هناك خصومة ، فيدخل كثير ممّا خرج منه. وخرج منه ، ما يتوهّم دخوله فيه.

وقد يحصل لحكم المجتهد اعتباران ، من أحدهما فتوى ، ومن الآخر حكم ، كما لو حكم بصحّة حجّ النّائب إذا أدرك اضطراريّ المشعر ، فهو من حيث إنّه مثبت لاستحقاق الأجرة حكم ، ومن حيث إنّه إخبار عن الصّحّة فتوى.

وعلى ما مرّ فيدخل في الحكم حكم المجتهد بكون الجلد خزّا إذا اشتبه الأمر ، وحكمه بكون اللّحم مذكّى إذا وقع الإشكال فيه ، وحكمه بأنّ هذا الإناء من الإناءين المشتبهين هو ما وقع فيه النّجاسة.

ومن ذلك ظهر الفرق بين قول المجتهد : هذا القدح نجس ، لمن يقلّده إذا رأى كلاهما أنّه وقع فيه قطرة من الخمر ، فإذا عدل المقلّد عن تقليد هذا المجتهد قبل العمل بقوله من نجاسة الخمر وقلّد من رأى طهارتها ، فيجوز استعماله ، وما لو

٢٩٩

حكم بأنّ الإناء الذي وقع فيه البول من الإناءين المشتبهين هو هذا ، فلا يجوز له الاستعمال بعده ، كما سيجيء بيان ذلك.

وممّا يشكل به الأمر إذا قلنا بأنّ قول المجتهد : اليوم يوم الفطر ، أو هذا الجلد خزّ ، أو هذا اللّحم مذكّى ، حكم لزوم متابعة مجتهد آخر لم يثبت عنده ذلك لهذا الحكم ، بناء على ما مرّ وما سيجيء من أنّ الحكم لا ينقض ، وأنّ معنى عدم النّقض لزوم الحكم بترتّب الآثار عليه ، كما سيجيء بيان ذلك ، وذلك ممّا يوهن القول بكون أمثال ذلك حكما بالمعنى المصطلح الذي لا يجوز نقضه أبدا.

ويمكن دفعه : بالتزامه في المحكوم عليهم بالنّسبة إليهم ، فإنّ الحكم أمر إضافيّ. ثمّ الحكم إمّا يتحقّق باختيار أحد الأقوال في المسألة المختلف فيها وإجرائه في القضيّة الشّخصيّة ، كمسألة المتراضعين والبكر ونحوهما ، ولو كان بدون مرافعة ومخاصمة بالفعل ، وإمّا بإجراء الحكم على الطّريقة المجمع عليها في القضيّة الشّخصيّة المتنازع فيها بسبب إدّعاء كلّ منهما الاستحقاق شرعا بزعمه ، كتملّك المدّعي في يد المدّعى عليه بسبب البيّنة المقبولة أو بإجراء ما هو المختار عند الحاكم في طريق رفع الدّعوى مع كونه خلافيّا ، مثل إثبات بعض الحقوق المختلف فيها بالبيّنة واليمين ، كالخلع والعتق ، ويجب على المتحاكمين العمل بمقتضاه في الجميع.

هذا حال الحكم والأحكام [والاحتكام] وإنفاذ الأمر وإمضائه.

وأمّا حال الإفتاء والتّقليد ، فأمّا التّقليد في العبادات فواضح ، لأنّه عمل بقول المفتي في المسألة ، وكذلك في الحلّ والحرمة ونحوهما في المطاعم والمشارب ، والأفعال والأعمال البدنيّة ، غير العقود والإيقاعات.

وأمّا العقود والإيقاعات ممّا يحصل بين الاثنين غالبا ، فلها جنبتان :

٣٠٠