القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

لم يهدوا إليها مع ما هدوا اليها ، فلا دلالة في الآية على مراد المستدلّ.

وظاهر الآية أنّ حقّنا أعمّ من حقّ الله نفسه ، وحقّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالجهاد في الدّفاع عن مسألة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلم بعد ثبوته هو دفاع عن حقّ الله تعالى ، فلا يرد أن يقال : الاجتهاد في مطلق النّبوّة للنصارى واليهود مجاهدة في الله ودفاع عن حقّ الله تعالى.

نعم ، إنّما يصحّ ذلك في حقّهم إذا كان دفاعهم من أنكر مطلق النبوّة ، لا تبديل نبوّة موسى وعيسى بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ كلمة (جاهد) إن كان بمعنى الاجتهاد أيضا يلزم أن يكون المراد الدّفاع عن حقّ الله ومن ينتسب إليه بعد المعرفة واليقين ، لا حال الشكّ ، وأوّل النّظر والتردّد ، مع أنّ علي بن إبراهيم قال في تفسيره (١) في معنى (جاهَدُوا فِينا) أي صبروا وجاهدوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي لنثبتنّهم.

مع أنّ دعوى ذلك في جميع مسائل الأصول مثل التجرّد وعينيّة الصّفات والقدم والحدوث وغيرهما في غاية البعد ، مع أنّ الكلام يجري في مسألة جواز العمل بالظنّ في الأصول وعدمه ، ووجوب النّظر وعدمه ، فإنّ العلماء قد اختلفوا فيه ، فلا بدّ للمكلّف في هذه المسألة من الاعتقاد بأحد الطّرفين.

فإن قلنا : إنّ المجتهدين المتخالفين فيه كلاهما مصيب ، يلزم اجتماع النّقيضين.

وإن قلنا : أحدهما مخطئ آثم لأنّ الله تعالى قال : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ،) فمن لم يصب فهو مقصّر آثم ، فلا بدّ أن يقول جمهور علمائنا : إنّ المحقّق الطوسيّ والمحقّق الأردبيلي رحمه‌الله ومن تبعهما آثمون مقصّرون أو بالعكس.

__________________

(١) «تفسير القميّ» ٢ / ١٢٩ آخر سورة العنكبوت.

٢٢١

وورود هذا البحث في الفروع ، وعدم انطباق الآية ، أظهر من أن يخفى.

والقول : بأنّ السّبيل هاهنا هو ما يستقرّ عليه ظنّه مع أنّه يمكن جريانه فيما نحن فيه كما أشرنا سابقا ، في غاية البعد ، وسيجيء الكلام في الفروع.

واحتجّ الجمهور أيضا : بإجماع المسلمين على قتال الكفّار وعلى أنّهم من أهل النّار ، وأنّهم كانوا يدعونهم بذلك الى النجاة ، ولا يفرّقون بين معاند ومجتهد ، وخال عنهما.

والجواب عن ذلك يظهر ممّا مرّ ، إذ الجهاد مع الكفّار وقتلهم من الأحكام الثابتة للكفّار في الدنيا ، وهو لا يستلزم تعذيب الغير المقصّر منهم في الآخرة.

وأمّا الإجماع على أنّهم من أهل النّار ، فنمنع الإجماع في غير المقصّرين للزوم الظلم عليه تعالى.

وأمّا ظواهر الآيات والأخبار الدالّة على ذلك ، فالمتبادر منها المعاندون والمقصّرون ، بل هو الظّاهر من الكفر كما أشرنا ، ويؤيّد ذلك قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في الخطبة الثّانية ليوم الجمعة المرويّة في «الفقيه» (١) : «اللهمّ عذّب كفرة أهل الكتاب الّذين يصدّون عن سبيلك ويجحدون آياتك ويكذّبون رسلك».

وأمّا حجّة الجاحظ فهو ما مرّ من أنّه غير مقصّر.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف ما لا يطاق ، فإنّ المقدور إنّما هو النّظر وترتيب المقدّمتين ، وأمّا الاعتقاد بالنتيجة فهو اضطراريّ لا يمكن التكليف بخلافه.

__________________

(١) «من لا يحضره الفقيه» ١ / ٤٣٢.

٢٢٢

وهذا الاستدلال ضعيف ، فإنّ التكليف بما لا يطاق إذا نشأ من سوء الاختيار الحاصل هنا بالتّقصير ، على فرض التّقصير لم يثبت استحالته ، هذا حال العقائد التكليفيّة العقليّة الأصليّة.

وأمّا الفرعيّة من العقائد العقليّة كقبح الظّلم والعدوان ووجوب ردّ الوديعة وأداء الدّين ، واستحباب التفضّل والإحسان التي يستقلّ بها العقل ، فقالوا : إنّ المصيب فيها جزما أيضا واحد ، وإنّ المخالف فيها آثم ، كما صرّح به الشيخ في «العدّة» (١).

وهذا في حقّ المجتهدين ليس ببعيد كما ذكرنا ، بل ذلك ممّا لا يخفى إلّا على المستضعفين من جهة العقل أو المعاندين المقصّرين ممّن ينكر الحسن والقبح العقليّين أو يسلّمهما ، ويعاند في خصوص مسألة من تلك المسائل من جهة داع وغرض.

والكلام في أصل مسألة الحسن والقبح مثل ما نحن فيه ، ولو فرض عدم التّقصير ، فالكلام فيه كما مرّ.

فالكلام في أمثال ذلك مع الجمهور في أنّ أمثال ذلك هل هي ممّا يمكن أن يختفي على أحد أم لا ، وأمّا بعد إمكان الاختفاء ، فلا معنى للحكم بتعذيب من اختفى عليه بلا تقصير.

والكلام في الإمكان وعدم الإمكان هو ما مرّ من أنّه لا يبعد دعوى ذلك في حقّ المجتهدين الكاملين لا مطلق.

__________________

(١) فقد نقل عن مشايخه في «العدّة» ٢ / ٧٢٦ : انّ الحق واحد وانّ عليه دليلا ، من خالفه كان مخطئا فاسقا.

٢٢٣

والكلام في ذلك نظير الكلام في تكفير منكر الضّروريّ ، ويقع الإشكال في تعيين من يستحقّ التّكفير والتّأثيم ومن لا يستحقّ ، وأنّ الأصل أنّ المكلّف مقصّر ، أو أنّ الأصل عدم التّكفير والتّعذيب حتّى يعلم ذلك ، فراجع وتأمّل.

وأمّا الفرعيّات الشّرعيّات ، كالعبادات البدنيّة والمعاملات ، فقالوا : إن كان عليها دليل قاطع ، فالمصيب فيها أيضا واحد ، والمخطئ غير معذور ، والظّاهر أنّ مرادهم أن يكون على المسألة دليل قطعيّ بحيث لو تفحّصه المجتهد لوجده جزما ، فعدم الوصول إليه كاشف من تقصيره وهو كذلك لو كان كذلك ، ويختلف ذلك أيضا بحسب أفهام المجتهدين ، إذ قد يحكم أحد المجتهدين بأنّ دليل هذه المسألة قطعيّ ويحكم الآخر بخلافه ، ويرجع الكلام فيه الى نظير ما ذكرنا في إنكار الضّروريّ.

وأمّا فيما لم يكن عليه دليل قطعيّ ، مثل سائر المسائل الاجتهاديّة فبعد استفراغ الفقيه وسعه في الاجتهاد ، فلا إثم عليه وإن أخطأ ، بلا خلاف إلّا من بعض العامّة ، ولكنّهم اختلفوا في التّخطئة والتّصويب.

فقيل : لا حكم معيّن لله تعالى فيها ، بل حكمه تعالى فيها تابع لنظر المجتهد ، وظنّ كلّ مجتهد فيها حكم الله تعالى في حقّه وحقّ مقلّده ، وكلّ مجتهد مصيب لحكم الله غير آثم.

وقيل : إنّ لله تعالى في كلّ مسألة حكما واحدا معيّنا والمصيب واحد ، ومن أخطأ فهو معذور ولا إثم عليه.

وهذا هو مختار أصحابنا على ما نسب إليهم العلّامة في «النّهاية» (١) ، والشهيد

__________________

(١) وكذا في «المبادئ» ص ٢٤٤.

٢٢٤

الثّاني في «التمهيد» (١) ، وغيرهما.

ولكنّ الشيخ رحمه‌الله قال في «العدّة» : (٢) والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين والمتأخّرين ، وهو الذي اختاره المرتضى رحمه‌الله ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله أنّ الحقّ في واحد ، وأنّ عليه دليلا ، ومن خالفه كان مخطئا فاسقا.

ولكن يمكن تأويل كلام الشيخ رحمه‌الله بما يرجع الى ما ذكره سائر الأصحاب ، كما يظهر من ملاحظة ما بعد هذا الكلام ، لا نطيل بذكرها.

وحاصله ، أنّ ذلك إذا كان اجتهادهم بالقياس والرّأي.

ثمّ القائلون بالتخطئة من العامّة اختلفوا (٣).

فقال بعضهم : إنّ الله لم ينصب دليلا على ذلك الحكم المعيّن ، وهو بمنزلة الدّفين ، فمن عثر عليه من باب الاتّفاق فله أجران ، ومن لم يصب فله أجر واحد على اجتهاده.

وقال بعضهم : إنّه نصب عليه دليلا ، فقيل : إنّه قطعيّ ، وقيل : إنّه ظنّي.

والقائلون بأنّه قطعيّ اختلفوا.

فجمهورهم على عدم الإثم.

وذهب بشر المريسي (٤) ، الى كون المخطئ آثما.

__________________

(١) «تمهيد القواعد» ص ٣٢٢.

(٢) ٢ / ٧٢٦.

(٣) وقد نقلها الشّهيد في «التمهيد» ص ٣٢٢.

(٤) بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي العدوي بالولاء (.... ٢١٨ ه‍) ـ

٢٢٥

والقائلون بأنّه ظنّي اختلفوا ، فقيل : إنّه لم يكلّف بإصابة ذلك الدّليل لخفائه وغموضه ، فالمخطئ معذور.

وقيل : إنّه مأمور بالطّلب أوّلا ، فإن أخطأ وغلب على ظنّه شيء آخر انقلب التّكليف وسقط عنه الإثم ، وذكروا لكلّ من الطّرفين أدلّة أكثرها تطويل بلا طائل ، والحقّ ، ما ذهب إليه أصحابنا.

ونذكر من الأدلّة عليه ما هو أقرب إلى الصّواب ، وهو أصالة عدم التعدّد ، والإجماع المنقول المستفيض من أصحابنا ، وشيوع تخطئة السّلف بعضها بعضا من غير نكير.

__________________

ـ متكلّم من فقهاء المعتزلة أخذ شيئا من الفقه عن ابي يوسف القاضي الحنفي وعن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة ثم غلب عليه علم الكلام وقد نهاه الشّافعي عن تعلّمه وتعاطيه فلم يقبل منه ، وقال الشافعي : لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشّرك أحب إلى من أن يلقاه بعلم الكلام ، وكان صاحب التّرجمة يناظر الشّافعي عند ما قدم الأخير بغداد. وكان صاحب الترجمة لا يحسن النّحو فكان يلحن لحنا فاحشا.

وهو من الذين دفعوا المأمون الى تجديد القول يخلق. القرآن ، وكان مرجئا وإليه تنسب الطّائفة المريسية من المرجئة. ونسب الى درب المريس ببغداد وقيل مرّيسة قرية بمصر. توفي بدرب المريس وذلك في ذي الحجة. ولما توفي لم يشيعه أحد من العلماء وصلّى عليه رجل يقال له عبيد الشونيزي فكلّمه بعض ، فقال لهم : ألا تسمعون كيف دعوت له في صلاتي عليه ، قلت : اللهم إنّ عبدك هذا ينكر عذاب القبر اللهم فأذقه من عذاب القبر ، وكان ينكر شفاعة نبيّك فلا تجعله من أهلها ، وكان ينكر رؤيتك في الدّار الآخرة فاحجب وجهك الكريم عنه. فقالوا له: أصبت.

له مصنّفات منها كتابه ، «الحجج في الفقه» ، ومن آرائه الأصولية كما عرفت انّ الخطاء في الاجتهاد يترتّب عليه الإثم.

٢٢٦

والقول : بأنّ مرادهم خطأهم في الاجتهاد للتقصير ، أو لأنّهم لم يكونوا أهلا للاجتهاد ، خلاف الظّاهر.

والآيات الدالّة على ثبوت حكم خاصّ لكلّ شيء في نفس الأمر ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ)(١) الآيات الثلاث ، و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(٢) ، (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣). فإنّ حكم الشّيء قبل الاجتهاد ممّا يحتاج إليه ، فلا بدّ من بيانه في الكتاب والسنّة. وما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) أنّه قال : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد».

قال بعض الأصحاب : وهذا وإن كان خبرا واحدا إلّا أنّ الأمّة تلقّته بالقبول ولم نجد له رادّا ، والأخبار الدالّة على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما حتى أرش الخدش (٥) ، ولا يبعد تواترها ، وخصوص قول أمير المؤمنين عليه الصلاة

__________________

(١) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤ ، (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة : ٤٥ ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المائدة : ٤٧.

(٢) الأنعام : ٣٨.

(٣) الأنعام : ٥٩.

(٤) «سنن النّسائي» ٨ / ٢٢٤ ، ونقله البهائي بالمعنى في «الزّبدة» : ص ١٦٣

(٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام : «ما خلق الله حلالا ولا حراما إلّا وله حدّ كحدّ الدّار ، فما كان من الطّريق فهو من الطّريق ، وما كان من الدّار فهو من الدّار حتى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة» «الكافي» ج ١ ص ١١٣ باب ٢٠ ح ٣ ، والأرش : جمعها الأروش والمراد بها دية الجناية ، والخدش : مزق الجلد ، قلّ أو كثر.

٢٢٧

والسلام في «نهج البلاغة» (١) في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا ، قال عليه‌السلام : «ترد على أحدكم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم تردّ تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجمع القضاة عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا وإلههم واحد ودينهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله دينا تاما فقصّر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(٢) ، وفيه تبيان كلّ شيء» (٣). الى آخر ما ذكره عليه‌السلام.

ثم إنّ وجه الجمع بين ما ذكره وما نستعمله في أمثال زماننا هذا الزّمان ، هو أنّ كلامه عليه‌السلام على العاملين بالقياس والرّأي لا بالكتاب والسنّة ، والى هذا يشير آخر كلام الشيخ رحمه‌الله في «العدّة» ويقيّد به ما نقله من المذهب عن مشايخ الإمامية ، وأنّ مراده عليه‌السلام أنّه لا يجوز التعدّد في حكم الله الواقعيّ ، وإن أمكن على الظّاهر بالنّسبة الى المعذورين في زمان الحيرة والاضطرار ، أو بسبب الغفلة في فهم السنّة والكتاب في زمان الحضور أيضا.

فإنّ المجتهدين المختلفين بسبب تفاوت الأفهام ، ليسند كلّ منهم الحكم الى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا الى الرّأي والقياس ، وأنّ الخطأ في ذلك معذور ، وقد

__________________

(١) «نهج البلاغة» الخطبة : ١٨.

(٢) الأنعام : ٣٨.

(٣) إشارة الى قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.) النحل : ٨٩.

٢٢٨

ذكرنا في مباحث أخبار الآحاد والكلام على حجّية ظنّ المجتهد بعض ما يوضّح المقام ، فراجع ولاحظ.

ثمّ قد يستدلّ على التخطئة بلزوم بطلان التّصويب من صحّته ، لأنّ القائلين بالتّخطئة يغلّطون التّصويب ، وعلى التّصويب فهذا الاجتهاد صحيح ، فيكون التّصويب باطلا وهو توهّم ، لأنّ الكلام في الفروع ، والتّصويب من أصول الفقه أو الكلام ، وقد مرّ نظيره في التّجزّي وغيره.

ثمّ إنّ الشهيد الثّاني ذكر في «التمهيد» (١) للمسألة فروعا ، وتبعه في بعضها غيره ، مثل المحقّق البهائيّ رحمه‌الله (٢).

منها : أنّ المجتهد في القبلة إذا ظهر خطأه ، هل يجب عليه القضاء أم لا؟ والمنصوص عندنا وجوب الإعادة إن علم في الوقت لا في خارجه مطلقا.

ولنا قول آخر : إنّ المستدبر يعيده مطلقا ، وهذا كلّه مبنيّ على أنّ المجتهد قد لا يكون مصيبا.

ومنها : لو صلّى خلف من لا يرى وجوب السّورة أو التسليم أو نحو ذلك ولم يفعله ، أو فعله على وجه الاستحباب ، حيث يعتبر الوجه في صحّة الاقتداء به قولان مرتّبان ، وينبغي على القول بالتخطئة عدم الجواز.

ومنها : إنفاذ المجتهد حكم مجتهد آخر يخالفه في مأخذ الحكم ، وفي جوازه أيضا وجهان مرتّبان.

أقول : وعندي في هذه التّفريعات تأمّل ، فإنّ القضاء والإعادة إنّما يثبتان

__________________

(١) «تمهيد القواعد» ص ٣٢٠.

(٢) راجع «الزبدة» ص ١٦٣.

٢٢٩

بفرض جديد كما حقّقناه في محلّه ، وسقوطهما لا يدلّ على كون ما وقع على خلاف الحقّ صوابا ، بل قد يكون لعدم دليل آخر بعد الوقت الأوّل ، ولإجزاء ما كان حكم الله الظّاهر في حقّه ، فلا إعادة تدلّ على التّخطئة ، ولا عدمها على التّصويب ، إذ لا منافاة ، لكون الخطأ في القبلة موجبا للقضاء مع كون الصّلاة مع الخطأ فيها صوابا ، واستلزام القول بالتّصويب لصحّة الاقتداء بمن يخالفه في الرّأي ممنوع ، فإنّ الواجب على المأموم أن يقتدي بصلاة صحيحة عنده لا صحيحة عند غيره. ويلزم على هذا أن يجوز لمن يرى وجوب فري الأوداج الأربعة في الذّبيحة أكل الذّبيحة التي قطع حلقومها فقط من يرى حلّيتها بذلك.

وتجويز المجتهد لمقلّد مجتهد آخر يخالفه تقليده عموما ، ليس معناه إنفاذ الحكم الخاصّ المخالف لرأيه ، وجواز إنفاذ الحكم الخاصّ المخالف لرأيه ممنوع.

والكلام في إمضاء القضاء السّابق غير ما نحن فيه ، وهو لا يستلزم أن يكون ذلك من باب التّصويب ، ولعلّه لما ذكرنا قال «صاحب المعالم» رحمه‌الله (١) في آخر المبحث : وكيف كان فلا أرى للبحث في ذلك بعد الحكم بعدم التأثيم ، كثير طائل.

__________________

(١) ص ٥٣١

٢٣٠

قانون

يتوقّف تحقّق الاجتهاد وكماله على أمور.

أمّا ما يتوقّف عليه تحقّقه ، فهو أمور :

الأوّل ، والثّاني ، والثّالث : العلم بلغة العرب ، والصّرف ، والنّحو ، فإنّ الكتاب والحديث عربيّان ويعرف أصل مفردات الكلام من علم اللّغة وتصاريفها الموجبة لتغيير معانيها بالمضيّ والاستقبال والأمر والنّهي وغيرها من الصّرف ، ومعانيها التركيبيّة الحاصلة من تركيب العوامل اللّفظيّة والمعنويّة مع المعمولات من علم النّحو.

والعلم بالمذكورات إمّا بسبب كون المجتهد صاحب اللّغة كالمستمعين للخطابات المحاورين مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام من أهل اللّسان ، أو بسبب التعلّم من أفواه الرّجال ، أو ممارسة كلامهم بحيث يحصل له الاطّلاع ، أو بالرّجوع الى الكتب المؤلّفة فيها ، فلا وجه لما يقال : إنّ العربيّ القحّ (١) لا يحتاج الى علم الصّرف والنّحو واللّغة.

ويمكن تحصيل مراد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام بتتبّع كلماتهم ومزاولتها ، إذ المراد من القول بتوقّف الاجتهاد على تلك العلوم هو معرفة مسائلها التي يتوقّف الفهم عليها بأيّ نحو حصل ، مع أنّ كثيرا من العلماء المتتبّعين الممارسين من العرب أيضا ربّما يحتاجون الى مراجعة الكتب التي ألّفوها في هذه العلوم فضلا عن غيرهم ، خصوصا في بعض الألفاظ.

__________________

(١) وهو الخالص من كل شيء ، فيقال : أعرابيّ قحّ وقحاح.

٢٣١

الرّابع : علم الكلام ، لأنّ المجتهد يبحث عن كيفيّة التكليف ، وهو مسبوق بالبحث عن معرفة نفس التكليف والمكلّف ، فيجب معرفة ما يتوقّف عليه العلم بالشّارع ، من حدوث العالم وافتقاره الى صانع موصوف بما يجب ، منزّه عمّا يمتنع ، باعث للأنبياء مصدّقا إيّاهم بالمعجزات ، كلّ ذلك بالدّليل ولو إجمالا.

والتّحقيق ، أنّ العلم بالمعارف الخمسة واليقين بها لا دخل له في حقيقة الفقه. نعم ، هو شرط لجواز العمل بفقهه وتقليده ، فإذا فرض أنّ كافرا عالما استفرغ وسعه في الأدلّة على ما هي عليه واستقرّ رأيه على شيء على فرض صحة هذا الدّين ، ثمّ آمن وتاب وقطع بأنّه لم يقصّر في استفراغ وسعه شيئا ، فيجوز العمل بما فهمه.

ولا ريب أنّ محض التّوبة والإيمان لا يجعل ما فهمه فقها ، بل كان ما فهمه فقها ، وكان استفراغ وسعه على فرض صحّة المباني.

وهذا هو التّحقيق في ردّ الاحتياج الى العلم بالمعارف الخمس ، لا أنّ ذلك لا يختصّ بالمجتهد ، بل هو مشترك بين سائر المكلّفين ، كما ذكره الشّهيد الثّاني في كتاب «القضاء» من «شرح اللّمعة» (١) وغيره.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفة أنّ الحكيم لا يفعل القبيح ، ولا يكلّف بما لا يطاق ، يتوقّف عليه معرفة الفقه ، وهو مبيّن في علم الكلام.

ووجه توقّف الفقه عليه أنّ الخطاب بما له ظاهر ، وإرادة خلافه من دون البيان قبيح ، فيجوز العمل بالظّواهر ، ويترتّب عليه المسألة الفقهيّة.

فإذا قلنا : إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، فيترتّب عليه أنّ المسألة الفقهيّة هو ما اقتضاه ظاهر اللّفظ ، فأمثال ذلك ، هذا هو الموقوف عليه من علم الكلام.

__________________

(١) «الرّوضة البهية» ١ / ٢٧٧ من النّسخة المطبوعة عن الحجريّة.

٢٣٢

الخامس : معرفة المنطق ، لأنّ استنباط المسائل من المأخذ يحتاج الى الاستدلال ، وهو لا يتمّ إلّا بالمنطق ، وكون الاستدلال بالشّكل الأوّل والقياس الاستثنائي بديهيّا ، وتحصيل النّتائج من المقدّمات غريزيّا طبيعيّا ، لا ينافي الاحتياج إليه فيما عرض الذّهن مرض الاعوجاج والغفلة بسبب الشّبهات.

كما أنّه قد يحتاج الطّبع الموزون الى استعمال العروض لنفسه أو لردع غيره من الغلط والاشتباه ، وذلك غير خفيّ على من زاول الاستدلال في العلوم.

وما يقال : من أنّ المنطق لو كان عاصما عن الخطأ لما أخطأ المنطقي في الاستدلال ضعيف إذ الإنسان جائز الخطأ في كلّ مرحلة إلّا من عصمه الله ، ولكنّه محفوظ عن الخطأ في الأغلب.

السّادس : معرفة أصول الفقه ، وهو أهمّ العلوم للمجتهد ، ولا يكاد يمكن تحصيل الفقه إلّا به ، ولا بدّ أن يكون على سبيل الاجتهاد ، لكثرة الخلافات فيه ، بل وكذلك الكلام في خلافيّات اللّغة والنّحو والصّرف أيضا ممّا يتفاوت به الأحكام ، كالاجتهاد في معنى الصّعيد والإزار والأنفحة ، ونحو ذلك. ويكفي في الأصول الظّنّ فيما لم يمكن فيه تحصيل العلم.

وما قيل : من أنّ مسائل الأصول ممّا لا بدّ فيه من العلم مطلقا ، فلا تحقيق فيه ، وقد أشرنا إليه سابقا ، ووجه توقّف الاجتهاد والفقه عليه من وجوه :

الأوّل : أنّ من أدلّة الفقه ، الكتاب والسنّة ، ولا ريب أنّهما وردا قبل ألف سنة أو أزيد ، ولا نعلم اتّحاد عرف الشّارع وعرفنا ، بل نعلم مخالفتهما في كثير ونشكّ في كثير.

نعم ، يحصل العلم بالاتّحاد في بعضها ، فلا كلام لنا فيما عرف مراد الشّارع أو

٢٣٣

اصطلاحه ، وأمّا فيما لا نعلم المراد والاصطلاح ونعلم التغيير لكن لا نعلم عرفه بخصوصه ، أو نشكّ في التغيير فنحتاج الى معرفته ، إذ المكالمة كانت (١) على وفق عرفه وعرف أهل خطابه.

وقد عرفت أنّ التّحقيق ، أنّ الخطاب مخصوص بالحاضرين ، وشراكتنا معهم في التكليف لا يستلزم كوننا مخاطبين ، فنحتاج في ذلك الى تحصيل مراد الشّارع أو عرف زمانه ، فتارة نتمسّك بالتّبادر وأمثاله فنثبت الحقيقة في عرفنا أو في اللّغة ثمّ نضمّ إليه أصالة عدم النقل والتعدّد فنثبت عرف الشّارع ، وأخرى نتمسّك باستقراء كلام الشّارع وتتّبع موارد استعماله ، فنحكم بثبوت الحقيقة الجديدة في كلامه.

ومن ذلك نحتاج الى رسم مباحث من أصول الفقه ، مثل مباحث الحقيقة الشرعية ، والأوامر والنواهي والمشتق والعموم والخصوص ، ونحوها ممّا يتعلّق بفهم معاني الألفاظ ، ومن جملة ذلك مباحث المفاهيم أيضا على وجه وهو الاعتماد على الفهم العرفيّ لا على ما استدلّوا به من لزوم اللّغو في كلام الحكيم لو لم يكن فائدة القيد بيان انتفاء الحكم عند انتفاء القيد.

وأيضا يثبت الإجماع والأخبار أنّ فيهما خاصّا وعامّا ، ومطلقا ومقيّدا ، وناسخا ومنسوخا ، ومحكما ومتشابها. وظاهر تلك الأخبار ، بل صريحها لزوم ملاحظة المذكورات ، وذلك يقتضي معرفة المذكورات وما يتفرّع عليها.

وأيضا نعلم بالعيان وقوع التعارض في الأخبار ، بل بين الأخبار والكتاب ، ومع ذلك نعلم بقاء التكليف ، ونعلم عدم المناص عن العمل بها ، فلا بدّ من معرفة العلاج وكيفيّة العمل ، وذلك يتوقّف على معرفة مباحث التّراجيح وكيفيّة العلاج

__________________

(١) في نسخة الأصل (كان).

٢٣٤

وما يتفرّع عليهما.

وأيضا لمّا كان استنباط الأحكام منهما مع الاختلالات الكثيرة والاختلافات العظيمة المحتاجة الى النّقد والانتخاب والتمييز بين الحقّ والباطل ، وما ورد على وجه التقيّة وغيرها ، والتّرجيح بين الأدلّة المتعارضة ، مضافا الى المباني الصّعبة في شرائط الفهم ، وتحصيل معرفة مبانيها ليس شأن كلّ أحد ، بل لا يتمكّن منها إلّا الأوحديّ في كلّ زمان ، فلا بدّ أن يكون تكليف من ليس له هذه المرتبة ، الأخذ ممّن له هذه المرتبة وذلك يحتاج الى معرفة مباحث الاجتهاد والتقليد ، وأنّ المجتهد من هو ، والاجتهاد كيف هو ، وشرائطه ما هي ، وهل يشترط كونه حيّا وعادلا وإماميّا أم لا ، وهل يشترط تكرّر النّظر في الوقائع أم لا ، وهل يجب المشافهة أو يكفي مع الواسطة ، ولا بدّ أن يكون الواسطة عدلا ، وهل يكفي في معرفة المجتهد الظنّ أو يجب العلم ، وكيف يمكن معرفته للعامّيّ ، وغير ذلك.

وكلّ ذلك يعلم من علم الأصول.

والثّاني : أنّ من جملة الأدلّة الاستصحاب ، والإجماع ، فلا بدّ من معرفتهما ومعرفة أقسامهما ، ومعرفة ما هو الحجّة منهما من غيرهما وحال التّعارض الواقع بين الاستصحابين ، ومعرفة حال كلّ من أقسامهما ، وكلّ ذلك في كتب الأصول.

والثالث : أنّ من جملة الأدلّة العقل ، ولا بدّ من معرفة أنّ أيّ حكم من أحكامه حجّة ، هل هو ممّا يستقلّ به العقل أو غيره.

والرّابع : أنّه إذا لم يوجد دليل في مسألة بالخصوص ، ولم يستقلّ بحكمها العقل ، فهل الحكم فيه البراءة والإباحة أو الحرمة أو التّوقّف وغير ذلك.

وكلّ ذلك يتكفّل ببيانه علم الاصول.

والخامس : أنّه إذا اقتضى عموم الكتاب أو السنّة شيئا واقتضى العقل أو عموم

٢٣٥

آخر خلافه ، واتّفق اجتماع العامّين في فرد كالصلاة في الدّار المغصوبة حكمه ما ذا ، وهل يجوز كون الشّيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهتين أم لا؟

ومثل ما لو أمر الشّارع بشيء مضيّقا وفعل المكلّف في هذا الحين ما هو ضدّه ، فهل يحكم بحرمة الضّد وبطلانه لو كان عبادة أم لا؟

ومثل ما لو أمر الشّارع بشيء ، فالعقل وإن كان يحكم بأنّ فعل مقدّماته ممّا لا بدّ منه في تحقّقه ، لكن الشّارع هل أراد بذلك الخطاب فعل هذه المقدّمات أيضا ، بأن يكون هناك واجبات شرع متعدّدة ، أم الواجب إنّما هو الذي ورد الخطاب به ولا يتعلّق الوجوب الشّرعيّ بمقدّماته ونحو ذلك.

ولا ريب أنّ هذه كلّها من المسائل الفقهيّة ولا بدّ لها من مأخذ ، فلا بدّ من تحقيق الكلام في اجتماع الأمر والنّهي ، وفي أنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ أم لا؟ ويقتضي وجوب مقدّمته أم لا؟

والمتكفّل بكلّ ذلك هو علم الأصول.

وأورد الأخباريّون على الاحتياج الى هذا العلم شكوكا واهية ، ولا يخفى اندفاعها على من له أدنى تأمّل ، ولكنّا نذكرها ونجيب عنها لئلّا يتوهّم من لم يطّلع عليها أنّ لها حقيقة ولا يحسب أنّها كلام تحقيقيّ.

فمنها : أنّ علم الأصول قد حدث تدوينه بعد عصر الأئمة عليهم‌السلام ، وإنّا نقطع أنّ قدماءنا وحاملي أخبارنا لم يكونوا عالمين بها وقد كانوا يتديّنون بدين أئمتهم عليهم‌السلام ويعملون بأخبارهم ، ومع ذلك قرّرهم أئمتهم عليهم‌السلام على ذلك ، فاستمرّ ذلك الى زمان ابن عقيل وابن الجنيد ، ثمّ حدث بينهم تدوين علم الأصول.

والجواب عنه : أمّا أوّلا : بأنّ ما ذكره من عدم علم القدماء بهذا العلم محض دعوى ، وعدم اطّلاع المعترض لا يدلّ على العدم ، وعدم تدوين العلم لا يدلّ على

٢٣٦

عدم وجوده رأسا.

ولعلّك قد قرع سمعك ما روي أنّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام امر أبا الأسود الدّؤليّ [الدّئليّ] بتدوين علم النّحو وتأسيسه ، فهل يحسن منك أن تقول : إنّ قبل ذلك لم تكن مسائل النّحو ثابتة في نفس الأمر؟

فما نحن فيه أيضا كذلك ، بل نقول : يحصل لمن تتبّع الأخبار ، العلم بوجود ذلك العلم في الصّدر الأوّل ، فإنّ حكم تعارض الأدلّة ، وما لا نصّ فيه ، والقياس والاستصحاب والعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، والنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، وجواز الرّواية بالمعنى والإفتاء والتقليد ، وغير ذلك ، يستفاد من الأخبار وجودها في الجملة ، وكثير من المباحث لم يكونوا محتاجين إليها حينئذ لعدم تغيير العرف ، كمعرفة مباحث الحقيقة الشّرعيّة والأوامر والنّواهي وأمثال ذلك.

وعدم احتياجهم الى معرفة هذه المسائل لا يستلزم عدم احتياجنا ، كما لا يخفى على ذي مسكة ، مع أنّ في الأخبار إشارة الى كثير منها أيضا ، مثل ما ورد في الرّوايات أنّ الرّاوي سأل الإمام عليه‌السلام أنّ الله تعالى قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ)(١) ولم يقل : افعلوا ، فما وجه الوجوب؟ وقرّره الإمام عليه‌السلام على معتقده مع أنّه كان من أهل اللّسان أيضا.

وأجاب عليه‌السلام من باب القلب أنّه تعالى قال في سعي الصّفا والمروة أيضا : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(٢). مع وجوبه ، يعني أنّ الوجوب مستفاد من دليل

__________________

(١) النساء : ١٠١.

(٢) البقرة : ١٥٨.

٢٣٧

آخر.

ومثل ما ورد في مفهوم الشرط في حكاية قول إبراهيم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(١). إنّ الإمام عليه‌السلام قال : «ما كذب إبراهيم عليه‌السلام فإنّه قال : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون» (٢).

وكذلك في بعض الأخبار دلالة على أنّ النّهي يدلّ على التحريم أم لا. وحكاية مخاصمة ابن الزبعري مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معروفة (٣).

وأمّا مثل مسألة جواز العمل بخبر الواحد وعدمه ، وجواز العمل بظاهر الكتاب وعدمه أيضا ، فيظهر من الأخبار ، بل ادّعى جماعة من قدماء أصحابنا ، إجماع الإماميّة على حرمة العمل ، بل ادّعى بعضهم استحالته عقلا ، وليس معنى الإجماع إلّا اتّفاق الإماميّة الكاشف عن رأي رئيسهم.

وكذلك النّزاع في أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان أم لا ، نسلّم كونه من المحدثات ، بل كان مشهورا بين القدماء ، ويظهر من كلام الفضل بن شاذان على ما نقله الكليني رحمه‌الله في «الكافي» في كتاب «الطلاق» (٤) أنّ طريقة الإماميّة كانت القول بالاجتماع وصحّة الصلاة في الدّار الغصبيّة كما أشار إليه العلامة المجلسيّ رحمه‌الله في «البحار».

وكذلك كلّ مسألة ادّعي إجماع الإماميّة عليه مثل مسألة دلالة الأمر على الوجوب أو الفور أو نحو ذلك ، يكشف عن وجود القول بهذه المسائل عند

__________________

(١) الأنبياء : ٦٣.

(٢) «تفسير القمي» ٢ / ٤٦.

(٣) وقد ذكرها راجع المتن والتعليق من «القوانين» ج ١ ص ٤٤٣ ، من هذه الطّبعة.

(٤) ٦ / ٩٨ باب ٦٧.

٢٣٨

القدماء ، ولا يحسن لعاقل إذا دار الأمر بين النّفي والإثبات ، وتردّد مذهب القدماء بين أحدهما ، أن يقولوا : لم يكونوا قائلين بأحد الطّرفين. مثلا إذا قلنا لك : هل كان أصحاب الأئمة عليهم‌السلام قائلين بدلالة الأمر على الوجوب أم لا؟

فإن قلت : لم يكونوا قائلين بشيء منهما ، فهذا شطط من الكلام.

وإن قلت : كانوا قائلين بدلالته على الوجوب ، فهي مسألة أصولية.

وإن قلت : كانوا قائلين بعدم الدّلالة ، فهي أيضا مسألة اصوليّة ، إذ الأصوليّون يختلفون في المسائل.

فقال بكلّ من الطّرفين قائل ، مع أنّ ما بلغنا من الأخبار ليس إلّا قليل ممّا روته أصحابنا ، ولعلّه كان فيما لم يبلغنا ما يدلّ عليها.

وذهب بالحوادث كسائر الأخبار أو بسبب أنّهم لم يعتنوا بها بسبب كمال وضوحها ، مع أنّ الحكمة قد كان يقتضي إلقاء العلوم تدريجا كما هو الدّيدن والدّأب في الفروع ، إذ لم يجر عادة الله تعالى بإمكان تعليم الأمور الغير المتناهية دفعة ، وكذلك تعلّمها. فقد تتفاوت أحوال الأزمنة ، بل الأشخاص في زمانين ، فمتى اقتضت المصلحة يظهرون ما لم يظهروه في الآن الأوّل ، فقد تقتضي المصلحة ذكر بعض دون بعض ، وكذا قد تقتضي المصلحة في البعض الذي ذكروه أن يجملوه أوّلا ثمّ يفصّلوه ، وقد يقتضي الإجمال وحوالة التفصيل على أفهامهم لإمكان تحصيله من الإجمال ، بل هذا هو الطريق في أصول الدّين أيضا ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي من الأعرابي بإظهار الشّهادتين مع أنّ الإسلام أمور كثيرة هما إجمالها ، فالشّهادة بالتوحيد لا تتمّ إلّا بتنزيه الله تعالى عن الشّريك والنّظير والجسميّة والمكان وما يستلزمانه ، وكونه مستجمعا للصفات الكمالية بحيث لا يلزم منه التركيب والاحتياج وحلول الأعراض فيه وغير ذلك ، وعدم صدور

٢٣٩

القبيح واللّغو عنه ونحو ذلك.

وكذلك الشّهادة بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتضمّن أمورا كثيرة من صفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته وصدقه وحقيقة ما جاء به وأخبر به وما قد يوصي به لما بعده من أمر الخلافة وغيره.

ولا ريب أنّ هذه كلّها لا تحصل لكلّ من المكلّفين في الآن الأوّل ، فلا مانع من اقتضاء المصلحة تأخير الإظهار للصدر الأوّل في كثير من المسائل ، لأنّهم كانوا في فهم ما يحتاجون إليه مستغنين عن التعلّم ، وفيما لا يحتاجون إليه لم تقتض المصلحة تفصيله.

ثمّ إنّ تزايد مسائل الأصول في الكتب المدوّنة بعد إثبات حقيّة مجملاتها ، وثبوت إشارة المعصومين عليهم‌السلام إليها مجملا ، ليس ببدع فيما جرى به عادة الله تعالى في سائر العلوم ، حيث تتزايد يوما فيوما بحسب تفطّن المدقّقين وسنوح العوارض بسبب اختلاف الأحوال ، وأكثرها وضوحا في هذا المعنى هي (١) مسائل الفقه ، إذ الأحكام المتلقّاة من الشّارع المتداولة في أفهام حاملي الأخبار وألسنتهم ومحاوراتهم أقلّ قليلا ممّا فرّع عليها الفقهاء وقرّروه [وقرّره] في كتبهم. فقد ترى كثيرا من فنون الفقه ليس فيه إلّا أقلّ قليل من الأخبار ، مع وفور مسائلها المتفرّعة عليها بعد تدقيق النّظر.

فقد ترى كتاب «الإقرار» من أبواب الفقه مشتملا على مسائل كثيرة والأصل فيها هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢).

__________________

(١) في نسخة الأصل (هو).

(٢) «الوسائل» ٢٣ / ١٨٤ ح ٢٩٣٤٢.

٢٤٠