القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

وكيف يحصل القطع مع أنّ أشهرهم وأكثرهم رواية هو عمّار ، ولا يخفى على المطّلع برواياته ما فيها من الاضطراب والتّهافت الكاشفين عن سوء فهمه وقلّة حفظه. وممّا يشهد به ما رواه عن الصّادق صلوات الله وسلامه عليه في وجوب النّوافل اليومية ولما عرض عليه عليه‌السلام قال : «أين تذهب ، إنّما قلت : إنّ الله يتمّ الفرائض بالنّوافل» (١) ، وأمثال ذلك.

ومنها : أن يكون الرّاوي من الّذين قال الإمام عليه‌السلام فيهم أنّهم ثقات مأمونون ، أو : خذوا عنهم معالم دينكم ، أو : هؤلاء أمناء الله في الأرض ، وأمثال ذلك.

وفيه : أوّلا : أنّ ذلك يوجب الاحتياج الى علم الرّجال ، ومعرفة حال الرّجال أنّه هل هو منهم أو لا.

__________________

(١) روى الشيخ في التهذيب ٢ / ٢٥٩ باب ١٢ ح ٢٨ [٩٥٩] عن محمد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن علي بن عبد الله عن ابن فضّال ، عن مروان عن عمّار السّاباطي «قال : كنّا جلوسا عند أبي عبد الله عليه‌السلام بمنى ، فقال له رجل : ما تقول في النّوافل؟ فقال : فريضه ، قال : ففزعنا وفزع الرّجل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّما أعني صلاة الليل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الله يقول : ومن اللّيل فتهجّد نافلة لك.

وفي رواية عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ عمّار السّاباطي روى عنك رواية ، قال : وما هي؟ قلت : روى أنّ السّنة : فريضة ، فقال : أين يذهب ، أين يذهب؟! ليس هكذا حدّثته ، إنّما قلت له : من صلّى فأقبل على صلاته ولم يحدّث نفسه فيها أو لم يسه فيها أقبل الله عليه ما أقبل عليها ، فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها وإنّما أمرنا بالسنّة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة.

وفي رواية اخرى أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها فما يرفع له إلّا ما أقبل عليها منها بقلبه ، وإنّما أمرنا بالنّافلة (في التهذيب بالنّوافل) ليتمّ لهم بهما ما نقصوا من الفريضة. كما في «الوسائل» ٤ / ٧١ باب ١٧ و ٢٩ راجع أحاديثها.

٢٦١

وثانيا : أنّ ما ورد في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب العلم بحال هؤلاء ، بل إنّما يوجب الظنّ ، فكيف يفيد ذلك العلم بقطعيّة أخبارهم.

وثالثا : على تقدير إفادتها القطع بأنّ هؤلاء كما ذكرهم عليه‌السلام ، [لكن] وثاقة الرّجل وأمانته إنّما يمنع من تعمّد الكذب ، ولا يمنع عن الخطأ والسّهو.

وكذلك الأمر بالمتابعة لا يوجب قطعيّة ما يروونه ، غاية الأمر أنّه يفيد وجوب العمل بفتواهم ، وأين هو من قطعيّة ما يروونه.

ومنها : وجوده في «الفقيه» و «الكافي» وأحد كتابي الشّيخ لاجتماع شهادتهم على صحّة أحاديث كتبهم أو على أنّها مأخوذة من الأصول المجمع على صحّتها. وذلك لأنّ الصّدوق قال في أوّل «الفقيه» (١) : «إنّي لا أورد في هذا الكتاب إلّا ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وهو حجّة بيني وبين ربّي».

وقال الكليني رحمه‌الله في أوّل «الكافي» (٢) مخاطبا لمن سأله تصنيفه : وقلت : إنّك تحبّ أن يكون عندك كتاب كان يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدّين والعمل به بالآثار الصّحيحة عن الصادقين عليهما الصلاة والسلام. الى أن قال : وقد يسّر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت.

والشيخ رحمه‌الله قال في «العدّة» (٣) : «إنّ ما عملت به من الأخبار فهو صحيح».

وفيه : أنّه لا يدلّ على تصحيح هؤلاء للحديث على أن يكون قطعيّا ، كما ترى

__________________

(١) «من لا يحضره الفقيه» : ١ / ٣.

(٢) ١ / ٨

(٣) وكذا نقله عنه أيضا في «الوافية» ص ٢٦٥.

٢٦٢

أنّ المتأخّرين أيضا لا يستلزم تصحيحهم قطعيّة الخبر ، ومن أنّى لك إثبات هذا المعنى الصّحيح عندهم.

ويشهد بما ذكرنا ما ذكره المحقّق البهائيّ رحمه‌الله في كتاب «مشرق الشّمسين» (١) : أنّ المتعارف بين القدماء كان إطلاق الصّحيح عندهم على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، واقترن (٢) بما يوجب الوثوق به والرّكون إليه. ثمّ ذكر ممّا يوجب ذلك أمورا يستلزم أحدها قطعيّة الخبر ولا يفيد إلا الظنّ بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام ، بل ربّما يصفون الخبر بالقطعيّ ولا يريدون ذلك ، فضلا عن أن يصفوه بالصّحّة.

ويشهد به ما ذكره الشيخ في أوّل «الاستبصار» (٣) في تقسيم الخبر ، فإنّه جعل ما وافق ظاهر الكتاب ، بلّ ومفهومه المخالف من القطعيّ ، فلاحظ حتّى يظهر لك ما قلته. مع أنّه يظهر من التّتبع أنّ الصّدوق أيضا يريد من الصّحيح ما هو المعتمد الرّاجح الصّدق ، وهو كثيرا ما يعتمد في تصحيح الحديث بتصحيح شيخه ابن الوليد ، وإنّه كان يرى قبول ما يرويه الثّقة الضّابط ، وهذا لا يستلزم القطع كما لا يخفى.

فالظّاهر أنّ مراد الصّدوق رحمه‌الله من صحّة الأصل الذي أخذ الحديث عنه ، كون الأصل ممّا يعتمد عليه في الجملة ، لا كون جميع أخباره كذلك ، وذلك لأنّ من الأصول ما كان لا يعتمد عليه لأجل راويه وكونه من الكذّابين ، أو لتخليط

__________________

(١) ص ٢٦.

(٢) في المصدر الأصلي (أو اقترن).

(٣) ١ / ٤

٢٦٣

الكذّابين فيه شيئا واغتشاش الأمر فيه.

ومنها : ما كان معتمدا لأجل الوثوق بصاحبه ، أو القرائن التي دلّت على أنّه صدر من صاحبه في حال استقامته وإن اعتراه بعد ذلك تخليط ، فالمعتمد في مقابل غير المعتمد ، وليس معناه قطعيّ الصّدور ، وإن احتمل كون بعض أخبار الأصل المعتمد قطعيّ الصّدور عنده ، مع أنّ ذلك لا يفيد قطعيّته عندنا ، مع أنّ الصّدوق رحمه‌الله كثيرا ما يردّ الرّواية بأنّه تفرّد به فلان ، ويذكر اسم الثّقة صاحب الكتاب المعتمد ، كما في أوّل باب وجوب الجمعة ، وفي باب إحرام الحائض والمستحاضة من كتاب الحجّ ، وهذا كلّه يدلّ على كونها ظنيّة عنده.

وكذلك الكلام [كلام] الكليني رحمه‌الله في أوّل كتابه لا يدلّ على قطعيّة الأخبار لما ذكرنا ، مضافا الى ما يشير إليه قوله : وأرجو أن يكون بحيث توخّيت. مع أنّ القطعيّة عنده لا يفيد القطعيّة عندنا ، مع أنّ الصّدوق كثيرا ما يطرح روايات «الكافي» كما يظهر في باب الرّجل يوصي الى رجلين ، وفي باب الوصيّ يمنع الوارث وغيره ، وكذلك الشيخ والمرتضى وغيرهما من المتأخّرين.

وأمّا ما نقل من «العدّة» فلا يحضرني ما ذكره. وقال بعض أصحابنا المتأخّرين : إنّي تصفّحت كتاب «العدّة» ولم أر ذلك فيها ، ثمّ إنّ بعض المتأخّرين بعد ما حكم ببطلان دعوى قطعيّة أخبار تلك الكتب وإبطال دعوى عدم الحاجة الى علم الرّجال ذهب الى أنّ تلك الأخبار قطعيّة العمل ، للعلم العادي بأنّ الكتب الأربعة مأخوذة من الأصول المعتمد.

ومعنى كون الأصل معتمدا هو ما ثبت من القرائن جواز العمل عليها بنصّ الأئمة عليهم‌السلام وتقريرهم ، وإن اشتمل بعضها على ما علم أنّه من غيرهم عليهم‌السلام لأجل تقيّة أو ضيق وقت عن البيان والتّفصيل وتمييز ما هو الحقّ من غيره. ثمّ أورد على

٢٦٤

نفسه بعدم الاحتياج الى علم الرّجال على ما ذكرت.

وأجاب عنه : أنّ ما قلته إنّما هو في غير المتعارضات ، وأمّا المتعارضات فلم يحصل لنا العلم بالعمل بها إلّا مع الرّجوع الى التراجيح ، ولم يحصل لنا العلم بجواز العمل بأحد المتعارضين من دون مراجعة الى التّراجيح ، ولا ريب أنّ التفتيش من الرّواة أحد أسباب التّراجيح.

وفيه : أنّ دعوى حصول القطع بجواز العمل بكلّ ما فيه ، وإن كان راويها من الكذّابين المشهورين الّذين ورد لعنهم ولزوم الاجتناب عنهم عن الأئمة عليهم‌السلام أو من الضّعفاء أو المجاهيل ، ممنوعة.

وما استشهد به من عمل السّيد والشيخ وابن إدريس وغيرهم بالأخبار الضّعيفة ، فلا يدلّ على مدّعاه ، إذ لعلّهم عملوا بها لاحتفافها بالقرائن الموجبة للاعتماد ، ولذلك نحن نعمل بالأخبار الضّعيفة المعمول بها عند معظم الأصحاب ، مع أنّا لا نمنع حصول الظنّ بالأخبار الضّعيفة بسبب ورودها في تلك الكتب في الجملة ، لكن إذا كان مخالفا لظاهر الكتاب أو للأصول الممهّدة ولو من دليل العقل ، فقد يحتاج في تقويتها الى ملاحظة الإسناد ، فقد يوجب صحّة السّند حصول ظنّ يمكن به تخصيص القاعدة وتقييدها ، لا يوجبه نفس ورود الخبر في تلك الكتب.

والحاصل ، أنّ التّحقيق هو الاعتماد على ما يحصل به الظنّ والرّجحان وملاحظة الرّواة من أسبابه ، فإنّه (١) يتفاوت الحال بسببه ، فلا بدّ من ملاحظته سواء كان في الأخبار المتعارضة أو غيرها.

__________________

(١) في نسخة الأصل (فإنّها).

٢٦٥

الشّك الثّاني

[ما نقل من أن علماءنا كانوا يعملون بكل ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصومعليه‌السلام] ما نقل عن بعض الفضلاء من أنّ الاستقراء وتتبّع سير السّلف يكشفان عن أنّ علماءنا كانوا يعملون بكلّ ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصوم عليه‌السلام ، وإن كان من رواية ضعيفة أو غيرها ، فلا حاجة الى معرفة حال الرّواة ، بل المتّبع إنّما هو الظنّ.

وقد أجيب : بمنع ذلك كما يشهد به ملاحظة حال السّيد وابن إدريس وغيرهما ، وعملهم ببعض الأخبار الضّعيفة لعلّه لكونه محفوفا بالقرائن القطعيّة عندهم.

وكيف يجوز العمل بالظنّ من حيث إنّه ظنّ وقد يكون منشؤه الهواء أو العصبيّة أو الحسد ، فيحصل الهرج والمرج في الدّين لعدم الانضباط ، فيجب أن يكون ما يعمل به ظنّا مضبوطا كظاهر الكتاب والحديث مطلقة أو الصّحيح منه.

والتّحقيق ، أنّ هذا الاستقراء صحيح بالنّسبة الى طريقة أكثر علمائنا لا يحسن إنكاره ، والسّيد رحمه‌الله وابن إدريس رحمه‌الله وأمثالهما إنّما كانوا يمنعون عن العمل بخبر الواحد ، لا مطلق ما يحصل به الظنّ بمراد المعصوم عليه‌السلام.

نعم ، لا يجوز العمل بمثل القياس والاستحسان ونحوهما ، ولم يظهر من المشكّك ذلك أيضا ، ولكنّ هذا لا يستلزم عدم الاحتياج الى علم الرّجال ، إذ معرفة حال الرّجال والعلم بثقته ممّا يحصل به الظنّ.

ومن الأسباب الموجبة له ، فهو لا ينافي العمل بمطلق الظنّ فإذا حصل من كون الرّجل ثقة ، الظنّ بمراد المعصوم عليه‌السلام وفرض عدمه لو لم يكن ثقة ، فكيف يقال بعدم مدخليّة ذلك في الظنّ ، وهو إنّما يحصل من علم الرّجال.

لا يقال : إنّ الواجب هو متابعة ما حصل لنا من الظنّ ولا يجب علينا الفحص من أمارات الظنّ ، لأنّا نقول : نحن مكلّفون بالظنّ بعد استفراغ الوسع ، والظنّ بعد الاستفراغ إنّما يحصل بعد الاستفراغ فيما له مدخليّة في حصول الظنّ وعدمه.

٢٦٦

فالحقّ ، أنّ المتّبع هو الظنّ الحاصل بمراد المعصوم عليه‌السلام وهو قد يحصل بخبر ضعيف معمول به ، وقد لا يحصل بأخبار عديدة صحيحة ، ولذلك قد يكتفى في التّرجيح بورود الحديث في «الكافي» أو «الفقيه» في مقابل معارضة المساوي له في السّند مع كونه في غيرهما ، إذا لم يقترنه ما يرجّحه من جهة أخرى.

وبالجملة ، المعتمد في تصحيح الأخبار عندي والعمل على الصّحيح إنّما هو من أجل الظنّ لا للآية ولا لغيرها ، كما أشرنا سابقا ، وقد وقع الإفراط والتفريط في ذلك. فربّما يبالغ بعض متأخّري الأصحاب في ردّ غير الأخبار الصّحيحة ولو بسبب توهّم اشتراك أو بسبب عدم التّصريح بالتّوثيق ، وإن كان الرّجل مثل إبراهيم بن هاشم أو مثل سماعة بن مهران أو الحسن بن عليّ بن فضّال ، لأنّه ليس بصحيح. وربّما يبالغ بعضهم في العمل بالخبر في أيّ كتاب يكون ، وبأيّ سند يكون.

والتّحقيق ، الرّجوع الى ما يوجب الظنّ والرّجحان بالنّسبة الى المعارض ، فالصحّة من جملة تلك الأسباب لا أنّها تعتبر لأجل النصّ والتعبّد.

وفي تتمّة كلام المجيب حزازات يظهر تحقيق الحال فيها ممّا ذكرنا في مبحث خبر الواحد من أنّ تعيين الظّنون المعلوم الحجّية بالخصوص في غاية الإشكال ، بل المدار على ما يحصل به الظنّ بمراد المعصوم عليه‌السلام إلّا ما خرج بالدّليل كالقياس ، فلا يحصل الهرج والمرج. ولو ذكر مقام الهوى والعصبيّة والحسد ، القياس والاستحسان ونحوهما ، لكان هو الوجه كما لا يخفى على المتأمّل.

٢٦٧

الشكّ الثّالث

وهو مشتمل على أمور :

أحدها : ثبوت الخلاف في معنى العدالة ، وفي معنى الكبيرة وعددها ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدّلين وجرحهم إلّا بعد معرفة موافقة مذهبهم في العدالة والجرح لمذهب المجتهد العامل على مقتضى جرحهم وتعديلهم ، وسيّما مع كون تعديل بعضهم مبنيّا على تعديل من تقدّم عليهم مع جهالة الحال في الموافقة والمخالفة.

وقد ظهر الجواب عن ذلك فيما قدّمناه في مباحث شرائط العمل بخبر الواحد ، وقبول الجرح والتّعديل ، ونقول هنا أيضا مضافا الى ما مرّ : إنّه لا ريب في حصول الظنّ بالتزكية كيفما كان ، وإذا كان البناء في الفقه على الظنّ ، فهذا من جملة أماراته ، فلم يثبت عدم الاحتياج الى علم الرّجال.

وثانيها : أنّ بعض الأصوليين اعتبر في التزكية شهادة العدلين ، وبعضهم اكتفى بالواحد ، ولا يعلم مذهب المعدّلين في ذلك ، مع أنّ تعديل أغلبهم مبنيّ على تعديل من تقدّمهم ، ولا يعلم موافقتهم لهم أيضا.

وفيه : أنّ ذلك لا يضرّ من قال بالتّزكية من قبل الظّنون الاجتهادية ، كما اخترناه ، أو من باب الخبر. ولو سلّم كونه من باب الشّهادة ، فيمكن الجواب عنه بمثل ما قدّمناه في مباحث الأخبار في أصل التّعديل ، وما ذكرناه هاهنا في الأمر الأوّل.

وثالثها : أنّ كثيرا من الرّواة ممّن كان على خلاف المذهب ، ثمّ رجع وحسن إيمانه ، والفقهاء يعدّون روايته من الصّحاح مع جهالتهم بالتّاريخ وزمان صدور الرّواية ، وكذلك الإشكال في العكس.

وقد أشرنا الى ذلك أيضا في مباحث أخبار الآحاد وأجبنا عنه ، ونقول هنا أيضا : إنّ من يحكم بالصحّة لعلّه علم بتاريخ الصّدور أو علم به من جهة القرائن ،

٢٦٨

وهذا لا يوجب عدم الاحتياج الى علم الرّجال ، بل هذا ممّا يزيد الاحتياج لأجل تمييز أمثال هذه الأشخاص عن غيرهم والعمل على مقتضاه.

ورابعها : أنّ العدالة بمعنى الملكة لا يمكن إثباتها بالشّهادة والخبر ، لأنّ حجّيتهما منوطة بالحسّ.

وفيه : منع انحصار حجّية الشّهادة والخبر في المحسوس أوّلا وكفاية محسوسيّة آثارها وعلاماتها بحيث يوجب العلم بها ثانيا ، وبداهة حصول العلم لنا بعدالة أكثرهم بسبب تعديل المعدّلين سيّما إذا كانوا كثيرين ، مثل الأركان الأربعة وأضرابهم في الأوّلين ، والفضلاء الخمسة وأضرابهم في الآخرين ، وهكذا ثالثا ، وحصول الظنّ والرّجحان بمحض تعديلهم ، سيّما إذا تعدّدوا ، والاكتفاء به كما أشرنا رابعا ، ومنع كون العدالة عبارة عن الملكة المخصوصة خامسا.

وخامسها : أنّ شهادة فرع الفرع غير مسموعة ، سيّما إذا كان متنازلا بمراتب ، كما فيما نحن فيه.

ويظهر الجواب عنه ممّا تقدّم من منع كونه شهادة ، وحصول اليقين في كثير منهم بديهة ، وكفاية الظنّ في بواقيهم.

وسادسها : أنّه لا يمكن العلم بالمعدّل والمجروح غالبا بسبب اشتراك الإسم ، ولا يمكن العلم بصحّة السّند من جهة احتمال السّقط ، فلعلّ ما سقط من الرّواة كان ضعيفا ، فلا فائدة في الجرح والتّعديل ، فلا فائدة لمعرفة علم الرّجال.

وفيه : أنّا إذا بنينا على العمل بالظنّ ، فالمدار على الظنّ ، فإذا حصل لنا ظنّ بسبب القرائن من جهة الرّاوي والمرويّ عنه وطبقة الرّجال ونحو ذلك ، يكون الرّجل واحدا معيّنا من المشاركين في الإسم فنتّبعه ، فإذا لم يحصل ، فنتوقّف.

وكذلك كلّ ما يحتمل السّقط ننفيه بأصل العدم ، إلّا إذا حصل قرينة يحصل بها

٢٦٩

الظنّ بالسّقط ، فنتوقّف.

وسابعها : أنّا نرى الغفلة والخلط في كثير من طرق روايات الشّيخ عند نقل الأخبار من الأصول ، كما أنّه روى عن صاحب الأصل عمّن روى عن الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ صاحب الأصل رواه بواسطة أو واسطتين عمّن روى عن الإمام عليه‌السلام فهذا مرسل مقطوع ، والغافل يتوهّم كونه مسندا كما وقع ذلك في كتاب «الحج» في روايات الشيخ عن موسى بن القاسم البجليّ ، فكذلك ربّما يذكر الشيخ رحمه‌الله عن «الكافي» حديثا يحسب النّاظر أنّه معلّق ، لأنّ الكلينيّ رحمه‌الله لم يدرك الرّاوي ، مع أنّ الكلينيّ رواه في «الكافي» مسندا وإنّما حذف أوّل السّند فيه اعتمادا على ما تقدّمه من الرّواية.

وكذلك كثيرا ما يشتبه في الأسناد كلمة المجاوزة بواو العطف ، فيذكر مكان الأوّل الثاني وبالعكس ، وأمثال ذلك ، فلا يبقى فائدة في الجرح والتّعديل وتصحيح الإسناد مع إمكان حصول أمثال ذلك فيما لم يظهر لنا حصوله فيه.

والجواب عن جميع ذلك : أنّ السّهو النّادر والغفلة القليلة لا يوجب انتفاء الظنّ الحاصل من ظاهر حال الثّقة الضّابط ومن جهة الكثرة والغلبة ، إذ لا شكّ ولا شبهة أنّ إصابة هؤلاء الأعاظم أكثر من زلّاتهم ، وحفظهم أغلب من سهوهم.

وبالجملة ، إنكار حصول الظنّ من ملاحظة حال الرّجال مكابرة ، فالأولى ترك الالتفات إليها.

العاشر

أن يكون عالما بمواقع الإجماع ليحترز عن مخالفته ، وهو ممّا لا يمكن في أمثال زماننا غالبا إلّا بمزاولة الكتب الفقهيّة الاستدلالية ، بل متون الفقه أيضا.

٢٧٠

ومن ذلك يظهر أنّ معرفة فقه الفقهاء أيضا من الشّرائط لا من المكمّلات ، كما ذكر بعضهم ، فإنّ الإنصاف أنّ فهم الأخبار أيضا ممّا لا يمكن إلّا بممارسة تلك الكتب ومزاولتها ، فضلا عن معرفة الوفاق والخلاف ، وموافقة العامّة والمخالفة وغير ذلك.

الحادي عشر

أن يكون له ملكة قوية وطبيعة مستقيمة يتمكّن بها من ردّ الفروع الى الأصول ، وإرجاع الجزئيّات الى الكلّيّات والتّرجيح عند التّعارض ، فإنّ معرفة العلوم السّابقة غير كافية في ذلك ، بل هي أمر غريزيّ موهوبيّ يختص ببعض النّفوس دون بعض ، فإذا كانت هذه الحالة موجودة في نفس وانضمّ إليها معرفة [العلوم] السّابقة ، فيحصل له ملكة الفقه ، يعني قوّة ردّ جزئيّاته الى كليّاته.

وأصل تلك الحالة لا يحصل بالكسب ، بل له مدخلية في زيادتها وتقويتها. إذا أردت معرفة ذلك فلاحظ من ليس له الطّبع الموزون ، فإنّه لا ينفعه تعلّم علم العروض ، وكذلك سائر العلوم ، فربّما يصير شخص ماهرا في علم الطبّ ولا يقدر على معالجة المرض.

وكذلك حال استقامة الطّبع فإنّه أيضا أمر غريزيّ لا مدخليّة للكسب فيها.

والمراد بالملكة المتقدّمة هو أن يكون المجتهد قادرا على ردّ الجزئيّات الى الكلّيّات بحسب نظره ، لا في نفس الأمر ، وإلّا فيلزم كون أحد من المجتهدين المختلفين في المسائل ذا ملكة دون غيره ، وهو ظاهر البطلان ، لأنّا نشاهد الفقهاء الفحول المعتنين المتخالفين في المسائل غاية المخالفة ، ولا ريب في كون الجميع ذوي ملكات قدسية ، وسرعة الانتقال وبطؤه لا مدخلية لها في حقيقة الملكة ، بل

٢٧١

السّرعة فضيلة أخرى يؤتيها الله تعالى من يشاء.

وأمّا استقامة الطّبع فهي في مقابل اعوجاج السّليقة ، والاعوجاج من المعايب الحاصلة للذهن ، كالاعوجاج الحاصل للبدن ، لمّا كان الأصل والغالب هو الصحّة ، فالمناط في معرفتها الرّجوع الى غالب الأفهام ، وإلّا فالذي يكون معوّج السّليقة لا يعرف بنفسه أنّ طبيعته غير مستقيمة.

ولا يذهب عليك أنّ المراد بالاستقامة ليس إصابة نفس الأمر ، وإلّا فيلزم الحكم باعوجاج سليقة أغلب الفقهاء بسبب اختلافهم في ردّ الفروع الى الأصول ، بل المراد أن يكون ذلك الردّ ممّا لا يأبى صحّته الأفهام الغالبة ، وإن كان مرجوحا عند من خالفه في الردّ فمرجوحيّة أحد الأقوال المتخالفة أو كثير منها بالنّسبة الى الآخر ليس معناه عدم الاستقامة ، ولا يلزم منه الحكم باعوجاج طبع صاحبه.

والحاصل ، أنّ المجتهدين المختلفين حين يستفرغون وسعهم في تحصيل نظر كلّ واحد منهم من الدّليل ما لا يحكم من اقتصر نظره عليه من أصحاب الأفهام السّليمة إلّا به ، فمخالفة الآخر له مع استقامة طبعه إنّما هو لخفاء ما ، ظهر له من الوجوه عليه ، أو لظهور ما يبطل ما فهمه الآخر عليه ، فتفاوت أفهامهم حينئذ إنّما هو بسبب تفاوت ظهور المأخذ وخفائه ، لا بسبب الاستقامة والاعوجاج.

ثمّ إنّ القاعدة التي ذكرنا من عدم تكليف الغافل والجاهل في المباحث السّابقة يقتضي جواز عمل غير مستقيم الطّبع أيضا على مقتضى فهمه في المبادئ ، ولكن مع تفطّنه لاحتمال الاعوجاج وتقصيره في التفحّص فليس بمعذور ، فعليه أن يعالج نفسه ويتفحّص عن حالها ، ويعرض فهمه على فهم مشاهير العلماء المسلّمين للكلّ ، المعتنين عند أولي الأفهام. ويستعلم حاله بهذا الميزان المستقيم

٢٧٢

والقسطاس القويم ، فإذا ظهر له الاعوجاج ، فليتحرّز عن العمل برأيه ، وممّا ذكرنا يظهر حال مقلّده أيضا.

ثمّ إنّ الاحتياج الى الملكة المذكورة ممّا لا ريب فيه ، إذ كثيرا ما يكون في فرديّة بعض الأفراد للكليّ ولزوم بعض اللّوازم للملزومات ، خفاء لا يهتدي إليها إلّا من أيّده الله تعالى بهذه الملكة والقوّة القدسيّة ، مثلا : اختلف الفقهاء في أنّ من يريد الحجّ وفي طريقه عدوّ لا يندفع إلّا بمال وهو يقدر عليه ، فهو مستطيع أو ليس بمستطيع.

فمنهم من أدرج ذلك في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) وأنّ هذا من أفراد المستطيع لإطلاق المستطيع عليه عرفا. فكما أنّ الواجد للمال في بيته إذا طالب منه غريمه خارج البيت لا يمكن له الاعتذار بأنّي غير واجد فلا يجب عليّ إذا تمكّن من دخول البيت وإخراج المال ، فكذلك فيما نحن ، فلا يشترط الفعليّة وعدم المانع أصلا في صدق الإسم.

ومنهم من لم يدرجه لأنّ الحجّ واجب مشروط بالاستطاعة ، والأصل عدم الوجوب ما لم يعلم حصول الشّرط ، ومع وجود هذا العذر لا يعلم حصول شرط الاستطاعة.

وربّما يستدلّ بأنّه إعانة على الإثم ، فيحرم ، فهذا يرجع الى نزاع آخر ويحتاج الى الملكة في معرفة اندراج ذلك في الإعانة على الإثم والظّلم وعدمه.

والحقّ عدم الاندراج لأنّ المحرّم إنّما هو الإعانة على الظّلم من حيث إنّه ظلم.

مثال آخر ، يعتبر قصد تعيين البسملة في قراءة السّورة ، والغافل يحسب أنّه لا

__________________

(١) آل عمران : ٩٧

٢٧٣

دليل عليه. ومن قال باشتراطه استدلّ عليه بالأوامر الدالّة على وجوب قراءة السّورة الكاملة ، فيحصل الإشكال في اندراج قراءة السّورة التي لم يقصد تعيين البسملة لها في قراءة السّورة الكاملة وعدمه.

والحقّ عدم الاندراج كما شرحناه في موضعه.

واعتبار هذه الملكة لا اختصاص له بالفقه ، بل جميع العلوم يحتاج إليها لأنّه مقتضى ردّ الفروع الى الأصول والجزئيّات الى الكلّيّات ، ولا بدّ في علم أصول الفقه ـ مثلا ـ أيضا من تلك الملكة ، فالذي يحتاج إليه في مسألة مقدّمة الواجب مثلا في الأصول إنّما هو ملكة إثبات أنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذي المقدّمة أم لا.

وفي الفقه أنّ ذلك الأمر الفلانيّ هل هو مقدّمة للأمر الفلانيّ أم لا؟ وهكذا في مسألة اقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عن ضدّه الخاصّ ، الى غير ذلك من الأمثلة.

والمنازع في اعتبار الملكة ، وإن كان لا يستحقّ الجواب لكون كلامه مخالفا لجليّ البرهان ، بل للبديهة ، لكن نشير إليه لتنبيه الغافلين.

فمن شبهاته أنّه ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية على القولين. لأنّا نعلم بالعيان أنّ كثيرا من النّاس ليس له تلك الملكة ، وإن خصّصناه بذوي الملكات فهو أيضا باطل ، لأنّه قبل الاجتهاد. ومزاولة الفقه لا يظهر له بعد السّعي أنّه ذو ملكة أم لا ، فمع عدم العلم بالشّرط كيف يجب عليه ، مع أنّ كثيرا من المشتغلين يظهر له بعد السّعي وبذل الجهد أنّه فاقد لها ، فكيف حكم الحكيم العدل بوجوبه عليه مع فقدان الشّرط ، وقد مرّ أنّه لا يجوز التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشّرط.

وجوابها : أنّ هذا الكلام يجري في أصل التّحصيل وطلب العلم بالعلوم العربيّة وغيرها ، فإنّ كثيرا من النّاس يعلم من حاله عدم الاقتدار أوّلا ، وكثيرا منهم يعلم

٢٧٤

من حاله عدم الاقتدار بعد صرف مدّة من عمره.

والحلّ أنّ من علم من حاله عدم الاقتدار وعدم الملكة ، فليس بمكلّف جزما ، وهو مخرج عن العمومات بالبرهان القاطع ، ومن لم يعلم حاله في الاقتدار والملكة ، فتكليفه ابتلائيّ كما حقّقناه في محلّه في مباحث الأوامر ، وذلك كتكليف الحائض في الصّبح بالصّيام مع تحيّضها في العصر في نفس الأمر ، فوجوب الاجتهاد للمكلّفين مثل وجوب الصّوم لها.

ومنها : أنّ اشتراط الملكة يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد ، ومعه لا يمكن الامتثال غالبا في أمثال هذا الزّمان ، فيقبح التكليف.

وأمّا الاستلزام فلأنّه أمر خفيّ مع أنّه غير منضبط لاختلاف الطّبائع فيها غاية الاختلاف ، فلا يظهر ما هو المعتبر منها للعوامّ.

وفيه : أنّ ذلك كلام يقال في أصل معرفة المجتهد ، وسيجيء جوابه وبيان إمكانه ، وأنّ ذلك شبهة في مقابل البديهة.

ومنها : أنّهم عليهم‌السلام قرّروا لنا قواعد يستنبط منها بعض المسائل ، ولا حاجة لنا فيها الى تلك الملكة. نعم ، قد وضع الأصوليّون قواعد مبتنية على أدلّة مدخولة ومباني ضعيفة ، مثل : أنّ مقدمة الواجب واجب ، والأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه الخاص ، وأنّ الأمر والنّهي لا يجتمعان ، وأنّ استصحاب الحال حجّة يحتاج استنباط المسائل منها الى تلك الملكة. وهذه قواعد واهية لا يحتاج إليها ولا يجوز التمسّك بها.

أقول : ومن القواعد التي قرّروا لنا ، قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو

٢٧٥

لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» (١). وقد عرفت الإشكال فيها ، وأنّ المراد منها هل هو موضوع الحكم ومحلّه ، أو نفس الحكم ، أو ما يشملهما.

ثمّ المراد من الموضوع والمحلّ أيّ معنى ، وإجراء حكم هذه القاعدة في تلك المحتملات أصعب شيء. وهكذا الكلام في قولهم عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢). فإنّ الإشكال في أنّ كلّي الماء القليل الذي هو محلّ نزاع الباحثين فيه ، يدخل في هذا ، فيمكن الاستدلال على عدم قبول مطلق الماء القليل للنجاسة من جهة عدم ظهور حكمه من الشّارع من جهة اختلاف الأدلّة أو هو يختصّ بالمصاديق الموجودة في الخارج التي لم يعلم طريان النجاسة عليها.

وهل المراد منه استصحاب الطّهارة فيكون المراد كلّ ماء طاهر أم لا؟ الى غير ذلك من المحتملات في الحديث.

ولا ريب أنّ معاني تلك القواعد المستنبطة من تلك الأخبار ليست ممّا اتفقت عليها الأفهام السّليمة ، بل هم مختلفون في أنّ الظّاهر منها ما ذا.

فعلم أنّه من النّظريّات المحتاجة الى الملكة ، وكلّ ذي ملكة يحكم بما يفهمه من التفريع والردّ.

وأمّا قوله : وهذه قواعد واهية ، الخ. فقد مرّ الجواب عنه مشروحا.

ومنها : أنّ هذه الأحاديث والأخبار كان يعمل بها في عصر الأئمة عليهم‌السلام كلّ من سمعها ، عالما كان أو عاميّا ، وتقريرهم عليهم‌السلام إيّاهم على ذلك يدلّ على أنّ كلّ من فهمها يجوز أن يعمل بها من دون توقّف ، على شرط آخر من الملكة وغيرها.

وفيه : أنّ العمل على ما يسهل فهمه منها للعاميّ وغيره ، لا يوجب عدم اشتراط

__________________

(١) «الوسائل» ٢٥ / ١١٨ ح ٣١٣٧٦.

(٢) «الوسائل» ١ / ١٣٤ ح ٣٢٦.

٢٧٦

العمل على ما يفهمه كلّ أحد بتلك الملكة.

ومرادنا أنّ من يريد اقتناص كلّ ما يمكن أن يستخرج من تلك الأدلّة منها ويحتاج الى ذلك ، لا بدّ أن يكون له تلك الملكة ، وهو المجتهد.

وكذلك الجواب عمّا قد يقال : إنّهم كانوا يعملون بالأخبار بدون الفحص عن المعارض وحصول الملكة المحتاج إليها في علاج التّعارض ، فإنّ عدم احتياج المشافهين للأئمة عليهم‌السلام ومن في معناهم الى علاج المعارضة ، وحصول تلك الملكة لهم لعدم عثورهم على المعارض ، أو عدم تفطّنهم لاحتمال وجوده أو لتمكّنهم عن السّؤال عن إمامهم لا ينفي احتياج غيرهم إليها.

وأمّا ما يقال : إنّ عموم تكليف المكلّفين بالعمل بالأخبار يدلّ على أنّ العمل بالأفراد الخفيّة واللّوازم الغير البيّنة التي لا يهتدي إليها الأكثرون ولا يعرفون فرديّتها ولزومها إلّا بعد النّظر ، والاستدلال غير لازم ، وإلّا لزم التّكليف بما لا يطاق بالنسبة الى غير المتمكّنين ، فهو في غاية السّخافة ، فإنّ ذلك يستلزم عدم تكليف العجميّ بمضمون آيات القرآن والأخبار مطلقا.

فإن قلت : إنّهم مكلّفون بالعمل بها بسبب أنّهم قادرون على التعلّم والأخذ ممّن يعلم.

فنقول : مثله فيما نحن فيه.

وأيضا فلا ريب في اختلاف مراتب أفهام المكلّفين في فهم الأفراد الظّاهرة أيضا ، فيكون التّكليف بالظّواهر والمنطوقات أيضا غير منضبطة ، وهو مناف للحكمة ، والنّصوص أيضا قد يختلف حالها ، فقد يكون لفظ نصا عند مكلّف وظاهرا عند آخر ، وهكذا.

فالتّحقيق ، أنّ المكلّف به ، منها ما يمكن أن يفهم من اللّفظ ولو عند جماعة

٢٧٧

خاصّة من الأذكياء ، وعدم فهم غيرهم من العامّة لا يوجب عدم تكليفهم بها ، فإن لم يتفطّنوا لها ولا احتمال إرادتها ولزوم الفحص عنها ، فالجاهل والغافل معذوران ، وإن تفطّنوا فتكليفهم الرّجوع الى العامّ المتمكّن.

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي ما قدّمناه في مباحث العموم والخصوص والإطلاق والتّقييد من أنّ الإطلاق ينصرف الى الأفراد الشّائعة ، وأنّه ليس بحجّة في الأفراد النّادرة ، فإنّ المراد من الأفراد النّادرة ثمّة ما لا يحصل الظنّ بإرادتها وإن حصل القطع بفرديّتها.

ومن الأفراد الخفيّة هنا ما يحصل الظنّ أو القطع بفرديّتها وبإرادتها بعد التأمّل والنّظر.

والفرق بين ظنّ فرديّة شيء للكلّي وظنّ إرادة فرد من الكلّي واضح ، والأوّل يرجع الى نوع تصرّف في الكلّي ويستلزم التّشكيك في حقيقته. فإنّ الشّك في كون ماء السّيل ما يوجب الشّكّ في أنّ ماهيّة الماء هل له وسعة يشمل هذا الفرد أم لا ، ولكنّ الشّك في دخول الفلس المهجور في بلد في قول القائل : بع بالنّقد ، ليس تصرّفا في الكلّي ، لأنّه لا ريب في كونه نقدا ، بل الإشكال إنّما هو في إرادة هذا الفرد.

ثمّ إنّه يدلّ على جواز العمل بالأفراد الخفيّة واللّوازم الغير البيّنة أيضا قولهم عليهم‌السلام : «علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (١). وبمضمونه

__________________

(١) من جامع البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : علينا إلقاء الأصول إليكم وعليكم التّفرّع. كما في «البحار» ٢ / ٢٤٥ ح ٥٣ عن «السّرائر» ، ومثله ح ٥٤ عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا. وروى في «الغوالي» مثله أيضا عن زرارة وأبي بصير عن الباقر والصادقعليهم‌السلام.

٢٧٨

روايتان صحيحتان رواهما البزنطيّ عن الرضا عليه‌السلام وهما مذكورتان في آخر «السّرائر».

ثمّ إنّ تحقّق هذه الملكة واستقامتها وجواز الاعتماد عليها كما ذكره بعض المحقّقين ، يستدعي أمورا :

منها : عدم اعوجاج السّليقة ، وقد مرّ الإشارة إليه.

ومنها : أن لا يكون جربزيا (١) لا يقف ذهنه على شيء ، ولا بليدا لا يتفطّن بالدّقائق ويميل الى كلّ ناطق حيّ ، بل لا بدّ أن يكون له ثبات فيما يرجّحه ويرتضيه ، وذلك لا ينافي جواز تبدّل الرّأي مع تجديد النّظر ، وأن يكون فطنا حاذقا ينقل ما ورد عليه من المسائل الى مظانّها ومأخذها ، ويعود من تلك المآخذ الى تلك المسائل.

ومنها : أن لا يكون جريئا (٢) في الفتوى غاية الجرأة ، ولا مفرّطا في الاحتياط ، فإنّ الأوّل يهدم المذهب والدّين ، والثّاني لا يهدي الى سواء الطّريق ولا يقضي حاجة المسلمين ، بل ربّما يشوّه الدّين ويشوّش الشّرع المبين.

ومنها : أن لا يكثر من التّوجيه والتّأويل ، ولا يعوّد نفسه بذلك ، فإنّه ربّما يجعل بذلك الاحتمال البعيد من الظّواهر لأنسه بذلك ، فإنّ للأنس بكلّ طريقة أثرا بيّنا في إزلال (٣) الذّهن وإضلال الفكر عن الصّراط السّوي.

__________________

(١) معرّب عن كربز بضمّ الكاف الفارسية ، وتأتي تارة بمعنى الفهيم في الغاية ، ويقال للطرف الإفراطي من الحكمة كربزي وجربزي ، والطرف التّفريطي الخمود والبلادة فالحكمة هي الاعتدال بينهما.

(٢) في نسخة الأصل (جريّا).

(٣) في نسخة الأصل (إذلال) والذي يبدو لي أنّ ما اثبتناه أصح. وهي من حمله على الزّلل وهو الخطاء والذّنب يقال : استزلّني الشّيطان أي أزلّني وخدعني.

٢٧٩

ومن جملة ذلك الأنس بطريقة الحكمة والرّياضيّ والنّحو وغير ذلك ، فإنّ طريقة فهم هذه العلوم مباينة لفهم الفقه ، فربّما رأينا بعضهم يقول في القدح في بعض الأدلّة الفقهيّة : يحتمل أن يكون المراد منه كذا ، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ، وأنت خبير بأنّ الفقه أكثره ظنيّ وأدلّتها ظنيّة.

ومعنى الظنّ قيام الاحتمال ، فبذلك لا ينتظم أساس فقه هؤلاء لتكثيرهم الاحتمال وإبطالهم الاستدلال.

ومنها : أن لا يكون بحّاثا يحبّ البحث ، وذلك المرض قد يكون طبيعيّا كالعقارب المجبولة على حبّ اللّسع ، وقد يكون لحبّ الرّئاسة وإظهار الفضيلة. فمثل هذا الشّخص لا يرجى له الاستقامة على الحقّ ، وإيّاك والمكالمة مع مثله ، واستعذ بالله من خلقه إلّا أن تظنّ إمكان إرشاده الى الحقّ وردعه عن ذلك المنكر ، ويقرب من ذلك كونه لجوجا عنودا.

ونحن رأينا كثيرا من صلحاء العلماء مبتلى بهذا المرض ، فإذا تكلّم بشيء في بادئ النّظر غفلة أو لأجل شبهة سبقت إليه ، فيلجّ ويكابر ويصادر بالمطلوب ، وربّما يتمسّك بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، إمّا من جهة خروجه عن الحالة الطّبيعية المدركة مقتضى حالته الأخرى المنكرة ، أو للعناد والخوف عن خمود الذّكر.

ومنها : أن لا يكون مستبدّا بالرّأي في حال قصوره ، بل في حال كماله أيضا ، فإنّ الجهل جبلّة الإنسان ، والغفلة والسّهو كالطّبيعة الثّانية له.

٢٨٠