القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

وكتاب «القسمة» كذلك تتفرّع مسائلها على حديث : «لا ضرر ولا ضرا»(١).

وكذلك كتاب «القضاء» أكثر مسائلها ينشعب من قولهم : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (٢) ، وهكذا. فلا غرو أن يتفرّع على استحالة القبح على الله تعالى امتناع اجتماع الأمر والنّهي على القول به.

وكذلك وجوب المقدّمة على القول به بناء على الدّليل المشهور من لزوم تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن وجوبه لولاه ، وكذا غصون ما ينشعب من هذه الفروع المذكورة في كتب الأصول.

والحاصل ، أنّا نقول مثلا : إنّ من فعل الصلاة في الدّار الغصبيّة يحتاج الى معرفة أنّ صلاته صحيحة أم باطلة ، وعمومات الأمر بالصلاة تقتضي الصّحة ، وعمومات النّهي عن الغصب يقتضي التّحريم.

فهل التّحريم مقتض للبطلان ، أو موافقة الأمر مقتض للصحة ، فوقع التّعارض بين مقتضى الدّليلين ، فمن لم يبن أساسه على أحد الطّرفين لا يمكن له معرفة الحكم الشّرعيّ.

وهكذا من وجب عليه أداء الدّين مع المطالبة وضيق الوقت وصلّى في سعة الوقت فهل تصح صلاته أم لا؟ فمن لم يحقّق أنّ الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ أم لا؟ وهل النّهي يقتضي الفساد أم لا؟ لا يمكنه معرفة الحكم ، وهكذا.

واعترض بعض الأفاضل (٣) : أنّ المسألة إمّا أن يمكن الاحتياط فيها من

__________________

(١) «الوسائل» ١٨ / ٣٢ ح ٢٣٠٧٣.

(٢) «الوسائل» ٢٧ / ٢٩٣ ح ٣٣٧٨١.

(٣) وهو السيد صدر الدّين في شرحه على «الوافية».

٢٤١

حيث العمل ، والتّوقّف من جهة الإفتاء ، كالصّلاة في الدّار المغصوبة مثلا عند تمكّن المكلّف من الصلاة في غيرها من غير عسر وحرج ، فلا يصلّي فيها ، ويقول للمستفتي : لا تصلّ ، لأنّ الأخذ بالاحتياط مندوب إليه والحكم غير منصوص عليه فاعمل بالاحتياط ولا يضرّنا ، وإيّاك الجهل بالحكم ، ولا يمكن كالفعل الدّائر بين الوجوب والحرمة عند فرض دليل أخرجه عن الأحكام الثّلاثة الباقية وفقد النصّ الذي يدلّ على أحدهما ، فحينئذ يعمل بالعمومات المطلقة عملا بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١). أو بقوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (٢).

هذا إذا لم يكن عبادة أو كان وجاز فعله لا من حيث هو كذلك ، أو يتركه عملا بقوله : «وشبهات بين ذلك فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات» (٣). أو بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٤). وترك مثل هذا الفعل وقوف ، كما أنّ عدم الإفتاء وقوف.

وبالجملة ، فنحن ببركات أئمتنا عليهم‌السلام لا نحتاج الى هذه القواعد الظّنيّة المأخذ.

أقول : لا يخفى ما في هذا الكلام من عدم الارتباط بالمأخذ وتهافته ، فإنّ الصّلاة في الدّار الغصبيّة ممّا لا إشكال في حرمته حتّى لا يحتاج الى الاحتياط ، بل حرمته إجماعيّة ، إنّما الكلام في الصحّة والبطلان.

وما ذكره من الاحتياط لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فالكلام حينئذ إنّما هو في

__________________

(١) «الوسائل» : ٦ / ٢٨٩ ح ٧٩٩٧.

(٢) «الوسائل» ١٧ / ٨٨ ح ٢٢٥٠.

(٣) «الوسائل» ٢٧ / ١٥٧ ح ٣٣٤٧٢.

(٤) «الوسائل» ٢٠ / ٢٥٩ ح ٢٥٥٧٣.

٢٤٢

وجوب الإعادة والقضاء والحكم بالبطلان ، فيكون الاحتياط في القضاء أو الإعادة مثلا فنقول حينئذ : إذا كان الاحتياط مندوبا فللمكلّف أن يتركه ولا اعتراض عليه ، ولا تكليف مع الجهل للزوم التّكليف بالمحال.

فإن قلت : بعد ثبوت التّحريم فلا مانع من هذا التّكليف ، لأنّ المكلّف صار بنفسه سببا له.

قلت : ما تقول إذا تاب ورجع وأراد التّخلّص ، والقدر المسلّم من جواز ما ذكرت إنّما هو ما قبل التّوبة ، فلا بدّ إمّا من القول بوجوب الاحتياط ، أو الرّجوع الى البراءة الأصليّة أو إلى المسألة الأصولية.

والأوّل : مع أنّه ضعيف كما حقّقناه لا تقول به.

والثاني : رجوع الى أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد ، ليثبت كونه ممّا لا نصّ فيه ، ليجري فيه الأصل ، وهو اختيار لأحد شقّي المسألة الأصولية.

ثمّ إنّ الرّجوع الى كلّ واحد من أصل البراءة والاحتياط أو التحريم ، مستفاد من أخبار الآحاد. ومن أين جاز لك العمل بخبر الواحد ، أليس جواز العمل بخبر الواحد أيضا مسألة أصوليّة ، فمن جوّز لك العمل به؟

فإن قلت : ثبت بالإجماع.

قلت : بل الإجماع مدّعى على خلافه من قدماء الأصحاب ، وقد حقّقنا في محلّه ، أنّه لا دليل عليه إلّا كونه ظنّا اجتهاديّا.

سلّمنا ، لكن من أين ترجيح أحد هذه الأخبار ، والجمع وعلاج التّعارض أيضا من المسائل الأصولية المبتنية على الظّنون.

ثمّ إن قلت : بالتّخيير بين مقتضيات تلك الأخبار ، أي الاحتياط والبراءة الأصليّة والتوقّف.

٢٤٣

قلت : من أين ثبت لك جواز التخيير؟ فإن راجعت الى الأصل أو خبر الواحد فيرجع المحذور ، مع أنّ تلك الأخبار المذكورة لا تدلّ على الاستحباب.

ثمّ من العجائب أنّ هذا الفاضل قال بجواز اجتماع الأمر والنّهي في مبحثه ، ثمّ ذكر مثل هذا الكلام في هذا المقام.

وأيضا نقول : أصل البراءة والاحتياط والتّوقّف أيضا من المسائل الأصولية ، وإن جعلت المناص لك أنّ هذه مستفادة من الأدلّة القطعيّة ، وما ذكره الأصوليّون في عدم جواز اجتماع الأمر والنّهي أو جوازه ، ودلالة الأمر بالشّيء على بطلان ضدّه وعدمها من القواعد الظّنيّة ، كما يظهر من آخر كلامك.

فنقول أوّلا : من أين ثبت لك القطع في هذه المسائل مع كون أخبارها ظنيّة ، وكذا علاج تعارضها؟

وثانيا : إنّ كلّ واحد من الطّرفين يدّعي القطع في المسألة الأصوليّة. مثلا المعتزلة وأكثر الإماميّة يقولون باستحالة اجتماع الأمر والنّهي لاستلزامه التّكليف بالمحال أو التّكليف المحال ، ويدّعون القطع ، ومخالفوهم أيضا يدّعون القطع بعدم الاستحالة.

وقد حقّقنا في المباحث السّابقة أنّ المكلّف به هو القطع الحاصل في نفس المكلّف إذا لم يقصّر وإن لم يطابق الواقع. مع أنّك تعترف بأنّ العقل يستقل بالحكم في بعض الأشياء ، كحسن الصّدق النّافع والإحسان ، وقبح الكذب الضّار والعدوان. وكون الشّيء ممّا يستقل به العقل أيضا من المسائل الاجتهاديّة ، فقد يحكم بعضهم بكون حكم منه والآخر بخلافه.

ولا ريب أنّ كلّ واحد مكلّف بما يفهمه ، وقد مرّ في الكلام على الاجتهاد في أصول الدّين ما يرشدك الى ما ذكرنا ، فتسميتك ذلك ظنّا ، وما استفدته من أخبار

٢٤٤

الاحتياط والتّوقّف قطعا من أيّ جهة؟ وما وجهه؟

مع أنّا قد حقّقنا أنّه لا مناص عن العمل بالظنّ ، وأنّ ظنّ المجتهد ممّا لا مناص عن العمل به ، وبيّنا ذلك في مباحث أخبار الآحاد بما لا مزيد عليه ، وسنبيّنه أيضا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّ البديهة حاكمة بوجوب العمل بأوامر الشّرع ونواهيه ، ومن علم العلوم العربية فهو ممّن يفهم الأوامر والنّواهي ، فالحكم عليه بوجوب التّقليد المنهيّ عنه بمجرّد جهله بمسائل الأصول ممّا لا دليل عليه ، بل لا عذر له في التّقليد ، وليس مثله مع التّقليد إلّا مثل شخص حكّمه ملك على ناحية وعهد إليه أنّه متى أخبره ثقة بأنّ الملك امرك بكذا ونهاك عن كذا فعليك بالطّاعة والعمل بالأمر والنّهي ، وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فهو يترك العمل بما سمع من الأوامر والنّواهي من الثّقات معلّلا بجهله بمسائل الأصول والمنطق ، فإنّ استحقاقه للذمّ حينئذ ممّا لا ريب فيه.

أقول : دعوى بداهة وجوب العمل بالأوامر والنّواهي علينا مع عدم تجويزهم العمل بظواهر الكتاب ، والنّزاع العظيم بين العلماء في حجّية أخبار الآحاد ، ودعوى جماعة من الفحول الإجماع على عدم الجواز غريب.

وما ذكره إنّما يتمّ لو ثبت كون ما ورد في الأخبار ، أمر الشّارع لا غيره ، ومتوجّها إلينا لا الحاضرين ، وغاية ما يمكن دعوى الظنّ بكونه أمر الشّارع ، وستعلم ضعف ما يدّعونه من قطعيّة أخبارنا بما لا مزيد عليه ، مع أنّ من يفهم العربيّ إنّما يفهم من هذه الأخبار ما هو موافق لعرفه واصطلاحه ، لا ما يفهمه المخاطبون بتلك الخطابات ، وإنّما الحجّة هو ما أراده المعصوم عليه‌السلام وفهمه منه المخاطبون الّذين وافق اصطلاحهم له عليه‌السلام. وفهم مرادهم لا يتمّ إلّا بمعرفة كثير

٢٤٥

من المسائل الأصوليّة من مباحث الحقائق الشرعيّة والنّقل والأصل والاستصحاب والبحث والفحص عن المخصّص ، وغير ذلك من القواعد الأصولية.

وممّا ذكرنا يعلم الجواب عن المثل الذي ذكره ، فإنّه قياس مع الفارق ، لأنّ زمان الملك ومن حكّمه واحد ، ولسانهما متّحد ، ومع مخالفتهما فالمترجم والمعرّف كاف. فقد لا يحتاج الى مسألة اخرى غير ما بيده من القواعد المتعارفة التي مبنى تحاورهما عليها ، وإن لم يدوّناها على التّفصيل ولم يضبطاها على الانفراد ، مع أنّ لنا أن نمشي ممشاك في إنكار ما هو الحقّ الحقيق بالقبول ونقلت [ونقلب] عليك. ونقول : من أين يجوز للحاكم أن يعمل بما عهد إليه مع احتمال نسخه بعد ذلك أو تخصيصه أو أنّ مراده هل الثّقة النّفس الأمريّ أو من هو ثقة عند الملك ، أو من هو ثقة عند الحاكم؟ فيجب عليه الفحص عن ذلك.

وأيضا الأمر الذي نقله الثّقة هل هو على حقيقته أم لا؟ وأنّه إذا نقله الثّقة بعد نقله النّهي في طيّ كلامه في هذا المرام أنّ ذلك الأمر هل هو للوجوب أو للرخصة؟ وكذلك النّهي بعد الأمر وغير ذلك من القواعد ، فإذا لم يراع ذلك الحاكم هذه القواعد ، فكيف يمكنه العمل على مراد الملك؟

فإن قلت : إنّ الحاكم بسبب اتّحاد الاصطلاح ومقارنة العهد وملاحظة القرائن يفهم ذلك بدون الاحتياج الى هذه القواعد.

قلت : فأين مثل هذه فيما نحن فيه؟

وكذلك يظهر الجواب ممّا ذكره عن قوله : وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فإنّ بيان المخلص لنا إن كان من القواعد الأصوليّة فيضرّك ، وإن كان من الأخبار ، فنقول : ما ورد في الأخبار من هذا القبيل متعارض غاية التّعارض ،

٢٤٦

والرّجوع في علاج تعارضها الى نفس تلك الأخبار دوريّ وسيجيء الكلام فيه.

ومنها : أنّ علم الأصول ليس إلّا نقل الأقوال المتفرّقة والأدلّة المتخالفة.

وفيه : أنّ تفرّق الأقوال وتخالف الأدلّة إن كان موجبا لبطلان العلم ، فلا يبقى في الدّنيا علم كان له أصل ، سيّما علم الفقه الذي هو أساس الشّريعة. مع أنّا لو سلّمنا أنّ مقتضى قواعدكم التخيير بين الأخبار واختلاف فقهكم إنّما هو من جهة رخصة الشّارع وإعراضنا عمّا يرد على ذلك ، فما تقولون فيما وقع الاختلاف بينكم بسبب اختلاف أفهامكم في الجمع بين الأخبار وفي فهم معانيها ، فهل العمل على ذلك مقتضى قاعدة أصوليّة (١) أو ورد النصّ بذلك؟

فإن قلتم : إنّ مقتضى ما دلّ عليه النقل والعقل من لزوم تكليف ما لا يطاق لو لم نعمل على ما نفهمه.

قلنا : نظير ما قلتم في الإنكار على العمل بقاعدة اجتماع الأمر والنّهي ، فهل ترجعون في مثل ذلك الى العمل بأصل البراءة أو الحظر أو التوقّف ونحوها؟

ومن أين ثبت لكم أنّ فهمكم هذا حجّة عليكم في صورة الاختلاف؟

وبالجملة ، هذه الشّكوك الواهية عمدة شكوكهم ، ومنها تعرف حال ما لم نذكره.

السّابع

العلم بتفسير آيات الأحكام ومواقعها من القرآن أو الكتب الاستدلالية بحيث يتمكّن منها حين يريد ، وهي خمسمائة آية عندهم.

وبعض الرّوايات التي تدلّ على تقسيم القرآن أثلاثا : الى السّنن والفرائض

__________________

(١) في نسخة الأصل (الأصولية).

٢٤٧

وصفة أهل البيت عليهم‌السلام وأعدائهم ، أو أرباعا : فيهم عليهم‌السلام ، وفي عدوّهم ، وفي السّنن والأمثال ، وفي الفرائض والأحكام ، ونحو ذلك ، فهي ليست على ظاهرها كما لا يخفى.

ولعلّ المراد تقسيم مجموع القرآن من الظّهور والبطون ، وإلّا فلا يستفاد من ظاهرها إلّا المقدار المتقدّم ، وقد مرّ الكلام على حجّية ظواهر القرآن من الأخباريين والجواب عنهم فراجع.

الثّامن

العلم بالأحاديث المتعلّقة بالأحكام سواء حفظها أم كان عنده من الأصول المصحّحة ما يرجع إليها عند الاحتياج وعرف مواقع أبوابها.

وقد أشرنا الى مقدار الحاجة في باب احتياج العمل بالعامّ الى الفحص عن المخصّص ، ووجه الاحتياج ظاهر.

التّاسع

العلم بأحوال الرّواة من التّعديل والجرح ، ولو بالرّجوع الى كتب الرّجال.

ووجه الاحتياج أنّ العمل بالأخبار مشروط بتوثيق الرّجال والاعتماد عليهم إذا بنينا إثبات حجّية خبر الواحد على الأدلّة الخاصّة به ، كما أشرنا إليه في بيان شروط العمل به ، أو أنّ مراتب الظّنون تختلف باختلاف أحوال رجال السّند إذا بنيناه على الدّليل الخامس من جهة أنّه ظنّ.

وبملاحظة ذلك يتفاوت حال الأخبار ويتميّز الرّاجح عن المرجوح ، إذ لا

٢٤٨

ريب أنّ كون الرّجل ثقة مثلا ممّا يوجب الظنّ بصدق خبره ، وذلك لا ينافي إمكان حصول الظنّ بأمور أخر.

فإنّ التّحقيق أنّ جواز العمل بأخبار الآحاد لا ينحصر في الخبر الصّحيح ، بل ولا الموثّق والحسن أيضا ، بل كثيرا ما يعمل بما هو ضعيف في مصطلحهم لاعتضاد الخبر بما يوجب قوّته ، وقد أشرنا الى ذلك في مباحث أخبار (١) الآحاد ، مع أنّه ممّا ورد في الأخبار من وجوه التّرجيح بين الأخبار مثل قوله عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما» (٢). وقوله عليه‌السلام : «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» (٣).

وقد أورد هنا شكوك :

الأوّل

ما نقل عن المولى محمد أمين الأسترابادي (٤) وهو : أنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصّدور وعن المعصوم عليه‌السلام ، فلا نحتاج الى ملاحظة السّند.

أمّا الكبرى فظاهر ، وأمّا الصّغرى ، فلاحتفافها بقرائن مفيدة للقطع.

أقول : دعوى قطعيّة أخبارنا سيّما في أمثال زماننا ، من أغرب الدّعاوي ، وستعرف حال ما تمسّك به في ذلك.

ثمّ إنّ المراد بمعرفة علم الرّجال هو معرفة حال الرّواة ، لا خصوص قراءة

__________________

(١) في نسخة الأصل (الأخبار).

(٢) «الوسائل» ٢٧ / ١٠٦ ح ٣٣٣٣٤.

(٣) «مستدرك الوسائل» ١٧ / ٣٠٣ ح ٢١٤١٣.

(٤) راجع الفصل التاسع من «الفوائد المدينة» ص ٣٧١ ، وغيرها من الفوائد ، فيه.

٢٤٩

الكتب المعهودة ، فلو فرض إمكان المعرفة بحالها بدون هذه الكتب ، فيكفينا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الرّوايات الواردة في اعتبار الأعدل والأفقه والأصدق ونحو ذلك ، لا ريب أنّها في كتب أصحابنا المعتبرة المتداولة.

فإن قلت : إنّها قطعيّة ، فيثبت الاحتياج الى معرفة العدالة والأعدليّة ونحوهما قطعا ، سواء كان ذلك من كتاب «الكشّي» و «النّجاشي» أو غير ذلك ، فيثبت الاحتياج الى معرفة حال الرّواة وهو المطلوب.

وإن قلت : إنّها ليست بقطعيّة ، فهو مناقض لما ثبت عليه الدّليل من أنّ وجه عدم الاحتياج هو قطعيّة الأخبار.

فإن قلت : إنّا لا ندّعي إلّا قطعيّتها في الجملة لا قطعيّة جميع ما فيها.

قلت : جهالة المقطوع به ينفي فائدة القطعيّة ، وأنّى لك بتعيين ما هو قطعيّ. ومن أين لك أنّ مقبولة عمر بن حنظلة وما في معناها ممّا يشتمل على اعتبار الأعدل والأفقه والأصدق ليست من القطعيّات وغيرها منها ، مع أنّ نفس علاج الإمام عليه‌السلام في هذا الحديث لتعارض الأخبار يدلّ على كون تلك الأخبار التي سأل الرّاوي عن حالها ظنيّة لا قطعيّة ، فإنّه لا معنى لعلاج تعارض القطعيّات بملاحظة السّند وعدالة الرّاوي ، لأنّه لا يجوز صدور التناقض من المعصوم عليه‌السلام إلّا من باب التّقيّة ، وحكمه الرّجوع الى مخالفة العامّة ، مع أنّه مذكور في تلك الرّوايات مع الأعدليّة والأفقهيّة ، لا معنى لمعرفة موافقة العامّة ومخالفتهم بملاحظة أعدليّة الرّاوي وعدمها.

فظهر أنّ ما ذكر في العلاج إنّما هو في الأخبار الظّنيّة ، وأنّهم عليهم‌السلام كانوا يرضون بالعمل بالأخبار الظّنيّة ومعالجة متعارضاتها بما ذكروه ، مع أنّ في أخبار تلك الكتب ما يدلّ على أنّ الكذّابة والقالة قد لعبت أيديهم بكتب أصحابنا ، وأنّهم

٢٥٠

(لعنهم الله) كانوا يدسّون في كتبهم ، فإن كانت (١) تلك الكتب قطعيّة الصّدور ، فهذه الرّوايات أيضا مندرجة ، وإلّا فهو المطلوب.

ثمّ إنّه ذكر جملة من القرائن التي يوجب القطع على زعمه.

منها : أنّا كثيرا ما نقطع بالقرائن الحاليّة أو المقاليّة بأنّ الرّاوي كان ثقة بالرّواية لم يرض بالافتراء ، ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا عنده وإن كان فاسدا بجوارحه ، وهذا النّوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.

أقول : ظاهر هذا الكلام قاعدة استنبطها هذا المدّعي من روايات أمثال هذا الرّاوي ، يعني أنّه عرف من جزمه في نقله الرّواية واحتياطه مثل ترديده بين اللّفظين المحتملين. ومثل قوله في الموضع الذي يشكّ : أظنّ أنّه قال : كذا ، أو : لا أحسبه إلّا قال : كذا ، وهكذا ، وأمثال ذلك أنّ هذا الرّجل ثقة في الرّواية ولا يرضى بالافتراء بإمامه عليه‌السلام. وليت شعري ، هل هذا إلّا معرفة حال الرّاوي ، وهل هذا إلّا العلم بحال الرّجال؟

ولا ريب أنّ هذا المدّعي يحتاج في دعوى قطعيّة الرّواية الى معرفة هذا الرّجل في هذه المرتبة حتّى يحكم بقطعيّة خبره أينما يروي ، فأقلّ ما فيما ذكره أنّه رجوع الى الاحتياج الى معرفة علم الرّجال ، إذ قد عرفت أنّ مرادنا بمعرفة الرّجال ليس خصوص معرفتهم من كتاب خاصّ.

ويرد عليه ثانيا : أنّ المعرفة بأنّ الرّجل ثقة ولا يرضى بالافتراء بإمامه عليه‌السلام كيف يحصل القطع به بملاحظة رواياته التي لا يعلم أنّها منه ، وهذا إنّما يتمّ بعد قطعيّة الانتساب إليه حتّى يستنبط منها أنّه بهذه المثابة ، وعلى فرض كون أصله متواترا

__________________

(١) في نسخة الأصل (كان).

٢٥١

عند مثل الصّدوق رحمه‌الله كيف يحصل العلم بأنّ الصّدوق نقل هذه الرّواية عن هذا الأصل إذ لعلّه نقله معنعنا من غير أصله ، والامتزاج وعدم التّعيين واحتمال المزج ينافي القطعيّة.

وثالثا : أنّ كون الرّجل ثقة في النقل مجتنبا عن الافتراء ، بعد ثبوته إنّما يثبت عند عدم تعمّد الافتراء والكذب ، وهو لا ينافي السّهو والغفلة والخطأ ، سيّما مع تجويزهم النقل بالمعنى.

ورابعا : أنّ هذه الأصول لو سلّم كونها متواترة عند الصّدوق ، فلم يثبت تواترها عندنا ، واحتمال السّهو والخطأ والغفلة عن مثل الصّدوق غير عزيز.

وخامسا : أنّ حصول العلم من مثل هذه القرينة ممنوع ، إذ كثيرا ما يدلّس من المرائي أمره لترويج الباطل ، ويرائي من نفسه الزّهد والورع لتغرير النّاس ، ونفي هذا الاحتمال بحيث يحصل القطع بعدمه سيّما لأمثالنا في زماننا في غاية البعد.

نعم ، يمكن حصوله للمشافه الحاضر الممارس للرجل ، وكيف يحصل القطع لسبب ملاحظة هذه القرينة بمعونة أخبار الآحاد المشتملة على ذلك بعد ألف عام أو أزيد ، وسيّما مع ادّعاء وفوره سيّما من الفسّاق والمخالفين.

وسادسا : أنّ غاية ما ذكرت أنّ هذا الرّاوي لا يروي إلّا ما يقطع بأنّه من المعصوم عليه‌السلام وليس كلّ قطع موافقا للواقع ، إذ قد يكون قطعه من باب الجهل المركّب من دون تقصير منه.

وسابعا : أنّ هذه الحال ، حال راوي الأصل ، وغاية ما يثبته المدّعي أنّ ذلك الرّاوي لا يروي إلّا ما يقطع به ، وأمّا حال الواسطة بينه وبيننا ، فلا يعلم من ذلك.

والقول : بأنّ المراد بذلك بيان صاحب الأصل ، فلا يضرّ جهالة الواسطة مع تواتر الأصل عنه قد عرفت الجواب عنه.

٢٥٢

وحاصله ، أنّ قطعيّة الأصل عند الصّدوق مثلا لا ينفعنا ولا يفيدنا إلّا الظنّ بالصّدق ، الى غير ذلك من الأبحاث [الإيجاب] الكثيرة التي ترد عليه ، لا نطيل الكلام بذكرها.

ثمّ إنّ بعض الأفاضل قد يوجّه المقام بأنّه يحصل العلم العاديّ من القرينة التي ذكرها المعترض لصدق صاحب الأصل ، وكذا من إسناد الصّدوق إليه وهو غريب.

واعلم أنّ بعض الأخباريين وجّه قولهم بقطعيّة الأخبار ، ودعوى حصول العلم بصحّة الأصل وصدوره عن المعصوم عليه‌السلام أو يصدّق مثل الصّدوق فيما أسند الى صاحب الأصل ، أنّ المراد بالعلم هو ما تطمئنّ به النفس وتقضي العادة بالصّدق. وهذا هو العلم العادي ، وهو يحصل بخبر الثّقة الضّابط المتحرّز عن الكذب ، بل وغير الثّقة إذا علم من حاله أنّه لا يكذب ، أو دلّت القرائن على صدقه ، وهذا هو الذي اعتبره الشّارع في ثبوت الأحكام عند الرّعيّة ، وقد عمل الصّحابة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام بخبر العدل الواحد ، وبالمكاتبة على يد الشّخص الواحد ، ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه ، نظرا الى إمكانه ، كما لا ينافي العلم بحياة زيد الذي غاب عنّا لحظة تجويز موته فجأة ، ومن تتبّع كلام العرب يظهر عليه أنّ إطلاق العلم على مثل ذلك حقيقة عندهم.

والحاصل ، أنّ مثل هذا الاطمئنان يجوز العمل به ، فإن شئت فسمّه علما ، وإن شئت فسمّه ظنّا ، فالنّزاع بين الأخباريين والمجتهدين لفظيّ.

أقول : وفيه نظر يتوقّف بيانه على بيان معنى العلم العادي.

فاعلم أنّهم بعد ما عرّفوا العلم بأنّه تمييز لا يحتمل النقيض ، أوردوا عليه بالعلوم العاديّة ، كعلمنا بأنّ الجبل الغائب عنّا بعد لحظة لم يصر ذهبا ، ولا الأواني

٢٥٣

الموضوعة في البيت التي غبنا عنها بعد ساعة ، علماء عارفين بالعلوم الدّقيقة ، بأنّها علم ويحتمل النقيض ، فإنّه كما وقع انقلاب العصا حيّة ، وصيرورة الميّت حيّا اللّذين جرت العادة ، بعدمهما ، فلا يحتمل نقيض ذلك العدم في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو صاحب هاتين المعجزتين ، وقد انخرقت تلك العادة. فقد يمكن مثل ذلك في الجبل الذي غبنا عنه ، والأواني التي اختفت عنّا بكرامة بعض الأولياء ، فكيف ينكر احتمال النقيض في مثل ذلك ، بل ذلك إنّما هو ظنّ متاخم للعلم يشتبه بالعلم ، كما ذكره بعض الحكماء في الحدسيّات والتجربيّات ، فلا يصحّ القول بحصول الجزم مع احتمال النقيض ، وهذا النقض منقول عن العلّامة رحمه‌الله في «النّهاية».

وأجيب عنه : بأنّ مطلق التجويز لا ينافي الجزم ، فإنّ هذا التجويز الحاصل في العلوم العادية إنّما هو بالنظر الى الإمكان الذاتيّ لعموم قدرة الله تعالى وقابليّة المادّة ، وأمّا بالنّظر الى مجرى عادة الله تعالى ، فلا يحتمل النقيض ولا يجوز التبدّل.

وحاصل هذا الجواب على ما ذكره المحقّق البهائي رحمه‌الله أنّ كون الجبل حجرا مثلا لا يحتمل نقيضه حال العلم بأنّه حجر ، سواء كان في شيء من الأوقات أو دائما.

والحاصل ، أنّ ما دام العادة تقتضي انتفاء النّقيض ، فلا احتمال للنقيض ، وذلك لا ينافي إمكان تبديل الحجر ذهبا بالذّات ، ومن حيث القابليّة وعموم قدرة الله تعالى.

فقولنا : لا يحتمل النّقيض ، بمعنى أنّ النّقيض ممتنع ولو بالغير ، وهو لا ينافي الإمكان الذّاتي ، فالجبل حين علمنا بأنّه حجر ، ذاته لا ينافي الذّهبيّة ، لكنّ العادة تنافيها ، وكذا الكلام في المحسوسات ، فإنّ العلم بأنّ العالم مضيء في النّهار ، لا

٢٥٤

ينافيه الاحتمال العقليّ وهو أن تكون الباصرة مئوفة (١) في نفس الأمر واشتبه عليه الأمر لأنّ ذلك أمر ممكن.

فالجواب عنه بمثل ما مرّ.

أقول : ومن البعيد غاية البعد تنزيل كلام العلّامة رحمه‌الله على ما ذكره من منافاة حصول الجزم بالشّيء مع إمكان خلافه بالنّظر الى ذاته ، فإنّه لا ريب أنّ العلوم تختلف باختلاف متعلّقاتها. فالعلم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، وأنّ النقيضين لا يجتمعان ، ممّا يحصل به الجزم ، ولا يمكن خلافه في نفس الأمر ، لا في حال علمنا بذلك واعتقادنا به وتفطّننا له ولا في غيره ، بخلاف عدم انقلاب الحجر ذهبا وكون العالم مضيئا ، فإنّه وإن كان يستحيل خلافه في نظرنا وفي نفس الأمر معا في آن حصول العلم ووقت المشاهدة ، لكن لا يلزم محال بالنّظر الى ذاته لو فرض خلافه ، يعني في وقت آخر ، بل الظّاهر أنّ مراد النّاقض ، أنّ قولك في تعريف العلم : لا يحتمل النّقيض عدم الاحتمال عند العالم في نفس الأمر.

وإذا كان كذلك ، فقد لا يحتمل العالم النّقيض لغفلته لسبب مجرى العادة وعدم تفطّنه لمقدار جريان العادة ، فهو غافل عن ملاحظة سبب حصول العلم ولو نبّه باحتمال الخلاف ، وأنّ العادة لم يثبت عدم انخراقها في مثل ذلك والى هذا القدر ، فيحصل عنده الاحتمال وينتفي الجزء. فإنّ من كان له بستان ذوات حيطان وأشجار وأنهار يتردّد إليه في كلّ يوم ، فهو في كلّ ليلة جازم قاطع بوجود بستانه كما كان ، ولو اتّفق في بعض اللّيالي أنّ بعض أعدائه خرّب هذا البستان وقلع

__________________

(١) ويبدو أنّ مقصوده الآفة وهي العاهة ، ويقال : قد إيف الزّرع ـ على ما لم يسم فاعله ـ أي أصابته آفة فهو مئوف.

٢٥٥

أشجاره وطمّ أنهاره وزرع في موضعه كلّ ذلك في ليلة واحدة ، لما كان له من كثرة القوّة والخدم والحشم ما تمكّن به من ذلك في ليلة ، فهو في الصّبح جازم قاطع بوجود البستان كما كان ، فإذا جاءه لم يجد هناك شيئا إلّا زرعا جديدا ، وقد وقع مثل ذلك في قرب زماننا كما سمعناه ، وأنت إذا سألته في الصّبح عن العلم بوجود بستانه يتعجّب عن السّؤال ، ولكن إن نبّهته وقلت : أفلا يمكن أنّ عدوّك المتسلّط القويّ الفلانيّ خرّب بستانك في اللّيلة وجعلها قاعا صفصفا؟ فيحصل له الاحتمال عند ذلك ويتردّد ويزول عنه الجزم.

فالعلم العادي هو ما يحصل بسبب العادة اليقين (١) باستصحاب الحال السّابق بمقدار ما يحصل له بعد التأمّل والتفطّن للاحتمالات ونفيها الى حين معيّن معلوم. ويتفاوت مقدار زمان الاستصحاب بتفاوت الموادّ والمقامات والأوقات ، وهذا لا يحتمل النّقيض أبدا ، واحتمال النّقيض في غير زمان العلم ، لا يصير نقضا على عدم احتماله في آن العلم.

نعم ، يمكن النّقض بالجزم الحاصل قبل التّفطّن للاحتمال المذكور بسبب الغفلة عمّا اقتضاه مقدار العادة ، وذلك هو الغالب الوقوع في العرف والعادة ، وإطلاق العلم عليه شائع. وهذا قابل لاحتمال النّقيض بالنّظر الى العالم أيضا ، لكن بالنّسبة الى حالتي التفطّن وعدم التّفطّن ، فلا احتمال عنده في بادئ النّظر ، ومع الغفلة على وجه من الوجوه ، ويحتمل النّقيض عنده بعد التّفطّن في الوقت الذي كان فيه جازما أيضا.

والجواب عن هذا النّقض : إمّا بأنّ المراد بالعلم ما لا يحتمل النّقيض في نفس

__________________

(١) بدل من فاعل يحصل ، لا فاعل له.

٢٥٦

الأمر وإن كان بسبب العادة فيختصّ باليقين المصطلح ، أو بأنّ المراد من العلم ما لا يحتمل النّقيض عند العالم ، فهو علم ما دام كذلك لا مطلقا.

فالكلام هنا يقع في موضعين :

أحدهما : أنّ هذا الجزم هل هو علم حقيقة ومن [وانّ] إطلاقاته الحقيقيّة أو المجازية؟

والثاني : أنّه حجّة أم لا؟ والأظهر في موضعين [الموضعين] نعم.

أمّا الأوّل : فلما يستفاد من تتبّع كلام العرب.

وأمّا الثاني : فللزوم التكليف بما لا يطاق لولاه ، ولما يستفاد من تتبّع طريقة الشّارع وسلوكه مع الرّعيّة ، وللزوم العسر والحرج لولاه. فالذي ينفع فيما نحن فيه ، أنّ القطع الذي يدّعونه في الأخبار ، وأنّ تلك الأصول ، كانت قطعيّة ، وأنّ حكم الصّدوق رحمه‌الله بصحّته ممّا يوجب القطع بالصحّة ، هل هو من قبيل ذلك الجزم الذي يمكن ارتفاعه بالتّنبيه والتّشكيك أو لا ، بل هو ظنّ؟

وأمّا دعوى كونه يقينا مصطلحا فهو ممّا لا يحسن دعواه من عالم منصف.

والتّحقيق ، أنّ دعوى مثل هذا الجزم من خبر الثّقة المشافه الحاظر ، ممّا لا يمكن إنكاره قبل التّنبيه عن الغفلة من احتمال السّهو والنسيان ،

وأمّا دعواه في حقّ أخبار كتبنا بعد تمادي الأيّام المتطاولة وسنوح السّوانح ووقوع ما وقع من الغفلات والزّلّات والاشتباهات ، واحتمال اختلاط تلك الأخبار في الكتب وتداخل الأصول المعتمدة بغيرها ، وإدخال صاحب التّصانيف المتأخّرة الأخبار المعنعنة عن المشايخ مضافا الى تلك الأصول فيها ، مع ما يتطرّق من احتمال الاشتباه في شأن صاحب التّصانيف المتأخّرة أيضا ، ففي غاية البعد.

٢٥٧

والحاصل ، أنّ دعوى الجزم بأنّ كلّ حديث في «الفقيه» و «الكافي» إنّما هو عن المعصوم عليه‌السلام لا غير ، في غاية البعد ، فضلا عن «التّهذيب» و «الاستبصار».

والحاصل ، أنّ ما يحصل للفقيه إمّا ظنّ وإمّا جزم في بادئ النّظر ، ويتزلزل بالتّنبيه والتّفطّن لاحتمال الغفلة والسّهو والنسيان ، وإمّا جزم يحصل بعد التّفطّن والتّنبيه للاختلافات أيضا ، سواء طابق الواقع أم لا.

ومنها : تعاضد بعض الأخبار ببعض.

وفيه ، أنّ التعاضد إن كان على حدّ التواتر ، فلا إشكال في إفادة القطع ، ولكن من أين ذلك وأنّى هو إلّا في غاية النّدرة ، ولا كلام فيه ، ولا يحتاج مثله الى معرفة السّند.

ومنها : نقل الثّقة العالم الورع في كتابه الذي ألّفه لهداية النّاس ، ولأن يكون مرجع الشّيعة ، أصل رجل أو روايته على ظنّ ، مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرّواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم عليهم‌السلام.

وفيه ، أنّ أظهر أفراد ما ذكره من جملة كتبنا هو كتاب من «لا يحضره الفقيه».

وفيه : أوّلا : أنّ كون الصّدوق رحمه‌الله ثقة ورعا لا يوجب عصمته عن السّهو والغفلة والخطأ.

وثانيا : أنّ كون التّأليف من جهة الهداية والإرشاد لا يوجب كون الرّواية قطعيّة الصّدور ، وإنّما يتمّ ذلك لو لم نقل بحجّية أخبار الآحاد ، وهو أوّل الكلام ، بل المستفاد من سير الأئمّة عليهم‌السلام وطريقتهم تجويزه كما أشرنا إليه في محلّه.

وثالثا : أنّه لا ريب ولا شكّ في ثقة أكثر علمائنا المتأخّرين مع أنّهم كانوا يعملون بالظّنون ، حتّى أنّ مثل الشهيد الأوّل الذي لا يوصف بكيت وكيت ، كان يجوّز العمل بالشّهرة الخالية عن الخبر أيضا ، ومع ذلك ألّف الكتب لهداية النّاس.

ورابعا : أنّا لا نسلّم تمكّن الصّدوق من استعلام حال الأصل على سبيل القطع ،

٢٥٨

وكذلك من أخذ الحكم عنهم عليهم‌السلام. ولو سلّم إمكان حصول القطع له ببعض الأخبار أو ببعض الأحكام ، فلا يوجب ذلك الاقتصار على ذلك ، إلّا مع إثبات حرمة العمل بظنّياتها عنده ، وهو أوّل الكلام.

وخامسا : أنّ الاعتماد على نقل الثّقة العارف إنّما هو معنى الاحتياج الى علم الرّجال ، فإنّ ما ذكره لا يتمّ إلّا بمعرفة كون الرّجل ثقة ، والمعرفة بحال الرّجال قد يثبت بالضّرورة ، وقد يثبت بالنّظر.

ودعوى كون عدالة جميع أرباب الكتب المؤلّفة للإرشاد بديهيّته ممنوع.

وسادسا : أنّ كون الأصل معتمدا لا يوجب قطعيّة جميع أخباره ، سيّما مع قوله في أوّل «الفقيه» : لم أقصد قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووا ، ولا يحصل لنا القطع بأنّ الصّدوق رحمه‌الله إنّما ذكر قطعيّاته.

سلّمنا ، لكنّه ذكر القطعيّ عنده وأنّى له بأنّه قطعيّ في نفس الأمر.

وأيضا كون الأصل معتمدا ، من المسائل المختلف فيها ، وكونه معتمدا عند الصّدوق رحمه‌الله لا يفيد القطع بكونه معتمدا في نفس الأمر ، وتحقيق كونه معتمد في نفس الأمر أو غير معتمدا أيضا يعلم من علم الرّجال.

ومنها : أن يكون رواته واحد ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

وفيه أوّلا : أنّ معرفة هؤلاء لا يحصل إلّا بمعرفة الرّجال.

وثانيا : أنّ هذا الوجه يدلّ على عدم قطعيّة الأخبار ، إذ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء يشعر بأنّ غير هؤلاء لا يحكم بصحّة روايتهم ، ولا ريب أنّ الأصول التي جعلها المشكّك من الأصول المعتمدة ، كثيرا ما يكون من غير هؤلاء ، وهم الأكثرون وهؤلاء الأقلّون.

٢٥٩

وثالثا : أنّ دلالة تصحيح ما يصحّ عنهم على القطعيّة ممنوعة ، كما أنّ الصحّة عند المتأخّرين لا يدلّ على القطعيّة. وما اشتهر بينهم من أنّ مراد القدماء من صحّة الحديث هو ما صحّ اتّصاله بالمعصوم عليه‌السلام ، فهم يفسّرون ذلك بحصول القطع بذلك من جهة التّواتر أو من جهة احتفافه بقرائن توجب ذلك. ثمّ يفسّرون القرائن بما لا يوجب القطع ، مثل موافقة ظاهر الكتاب والسنّة ونحو ذلك ، فلاحظ أوّل «الاستبصار» وغيره.

ورابعا : إنّ ذلك ليس بالإجماع المصطلح حتّى يكون حجّة ، خصوصا عند المشكّك.

سلّمنا ، لكنّه منقول بخبر الواحد ، وهو لا يفيد إلّا الظنّ.

سلّمنا ، لكنّه وقع الاختلاف (١) في هؤلاء أيضا فإنّ بعضهم ذكر مكان الأسديّ ليث المراديّ ، وبعضهم مكان الحسن بن محبوب فضالة بن أيّوب ، وجعل بعضهم مكانه الحسن بن عليّ بن فضّال ، وبعضهم مكان فضالة عثمان بن عيسى ، فإذا حصل الشكّ للقدماء في تعيين هؤلاء فأنّى لنا بالقطع بالتّعيين.

وخامسا : أنّه لا يوجد رواية كان جميع رجال سنده من هؤلاء إلّا أن يكون مراده بيان حال صاحب الأصل. وحينئذ يرد عليه أنّه لا يكفي ذلك لنا ، مع ورود سائر الأبحاث التي قدّمناها وغيرها.

أقول : ويظهر من ذلك الجواب عن رواية جماعة نقل الشيخ اتّفاق الطّائفة على العمل بروايتهم ، كعمّار السّاباطي ، وأضرابه ، فإنّه مع كونه منقولا بخبر الواحد فيه ، إنّ ذلك لا يوجب القطعيّة ، بل غايته جواز العمل بها ، وأمّا قطعيّة الصّدور ، فلا.

__________________

(١) في نسخة الأصل (الاختلافات).

٢٦٠