القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ولكن في غير الظنّ الحاصل من الآية.

ففيه : أنّ لغير هذا الظنّ أيضا عرضا عريضا قد أخرج منه ألف ظنّ ، كالبيّنة والإقرار واليد وغير ذلك ، فلم يبق ما يمكن فيه دعوى القطع إلّا مثل القياس ، ونحن نقول به أيضا ، ولا ينفعك فيما رمته.

فإن قلت : إنّ الإجماع إنّما هو على حجّية جميع مقتضيات الظّواهر حتّى المستفاد من الآيات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، لكن في غير ظاهر القرآن ونظائره ، يعني وقع الإجماع على أنّ كلّ الظّنون الحاصلة من القرآن واجب العمل غير الظنّ الحاصل منه بمثل حرمة العمل بالظنّ الحاصل من القرآن.

قلت : بعد تسليم صحّة هذه الدّعوى يرجع هذه الى دعوى الإجماع على حرمة بعض المظنونات دون بعض ، لا على وجوب العمل على الظّواهر الدّالّ بعضها على حرمة العمل بالظنّ ، إلّا الظنّ الفلاني ، وليس هذا من باب إثبات حجّية العامّ بالإجماع إلّا ما أخرجه الدّليل حتّى ينفعك في مقام إثبات حجّية الظّنون الحاصلة من القرآن ، بل من باب إثبات حجّية بعض المظنونات بالإجماع ، وهو ما حصل من سائر الظّواهر وبعض مدلول ما دلّ على حرمة العمل بظاهر القرآن ، وهو غير حرمة الظنّ الحاصل من القرآن الدّاخل في آيات تحريم العمل بالظنّ ونحوه.

وبعبارة أخرى : هذا إجماع على بعض مدلول آيات تحريم العمل بالظنّ ، وهو حرمة العمل على غير الظنّ الحاصل من القرآن ونحوه ، وهذا البعض ليس بظاهر هذه الآية حتّى نقول : إنّه من الظّواهر التي تثبت حجّيتها بالإجماع.

فإن قلت : إنّ الاجماع انعقد على أنّ الأصل جواز العمل بما يحصل الظنّ به من الكتاب مطلقا ، فالإجماع إنّما هو على جعل الحجّة هو الظن الحاصل من الكتاب ما لم يثبت المخرج عنه.

٢١

قلت : لو سلّمنا منك هذا الإجماع ، فهذا عدول عن أصل الدّعوى ، لأنّ الدّعوى إنّما هي الإجماع على حجّية الظّواهر بعنوان العموم ، يعني حجّية كلّ واحد منها بحيث يكون الأفراد متعلّقا لدعوى الإجماع.

وهذا الكلام يقتضي دعوى الإجماع على قاعدة كليّة ، ومع ذلك فنقول حينئذ : خروج الظنّ الحاصل من الكتاب من عموم آيات تحريم الظنّ لا بدّ أن يكون من دليل قطعيّ أو ظنّي علم حجّيته ، فما هذا الدّليل؟

وقد فرضت أنّ الدّليل القطعيّ هو الإجماع المذكور ، وقد أبطلنا قطعيّته لدخول العامّ المخصّص ، أعني آيات تحريم العمل بالظنّ في مورده.

وأمّا إذا بطل قطعيّته ، فلا دليل على حجّيته ، لدخوله تحت عمومات الآيات المذكورة وإن كان الدّليل شيئا آخر من خبر متواتر أو شيء آخر ، فمع أنّه غير مسلّم وغير معلوم ، فهو خروج عن إثبات المطلب بالإجماع ، فلم يبق إلّا الاعتماد على الظنّ الاجتهاديّ.

فإن قلت : نحن ندّعي أنّ الإجماع على مجموع قولنا : إنّ كلّ الظّواهر حجّة ما لم يثبت المخرج عنه.

فهذه قاعدة قطعيّة خصّصنا به عموم آيات التحريم ، وخروج بعض الظّواهر بالدّليل لا يوجب عدم جواز العمل بالباقي.

قلت : قد أشرنا سابقا الى بطلان هذه الدّعوات ومنعها بقولنا : لو سلّمنا صحّة هذا التخصيص يرد عليه أنّ ذلك مستلزم لتخصيص ذلك الإجماع ، الى آخره.

فإن شئت أن أبيّن لك وجه المنع وعدم التّسليم حتّى يندفع عنك هذه الشّبهة.

فبيانه : أنّ الأصوليّين قد ذكروا أنّ دلالة العامّ على كلّ واحد من أفراده دلالة تامّة ، ويعبّرون عنه بالكلّي التّفصيليّ والكلّيّ العدديّ.

٢٢

فنقول : دلالة هذه القاعدة التي أثبتها الإجماع على وجوب العمل بآيات تحريم الظنّ دلالة تامّة ، وليس من باب دلالة المشترك على معنييه حين استعماله فيهما على القول بجوازه ، ولا من باب الكلّي المجموعيّ ولا من باب دلالة كلّ واحد من ألفاظ الكلمة المركّبة على معناها.

فنقول : قولك : إنّ كلّ واحد من ظواهر الكتاب حجّة إلّا ما أخرجه الدّليل ، ينطبق بعمومه على آيات التحريم ، ويدلّ على حجّيتها دلالة تامّة ، وحينئذ فلا بدّ أن يكون المخرج والمخصّص ـ بالكسر ـ مغايرا للعامّ والمخصّص ـ بالفتح ـ وإلّا لم يكن دلالة العامّ على الآيات المذكورة دلالة تامّة.

فإذا كان جواز العمل بآيات التحريم هو مقتضى نفس تلك القاعدة العامّة ، فلا بدّ أن يكون المخصّص والمخرج شيئا آخر لاستحالة اتّحاد المخصّص والمخصّص ، لأنّ كلّ واحد من أفراد العامّ متساوي النّسبة مع الآخر في دلالة العامّ عليه ، وحجّية العامّ فيه.

نعم ، يصحّ الكلام إن قلت ، وقع الإجماع على حجّية آيات التحريم بعمومها وانعقد إجماع آخر على حجّية سائر الظّواهر ، وهذا الإجماع الثاني مخصّص لمقتضى الإجماع الأوّل.

والمفروض أنّ الإجماع المدّعى شيء واحد وهو الإجماع على حجّية ظواهر الكتاب من حيث إنّها ظواهر الكتاب ، ولم يدّع أحد الإجماع على حجّية آيات التحريم من حيث إنّها آيات التحريم ، ولو إدّعاه أحد فهو خروج عمّا نحن فيه ، والكلام عليه على نهج آخر.

والحاصل ، أنّ القاعدة التي تدّعيها بالإجماع هو عامّ منطبق على جزئيّاته بالدلالة التّامّة ، ولا يجوز أن يدفع دلالتها على بعض جزئيّاتها بدلالتها على البعض

٢٣

الآخر ، للزوم التناقض في الكلام ، ويعود عليه البحث الذي ذكرناه سابقا وهو أنّ ما يثبت وجوده عدمه فهو محال.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا يمكن أن يقال هنا في مقام التّوجيه بعبارة أخرى ، وهو أنّ الإجماع انعقد على حجّية كلّ الظّواهر بعنوان العموم وانعقد إجماع آخر على عدم حجّيّة هذا الظّاهر الخاصّ ، أعني دلالة آيات التحريم على حرمة العمل بظاهر القرآن ، وهذا الإجماع الثاني مخصّص للإجماع الأوّل ، وذلك لأنّ هذا الإجماع الثاني لا معنى له في الحقيقة إلّا الإجماع الأوّل.

فأمّا ذلك الإجماع لا أصل له ، وأمّا آيات التّحريم فلا عموم فيها أصلا ، بل هي مخصوصة بمعنى معيّن مثل أصول الدّين أو ما يتّهم به المسلمون ونحو ذلك ، وأيّهما ثبت يكفينا في إتمام المطلوب وهو بطلان أصالة حرمة العمل بالظنّ.

فتأمّل فيما ذكرته بعين الدّقّة والإنصاف تجده حقيقا بالقبول إن شاء الله تعالى.

ثمّ إن تنبّه الخصم بما ذكرنا له من الجواب ، وأعرض عمّا تحاوله أوّلا من تخصيص عموم آيات التحريم بالإجماع المدّعى ، ورام سلوك مسلك آخر لتأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وقال : إنّه لا تخصيص هنا أصلا ، بل دلالة القاعدة المستفادة من الإجماع دلالة تامّة واردة على جميع جزئيّاتها ، بتقريب أنّ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وأمثاله باقية على ظاهرها ، فإنّ المراد منها النّهي عن الظنّ الذي لم يكن مستندا الى قاطع ، وسائر الظّنون الحاصلة من سائر الآيات مستفادة من القاطع ، وهو القاعدة المعلومة بالإجماع ، فلم يدخل تحت آيات التحريم حتّى يحتاج الى التخصيص أو الى إجماع آخر.

__________________

(١ ـ ٢) الإسراء : ٣٦.

٢٤

فنقول في جوابه : إنّ هذا غفلة عن الفرق بين الظّاهر والقاطع ، بل الحقيقة والمجاز. فإنّ الضمير المجرور في قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) يعود الى الموصول نفسه لا إلى وجوب العمل به ، فيحتاج ما ذكرته الى إضمار ، بل يلزم استعمال الضمير في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في استعمال واحد ، وهو باطل ، يعني (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢).

ولا بوجوب [يوجب] العمل به علم ، أو لا بدّ أن يحمل العلم على معنى يشمل العلم وما يوجب العمل به ، وهو أيضا مجاز ، فأين مقتضى القاعدة الحاصلة من قرينة للتجوّز في بعضها الآخر ليس بأولى من العكس لوقوع الكلّ في مرتبة واحدة فيحتاج الى دعوى إجماع آخر ، بل إجماعين آخرين ، وقد عرفت الحال فيه.

وكذلك في الآيات النّاهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّ حمل الظنّ على الظنّ الذي لا قاطع على العمل به ، تخصيص صريح ، وهو كرّ على ما فرّ منه.

وبالجملة ، لا ريب أنّ ما يحصل من قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)(٣) مثلا الظنّ بأنّ حكم الله تعالى في الواقع وجوب تطهير الثّوب عن النجاسة ، لا العلم به ، لاحتمال إرادة مطلق التنظيف والتّقصير ، وهذا هو المعنى الحقيقي للظنّ ، ووجوب العمل على هذا الظنّ لو ثبت ، لا يخرج ذلك الحكم عن كونه مظنونا ، وهذا واضح لا سترة فيه.

ثم إن رجع الخصم وقال : إنّ كلّ ظاهر قام عليه دليل قاطع فهو معلوم بحسب

__________________

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) المدثّر : ٤.

٢٥

الظّاهر مظنون بحسب الواقع كالعلم بكون مال زيد له ، وكذا زوجته بمجرّد اليد والتصرّف. وذلك كما يقال في توجيه لفظ العلم في تعريف الفقه : إنّه هو العلم بالأحكام الشرعيّة.

وهذا هو معنى قولهم : ظنيّة الطّريق لا ينافي قطعيّة الحكم ، كما هو الأظهر في توجيهاته (١).

فنقول في دفعه : إنّ كلامه هذا يحتمل معاني ثلاثة : إمّا أنّه معلوم أنّه ظاهر ومظنون من الآية ، وإمّا أنّه معلوم يجب العمل بما هو ظاهر عن الآية ، وإمّا أنّ ما هو مقتضى الظّاهر ومدلول اللّفظ فهو معلوم.

أمّا الثالث ، فبديهيّ البطلان لوضوح المغايرة بين المظنون والمعلوم والظنّ والعلم.

وأمّا الثاني ، فيرجع الى ما تقدّم من كون المراد من المعلوم ، المعلوم وجوب عمله ، وهو معنى مجازيّ للعلم.

ويرد عليه ما سبق.

وأما الأوّل ، فكأنّه هو المراد بقرينة الاستشهاد بحكاية اليد ، وعلم الفقه.

ففيه : أنّ المراد في تعريف «الفقه» من العلم هو الإدراك العلميّ للأحكام الظّاهرية الظّنيّة من الأدلّة التفصيليّة على أظهر الوجوه في معنى العلم هنا ، كما حقّقناه في أوّل الكتاب.

ولكن ذلك لا يفيد إلّا أنّه حصل العلم بما هو مظنون أنّه حكم الله تعالى ، وذلك لا يجدي في كون الحكم علميّا بمعنى كون ذلك التّصديق مطابقا للواقع ، ولكنّ لمّا

__________________

(١) راجع «المعالم» ص ١٥١.

٢٦

ثبت بالبرهان القطعيّ كون ذلك المظنون حكما شرعيّا له حين انسداد باب العلم ، فيجب العمل به ، فحصول العلم بالمظنون لا يجعل المظنون معلوما ، بل يجعل الكبرى الكلّيّة للمجتهد مظنونة واجب العمل.

والحاصل ، أنّ المراد بالعلم في تعريف «الفقه» وإن كان هو معناه الحقيقي على أظهر الوجوه ، لكن متعلّقه الظنّ ، يعني يحصل للفقيه العلم بظنّه الذي هو حكم الله تعالى في حقّه بسبب تلك الكبرى الكليّة الثابتة من الخارج ، فحينئذ يصير معنى قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) منطبقا على المدّعى ، ولكن لا ينفع للخصم في شيء.

فإنّا نسلّم أنّا نعلم أنّ المظنون من آيات القرآن كذا ، ولا نقتفي [نقتضي] غيره بأن نقول : هذا ليس بمظنون من الكتاب ، ولكن هذا لا ينفع إلّا مع إثبات وجوب العمل عليها من الخارج ، وبعد تسليم ثبوته لا يحصل منه شيء إلّا وجوب العمل على ذلك الظنّ ، ولا يثبت من ذلك كونه علما حتّى ينفعك في هذا.

والحاصل ، أنّ متعلّق العلم قد يكون ظنيّا ، وقد يكون شيئا ثابتا في الواقع ، وصيرورة الظنّ متعلّق العلم لا يجعل الظنّ علما ، وهو واضح.

ثمّ لمّا طال الكلام لما سامحنا الخصم في تسليم الإجماع ، فالقاطع للقال والقيل هو العود الى منع الإجماع.

ونقول : إنّ الإجماع هو اجتماع الفرقة بحيث يوجب القطع برأي الإمام عليه‌السلام ، ولم يتحقّق لنا بعد وقوع هذا الاجتماع ، فإنّ ذلك الاجتماع إمّا من ملاحظة فتاويهم صريحا وإمّا من حصول العلم برضاهم بذلك ، بحيث يحصل

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

٢٧

القطع برضاء رئيسهم.

أمّا الفتوى ، فلم يجتمع عندنا من فتاوى أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام والتّابعين لهم التصريح بأنّ كلّ ظنّ يحصل من ظواهر الكتاب في كلّ وقت وزمان وإن كان بعد ألف سنة حجّة لكلّ من يحصل له من العلماء ، وإن كان بعنوان القاعدة.

وأمّا أرباب التّصانيف من متأخّري أصحابنا ، فإن سلّم اجتماعهم على تلك الفتوى فغير معلوم أنّ فتواهم بذلك وتجويزهم العمل بتلك الظّواهر إنّما كان لأجل أنّها ظواهر الكتاب ، بل لعلّه كان من جهة أنّه ظنّ من الظّنون الاجتهادية.

وأمّا حصول العلم برضاهم بتقريب حصول العلم بالتتبّع من أحوال السّلف بأنّهم كانوا يستدلّون في محاوراتهم ومناظراتهم بالآيات القرآنيّة من دون نكير ، فهو لا يستلزم أنّ ذلك كان من جهة إجماعهم على حجّية الظّواهر ، بل لعلّه كان لحصول القطع بها بسبب القرائن والأمارات ، وقد كان مختفيا على خصمه فاحتاج الى التنبيه ، كما نبّه الصّادق عليه الصلاة والسلام (١) على الرّاوي الذي كان يستمع على غناء الجواري حين جلوسه على الخلاء لمظنّة أنّه ليس بحرام لأنّه لم يأت إليها برجله ؛ بقوله عليه‌السلام : أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٢).

واستدلال أبي بكر لعمر حيث شكّ في موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(٣) ، فمن ادّعى تحقّق الإجماع فالعهدة عليه ولا حجّة علينا.

__________________

(١) «الكافي» ٦ / ٤٣٢ ح ١٠.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) الزّمر : ٣٠.

٢٨

والحاصل ، أنّ دعوى الإجماع على حجّية ظواهر الكتاب حتّى في آيات تحريم العمل بالظنّ ، ثمّ بعد ذلك دعوى ظهور آيات التحريم في كلّ ظنّ لم يقم على حجّيته قاطع حتّى في أمثال زماننا التي انسدّ باب العلم فيها غالبا.

ودعوى اندراج كلّ هذه الظّنون تحت القاعدة المدّعى عليها الإجماع ، في غاية الغرابة.

ومن الغرائب أنّ الجماعة المتمسّكين في أصالة حرمة الظنّ مطلقا حتّى في أمثال زماننا بهذا الآيات ، يستدلّون في إثبات حجّية أخبار الآحاد والاستصحاب وغيرهما من الأدلّة الظنيّة بأنّ باب العلم في أمثال زماننا منسدّ ، والتكليف باق بالضّرورة ، فيجوز العمل بالظنّ وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ الاستدلال بهذا الدّليل يقتضي حجّية الظنّ مطلقا إلّا ظنّا قام القاطع على عدم حجّيته. ولا يصحّ أن يقال : مرادهم بهذا الاستدلال جواز العمل بالظنّ المعلوم الحجّية إذ الظنّ المعلوم الحجّية لا يحتاج الى استدلال في العمل إليه [عليه] وعلى قول الخصم من أنّ الظنّ المعلوم الحجّية علم وليس بظنّ ، كما مرّ ، فالأمر أظهر.

فحينئذ تتوجّه المعارضة بأنّ هذا الدّليل العقليّ القاطع في أمثال زماننا ، يفيد جواز العمل بالظنّ مطلقا إلّا ظنّا قام القاطع على بطلانه ، بل لا حاجة الى استثنائه ، لأنّه ليس بظنّ ، بل هو مقطوع بعدمه بحرمة العمل به قطعا.

فالحاصل ، أنّ الآيات إن سلّمنا وجوب العمل على عمومها مع إخراج الظنّ المعلوم الحجّية ، فيجب العمل على هذا الدّليل أيضا مع إخراج الظنّ المعلوم عدم حجّيته ، فارتفع بهذا الدّليل القطعيّ العقليّ الظّهور الذي ادّعيت من الآيات ، فصار المحصّل أنّ كلّ ظنّ لم يثبت بطلانه فهو حجّة ، وبطل القول بأنّ الأصل حرمة كلّ

٢٩

ظنّ إلّا ما ثبت حجّيته ، وإن كان ذلك كلام في هذا البرهان القطعيّ الذي تداوله المجتهدون في كتبهم في الأعصار والأمصار ، فهو يحتاج الى بسط كثير وتطويل غفير ، وقد شرحنا ذلك وأوضحنا [ه] في مبحث حجّية أخبار الآحاد ، وبيّنّا أنّ الأصل حجّية جميع ظنون المجتهد وأنّ الأصل في ظنّه الحجّية ، إلّا ما أخرجه الدّليل ، وبيّنّا وجه الاستثناء من الدّليل القطعيّ مع أنّ التخصيص من شأن الأدلّة الظنيّة ، وإن شئت فراجعه.

ومن قبيل البرهان المذكور براهينهم الأخر التي أقاموها على حجّية ظنّ المجتهد من لزوم ترجيح المرجوح لولاها ، ومن وجوب الاحتراز عن الضّرر المظنون ، ونحو ذلك ، فإنّ كلّ ذلك أدلّة على حجّية ظنّ المجتهد من حيث إنّه ظنّه ، لا من حيث إنّه ظنّ خاصّ من دليل خاصّ.

وتداول هذه الطريقة وتضافر كلماتهم بذلك من أجلى الشّواهد على بطلان دعوى أنّ مقتضى الإجماع المدّعى حجّية ظواهر آيات التحريم مطلقا ، إذ لو سلّمنا ذلك الإجماع في الجملة ، فكلماتهم هذه تنادي بأنّها مخصّصة بغير آيات تحريم الظنّ ، فتصير دعوى الإجماع مخصّصة ، يعني أنّ الإجماع وقع على حجّية ظواهر الكتاب إلّا ظاهر آيات التحريم في زمان انسداد باب العلم.

فكنّا في أوّل المسألة نكتفي منك بأن لا تردّ قولنا بمنع تحقّق الإجماع في حجّية عموم الظّواهر بحيث يشمل آيات التحريم مطلقا وإن اتكلنا (١) الى ما اكتفينا به من أنّ تلك الآيات ظنون وظواهر لا قاطع عليها ، والآن يوشك أن ندّعي الإجماع على أنّ تلك الظّواهر ليست بحجّة بتمامها ، لما عرفت من أنّ جماهير

__________________

(١) في نسخة الأصل (تكلنا).

٣٠

العلماء المحقّقين يستدلّون في كتبهم على ترجيح الظّنون بالأدلّة المذكورة التي مفادها حجّية ظنّ المجتهد من حيث إنّه ظنّ ، لا من حيث إنّه ظن مستفاد من دليل خاصّ ، وإلّا لم يحتج الى هذا الاستدلال.

ثمّ بعد التأمّل في جميع ما ذكرنا يظهر لك الجواب عمّا يمكن أن يورد على تلك البراهين القاطعة من باب المعارضة ، بأنّ مقتضى تلك البراهين العمل على الظنّ مطلقا ، فيدخل فيه ظنّ آيات التحريم إذ تلك أيضا ظنون وظواهر قبالا لما ذكرناه من دخول ظواهر الكتاب تحت آيات التحريم.

فإن قيل : إنّ البراهين قرينة على التّجوّز في آيات التحريم. فيقال : إنّ الإجماع على حجّية الظّواهر إجمالا قرينة على تخصيص آيات التحريم والتّجوّز فيها ، وذلك لأنّ تلك البراهين قاطعة لا تقبل التخصيص ، فهي مبطلة لآيات التحريم بعمومها ومخصّصة لها بغير صورة انسداد باب العلم ، ولا يمكن تخصيصها بظواهر آيات التحريم ، لعدم إمكان تخصيص القطعيّ ، وتخصيص تلك البراهين بالقياس والاستحسان ونحوهما ليس من باب التخصيص ، وقد بيّنّا الوجه فيها ، فلاحظه ، وسنبيّنه أيضا.

وحاصله ، إمّا منع حصول الظنّ بها سيّما مع ملاحظة ابتناء الشّريعة على جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات.

وإمّا بأنّ الاستثناء ممّا يدلّ على مراد الشّارع ظنّا ، لا أنّ الظنّ الحاصل منها مستثنى من مطلق الظنّ. وإمّا بمنع انسداد باب العلم في موارد مثل القياس بالنّسبة الى مقتضاه لثبوت حرمة العمل بمؤدّاه ، فيرجع الى سائر الأدلّة ويعمل عليه وإن وافق مؤدّاه مؤدّى القياس.

وإمّا بمنع ثبوت تحريم العمل عليه ضرورة حتّى في زمان الحيرة والاضطرار

٣١

وانسداد باب العلم ، وعلى المدّعي عهدة دعوى العلم والضّرورة.

ومن الغرائب أغرب ممّا استغربنا [ه] سابقا من الجمع بين الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ في سائر المواضع والاستدلال في جواز العمل بالظنّ ، مثل خبر الواحد وغيره بانسداد باب العلم ، ولزوم تكليف ما لا يطاق كما فعله صاحب «المعالم» رحمه‌الله ، ما قد نسمعه في عصرنا من أنّا إنّما كلّفنا بالواقع لا بعلم ولا ظنّ ولمّا كان العلم مطابقا للواقع ، قلنا : إنّا مكلّفون بالعلم ، ولمّا انسدّ بابه لم ينفتح باب الظنّ على الإطلاق ، لحرمته وكونه كأكل الميتة في المخمصة ، فيتقدّر بما يندفع به الحاجة ، وهو ظنّ المجتهد في بعض الأشياء ، وهو الدّليل ، لا ظنّ الكلّ في الكلّ ولا في البعض ، ولا ظنّ البعض في الكلّ ، وذلك لأنّ التناقض بين إدّعاء أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، والاستدلال بهذا الدّليل ممّا لا يخفى على ذي شعور ووهن.

هذا الكلام لا يحتاج الى البيان ، لكن لمّا صرنا في دهرنا ممتحنين بأمثال ذلك ، بل كم وقع من هذا القبيل في الأوائل والأواخر.

فنقول ، دفعا لما عسى أن يشتبه الأمر على بعض الطّلبة : إنّي أتكلّم في هذه المقالة في ظنّ المجتهد ولم أتعدّ الى غيره لتقليل المئونة وتسهيل المعونة ، فإذا سلّم انسداد باب العلم على المجتهد في بعض المسائل وأغلبها ، فما الظنّ الذي يجوز للمجتهد العمل عليه من باب أكل الميتة؟

فإن كان هو ظنّه من حيث هو ظنّه إلّا ما ثبت بطلانه بالدّليل ، فهو مطلوبنا ، لعدم اختصاصه بظنّ دون ظنّ.

وإن كان ظنّ علم حجّيته ، فنقول لك : بيّن لي أنّه هل يثبت حجّيته مطلقا ، يعني في حال حضور الإمام عليه‌السلام وغيبته ، وفي أمثال زماننا جميعا ، أو في زمان الغيبة

٣٢

وعدم الإمكان فقط.

فإن كان الأوّل ، فمع أنّه ممّا لا يمكن إثباته في أكثر الأدلّة ، فإنّ خبر الواحد لو سلّم الإجماع فيه ، فلا يثبت إلّا في الجملة كما هو واضح ، وفصّلناه في محلّه ، وهو لا يفيد اليقين في شيء كما هو واضح.

وكذا الاستصحاب وغيره إن سلّمنا كون حجّية الكتاب إجماعيّا كما مرّ الكلام فيه ، مع أنّه لا يثبت منه إلّا أقلّ قليل من الأحكام ، ولا يثبت أصل البراءة إن سلّم قطعيّته شيئا من الفقه أيضا ، فنقول : إنّ ذلك ليس من باب انسداد باب العلم سيّما على زعم الخصم من كون ما هو معلوم الحجّية علما ، وإن كان الثاني ، فبيّن لي أنّه أيّ ظنّ لا يجوز العمل به للمجتهد في حال الحضور وقام الدّليل على جواز العمل به في حال الغيبة؟

ولنختم الكلام بما عسى أن يختم به الكلام وإن كان ذلك غير مرجوّ من مثلي ، بل وأيّ كلام لا يرد عليه كلام عدا كلام الملك العلّام وأوليائه الكرام عليهم‌السلام.

ونعود الى ما كنّا فيه من القدح في الإجماع المدّعى على حجّية ظواهر الكتاب ، ونقول : إنّ المسلّم منه إنّما هو الإجماع على ما هو ظاهر عند المشافهين بها ومظنون عندهم ، أو فيما يحصل الظنّ به لكلّ أهل اللّسان وكلّ العلماء.

وأمّا ما يحصل الظنّ فيه للبعض دون البعض ، فلا معنى للإجماع على حجّية ذلك إلّا دعوى أنّ كلّ من يحصل له الظنّ فهو حجّة عليه دون غيره ، وإثبات الإجماع على ذلك.

بمعنى أنّ علماء الأمّة أجمعوا على أنّ كلّ من يحصل له الظنّ بشيء فهو حجّة عليه ، بحيث يحصل له القطع بأنّ رأي الإمام عليه‌السلام في هذه المسألة أنّ من يحصل له الظنّ من مفهوم المخالفة مثلا ، فهو حجّة عليه ، ومن لا يحصل فلا ، ومن يعتبر العامّ

٣٣

المخصّص فهو حجّة عليه ، ومن لا يعتبر فلا. دونه خرط القتاد.

فإن قلت : إنّ حجّية ظن المجتهد إجماعيّ ، فلا معنى للتشكيك في ذلك.

قلت : هذه غفلة عجيبة ، فإنّ كلامنا في إثبات الإجماع على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب بالخصوص ومن حيث هو ، وإلّا فلا كلام لنا في حجّيته من حيث إنّه ظنّ من ظنون المجتهد.

وأيضا (١) ظاهر دعوى الإجماع على حجّية الظّواهر هو على ما هو ظاهر من الآية في نفس الأمر لا ما هو ظاهر عند كلّ مجتهد ، فالإجماع إنّما يسلّم فيما هو مسلّم ظهوره عند كلّ أهل اللّسان ، فما اختلف في ظهوره لا يدخل في الإجماع.

ويلزم من ذلك أنّ مدّعي الإجماع على حجّية الظّواهر فرض كون العامّ المخصّص ظاهرا في الباقي. يعني لمّا خرجت (٢) الظّنون المجوّزة مثل قول ذي اليد والعدلين والظنّ في القبلة والوقت ، ونحو ذلك من عموم آيات التحريم ، بقيت (٣) تلك الآيات ظاهرة في تحريم العمل بالشّهرة والغلبة ونحو ذلك.

ونحن وإن سلّمنا ذلك ، ولكن نقول : هناك تخصيص آخر في أوقات العامّ ، ولا نمنع منك الظهور في الباقي بالنسبة إليه ثمّ دعوى الإجماع عليه.

والحاصل ، أنّ القول بكون حجّية الظّواهر إجماعيّة لا بدّ أن يناط بما هو ظاهر في نفس الأمر يقينا أو بحسب ظنّ مدّعي الإجماع ، والأوّل ممنوع ، والثاني لا ينفع في حقّيّة دعوى الإجماع.

__________________

(١) معطوفة على جملة وإثبات الإجماع على ذلك دونه خرط القتاد.

(٢) في نسخة الأصل (خرج).

(٣) في نسخة الأصل (بقي).

٣٤

وهذا بخلاف دعوى الإجماع على حجّية ظنّ المجتهد ، فإنّ معناه الإجماع على أنّ ظنّ كلّ مجتهد حجّة عنده وعليه وعلى مقلّده لا في نفس الأمر ، بخلاف الإجماع على حجّية الظّواهر ، فإنّ معناه أنّها حجّة على كلّ أحد وهو شيء واحد ، لا أنّها تختلف باختلاف الأشخاص ، وتختلف الحجّية باختلاف أفهام الأشخاص في كونه ظاهرا.

فإن قلت : إنّا ندّعي الإجماع على أنّ الظنّ الحاصل من القرآن حجّة لأنّ الإجماع على أنّ العمل بالظّواهر واجب ، فلا يضرّ في ذلك الاختلاف في الظنّ ، فإنّ ذلك اختلاف في الموضوع ، وهو لا ينافي انعقاد الإجماع على حجّية أصل الظنّ ، وذلك من قبيل جواز الصلاة في الخزّ إجماعا مع الاختلاف في حقيقته ، وكذلك حرمة التّكفير فيها.

قلت : إنّا نجيب عن ذلك أوّلا : بالمعارضة ، ونقول : إنّ من المسلّمات تحقّق الإجماع على حجّية ظنّ المجتهد في أمثال زماننا ، يعني أنّه يجوز له العمل بما أدّاه إليه ظنّه ولمقلّده تقليده.

ودعوى هذا الإجماع عامّة بالنّسبة الى الاجتهاد في نفس الدّليل وفي كيفيّة الاستدلال ، فهل يمكنك أن تقول : لا يجوز لمثل الشهيد رحمه‌الله إذا أدّاه ظنّه الى العمل بالشّهرة العمل عليه ولا لمقلّده متابعته ، والقول بأنّه مخطئ آثم أو تعذّره في ذلك لأنّه ظنّه وهو حجّة عليه وعلى مقلّده.

والإجماع [فالإجماع] على جواز عمل المجتهد بظنّه يوجب جواز العمل بالشّهرة لمن أدّاه ظنّه الى العمل بالشّهرة ، وكيف إذا حصل له القطع بحجّيتها لأجل انسداد باب العلم وبقاء التكليف لو فرض انحصار المأخذ الرّاجح في النّظر فيها ورجحانها على الأصل في نظر المجتهد.

٣٥

فنقول بعنوان القلب من باب الإلزام : إنّ الشّهرة حجّة بالإجماع ، فكما أنّك تقول : الإجماع على حجّية العمل بالظنّ الحاصل من الكتاب يوجب كون العمل بآيات التحريم إجماعيّا.

فنحن نقول : إنّ الإجماع على حجّية ظنّ المجتهد عليه وعلى مقلّده يوجب كون جواز العمل على مقتضى الشّهرة لمن ترجّح في نظره إجماعيّا.

فإن قلت : الظنّ الحاصل من آيات التحريم ظنّ نفس أمريّ ، فإنّه ظنّ إضافيّ بالنّسبة الى المجتهد.

قلت : أوّلا : إنّا أيضا نقول : إنّ الظنّ الحاصل من الشّهرة أيضا من الأمور النّفس الأمريّة لأنّها بنفسها تفيد الظنّ مع قطع النّظر عن خصوصيّة المجتهد.

وثانيا : نقول : انفهام الباقي بعد التخصيص من العامّ المخصّص وظهوره في الباقي من المسائل الاجتهاديّة ، ويختلف باختلاف الأشخاص.

سلّمنا ظهوره في الباقي في نفس الأمر ، لكنّ الباقي قد يلاحظ بالنّسبة الى أفراد العامّ ، وقد يلاحظ بالنّسبة

الى أوقاته ، فظهور آيات التحريم في حرمة العمل بظنّ المجتهد الحاصل من الشّهرة مثلا في أمثال زماننا وبعد سدّ باب العلم فيه منع واضح ، فيندفع النّفس الأمريّة حينئذ في غاية الوضوح ، فإنّ دعوى هذا الظّهور من محض الغفلة ، فلا يصير حجّة على أحد.

وثانيا : نجيب عنه بالمناقضة ونقول : لا ينفع الإجماع على الكلّ المجمل في الأفراد المحتملة الاندراج. أتراك تقول إذا قال الشّارع : إنّ الكافر نجس ، وانعقد الإجماع عليه واختلف في أنّ المجسّمة مثلا كفّار أم لا.

إنّ من يقول بكفرهم بظنّه واجتهاده يمكنه القول بأنّ نجاستهم إجماعيّة أو قطعيّة؟ كلّا ، بل تقول : إنّي أظنّ نجاسته لظنّي أنّه كافر ويحتاج إثبات حجّية هذا

٣٦

الظنّ ، وعمله على رأيه بنجاسة المجتهد الى دليل آخر ، وهو حجّية ظنّ المجتهد لا الإجماع المذكور المنعقد على نجاسة الكافر بالإجماع فقط.

فكذلك فيما نحن فيه ، نقول : إنّ الإجماع لو سلّم على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب في الجملة ، فلا نسلّم الإجماع على حجّية هذا العام المخصّص يقينا.

وكيف يدّعى عليه الإجماع بالخصوص سيّما مع ما يظهر من جلّ العلماء الفحول حجّية مطلق ظنّ المجتهد كما لا يخفى على من تتبّع كلماتهم ، وسنشير الى بعضها في آخر الكلام.

فظهر ، أنّ الحجّية إنّما هو لكونه ظنّ المجتهد لا لأنّه ظنّ حاصل من الآية.

والحاصل ، أنّا نقول : إمّا أن تقول : إنّ الإجماع منعقد على حجّية الظّنون الحاصلة للمشافهين ومن يحذو حذوهم من الكتاب والخبر القطعيّ.

وإمّا أن تقول : إنّ الإجماع منعقد على حجّية ما حصل للمجتهد من الظنّ الحاصل من الكتاب في أمثال زماننا ، ولو بعد ملاحظة المعارض والعلاج.

وبالجملة ، الظنّ الحاصل بعد الاجتهاد ، مع مدخليّة الكتاب فيه ، ولكن لا من حيث إنّ الكتاب داخل فيه ومن جهة دخوله ، ومن جملتها ظنّ حرمة العمل بالظنّ.

وإمّا أن تقول : إنّ الإجماع منعقد على حجّيته من جهة أنّه ظنّ من ظنون المجتهد ، وظنّ المجتهد حجّة عليه وعلى مقلّده في أمثال زماننا ، فإن كان الأوّل ، فقد سلّمنا ذلك ولا ينفعك.

وأمّا الثاني : فممنوع لاستلزامه عدم حجّية ظنّ مجتهد يعتمد على ظنّ لم يدخل في استدلاله الكتاب ، أو ما هو مثله من المتون القطعيّة إذا أدّاه ظنّه إليه ، فلا بدّ لك أن تقول بالثالث ، يعني أنّ الإجماع منعقد على جواز اعتماد المجتهد

٣٧

على ظنّه ، وجواز اعتماد مقلّده عليه وإلّا لزم عليك أن تقول : إنّ مثل الشهيد رحمه‌الله ممّن يقول بحجّية الشّهرة لا يجوز له العمل على اجتهاده ولا تقليد مقلّده له ، وهو باطل بالإجماع.

فثبت أنّ ما ثبت عليه الإجماع هو حجّية ظنّ المجتهد من حيث هو ظنّه.

فظهر أنّ الإجماع الذي ادّعيت على حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب ، ليس من جهة أنّه ظنّ الكتاب بخصوصه ، بل من جهة أنّه ظنّ للمجتهد.

والقول بأنّ ظنّ المجتهد من حيث إنّه ظنّ المجتهد إجماعيّ ، يبطل التمسّك بأصالة حرمة العمل بالظنّ ، وإلّا لزم التناقض.

فإن قلت : إنّا لا نقول بأنّ مثل ظنّ الشهيد رحمه‌الله ليس بحجّة عليه ولا على مقلّده ولا نقول بأنّه آثم ، بل نقول إنّه مخطئ معذور هو ومقلّده ، ولكن نقول الحقّ والتّحقيق ونفس الأمر حرمة العمل بالظنّ بسبب البرهان وهو الإجماع.

قلت : إنّ الشهيد أيضا يقيم البرهان بسبب انسداد باب العلم وانحصار المناص.

فإن قلت : نمنع انسداد باب العلم لكون القرآن قطعيّ العمل.

قلت : مع أنّ ذلك خروج عن المتنازع إذ المتنازع بعد انسداد باب العلم ، فإذا رجعت الى دعوى عدم انسداد باب العلم فلا بدّ أن نرجع الى إثباته ، ونحن لمّا بيّنا ذلك في بحث خبر الواحد وفصّلناه ، فلا حاجة هنا الى تجديد الكلام في ذلك ، ولكن نقول هنا في الجملة : إنّ ظاهر القرآن على فرض تسليم قطعيّة حجّيته ، لا يثبت إلّا أقلّ قليل من الأحكام.

فإن قلت : أصل البراءة أيضا قطعيّ.

قلت : نمنع أوّلا : قطعيّته لكونه من المسائل الخلافية الاجتهاديّة المبتنية أكثر مواردها على الأدلّة الظنيّة.

٣٨

وثانيها [وثانيا] : إنّها لا تثبت الفقه ولا الأحكام التفصيليّة اليقينيّة ثبوتها تفصيلا في الشّرع على سبيل الإجماع كما لا يخفى على المطّلع ، وكذلك الاستصحاب ليس بقطعيّ ولا يفيد القطع.

فإن قلت : إنّ العمل على أخبار الآحاد قطعيّ لدلالة الآيات والإجماع.

قلت : دلالة الآيات غير واضحة ، والإجماع ممنوع ، ودعوى الإجماع مع ظنيّتها من السيّد رحمه‌الله والشيخ رحمه‌الله متعارضة ، مع أنّ المسلّم منهما إنّما هو في الجملة لدعوى إجماعهم على اشتراط العدالة ، واختلافهم في معنى العدالة ، واكتفاء الشيخ بالمتحرّز عن الكذب ، واكتفاء المشهور بعمل المشهور على الخبر الضّعيف ، واكتفاء بعضهم في المزكّى بالواحد ، واشتراط بعضهم الاثنين ، واختلافهم في الكاشف عن العدالة ، والإشكال في موافقة مذهب المزكّي للمجتهد في معنى العدالة ، والكاشف عنه ، ثمّ بعد ذلك الإشكال في مخالفة الأخبار ومعارضة بعضها لبعض مع اختلافهم في كيفيّة التّرجيح والمناص ، مع أنّ كثيرا من المرجّحات لا نصّ عليها ، مثل علوّ الإسناد وموافقة الأصل ومخالفته ، وغير ذلك ، واختلاف المرجّحات المنصوصة بحيث لا يرجى دفعه إلّا بالرّجوع الى الظنّ الاجتهاديّ كما سنبيّنه في الخاتمة ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

والحاصل ، أنّ دعوى الإجماع على حجّية أخبار الآحاد ممّا لا ينفع في شيء من الأحكام من جهة صيرورتها قطعيّة.

وادّعى بعض أهل عصرنا الإجماع على حجّية الظّنون المتعلّقة بالكتاب وأخبار الآحاد بنوعها ، ونحن بمعزل عن ذلك وفهمه وتصوّره ، ولا نتصوّر لذلك معنى إلّا أنّ ما يضطرّ إليه المجتهد في زمان الحيرة ويفهمه فهو حجّة عليه ، ولا اختصاص لذلك بالكتاب وأخبار الآحاد.

٣٩

وإن ادّعى الخصوصيّة في ذلك ، فعهدته عليه ، والتوجّه الى القدح في جزئيّات موارد هذه الدّعوى يقتضي بسطا وإطنابا ، بل الكلام في ذلك ممّا لا يتناهى.

ولكن نذكر بعض الكلام فيه ممّا يكون من باب القانون لما نطوي عن ذكره.

وهو أنّ الإجماع المدّعى على حجّية الظّنون المتعلّقة بالمذكورين إمّا على الظّنون الدالّة على حجّيتهما ، أو دلالاتهما ، أو كيفيّة العلاج في معارضاتهما.

والقدر الذي يمكن أن يسلّم ويتصوّر من هذه الدّعوى إنّما هو الظّنون المتعلّقة بالأخبار المعلوم جواز الاعتناء بشأنها والتّكلّم عليها دلالة وجمعا وتنزيلا وترجيحا ، لأنّ هاهنا نوعا من الأخبار لا غائلة فيها بالذّات ، لكن الإشكال في منافاة بعضها مع بعض وترجيح بعض على بعض وفهم معانيها.

وأمّا الكلام في أنّ هذا الصّنف من الخبر هل هو من جملة تلك الأخبار أم لا ، فليس ذلك كلاما متعلّقا بالخبر ، بل هو متعلّق بإثبات حجّيته ، مثل النّزاع في أنّ خبر الصّبيّ المميّز حجّة أم لا ، والموثّق حجّة أم لا ، وخبر المتحرّز عن الكذب حجّة أم لا ، والخبر الضّعيف المنجبر بالشّهرة في العمل حجّة أم لا ، وما زكّي راويه العدل الواحد حجّة أم لا ، والمرسل حجّة أم لا ، ونقل الخبر بالمعنى جائز أم لا ، فإنّ دعوى الإجماع على حجّية الظنّ الحاصل بحجّية نفس الخبر من غير جهة أنّه ظنّ المجتهد مكابرة.

فإن قلت : إنّ الأخبار الواردة في علاج التّعارض بين الأخبار مستفيضة ، بل قريبة من التّواتر ، وهي كما تدلّ على حجّية خبر الواحد في الجملة تدلّ على جواز الاجتهاد في النّقد والانتخاب في الأخبار وأخذ الحجّة وترك غيرها.

قلت : بعد تسليم تواترها بالمعنى بحيث يجدي لك نفعا : إنّها إنّما تدلّ على

٤٠