القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

نقول : إنّ الكفر في جانب الفريق الآخر أيضا غير متحقّق لتزلزله ، فغايته عدم الإسلام وعدم الكفر.

وإن أراد الشيخ أنّه يضرّ بالعدالة وقبول الشّهادة وهو من الأحكام الوضعيّة التي لا دخل فيها للثواب والعقاب ، فهو مع أنّه غير ظاهر كلامه لا يصحّ أيضا ، إذ العدالة مبنيّة على عدم الفسق الذي هو الخروج عن الطّاعة المستلزم للعقاب.

الثّالث : إنّ ما ذكره من تقرير الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء إيّاهم على تقليدهم يستلزم عدم النّهي عن المنكر ، فإن كان مراده من وجوب الاستدلال السنّة المؤكّدة ، فهو لا يلائم ظاهر ما اختاره من الوجوب في هذا البحث ، ولا يلائم العفو والوضع ، وإن أراد الوجوب المصطلح ، فلا ريب أنّ ترك الواجب ممّا يجب النّهي عنه على الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء ، وإن كان المكلّف جاهلا وغافلا ، لأنّ فائدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام والعالم هو تكميل نفوس العامّة ، وهو لا يتمّ إلّا بالإبلاغ ، فكيف يسكت الأئمة عليهم‌السلام والعلماء عن ذلك مع الغفلة والجهالة ، فضلا عن التّفطّن والتّنبيه.

وبهذا يظهر ضعف ما دفعه رحمه‌الله من نفسه من لزوم الإغراء بالجهل أيضا.

الرّابع : إنّ إجماعهم على عدم قطع الموالاة ، بل وقبول الشّهادة لا يدلّ على أنّ ترك هذا الواجب غير مضرّ ، فلعلّه كان لتجويزهم التّقليد واكتفائهم بالاطمئنان الحاصل منه.

سلّمنا ، لكنّه لعلّه كان لمعرفتهم من حالهم أنّهم يعلمون الأدلّة الإجماليّة الممكنة حصولها لأغلب النّاس ، كما مرّ في حكاية العجوز والأعرابيّ.

وهناك وجوه أخر من الاحتمالات لقبول الشّهادة وعدم قطع الموالاة لا يمكن معها دعوى الإجماع ، على أنّ القبول من جهة العفو والوضع ، مثل أنّ القضاة كانوا يعملون بعلمهم بالواقعة ، أو باقتران شهادتهم بما يفيد القطع من القرائن ، أو من

٢٠١

جهة خوف أو تقيّة أو نحو ذلك ، ولا حجّة فيما نقله إلّا إذا ثبت به إجماع ، وأنّى له بإثباته.

الخامس : إنّ ما ذكره من وضع الخطأ لا بدّ أن يختصّ بالعدول التّاركين للكبائر ، وإلّا فلا معنى للوضع ، ويرجع الى عدم كونه معصية حينئذ ، وهو عدول عن القول بعدم جواز التّقليد ، فإطلاق القول بالوضع محلّ نظر.

وأمّا المحقّق رحمه‌الله ففي كلامه إشارة الى مذهب الشيخ رحمه‌الله ، وفي كلامه مناقشات لا يهمّنا ذكرها ، والاستدلال الأخير المذكور (١) في كلامه غير صحيح ، فإنّ حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسلام الأعرابيّ وعدم إلزامه بالاستدلال ، يدلّ على عدم وجوب الاستدلال لا على العفو.

وأيضا ربّما كان ذلك لأجل معرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حاله أنّ إيمانه كان من الدّليل ، إمّا من جهة عقله ، أو من ملاحظة معجزاته ، أو غير ذلك.

وأيضا قد بيّنّا سابقا أنّ الحكم بالإسلام له معنيان : أحدهما لا يتوقّف على الإذعان ، فضلا عن الاستدلال ، فلعلّ الاكتفاء كان لإدخاله في زمرة المسلمين أوّلا ثمّ تتميم إيمانه وتشييده وتسديده على التّدريج ، حسب ما اقتضاه المصالح.

وحاصل تفصيل أحوال المكلّفين ، أنّ الجاهل والغافل رأسا أو في كيفيّة الأخذ بالاجتهاد معذور ، ولا فرق فيه بين المحقّ وغيره ، والفرق بينهما مخالف لقواعد العدل وللآيات والأخبار ، وقد بيّنّا سابقا وذكرنا أنّ الأحكام الثّابتة للكفّار في الدّنيا لا تنافي عدم تعذيبهم على الكفر في الآخرة ، فهم في الآخرة من المرجون لأمر الله ، فلعلّه يكلّفهم في الآخرة ويعامل معهم بوفق حالهم حينئذ.

__________________

(١) في «المعارج» ص ٢٠٠.

٢٠٢

وكذلك ثبوت أحكام الإسلام لمن أظهره وإن لم يذعن به في قلبه ولم يتيقّن به ، لا ينافي عذابهم في الآخرة ، وقد أشرنا أنّ إطلاق كلام العلّامة وغيره من العلماء لا بدّ أن ينزّل على غير الغافل والجاهل.

وممّا يشهد بذلك أنّ بعض المتكلّمين صرّح بأنّ التّكليف بالمعارف إنّما يكون إذا أمكن ، سواء وصل الى حدّ البلوغ الشّرعيّ وتجاوز عنه بكثير ، أم لم يبلغ بعد.

وقال بعض الفقهاء : إنّ وقت التّكليف بالمعارف هو البلوغ الشّرعيّ للعبادات ويجب المبادرة بتحصيل المعارف في أوّل البلوغ.

وعن الشيخ رحمه‌الله : انّ التّكليف بالمعارف في الذّكران هو بلوغ عشر سنين إذا كان عاقلا ، والأخبار الدالّة على رفع القلم عن الصّبيّ حتّى يحتلم ، دالّة على ما ذكره بعض الفقهاء ، ومطابقة لأصل البراءة.

وقد يستشكل في الفرق بين الذّكور والإناث في البلوغ الحاصل بالسّنّ ، مع أنّها أنقص عقولا وأضعف نفسا ، وهذا الإشكال مشترك اللّزوم في الفروع والأصول.

والجواب : انّ التّكليف إنّما هو دون الطّاقة ، بل الوسع.

والفرق مع الطّاقة والوسع لعلّه لكونهنّ أحقّ بتعجيل الحمى لنقصان عقولهنّ ، فعلمهنّ بعدم التّكليف أدعى لهنّ الى المعاصي من الذّكور ، ولأنّ الذّكور لكونهم أكثر موردا للمحن والمصائب وأثقل أحمالا ، لتحمّلهم أحمال الإناث وتكفّلهم مئونتهنّ لا بدّ لهم في تحصيل التّدرّب في أمر المعاش ، من فرصة ليكمل لهم فيه التّجارب.

وبالجملة ، ما يفعله الحكيم لا يخلو عن حكمة ، وإن لم تبلغه عقولنا.

والحقّ والتّحقيق ، أنّ مراتب الإيمان مختلفة باختلاف استعدادات المكلّفين ،

٢٠٣

وكل ميسّر لما خلق له ، و : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) ، ولا يكلّفها إلّا ما آتاها (٢) ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٣). والآيات والأخبار الدالّة على رفع التّكليف عن الجاهل والغافل كثيرة ، ذكرنا شطرا منها في مباحث الأدلّة العقليّة.

وأمّا غير الغافل والجاهل ، فعلى القول بعدم جواز التّقليد إن كان مقلّدا في الحقّ جازما به وعالما بوجوب النّظر تاركا للاستدلال مع الإصرار ، فهو مؤمن فاسق ، إلّا على قول الشيخ كما بيّنّا.

والقول بالكفر كما يظهر من ظاهر العلّامة وغيره ، بعيد غاية البعد إن أراد به عدم الإيمان الواقعيّ ، وإن أريد به عدم إجراء حكم المؤمنين عليه في الدّنيا ، فلا يصحّ جزما ، لأنّه ليس أدنى من المنافق.

وأمّا بدون الإصرار والرّجوع الى الاستدلال ، فلم نحكم بفسقه.

والحاصل ، أنّ المقلّد الجازم على القول بعدم جواز التّقليد ، ينبغي أن يكون مؤمنا يعامل معاملة المؤمنين في الدّنيا ، وأمّا في الآخرة فيمكن أن يكون من جملة المرجون لأمر الله تعالى كسائر المستضعفين من المسلمين ، للإشكال في الفرق بينه وبين المقلّد في الباطن ، ويمكن أن يحكم بعدم العذاب من جهة الإيمان ، وهو مقتضى ما حقّقناه سابقا ، ولكنّه يجري في سائر الفرق أيضا.

وأمّا المقلّد للحقّ ، الظّانّ العالم بوجوب النّظر الغير المصرّ ، فالظّاهر أنّه يعامل

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) يريد تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) الطلاق : ٧.

(٣) الأنفال : ٤٢.

٢٠٤

في الدّنيا معه معاملة المؤمنين ، وفي الآخرة من المرجون لأمر الله أيضا.

وأمّا المقلّد في الباطل الجازم إذا علم بوجوب النّظر وأصرّ في التّرك عنادا ، فهو من أكفر الكفرة في الدّنيا والآخرة ، وكذلك هو كافر إذا لم يصرّ ولم يعاند. وإذا لم يعلم بوجوب النّظر ، فهو محكوم بالكفر في الدّنيا ومرجوّ في الآخرة ، ومنه يظهر حكم الظانّ.

وأمّا على القول بجواز التّقليد ، فلا إشكال في إيمان القسم الأوّل من المقلّد في الحقّ الجازم به ، لحصول المقصود من الإيمان ، وهو الاطمئنان بالعقائد الحقّة التي بها كمال النّفس من دون ملاحظة وجه حصولها ، إذ وجه الحصول لا ينحصر في البرهان والحدّ وغيرهما ، وهو مقتضى إطلاقات الآيات والأخبار.

وأمّا الظانّ كذلك ، فهو مسلم في الظّاهر ومرجى في الآخرة.

وأمّا المقلّد الجازم في الباطل من دون ظهور الحقّ ولا عناد ، فيجري عليه أحكام الكفر في الدّنيا كما مرّ ، ولكنّه مرجى في الآخرة بعدم إتمام الحجّة عليه ، وكذلك الظانّ.

وأمّا المعاند المصرّ ، فهو كافر في الدّنيا والآخرة ، جازما كان أو ظانّا.

هذه أحكام المقلّدين ، فلاحظها ولاحظ ما قدّمنا في المقدّمة ، وفي تضاعيف الكلام يظهر لك حكم الفسق والكفر والإيمان في الجميع.

وأمّا المجتهدون فالمشهور أنّ المصيب في العقليّات واحد والآخر مخطئ آثم ، وقد مرّ الإشارة الى الكلام فيه ، وسنبيّنه في القانون الآتي إن شاء الله تعالى.

٢٠٥

الثّالث

المراد بأصول الدّين هي أجزاء الإيمان ، وهي عندنا خمسة ، وهي :

المعرفة بوجود الباري الواجب بالذّات ، المستجمع لجميع الكمالات ، المنزّه عن النّقائص.

ويرجع تفصيل هذا الإجمال الى الواجب الوجود ، العالم القادر المنزّه عن الشّريك والاحتياج ، وفعل القبيح واللّغو ، فيندرج في ذلك العدل والحكمة ، فلا حاجة الى إفراد العدل إلّا لمزيد الاهتمام به ، ولذلك جعلوه أحد الأصول الخمسة.

ثمّ التّصديق بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء به تفصيلا فيما علم به ، وإجمالا فيما لم يعلم.

والظّاهر أنّه لا يجب تحصيل العلم بالتّفصيل في تحقّق الإيمان وإن كان قد يجب كفاية لحفظ الشّريعة.

والمراد بالإذعان الإجماليّ ، أن يوطّن نفسه على أنّ كلّ ما لم يطّلع عليه ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذعن به إذا اطّلع عليه.

وهكذا الكلام فيما علم به إجمالا من التّفاصيل ولم يعلم كيفيّته مثل الحساب والصراط والميزان ، وأمثال ذلك ، فيكفيه الإذعان به في الجملة ، ولا يجب معرفة كيفيّتها ولا الإذعان بما لم يفد اليقين في كيفيّتها من أخبار الآحاد.

ثمّ إنّ المعاد الذي جعلوه أحدا من الأصول الخمسة يمكن اندراجه فيما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصوصا الجسمانيّ ، وإن قلنا بحكم العقل بثبوته في الجملة كما هو الظّاهر الواضح ، وقد أشار إليه الكلام الإلهيّ حيث قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ

٢٠٦

عَبَثاً)(١) الآية. فيمكن جعله أحدا من الخمسة بالاستقلال أيضا ، ولكن لا بخصوص الجسمانيّ.

والحقّ ، أنّ العقل قاطع به في الجملة ، والشّرع صادع لجسمانيّته بالبديهة.

ثمّ الإذعان بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام.

هذا إذا أردنا بيان ما يجب علينا اليوم ، وإن جعلنا الكلام في أصول الدّين مطلقا ، فلا يخصّ الكلام بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتنا عليهم‌السلام ، فإنّ البحث عن وجوب النّظر في الأصول لا يختصّ بدين دون دين ، ولا زمان دون زمان.

وأمّا النّظر في جزئيّات أحوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ عليه الصلاة والسلام مثل كونهم معصومين وكون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء ومبعوثا على الثّقلين ، وكذلك عصمة الأئمة عليهم‌السلام ، وكونهم منصوبين بالنصّ لا باختيار النّاس ، وأنّ علمهم لم يكن من اجتهاد ، وأنّ انقراضهم بانقراض الدّنيا ونحو ذلك ، فيكفي فيها الإذعان الإجماليّ بالمعنى المتقدّم.

والظّاهر أنّ الاكتفاء في الإسلام بالشّهادتين إنّما هو لاندراج غيرهما كما لا يخفى على المتأمّل ، سيّما في أوّل الإسلام ، فقد يختلف الحال بالنّسبة الى الأشخاص والأحوال ، ففي زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان التّكليف الأوّل هو الإقرار بالشّهادتين ، وكان يحصل به الإيمان لتضمّنهما إجمالا لغيرهما مع عدم الحاجة لمعرفة الوصيّ حينئذ ، ولكون المعاد من لوازم الاعتقاد بالرّسالة ، وسائر العقائد كان يحصل لهم بعد ذلك بالتّدريج ، ومن التّأمّل في ذلك يظهر حال زماننا أيضا بالنّسبة الى الجزئيّات المتعلّقة بتمام الأصول الخمسة ، مثل معرفة التّجرّد ، وعدم

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

٢٠٧

إمكان الرّؤية ، وعدم الجسميّة ، وعينيّة الصّفات ، وعدم كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصفات الإمام عليه الصلاة والسلام ، وجزئيّات أحكام ما بعد الموت ، وتفاصيل وقائع المعاد ، فلا يجوز الحكم بكفر من لم يجمع جميع المراتب في أوائل الأمر حتّى تتمّ عليه الحجّة ويظهر له الحقّ.

ثمّ إنّهم جعلوا وجوب الإذعان بضروريّات الدّين من أجزاء الإيمان وإنكارها كفرا ، ولا حاجة الى ذلك بعد جعل الإذعان بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبا.

والكلام في الاستدلال والنّظر في هذا الجزء يرجع الى الاجتهاد في النبوّة ، إذ الدّليل على حقيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه ، هو الدّليل على حقيّة ما علم أنّه ممّا جاء به ، ولكنّ الإشكال في تحقيق ذلك.

وأنّ الضروريّ الذي يستلزم الكفر ما هو.

والضّروريّات إمّا من باب الاعتقادات ، وإمّا من باب الأفعال والأعمال. وقد وقع الاختلاف في كثير منها ، وأكثرها مذكورة في كتب الفقهاء متفرّقا.

وقد يقع الإشكال في بعض ما فهم حكماء الإسلام والصّوفيّة وادّعوا كون ما فهموه مطابقا للشرع ، والإشكال حينئذ في مقامين :

أحدهما : أنّ ما فهموه مخالفا لما فهمه أهل الشّرع السّالكون على ظاهر النّصوص ، هل يوجب عدم كون ما اقتضاه الظّواهر ضروريّا أم لا؟

الثّاني : أنّه على فرض كون ما اقتضاه الظّواهر بديهيّا لأهله ، هل يوجب تكفير من ذهب الى خلافه أم لا؟

ولمّا كان معيار التّكفير في إنكار الضّروريّ هو إنكار صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه ينكر ما يعلم أنّه ممّا أخبر به ، فما لم يعلم أنّ المنكر عالم بأنّه ممّا أخبر به ، لا يمكن تكفيره. ومعرفة أنّ ذلك الشّيء ممّا يعرفه كلّ أحد ، دخل في الدّين أيضا من

٢٠٨

المسائل الاجتهادية ، ولذلك اختلف العلماء في الضّروريّات ، فربّما يدّعي أحدهم كون شيء ضروريّا بعنوان القطع ، وآخر يحكم بعدمه ، وربّما يحكم بكون خلافه ضروريّا ، وربّما يقول بعضهم : الأظهر انّ هذا ضروريّ ، كتحريم تقبيل النّساء الأجانب ، والغلمان مع الشّهوة ، وتحريم الجمع بين الأختين ، وكون الرّيح ناقضا للوضوء ، أو يقول : إنّه ضروريّ على احتمال ، مثل حرمة منفعة القرض ، ورجحان مطلق صلة الرّحم ، ورجحان السّلام وجوابه.

فالحكم بكون شيء ضروريّا ، من المسائل الاجتهادية ، فيجب على من يحكم بكفر أحد من جهة إنكار الضّروريّ أن يعلم من حال المنكر أنّه عالم بأنّه من الله تعالى ومن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينكره.

وهذا العلم إمّا يحصل بالخصوص من حال المنكر ، أو من إقراره ، أو من جهة الحدس الحاصل له بملاحظة حال المكلّف وحال التّكليف ، ولا بدّ أن يكون الحدس قطعيّا لئلّا يتبادر بتكفير مسلم ، سيّما مع قولهم عليهم‌السلام : «ادرءوا الحدود بالشّبهات» (١). ثمّ إذا أظهر المنكر العذر واحتمل في حقّه الشّبهة ، فلا إشكال.

وحينئذ نقول : إنّ الاشتباه في كون المسألة من دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا من جهة عدم الوصول إليه من جهة مانع من الاعتزال عن الإسلام بسبب أسره أو نحوه ، أو عدم حصول العلم بسبب كون الأخبار آحادا ، وإمّا من جهة عدم فهم ذلك من كلامه ، وإن بلغ الكلام في حدّ التّواتر والقطع.

فالأوّل : مثل بعض خصوصيّات المعاد وكيفيّتها الواردة من جهة الأخبار الآحاد ، والمسائل الظّاهرة لمن كان أسيرا بين الكفّار.

__________________

(١) «الوسائل» ٢٨ / ٤٧ ح ٣٤١٧٩.

٢٠٩

والثّاني : مثل كون المراد من جسمانيّة المعاد هو كونه من باب عالم المثال المرئيّ في حال الرّؤيا كما يقوله الإشراقيّون ، وكون المراد ممّا ذكره الشّارع في بيان المعاد بلفظ الجنّة والنّار والحور والقصور والثّمار ، هو التّشبيه والتّقريب للأفهام الطّاهرة [الظّاهرة] ، وإلّا فالمراد في الحقيقة هو اللّذّات والآلام الرّوحانيّة الحاصلة للنفس بعد خراب البدن بسبب تذكّرها للأعمال الحسنة والسّيّئة في دار الدّنيا ، كما يقوله المشّائيّون ، ومثل كون المراد من الأخبار الدالّة على حدوث العالم هو الحدوث الذّاتيّ.

أمّا الأوّل : فلا إشكال فيه إذا لم يصل إليه بحيث يفيد العلم ، وأمّا الثّاني فهو المزلقة العظمى والمزلّة الكبرى ، فإن فرض لهم عدم التّقصير في الاجتهاد وأداهم النّظر الى ذلك ، فلا يجوز تكفيرهم ، ولا هم يعذّبون في الآخرة بذلك.

أمّا عدم التّعذيب في الآخرة ، فللزوم الظّلم على الله تعالى كما بيّنّاه سابقا.

وأمّا عدم التّكفير وعدم ترتيب أحكام الكفر عليهم في الدّنيا ، فلأنّ المعاد الذي هو أحد الأصول الخمسة بالاستقلال مثلا ، هو مطلق المعاد الذي يمكن أن يستدلّ عليه بالعقل القاطع أو بانضمام القدر المسلّم من الشّارع أيضا.

وأمّا خصوص الجسمانيّ ، فالحكم بكفر منكره إنّما هو من جهة استلزامه لإنكار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوى كونه ضروريّا منه ، وأنّ المنكر يعلم أنّه دينه وينكره ، وقد فرضنا عدم علمه بذلك.

فإن قلت : أنّه مقصّر في النّظر بسبب ما أشرب في قلبه قواعد الحكمة ، وحسب ما فهمه من ضوابطهم ، فهو بسبب هذه الشّبهة لا يفهم ذلك من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحمله على ما فهمه.

٢١٠

قلت : مع أنّ هذا خلاف الفرض ، إنّما يستلزم ذلك فسقه من حيث التّقصير في فهم الكلام ، وعدم العلم على مقتضاه في العلم أو العمل ، لا كفره المستند الى إنكار ما قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علمه بأنّه ممّا قاله.

والحاصل ، أنّ أصول الدّين ، بعضها من أصول الدّين بالاستقلال ، وبعضها من جهة أنّ إنكاره يستلزم إنكار أصل من أصول الدّين ، فالإيمان بالله والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واليوم الآخر ، في الجملة هو أصل الإيمان.

ومن فروع هذه الأصول الإيمان بما علم صدوره من الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علما كان أو عملا.

ثمّ استمع لما يتلى عليك في تحقيق هذا المقام لئلّا يختلط عليك الأمر في فهم ضروري الدّين وغيره ، ومعياره وملاحظة حاله مع ما دلّ العقل على خلافه.

فنقول : إنّ الضّرورة إمّا يحصل بتواتر الأخبار الى أن يحصل بالبداهة (١) ، أو يحصل بالتّسامع والتّضافر ، وأكثر أخبار البلدان والسّلف من قبيل الثاني ، كما أشرنا في بحث الخبر المتواتر ، وما بلغ إلينا بالبديهة من دين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثرها من باب القرائن والتّسامع والتّضافر ، فإنّ علمنا بوجوب الصلاة الخمس في ديننا يحصل بملاحظة فعل النّاس ونسبتهم ذلك الى الدّين ، وإن لم ينقل هذه الطبقة من سلفهم ، وهكذا الى زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شرائط التّواتر ، بل وإن لم ينقله واحد بطريق واحد إليه أيضا ، فضلا عن التّواتر. فكما أنّ الأفعال قد تصير (٢) ضروريّا ،

__________________

(١) في نسخة الأصل (البداهة).

(٢) في نسخة الأصل (يصير).

٢١١

فقد تصير (١) العقائد أيضا ضروريّا ، فقد ترى الأمّة عوامّهم وخواصّهم يقولون : إنّ بعد الموت حياة وجنّة ونارا وحورا وقصورا ، ويريدون به ما يفهمونه من ظواهره ، فإذا ضممنا هذا الى الظّواهر الواردة في الكتاب والسنّة المتجاوزة حدّ الإحصاء والحصر ، يحصل لنا القطع بأنّ ذلك دين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فمن قال : إنّه لا حياة بعد الموت ، أو لا جنّة ولا نارا ، مع علمه بأنّ هذا القول صادر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مكذّب له جزما ، وهو كافر.

وأمّا من يقول : إنّ كلّ ما أخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ ، لكن ما يفهمه العوامّ ويعتقدونه إنّما هو مطابق لبعض الخواصّ دون جميعهم ، وإنّ هنا جمعا وجمّا غفيرا من الخواصّ يعتقدون بذلك إجمالا ، لكنّهم يقولون : إنّ المراد من تلك الظّواهر (٢) هو التشبيه أو المثال كما تقدّم ، وإنّ ما فهمه العوامّ مطابقا لبعض الخواصّ لا حجّة فيه.

فجوابه من وجهين : الأوّل : أنّ الحجّة في فهم الكلام هو مطابقة تفاهم المخاطبين ، ومقتضى الحكمة أنّ الرّسول المبعوث على الكافّة ، يتكلّم على متفاهم الكافّة ، وحملة الآيات والأخبار جلّهم ، بل كلّهم كانوا يفهمون من تلك الظّواهر ما هو الظّاهر منها ونقلوه الى الطّبقة الأخرى مريدين ذلك منها ، ملقين إليهم مقاصدها ، الى أن وصل الى أرباب التّصانيف في الحديث ، ثمّ إلينا ، فالحجّة إنّما هي (٣) فهم حاملي تلك الآيات والأخبار ومخاطبيها.

والقول بأنّ هؤلاء العلماء الصّلحاء الفحول المتّقين لم يكونوا أهلا لتلك

__________________

(١) في نسخة الأصل (يصير).

(٢) في نسخة الأصل (الظاهر).

(٣) في نسخة الأصل (هو).

٢١٢

الأسرار ولكنّهم على مقتضى : ربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه ، قد حملوا هذه الظّواهر إلينا ونحن أهل السّرائر ، فنحن مكلّفون بما نفهمه منها ؛ محض دعوى خالية عن دليل ، بل نشاهد أنّ كثيرا من هؤلاء الأجلّة أعظم شأنا وأعلى مكانا وأكثر استعدادا من أكثر من يدّعي أنّه من أهل هذه الأسرار ، ومع ذلك ليس عندهم ممّا ذكروه عين ولا أثر.

الثاني : أنّ الحكمة في وضع الألفاظ هي إفادة المعاني الحقيقيّة ، وإرادة المجاز والبطون لا يصحّ إلّا مع نصب القرينة ، فيرجع الكلام الى دعوى أنّ ما حكمة (١) عقولنا القاطعة وبراهيننا السّاطعة قرينة ، وإنّما هو الذي دعانا الى حمل الظّواهر على ما أردنا.

وفيه : أنّ هذا ليس قولا بالشّريعة ومتابعة لها ، بل إنّما هو تفضّل منهم على الشّارع حيث لم يهملوا كلامه ولم يغلّطوه ، فذلك منهم منّة عظيمة على الشّارع ، فيرجع الكلام الى بيان ما أسّسوه وتتميم ما ادّعوه ، لا الى أنّ الشّارع أراد هذا وأراد ذلك ، فإن قام البرهان القاطع على شيء ممّا خالفت الظّواهر ، فنحن أيضا متّبعوه كما نؤوّل متشابهات آيات الجبر والتشبيه ونخرجها عن ظاهرها لكون قبح الظلم والتجسّم قطعيّا يقينيا.

وأمّا مثل قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٢) يعني العظام الرّميم ، فلا برهان قطعيّ يدلّ على خلافه حتى نؤوّله.

والحاصل : أنّ ما ورد في الشّرع ، وإن كان في نظر العقل ضعيفا غاية الضّعف ،

__________________

(١) في نسخة الأصل (حكم).

(٢) يس : ٧٩.

٢١٣

فلا يجوز العدول عنه ما بقي له احتمال الصحّة ، وإن كان في غاية الضّعف ، ويجب طرح ما عارضه من الأدلّة العقليّة ، وإن كان في غاية القوّة ما لم يبلغ حدّ اليقين ، وأنّى لهم بإثبات اليقين في استحالة المعاد الجسمانيّ أو عذاب القبر ، أو أمثال ذلك ، وذلك لأن يكون الشّارع صادقا مسلّم ، وكون هذه الظّواهر كان صادرا منه مسلّم بالفرض ، والعمل على مقتضى الظّواهر هو مقتضى حكمة وضع الألفاظ ، ومقتضى البعث على الكافّة.

فإن قلت : إنّ حمل اللّفظ على المجاز بالقرينة أيضا مقتضى الوضع وطريقة العرب ، والقرينة هو ما فهمناه من جهة العقل.

قلت : إن كان ما فهمته مرجّحا لإرادة المجاز وإن احتمل غيره حتّى يجعل ذلك في مقابل إرادة الحقيقة ، ويقدّم ذلك المرجّح على مرجّح الوضع ، فهذا يؤول الى جعل الأصول من قبيل الفروع ، مبنيّا على الظّنون والمرجّحات.

وإن قلت : لا يحتمل غيره.

فالكلام معك في إثبات البرهان على استحالة مقتضى الظّاهر.

فإن قلت : نعم ، ولكن من أين حصل لك اليقين من جهة الظّواهر مع أنّك معترف بكونه ظاهرا ، فأنت أيضا على ظنّ من دعواك؟

قلت : إنّ تعاضد هذه الظّنون قد يفيد القطع ، مع قطع النّظر عن ملاحظة العمل والإجماعات المنقولة ، والطّريقة المستمرّة الحاصلة لأرباب الدّين ، بل سائر الأديان والملل. وذلك كما يحصل العلم بالمراد في الأعمال كالصّلاة والحجّ وغيرهما ، فإنّها أيضا محتملة لأن يراد منها أسرار ومطالب خفيّة غير هذه

٢١٤

الحركات التي يفعلها (١) النّاس ، فلعلّ المراد من الصّلاة إظهار العبوديّة ، ومن الرّكوع إظهار محض الخشوع والتّضعضع (٢) ، ومن السّجود إظهار الذّلّة وأنّه تعالى خلقنا من تراب ، وهكذا. فلمّا تلقّت الأمّة الآيات والأخبار الواردة فيها ، فاهمين منها هذه الأعمال ، عاملين عليها الى زماننا هذا ، حصل لنا القطع بالمراد منها ، فكذلك إخباره عن سؤال القبر والكتاب ، والحساب والميزان ، والجنّة والنيران.

والحاصل ، أنّ ما ورد في المعاد الجسمانيّ من الآيات والأخبار والإجماعات بحيث لا يحتمل إنكارها إلّا مكابر ، والمنكرون برهة قليلة منتهية طريقتهم الى منكري الشّرائع رأسا من حكماء يونان وأمثالهم ، فالمنصف المتأمّل إذا لاحظ الطّريقة وأربابها ، والمخالفين لها وطرائقهم ، لا يشتبه عليه أنّ ذلك لا يوجب قدحا وتشويشا ، وذلك يظهر [أيضا] نظير ما أوقع شبهة في أنّ الأرض متحرّكة (٣) والسّماء ساكنة (٤) ، في مقابل ما دلّ على حركة الأفلاك من الحسّ والعقل والنقل.

وبعد اللّتيّا والتي ، فالكلام على هؤلاء هو ما تقدّم من أنّ ما يختارونه من مخالفة أصول الدّين من باب ما يؤول الى إنكار أحد الأصول بالذّات ، كالنّبوّة مثلا ، أو الى إنكار ما يستلزم إنكاره مثل إنكار ما أخبره النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عالما بأنّه من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والأوّل مع التّقصير مستلزم للكفر في الدّنيا والعذاب في الآخرة ، وبدون

__________________

(١) في نسخة الأصل (يفعله).

(٢) يقال : تضعضع أي خضع ، وذلّ ، وافتقر.

(٣) في نسخة الأصل (متحرّك).

(٤) في نسخة الأصل (ساكن).

٢١٥

التّقصير مستلزم للأوّل لا الثاني.

وأمّا الثاني فمع عدم التّقصير ، لا كفر ولا عذاب ، ومع التّقصير لا يستلزم الكفر ، ولكنّه يوجب المؤاخذة والعذاب ، فلا بدّ لمن يحكم بكفر منكر الضّروريّ ، من التأمّل التامّ.

فتأمّل حتّى يظهر لك الأمر ولا يختلط ، فإنّ المقام محلّ الاشتباه.

ومن جملة موجبات الاشتباه في هذا المقام : أنّ قولهم : إنكار الضّروريّ كفر ليس بلفظ القرآن ولا بلفظ الحديث حتّى يرجع فيه الى الفهم العرفيّ.

ويقال : إنّ كلّ مجتهد يظهر له أنّ الأمر الفلانيّ ضروري الدّين ، بمعنى أنّه ممّا لا يشتبه على أحد من أهل الدّين ويحصل له الظنّ بذلك ، فيجب أن يعمل بظنّه ويحكم بالكفر ، ولا يجب عليه التفحّص عن الشّخص الخاصّ المنكر له ، هل هو ممّا يحتمل في حقّه الشّبهة أم لا ، بل هذا اللّفظ معبّر عمّا استفاده العقل من أنّ من أنكر ما علم أنّه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو منكر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يمكن فيه أن يقال بمثل ما يقال في الصّورة الأولى ، بل لا بدّ هنا من العلم بكون الشّخص منكرا لما أخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يحصل إلّا بمعرفة حاله بالخصوص ، إذ هو ليس من الألفاظ التي ورد بها الشّرع حتّى يكفي فيه الظنّ بالمدلول كسائر موضوعات الألفاظ ، ولا يحضرني الآن خبر دلّ على ذلك. وإجماعهم المستفاد من كلامهم ، قابل للقدر المشترك بين الأمرين ، والإجماع على اللّفظ غير معلوم ، بل هذا اللّفظ اسم لما في نفس الأمر ، كما هو التحقيق ، فما لم يظهر كونه كذلك ، فالأصل عدم ترتّب الحكم عليه ، سيّما مع قولهم عليهم‌السلام (١) : «ادرءوا الحدود بالشّبهات».

__________________

(١) وهي من رواية عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواها في «الوسائل» ٢٨ / ٤٧ باب ٢٤ ح ٤ ـ

٢١٦

وبالجملة ، الذي يحسم الإشكال هنا ، بيان أنّ ظنّ المجتهد بأنّ هذا ضروريّ لا يخفى على الأمّة ، يكفي في حكمه بتكفير من لا يعلم حاله بالخصوص منهم ، أو لا بدّ له من العلم بالإنكار بالخصوص ، ولو من جهة ملاحظة القرائن ، من ملاحظة خصوص الشّخص ، وخصوص البلد أو الوقت والأصل ، ونفي العسر والحرج ، ودرء الحدود بالشّبهة يقتضي اعتبار العلم.

واستقصاء الكلام في هذه المباحث له محلّ آخر ، لكنّا رأينا أن نذكر بعضها ، ونبيّن بعض ما أهملوه ، لئلّا يفوتنا فوائده ، وعسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنين ، ويكون ذخيرة لنا يوم الدّين.

فائدة

اعلم ، أنّ ضروري الدّين كما يستلزم إنكاره الخروج عن الدّين ، فضروريّ المذهب أيضا يستلزم إنكاره الخروج عن المذهب.

وهنا دقيقة لا بدّ أن ينبّه عليها ، وهو أنّ ضروريّ الدّين قد يختلف باعتبار المذهب ، فيشتبه ضروريّ الدّين بضروريّ المذهب ، كما لو صار عند الشّيعة وجوب مسح الرّجلين ضروريّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنكاره من الشّيعة إنكار لضروريّ الدّين بخلاف مخالفيهم ، فتأمّل.

__________________

ـ [٣٤١٧٩].

٢١٧

قانون

اختلف العلماء في أنّ كلّ مجتهد مصيب أم لا ، وحكم الاجتهاد في العقليّات والشّرعيّات في ذلك مختلف ، وقد مرّ الإشارة الى حال الاجتهاد في العقليّات.

ونقول هنا أيضا : إنّ الجمهور من المسلمين على أنّ المصيب فيها واحد ، وادّعى عليه الإجماع بعضهم (١) ، وأنّ النّافي للإسلام مخطئ آثم كافر ، اجتهد أم لم يجتهد.

وخالف في ذلك الجاحظ حيث قال : إنّه لا إثم على المجتهد وإن أخطأ ، لأنّه لم يقصّر بالفرض [بالغرض].

وزاد عليه عبد الله بن الحسن العنبريّ البصريّ (٢) : إنّه مصيب أيضا.

فإن أراد إدراك ما طابق الواقع فهو غير معقول ، للزوم اجتماع النّقيضين في مثل قدم العالم وحدوثه ، وإن أراد عدم الأثر ، فهو قول الجاحظ ، وإن أراد أنّه تكليفه على الظّاهر بمعنى أنّ المطلوب في الأصول الظنّ كالفروع ، فهو أيضا يرجع الى عدم الإثم.

قيل : الظّاهر أنّ مراد المخالف هنا من الإصابة وعدم الخطأ إنّما هو إذا كان الخلاف في الإسلام ، مثل الجبريّ والعدليّ ، والقائل بالرّؤية وعدمها ، وإلّا فلا يتصوّر تصويب اليهود والنصارى من المسلمين.

__________________

(١) كالعلّامة في «التهذيب» ص ٢٨٦ ، وفي بعض نسخه عبارة (اتفقت).

(٢) في «الأعلام» للزركلي ٤ / ١٩٢ ، عبيد الله بن الحسن العنبري ١٠٥ ـ ١٦٨ ه‍ من تميم ، قاضى من أهل البصرة ، قال ابن حبان : من ساداتها فقها وعلما.

٢١٨

أقول : إذا كان المراد من الإصابة عدم الإثم ، فلا يلزم ذلك لما مرّ منّا الإشارة ، بل لا يصحّ حينئذ القول بالإصابة بمعنى إدراك ما في نفس الأمر ، وقد عرفت التّحقيق في المسألة ، وأنّ غير المقصّر لا إثم عليه ، وإن أخطأ الحقّ ، وإن قلنا :بجريان حكم الكفّار عليه إن أخطأ الإسلام.

احتجّ الجمهور : بأنّ الله تعالى كلّف فيها بالعلم ونصب عليه دليلا ، فالمخطئ له آثم مقصّر ، فيبقى في العهدة.

وجوابه : منع التكليف بالعلم مطلقا إن أريد اليقين ، بل يكفي ما هو اليقين عنده ، بل يكفي مطلق الجزم الذي تطمئنّ به النفس.

ولازم قول من كان يكتفي بالظنّ كالمحقّق الطوسيّ وغيره ، أن يكتفي به في غير الإسلام أيضا ، بالنّظر الى المؤاخذة وعذاب الآخرة ، وإن لم يكن الاكتفاء من جهة نفي أحكام الكفر ، لئلّا يلزم الظّلم على الله ، وإن جعل المعيار في التّكليف هو زوال الخوف وعدم احتمال البطلان ، فتساوى فيه الاجتهاد المطابق للواقع وغيره.

والحاصل ، أنّه لا دليل على كون الكافر المجتهد في دينه مع عدم تقصيره مستحقّا للعقاب ، دون المسلم مع تساويهما في المرتبة والاجتهاد كما أشرنا سابقا. ويشكل المقام من جهة دعوى الإجماع من الخاصّة والعامّة ، كالشيخ والشّهيد الثّاني وغيرهما ، وابن الحاجب ومن تبعه على استحقاق عذاب الكافر والمؤاخذة في الآخرة ، ومن جهة ما ذكرنا من البرهان العقليّ.

ويمكن دفع هذا الإشكال : بأن يقال : مراد من ادّعى الإجماع إنّما هو في حال العلماء الفضلاء المجتهدين المطّلعين على أدلّة المسائل ، نفيا وإثباتا على التفصيل ، لا مطلق من يجتهد في دينه وإن كان عامّيّا.

ودعوى أنّ المجتهد الكامل لا يخفى عليه الحقّ لو خلّى نفسه ولم يقصّر ليس

٢١٩

بعيدا من الصّواب ، بل هي دعوى صحيحة في أغلب تلك المسائل ، ويشهد بذلك أنّهم يذكرون هذه المسألة مع مسألة التّصويب والتخطئة في الفروع في مبحث واحد.

ولكن يرد عليه ، أنّ الدّليل الذي ذكروه من أنّ الله تعالى نصب عليه الدّليل يشمل العامّيّ والمجتهد ، وكذلك ما ذكروه من وجوب النّظر والاجتهاد في مسألة وجوب النّظر يشمل العامّيّ والمجتهد ، فيلزم أن يكون النّاظر من العوامّ أيضا آثما ، لأنّه لا يمكن أن يختفي عليه الحقّ ، فهو مقصّر.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام في حقّ أكثر العوامّ وفي أكثر مسائل أصول الدّين مجازفة ، كما ذكرنا في القانون السّابق ، ولو سلّم حصول الكفر وترتّب آثاره عليه في الدّنيا ، فلا نسلّم الإثم مع عدم التّقصير.

وقد يستدلّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) ، فاليهوديّ إذا جاهد في الله يهتدي الى الإسلام ، فإذا لم يهتد يظهر أنّه مقصّر.

أقول : المراد بكلمة (فينا) في حقّنا ، والمجاهدة مفاعلة مستلزمة للإثنين. وحملها على الجدّ والاجتهاد مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل.

فالمعنى والله يعلم ، الّذين يدافعون الخصماء من شياطين الجنّ والإنس ، والوهم والخيال ، والكفّار والمحاربين أيضا في حقّنا لنرشدنّهم الى سبيلنا ولنعيننّهم على دفاع الأعداء ، بإيضاح الحجّة والبرهان ، وإعلاء السّيف والسّنان ، أو لننعمنّ عليهم بهداية سبلنا الخاصّة الموصلة الى مراتب من القرب لا يصله جهدهم بدون إعانتنا ، أو لنكملنّ لهم هداية جميع السّبل ولنجمعنّ لهم السّبل التي

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

٢٢٠