القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ريب أنّ تبكيت كبرائهم وإلزامهم يكفي دليلا لمن دونهم ، فلعلّهم اعتمدوا عليه.

الثّاني

تقرير المعصومين عليهم‌السلام في اعتقاد إمامتهم بعد نصب كلّ منهم عقيب الآخر،فإنّ العوامّ والأطفال والنّسوان النّائين عنهم ، لا يمكن لهم العلم بذلك إلّا بالأخبار ، ولا يمكن غالبا ، بل يستحيل عادة حصول التّواتر لهم كما أشرنا سابقا ، فلا محالة أنّهم قرّروهم [فردّوهم] على التّقليد.

ويظهر الكلام فيه ممّا مرّ ، ولا يحصر طريقة الجزم في مشاهدة المعجزة أو سماع النصّ بالتّواتر.

والحاصل ، أنّه إن أراد كفاية الجزم الذي ذكرناه والاطمئنان الذي بيّنا ، فنعم الوفاق ، ويدلّ عليه العقل والتّقرير وغيرهما.

وإن أراد كفاية التّقليد بالمعنى المصطلح أعني الظنّ الإجماليّ المقرون لاحتمال في نظره الذي لا يرفع الخوف ؛ فكلّا.

الثّالث

أنّه على هذا يلزم كون المشتغلين في النّظر إذا لم يبلغوا بعد غايته وماتوا ، كانوا كفّارا مخلّدين.

وفيه : أنّ الظّاهر أنّهم لا يريدون ذلك ، للزوم التّكليف بالمحال ، ولا ريب أنّهم في هذا الحال معذورون.

نعم ، يظهر ممّا نقل عن السيّد رحمه‌الله ذلك ، ولا بدّ من تأويله ، ولعلّه نشير إليه فيما بعد.

١٨١

الرّابع

أنّ الإيمان على قسمين : مستقرّ ومستودع.

ويشهد له الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)(١) وكلّ من كان إيمانه مستودع لم يكن إيمانه مأخوذا عن الأدلّة اليقينيّة ، بل هو ناشئ (٢) عن المظنّة والتّقليد ، والأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعاملون معهم معاملة المؤمنين ، وورد في حقّهم أنّهم إذا ماتوا ولم يؤخذ منهم إيمانهم المعار لهم ، لماتوا مؤمنين ، وورد أنّ إيمانهم يبقى لهم لو تضرّعوا وألحّوا معهم في المسألة عن الله تعالى.

أقول : قد اختلف المتكلّمون في جواز زوال الإيمان وعدمه ، والأكثرون على الأوّل ، للآيات الكثيرة ، مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً)(٣) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)(٤) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ)(٥) ، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

ونقل عن السيد رحمه‌الله وجماعة من أصحابنا. الثّاني ، فيقولون : إنّ الارتداد كاشف عن عدم الإيمان الحقيقيّ رأسا بكونهم منافقين أو تابعين للظنّ ، وأوّلوا الآيات

__________________

(١) الأنعام : ٩٨.

(٢) في نسخة الأصل (ناش).

(٣) آل عمران : ٩٠.

(٤) آل عمران : ١٠٠.

(٥) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٢٥.

١٨٢

بإرادة الإيمان اللّساني من الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وجعلوا الأحكام المذكورة في الشّرع لمن يحكم عليه بالارتداد في ظاهر الشّرع. فكما أنّه يحكم عليه بالإيمان بإظهاره ، وإن لم يكن مؤمنا في الواقع ، فكذلك يحكم بالارتداد بما يوجبه ، وإن لم يكن في الأصل مؤمنا ، بل وإن بقي على إيمانه الواقعيّ أيضا عند الله تعالى عقوبة لهتك حرمة الشّرع.

والتّحقيق ، إمكان زوال الإيمان ، إمّا بالجحود مع اليقين ، كما وقع من أبي جهل وأضرابه ، وقد أشرنا إليه سابقا ، وإمّا بسبب طروّ الشّبهة ، لعدم كون جزمه في الدّين بعنوان حقّ اليقين ، وقد بيّنّا أنّه لا ينحصر الإيمان فيه ، بل ولا يمكن حصوله عادة إلّا للمعصومين عليهم‌السلام ، والأوحديّ من المؤمنين الكمّل ، الذي لا يسمح الزّمان بمثله إلّا في غاية النّدرة ، بل يحصل بما تطمئنّ به النّفس سيّما إذا لم يكن عنده احتمال النّقيض ، وإيمان أغلب النّاس مبنيّ على ذلك ، والأخبار الواردة في المعارين والمستودعين كلّها شاهد عليه ، وكذلك ما ورد في الأدعية من الاستعاذة بالله من مضلّات الفتن ، فإنّ ذلك من المعصومين عليهم‌السلام إن لم يكن بعنوان الحقيقة فلا ريب أنّ مرادهم تعليم سائر المؤمنين ، ولا معنى له مع عدم الإمكان.

والحاصل ، أنّا قد بيّنا أنّ للإيمان مراتب أو معاني متعدّدة ، والنّاس مختلفون فيها وكلّهم مؤمنون. وما ورد في الآيات والأخبار الدالّة على زواله ، واردة على نفس الأمر لا على مجرّد من يحكم بإيمانه ظاهرا ، ولا داعي الى تأويله ، فإذا لم يقم البرهان على اشتراط حقّ اليقين في إيمان كلّ النّاس ، فهذه الظّواهر كلّها دليل على كفاية مجرّد اطمئنان النّفس فيها ، وإلّا لم يتحقّق الزّوال ولم يثبت مصداق لهذه الآيات والأخبار.

ومناط الاستدلال بأخبار المعارين والمستودعين أنّهم عليهم‌السلام كانوا يعاملون معهم

١٨٣

معاملة المؤمنين لا المنافقين حتّى يقال : إنّهم عليهم‌السلام كانوا يعاملون مع المنافقين أيضا معاملة المؤمنين ، كما يدلّ عليه رواية عيسى القمّي الدالّة على أمر الإمام عليه‌السلام أوّلا بمحبّة أبي الخطّاب ثمّ أمره بلعنه وغيرها.

الخامس

أنّ عدم الفرق بين مراتب المكلّفين في الفهم غير سديد ، لأنّ إثبات عينيّة الصّفات أو إثبات التّجرّد ونفي الرّؤية وعدم صدور القبيح ليس شأن كلّ أحد ، لغموض أدلّتها ونفس مسائلها ، مع أنّا نعلم أنّ أصحاب الأئمة عليهم‌السلام بعد عهد بعيد كانوا في خدمتهم أيضا يستفهمون عن أمثال ذلك ، كما يشير إليه حديث ذعلب (١) اليمانيّ.

أقول : وهو كما ذكره ، وقد أشرنا إليه وسنشير بعد ذلك أيضا.

السّادس

أنّ الشيخ روى في كتاب «الغيبة» عن الصاحب عليه الصلاة والسلام أنّ جماعة يقال لهم : الحقيّة ، وهم الّذين يقسمون بحقّ عليّ عليه الصلاة والسلام لمحبتهم إيّاه ، ولا يدرون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة.

فإنّ الظّاهر أنّ هؤلاء إمّا من مقلّدي الشّيعة أو من مقلّدي أهل السنّة ، فلا وجه

__________________

(١) في الحاشية : بكسر الذّال وفتح الكلام على وزن درهم ، كان رجلا بليغا في الخطاب شجاعا من أصحاب علي عليه‌السلام وهو الذي قال لعلي : هل رأيت ربك ، فقال عليه‌السلام : ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره.

١٨٤

للحكم بأنّ كلّ من لا يعتقد بإمامة الأئمة عليهم‌السلام يدخل النّار.

أقول : لا بدّ من حمل هذه الرّواية وما شابهها على الغافل الغير المقصّر ، ولا نمنع ذلك فيه كما أشرنا.

ثمّ إنّ تتميم هذا المقام يقتضي رسم مباحث :

الأوّل

أنّ المراد بالدّليل عند من يقول بوجوب المعرفة بالدّليل لا بالتّقليد ، هو ما اصطلح عليه الأصوليّون من أنّه ما يمكن التّوصّل بصحيح النّظر الى مطلوب خبريّ مفردا كان أو مركّبا ، خلافا للمنطقيّين حيث يشترطون في الدّليل تركيب القضايا.

«فالعالم» عند الأصوليّين دليل على إثبات الصّانع ، وعند المنطقيّين العالم حادث ، وكلّ حادث له صانع ، ولذلك تراهم يريدون بالأدلّة الفقهيّة الكتاب والسنّة ونحوهما.

وقيّد «الإمكان» لإدخال الدّليل الذي غفل عنه ، فلا يشترط فعليّة التّوصّل في إطلاق الدّليل.

وقيّد «الخبريّ» لإخراج الحدّ ، وهو يشمل الأمارة أيضا.

وأمّا عند المنطقيّين ، فهو قولان فصاعدا يستلزم لذاته قولا آخر ، وذلك يختصّ بالبرهان ، لعدم استلزام غيره شيئا لذاته ، لعدم العلاقة بين المقدّمات الظّنيّة ونتائجها ، فقد يزول الظنّ ويبقى سببه ، كما يشاهد في حصول الظنّ بنزول الغيث بملاحظة الغيم الرّطب ، ثمّ يظهر خلافه مع بقائه ، وقد يسقط قيد الاستلزام ويقال قولان فصاعدا يكون عنه آخر ليدخل الصّناعات الخمس : البرهانيّات ،

١٨٥

والوجدانيّات ، والخطابيّات ، والشّعريّات ، والمغالطات ، والاستقراء ، والتّمثيل.

وأورد على ذلك : بأنّ الاستلزام لا يتوقّف على تحقّق الملزوم ولا اللّازم ، وكيف لا واستلزام القياس الصّحيح الصّورة للنتيجة قطعيّ ، فالمعنى أنّه لو تحقّق الأوّل لتحقّق الثّاني ، وهذا يشمل جميع الصّناعات.

وما أدرجه المنطقيّون في تعريف القياس من قولهم : متى سلّمت استلزم قولا آخر ، تنبيه على عدم اشتراط مسلّمية المقدّمات في تحقيق القياس من حيث هو.

ثمّ إنّ إطلاق الأصوليّين الدّليل على المفرد كالعالم مجرّد اصطلاح ، وإلّا فلا يمكن إثبات المطلوب الخبريّ إلّا بمقدّمتين ، فإنّ الدّليل من حيث إنّه يتوصّل به الى ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه ، لا بدّ فيه من ملزوم للمحكوم به يكون ثابتا للمحكوم عليه لينتقل الذّهن منه الى المحكوم عليه. ويلزم من ثبوت ذلك الملزوم للمحكوم عليه ثبوت لازمه له ، فالقضيّة المشعرة باللّزوم هي الكبرى ، والأخرى الدالّة على ثبوت الملزوم للمحكوم عليه هي الصغرى ، واعتبار المقدّمتين في تعريف المنطقيين مصرّح به ، وفي اصطلاح الأصوليّين مندرج في صحيح النّظر.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ المراد بصحيح النّظر هو الصّحيح عند المستدلّ ، والمراد بالنّظر التّأمّل في المعلومات لتحصيل المجهولات.

فالتأمّل في العالم بأنّه متغيّر ، وفي المتغيّر بأنّه حادث ، يوجب الوصول الى أنّ العالم حادث.

فالتأمّل في المفردات حقيقة هو ترتيب قضايا موصلة الى المطلوب ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ العالم دليل وجود الصّانع ، لا أنّ المفرد من حيث إنّه مفرد موصل الى التّصديق ، إذ لا ريب أنّ محض تصوّر شيء لا يوجب الوصول الى المطلوب ، خبريّ.

١٨٦

وكذلك الكلام في قولهم : إنّ الدّخان يدلّ على النّار ، فإنّ محض تصوّر الدّخان وإحساسه ، لا يدلّ على النّار ، بل من حيث التّأمّل في أنّه من الأجزاء اللّطيفة المستحيلة من الحطب بمجاورة النّار ، وأنّه ملزوم النّار ، غاية الأمر أنّ بعض الانتقالات أقرب من بعض ، وبعضها يصير الى حدّ ربّما يغفل عن مبادئ حصولها لكثرة المماسّة ، ومثل ذلك الدّلالات الطبيعيّة.

وأمّا الدّلالات الوضعيّة فلها حيثيّتان أشرنا إليهما في مباحث العامّ والخاصّ ، إحداهما تصوّريّة والأخرى تصديقيّة. فاستحضار المعنى الموضوع له بحضور الشّيء الموضوع ، هو معناه التّصوّري. والتّصديق بأنّ ذلك هو المعنى الذي وضع له ذلك الشّيء ، هو معناه التّصديقيّ وهو لا يحصل من الوضع لاستلزامه الدّور كما أشرنا وبيّنّا أنّ الغرض من وضع الألفاظ إنّما هو التّركيب لا تفهيم المعاني.

نعم ، يمكن تحصيل التّصديق بإرادة اللّافظ أو النّاصب ذلك المعنى ، نظرا الى قاعدة الاستعمال كما بيّنّا ، وهو بهذا الاعتبار أيضا معلوم للقضيّتين. فدلالة مقدّمتي البرهان على النّتيجة أيضا دلالة عقليّة ، لأنّه يلزم من العلم به العلم بالنّتيجة ، وهو معنى الدّلالة ، ولا فرق بين دلالة العالم على الصّانع ودلالة الدّخان على النّار من حيث إنّه يحصل من التّأمّل في كلّ منهما ، باعتبار القضايا المتضمّنة فيها التّوصّل الى مطلوب خبريّ.

ثمّ إنّ الاستدلال والانتقال من المبادئ الى المطلوب لا يختصّ بأهل النّظر ولا بفريق العلماء العرفاء بعلم المنطق وشرائط البرهان ، وإلّا فلم يحصل لأحد من النّاس يقين بمطلوب خبريّ ، ومن العيان الغنيّ عن البيان أنّ كلّ الناس يميّزون بين يقينيّاتهم وظنّيّاتهم ، ويسندون اعتقاداتهم وإذعاناتهم في أمور معاشهم الى مبادئ ، وتلك المبادئ مترتّبة في أذهانهم على مراتبها الطّبيعيّة ، مع أنّهم لا

١٨٧

يتفطّنون بها وكيفيّة ترتّبها ، وذلك لا يوجب عدم حصول اليقين لهم أو عدم ترتّب يقينهم على تلك المبادئ ، بل وكثير من المعلومات ممّا لا يعلم العالم بها أنّه يعلمها ، وذلك لا يوجب عدم العلم بها ، فقد تراهم يفرّون عن تحت الحائط المائل مخافة السّقوط ، وذلك مبتن على ما في ذهنهم من أنّ هذا الحائط مائل وكلّ حائط مائل ممّا يترقّب سقوطه ، فهذا ممّا يترقّب سقوطه ، ولكن لا يتذكّر حين الفرار هذه المقدّمات ولا يترتّبها في الذّهن هذا التّرتيب بالتّفصيل حتّى يقال : إنّه استدلال بالبرهان المنطقيّ التّفصيليّ ، بل هو استدلّ بذلك البرهان إجمالا ، فما دعاه الى الفرار هو إجمال المقدّمتين لا تفصيلهما.

ولا نقول : إنّ الباعث على الفرار هو ملاحظة محض الجدار الخاصّ ، فإذا طولب ذلك العاميّ بدليل الفرار وأوخذ بأنّك لا تعرف البرهان المنطقيّ وشرائطها فكيف حصل لك العلم أو الظنّ بذلك لضحك العقلاء بذلك المطالب المؤاخذ ، بل هذا الكلام تضحك منه الثّكلى.

ومطالب العقلاء متشابهة ، وكلّها مبتنية على المبادئ المناسبة لها ، بل لا أستبعد أن أقول بوجود تلك المبادئ وحصول الاستدلال للبهائم ، فلاحظ الكلب إذا انحنيت الى الأرض لترفع حجرا كيف يفرّ ، والظّاهر أنّ الدّاعي له على ذلك هو المقدّمتان ، يعني هذا الشّخص يريد أن يضربني ، وكلّ من يريد ضربي يجب الفرار منه ، فيجب الفرار منه ، وتخصيص المعارف الخمس واليقين بها بالدّليل التّفصيليّ دون سائر المطالب المعقولة ، لا وجه له ، إذ ذلك ليس من الأمور التعبديّة حتّى يخصّ بالنصّ مع عدم نصّ على لزومه أيضا ، وهذا هو المراد بالدّليل الإجماليّ.

وإن شئت توضيح الحال فقس حال العلم بالعمل ، والدّليل على النيّة ، فكما أنّ التّحقّق في نيّة العمل هو الدّاعي الى الفعل لا المحضر بالبال ، فكذلك فيما نحن فيه ،

١٨٨

الباعث على حصول العلم هو المبادئ الحاصلة في النّفس وإن لم يخطرها تفصيلا بالبال ، سيّما بهذا التّفصيل الخاصّ.

وأمّا قولنا فيما سبق : من كفاية ما تطمئنّ إليه النّفس ، هو بيان مقدار دلالة الدّليل ، وليس ذلك قسما آخر من الدّليل ، وليس ذلك من الدّليل الإجماليّ وتفسيره كما يتوهّم.

وبعبارة أخرى : إذا سأل سائل : هل يجب في الدّليل أن يفيد اليقين ، أعني الاعتقاد الجازم الثّابت المطابق للواقع أو يكفي مطلق الجزم أو يكفي مطلق الظنّ؟

فنقول : يكفي ما تطمئنّ به النّفس على التّفصيل الذي مرّ ، وقد مرّ وجهه.

والى ما ذكرنا في بيان الدّليل الإجماليّ ينظر كلام من مثّل في المقام (١) أي كفاية الدّليل الإجماليّ بقول الأعرابيّ : البعرة تدلّ على البعير وأثر الأقدام تدلّ على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلّان على اللّطيف الخبير (٢).

وما قد يتوهّم من وجوب الاستدلال التفصيليّ مع العلم بشرائط البرهان المنطقيّ وكيفيّة الترتيب وأخذ النتيجة تفصيلا ، أنّه لا يمكن تحصيل العلم من ملاحظة الأثر بالمؤثّر ومن المصنوع بالصانع إلّا مع ما ذكر ، فهو من غريب القول ، وأغرب منه ما يدعو المتوهّم الى المناقشة في المثال المذكور ، وأنّ استدلال الأعرابيّ باطل لأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ أثر الممكنات بديهيّ الدّلالة على الممكن ، بخلاف أثر الواجب فإنّ كون البعرة فعلا وأثرا من الحسّيّات ، وكون الفعل

__________________

(١) كصاحب «المعالم» ص ٥٣٥.

(٢) البحار : ٦٦ / ١٣٤.

١٨٩

يحتاج الى فاعل أيضا بديهيّ ، بخلاف دلالة السّماء على الله ، إذ كون السّماء أثرا ، نظريّ موقوف على بيانه أنّه ممكن وكلّ ممكن أثر ، وكلاهما نظريّان.

وفيه : أوّلا : منع كون كلّ آثار الممكنات بديهيّة الأثر ، فإنّا قد نتردّد في كون بئر واقعة في قلّة الجبل أو مغارة واقعة فيها أنّها من فعل الواجب أو فعل الممكن ، ولا فرق بين هذا وبين نفس الجبل في أنّهما محتاجان الى مؤثّر ، ولكن لمّا نعلم بالتّجربة والشّواهد الظّاهرة بأنّ الأجسام ليست من خلق العباد ، نتردّد في البئر بين كونها أثر الواجب أو الممكن ، بخلاف أصل الجبل ، ورؤية جنس البئر أثرا للممكن لا يقتضي الحكم بكونها مطلقا كذلك ، بل يحتاج إثبات كون هذا النّوع من البئر أو شخصها أثرا للممكن وفعلا له الى الدّليل ، فهو إنّما يدلّ على مؤثّر ما لا خصوص الممكن ، فنقول : إنّ تلك البئر إمّا كونها (١) أثرا وفعلا بديهيّ أو نظريّ ، فإن كان نظريّا ، فلا يصحّ قولك : إنّ كلّ أثر الممكن بديهيّ الأثر ، وإن كان بديهيّا فصحّ أن يقال : أثر الواجب أيضا قد يكون بديهيّ الأثر ، إنّما الكلام في تعيين المؤثّر أنّه واجب أو ممكن ، ومن هذا القبيل اللّؤلؤ المصنوع والمرمر المصنوع ، مع أنّه ربّما لم ير أحد بعض آثار الممكن ولا نوعه ويحكم بأنّ له صانعا مثل بعض الآلات المصنوعة لمعرفة السّاعة.

والقول : بأنّ التّتبّع يقتضي الحكم بأنّها من أفراد آثار الممكنات ، فيلحق بها ، يدفع أصل كلام المتوهّم ويثبت المطلوب إذ بذلك الفرق الحاصل بالاستقراء حصل الحكم بأنّ بعض الأشياء أثر الواجب وبعضها أثر الممكن ، فإنّ التّفرقة بين الأثرين من حيث كونهما أثرين يستلزم تصوّر أثريّتهما وإن لم يستلزم تصوّر

__________________

(١) في نسخة الأصل (إنّ ذلك البئر إمّا كونه)

١٩٠

ذاتهما أثريّتهما ، وبذلك ظهر أيضا أنّ كثيرا من آثار الممكنات نظريّ الأثريّة ، أستفيد من الاستقراء والتّتبّع المحتاج الى النّظر.

وثانيا : نقول : إنّ البقّ والذّباب والحشرات (١) الصّغار والدّيدان القليلة الأعمار المسبوقة بالعدم الملحوقة به ممكن وأثر بالبديهة ، ودلالتها على أنّها أثر ظاهر ، وكذلك إنّها تحتاج الى مؤثّر وإذا ألحق به عدم رؤية صدور مثلها عن ممكن يحكم بأنّ مؤثّرها غير الممكن.

وحاصل استدلال الأعرابيّ : أنّ الآثار التي يعلم أنّها من سنخ آثار الممكنات إذا كان لا يمكن حصولها في الخارج بدون مؤثّر كالبعرة وأثر الأقدام وحركة دولاب العجوز ، فكذلك الآثار التي يعلم أنّها ليست بحسب قدرة الممكنات كخلق الحيوانات والنّباتات وقاطبة الأجسام.

وليس مراد الأعرابيّ والعجوز الاستدلال بالبعرة على نفس البعير من حيث إنّه بعير أو بسكون الدّولاب بعد تحريك العجوز أنّ التّحريك من العجوز ، بل هي أولى بالدّلالة ، إذ تحقّقت الأمور الممكنة الغريبة العميقة الغور في الخارج بلا مؤثّر كالسّماء والأرض أغرب من تحقّق الأمور الماهيّة كالبعرة وأثر الأقدام ، لاستلزام الأوّل للترجيح بلا مرجّح أكثر من الثّاني ، إذ كلّ دقيقة منها يحتاج الى تأثير ومؤثّر ، فتحقّق التّأثيرات الكثيرة أغرب حصولا في الخارج من حصول تأثير قليل.

وثالثا : لم يقل أحد أنّ المصنوع بذاته يدلّ على الصّانع ، بل باعتبار ما تضمّنه من المقدّمات كما أشرنا.

__________________

(١) في نسخة الأصل (والحشار).

١٩١

نعم ، قد يكون بعض المصنوعات دالّا على الصّانع دلالة سريعة من جهة بداهة الصّدور التي أوجبت الغفلة عن المبادئ وأغنت الحاجة عن ملاحظتها ، فذلك أيضا لا يخلو عن قياس ، لكنّ قياسه معه.

والحاصل ، أنّ الباعث على العلم هو انطواء ضميره به وإن لم يقدر على ترتيبه وتحريره ، والتزام تعلّم المنطق وقواعد البرهان لعامّة العوامّ ممّا ينادي بفساده البديهة ، وليس ابتناء استفادة المجهولات واستعلامها من المعلومات على القواعد المنطقيّة في نفس الأمر وحصولها من جهتها موقوفا على معرفة هذه الطّرق (١) على التّفصيل المعهود كما أشرنا سابقا.

وليس حال المنطق إلّا حال العروض ، فإنّ من له طبع موزون لا معرفة له بحال البحور والتّقطيعات ، فيأتي بالأشعار الموزونة المتينة ، ولا يحتاج الى استحضار قواعده وكيفيّة ميزان الطّبع وحال التّقطيع ، وهكذا حال الفصاحة والبلاغة ، فإنّ أهل البادية ربّما لم يسمع أحد منهم اسم الاستعارة فضلا عن المصرّحة والتّبعيّة ، وبالكناية والتّخيّل [والتّخييل] والتّرشيح والتّجريد ، وكذلك شيئا من قواعد المحسّنات اللّفظية ولا المعنويّة ، ولا معنى الجناس والطّباق والإيهام والتّشريع وذي القافيتين ، ونحو ذلك ، ويأتي بكلام مشتمل على جميع قواعد هذه الفنون ، واحتياج التّنبيه على الغفلة لفاقدي الطّبع ومعوجي السّليقة مشترك بين الجاهلين لتلك الموازين وعالميها.

والحاصل ، أنّ العوامّ قاطبة يستدلّون في أمور معاشهم ومقاصدهم الدّقيقة بالبراهين الصّحيحة مع عدم تفطّنهم ، لأنّ تلك البراهين مترتّبة في أنفسهم على

__________________

(١) في نسخة الأصل (الطّرائق)

١٩٢

ترتيب طبيعيّ وعدم علمهم بأنّ علمهم ناشئ عن ذلك ، ولم يناقش أحد معهم في أنّه كيف حصل لك العلم مع أنّك لا تعرف المنطق.

ورابعا : نقول : إنّ البعرة بمعنى جلّة البعير ، ولجلّة البعير إطلاقان ، مثل حبّ الرّمان ، فإنّه قد يطلق حبّ الرّمان ويراد هذا النّوع من الحبّ المقابل لحبّ العنب من دون ملاحظة إضافيّة إلى الرّمّان وأنّه انفصل من رمّان خاصّ ، وقد يطلق ويراد أنّ هذا حبّ خرج من الرّمّان ، فيلاحظ الإضافة ، ويتّضح هذا بإضافته الى المخاطب ، فعلى الأوّل لا يستلزم الإضافة كون المخاطب مالكا لرمّان ، بخلاف الآخر ، ففي الإطلاقين كليهما نوع انتقال من حبّ الرّمّان الى الرّمّان ، ولكنّ الانتقال في الأوّل تبعيّ وفي الآخر مقصود بالدلالة.

ومراد الأعرابيّ في الاستدلال هو الانتقال بالمعنى الثّاني لكن من حيث المضاف لا الإضافة ، فقد يحصل الانتقال من الحبّ الى الرّمّان ، وقد يحصل الانتقال من حبّ الرّمّان الى الرّمّان ، وكذلك حال الجلّة ، ومراد الأعرابيّ الانتقال من الجلّة الى البعير لا من جلّة البعير الى البعير ، فلعلّ توهّم المتوهّم مبنيّ على أنّ الأعرابيّ انتقل من جلّة البعير بالمعنى العلميّ الى البعير ، وقال : إنّه بديهيّ ، يعني إذا رأى جلّة البعير من يعرفها ، فيحصل له فورا استحضار أنّه جلّة ، لا حجر ولا مدر ، وأنّه جلّة البعير لا جلّة الغنم ، وهذا المعنى غير ما هو مراد الأعرابيّ ، إذ مراده أنّ وجود جلّة البعير يمكن أن يستدلّ به على وجود بعير صدر هذه منه ، وأنّ هذه الجلّة لم يتحصّل بذاتها ولم يوجد من قبل نفسها ، لا أنّ هذه جلّة بعير لا جلّة غنم بالمعنى العلميّ ، فليفهم ذلك.

١٩٣

الثّاني

قال المحقّق في «المعارج» (١) بعد إقامة الأدلّة على عدم جواز التّقليد في الأصول عقلا ونقلا : وإذا ثبت أنّه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟

قال شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله : نعم ، وخالفه الأكثرون.

احتجّ باتّفاق فقهاء الأعصار على الحكم بشهادة العامّيّ مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلّة القاطعة.

لا يقال : قبول الشّهادة إنّما كان لأنّهم يعرفون أوائل الأدلّة وهو سهل المأخذ ، لأنّا نقول : إن كان ذلك حاصلا لكلّ مكلّف ، لم يبق من يوصف بالمؤاخذة ، فيحصل الغرض وهو سقوط الإثم ، وإن لم يكن معلوما لكلّ مكلّف ، لزم أن يكون الحكم بالشّهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلّة للشاهد منهم ، لكن ذلك محال ، ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحكم بإسلام الأعرابيّ من غير أن يعرض عليه أدلّة الكلام ولا يلزمه بها ، بل يأمره بتعلّم الأمور الشّرعيّة اللّازمة له كالصلاة وما أشبهها. انتهى كلامه رحمه‌الله.

أقول : وهذه الكلمات لا تلائم ما يظهر من كلام العلّامة رحمه‌الله في «الباب الحادي عشر» (٢) وكلام الشهيد في «الألفيّة» (٣) ، وغيرهما ، إذ ظاهرهما عدم تحقّق الإيمان مع التّقليد.

__________________

(١) ص ٢٠٠.

(٢) في مقدمة «الألفية» حيث قال : كل ذلك بالدّليل لا بالتقليد ، راجع كتاب «المقاصد العلية في شرح الرسالة الألفية» ص ٤١٥.

(٣) ص ٢٠٠.

١٩٤

ويظهر من الشيخ رحمه‌الله أنّ الاستدلال واجب على حدة ، فيلزمه الاكتفاء في أصل الإيمان بالتّقليد ، يعني أنّ الإيمان يتحقّق بالتقليد وإن كان تارك الاستدلال فاعلا للحرام ، وعلى هذا فنقول : قد بيّنّا أنّ للإسلام والإيمان معنيين :

أحدهما : ما يعامل به معاملة المسلمين ، وهو ما ظهر في اللّسان.

وثانيهما : ما ينفع في الآخرة ، وهو الإيمان القلبيّ.

فإن كان مراد الشيخ رحمه‌الله بالعفو عن هذا الإثم أنّه لا مؤاخذة في تركه في الآخرة ، فيلزم منه أن لا يتوقّف الإيمان الحقيقيّ النّافع في الآخرة على الاستدلال.

وإن كان مراده أنّه لا يضرّ ترك الاستدلال بالإيمان الظّاهرىّ ، ولا يضرّ بالعدالة وإن كان معاقبا في الآخرة غير منتفع بإيمانه فيها ، فيرد عليه أمران.

الأوّل : أنّ موضوع المسألة هو الإيمان الواقعيّ ، فيحصل الخلط في المبحث.

والثاني : أنّ المعتبر في العدالة هو الإيمان الحقيقيّ إلّا أن يكتفى فيها بظاهر الإسلام أو بحسن الظّاهر.

ويمكن أن يقال في تحقيق المقام على ما ذهب إليه الشيخ وتوجيه مقصوده : إنّ وجوب الاجتهاد والنّظر له حيثيّتان ، من إحداهما يقصد حصول اليقين والخروج عن الشّك والظنّ ، ومن الأخرى الوصول الى ما هو الحقّ ، فإنّهم لمّا بنوا أمرهم على وجوب العلم في أصول العقائد في كلّ زمان الى أن آل الأمر الى دين الإسلام ، وصار العلم فيه مطلوبا والأمر بالعلم لا يمكن إلّا مع الإمكان ، فخطاب العامّة بالعلم يستلزم عدم انفكاكه عن النّظر والاجتهاد ، للزوم تكليف ما لا يطاق ، فوجوب النّظر والاجتهاد إنّما هو ليتوصّل الى الإسلام ، ويتحرّز عن سائر الأديان لتأخّر الأمر بالعلم به عن سائر الأديان ، فهذا الوجوب للتوصّل الى ما هو الحقّ من الأديان.

١٩٥

وأمّا الوجوب من الحيثيّة الأخرى ، فهو : أنّ نفس العلم واليقين مطلوب لئلّا يحصل التّزلزل والشّك ، ثمّ إنّ التّوصّل الى المطلوب قد يحصل بشيء آخر ، فهو من هذه الجهة مسقط عن التّكليف بالتّوصّل بالواجب الأوّل ، وإن كان ما يتوصّل به الآن حراما كما أشرنا إليه في مباحث الأوامر ، فإذا أمكن الوصول الى الإسلام وما يتبعه بالجزم الحاصل من التّقليد ، فسقط اعتبار وجوب النّظر التّوصّليّ الى الإسلام وبقي اعتبار وجوبه الآخر.

فمراد الشيخ رحمه‌الله من كون هذا الخطأ موضوعا ، أنّه لا يوجب حينئذ اتّصاف صاحبه بالفسق ، وذلك مثل : انّ إخراج الماء من البئر لأجل الوضوء واجب توصّليّ عينيّ إذا انحصر الأمر فيه على الظّاهر ، فإن اتّفق أنّ المكلّف عصى وتكاهل عن ذلك ، فإذا بأحد جاء بالماء عنده وتوضّأ به وصلّى ، فلا مانع من القول بعدم المؤاخذة على ترك ذلك الواجب.

وكذلك قال بعدم المؤاخذة على تركه مع كونه واجبا لأجل نفس تحصيل اليقين من حيث هو أيضا ، واستدلّ على مطلبه بالطّريقة المستمرّة الجارية مجرى الإجماع كما أشار اليه المحقّق رحمه‌الله وسنذكره أيضا.

فالحاصل ، أنّ الكلام في هذه المسألة إمّا على نفس الأصول في مقابل الفروع ، وإمّا على خصوص الأصول التي هي أصل دين الإسلام ، فخطاب كلّ المكلّفين بالنّظر والاجتهاد ليجتنبوا عن غير الإسلام ويؤول الأمر الى الإسلام ، وخطاب المسلمين خاصّة به لأجل تحصيل اليقين والفلاح عن الزّلل وعدم الابتلاء بسائر الأديان ، وكذا الكلام في سائر الأزمان بالنّسبة الى الدّين المطلوب فيه.

فقولهم : يجب الاجتهاد في أصول الدّين ، معنى يعمّ لجميع أهل الدّيانات مع قطع النّظر عن دين خاصّ وطريقة خاصّة ، وإن كان غاية ما يؤول الى ما هو الحقّ

١٩٦

المطلوب.

وقولهم : يجب العلم بأصول الدّين ، معنى يخصّ بأصول الإسلام ، وكذا كلّ دين مطلوب في زمانه الخاصّ به.

وقولهم : ترك هذا الواجب معفوّ وهذا الخطأ موضوع ، معنى خصّ أيضا بالإسلام ، بل بأخصّ منه ، فإن أراد الشيخ من وضعه والعفو عنه في الآخرة أيضا ، فلا بدّ أن يقول : إنّ ترك هذا الواجب صغيرة يكفّرها ترك الكبائر ، وإن أراد العفو عنه في الدّنيا ، بمعنى أنّه يقبل شهادة صاحبه وتتّصف بالعدالة وإن كان فاعلا للكبيرة فهو غير مأنوس.

والظّاهر أنّه أراد المعنى الأوّل ، هذا إن أردنا من لفظ الخطأ المعصية ، وإن أردنا الخطأ المقابل للعمد ، فيختصّ الكلام بالغافلين من المقلّدين وهو الغالب فيهم ، ولكنه لا يلائم الاستدلال بطريقة العلماء ، وخلاف ظاهر كلام الشيخ أيضا كما سنشير ، وإن كان في بعض كلماته تصريح بعدم المؤاخذة عمّن أخذ الدّين بالتّقليد جهلا إذا وافق الحقّ كما سنذكره أيضا. هذا غاية توجيه كلام الشيخ.

وأقول : الذي رأيته في «العدّة» (١) ممّا يناسب ما نقله المحقّق ، موضعان :

الأوّل : ما ذكره في ذكر صفات المفتي والمستفتي ، فإنّه بعد ما ذكر عدم جواز التّقليد في الأصول ، واستدلّ على جواز التّقليد في الفروع بالطّريقة المستمرّة وعمل أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وتقرير أئمتهم عليهم‌السلام على ذلك.

وأورد عليه : أنّ طريقتهم أيضا كان تقرير المقلّدين في الأصول على تقليدهم وعدم قطع الموالاة عنهم ، وعدم التّنكير عليهم.

__________________

(١) ٢ / ٧٣١.

١٩٧

وأجاب عنه ، قال : إنّ الذي يقوى في نفسي أنّ المقلّد المحقّ في أصول الدّيانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به ، وأنّه معفوّ عنه ، وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطّريقة التي قدّمناها لأنّي لم أجد أحدا من الطّائفة ولا من الأئمة عليهم‌السلام قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند ذلك الى حجّة عقل أو شرع.

وليس لأحد أن يقول : إنّ ذلك لا يجوز لأنّه يؤدّي الى الإغراء بما لا يؤمن أن يكون جهلا ، وذلك أنّه لا تؤدّي الى شيء من ذلك ، لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم ابتداء أنّ ذلك سائغ له ، فهو خائف من الإقدام على ذلك ، ولا يمكنه أيضا أن يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ، لأنّه إنّما يمكنه أن يعلم ذلك إذا عرف الأصول ، وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه فكيف يعلم إسقاط العقاب؟ فيكون مقرّا (١) باعتقاد ما لا يأمن من كونه جهلا أو باستدامته ، وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الّذين حصل لهم العلم بالأصول وسبروا أحوالهم ، وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ، ولا يسمع لهم (٢) ذلك إلّا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ، وذلك يخرجه من باب الإغراء.

وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وأقوى ممّا ذكرناه أنّه لا يجوز التّقليد في الاصول إذا كان للمكلّف طريق الى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس

__________________

(١) في نسخة «العدة» (مغرى).

(٢) في نسخة «العدة» : (ولم يسغ).

١٩٨

بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلّفة بحال (١).

والموضع الثّاني ما ذكره في بحث أخبار الآحاد (٢) ، قال : فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغلاة والواقفية (٣). الى أن قال : (٤) وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصّحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل فهو معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه ، على أنّ ما أشاروا إليه لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدّليل على سبيل الجملة كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة ، وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعيّة (٥) ، وليس يقف حصول المعرفة على حصولها ، كما قلناه في أصحاب الجمل ، الى آخر ما ذكره.

وأقول : يرد على الشيخ رحمه‌الله أمور :

الأوّل : إنّ كلامه مستلزم للقول بأنّ الاستدلال واجب آخر والمعرفة واجب آخر ، وليس التّكليف هو المعرفة الحاصلة بالاستدلال ، كما يظهر من الآخرين.

ويمكن دفعه : بأنّ الشيخ رحمه‌الله يلتزم ذلك ، ولا يلزم من القول به مخالفة لاجماع

__________________

(١) الى هنا ينتهي كلام الشيخ في «العدة» ٢ / ٧٣٣.

(٢) من «العدة» ١ / ١٣١.

(٣) وفي نسخة «العدة» : والواقفة والفطحيّة وغير ذلك من الفرق الشّيعية المخالفة اعتقادهم للاعتقاد الصّحيح.

(٤) في «العدة» ١ / ١٣٢.

(٥) في نسخة «العدة» (صناعة).

١٩٩

ولا الدّليل القاطع [لدليل قاطع].

والثّاني : إنّ وضع الخطأ من مقلّدة أهل الحقّ دون غيرهم يستلزم الظّلم والقبح ، لأنّ المقلّدين إن كانوا غافلين عن وجوب النّظر والاستدلال ، ومطمئنين بما أخذوه غير شاكّين ، فكلّهم متساوون في العفو لئلّا يلزم الظّلم ، فلا مؤاخذة على مقلّدة غير أهل الحقّ كما أشار إليه الشيخ في آخر كلامه الأوّل لمقلّدة أهل الحقّ ، وإن كانوا متفطّنين لوجوب الاستدلال ، ومع ذلك تركوه ، فهم متساوون في فعلهم الاختياريّ أيضا بالفرض ، والفعل الاضطراريّ لا يصير منشأ لثواب ولا عقاب بالاتّفاق.

فإن قيل : الميل الى دين الإسلام فعل اختياريّ ، فمقلّدة أهل الحق أخذوا الحقّ باختيارهم لا بالاضطرار.

قلنا : ليس هذا الاختيار إلّا من جهة حسن ظنّ بهم ، واختيار جعل حسن الظنّ مناطا للاجتهاد مشترك بين الفريقين ، فما وجه جعل ذلك في حقّهم موجبا للخلود في الجنّة ، وفي حقّ الأغيار موجبا للخلود في النّار ، إذ الفريقان كلاهما بعد التّفطّن لوجوب النّظر والاستدلال إمّا يبقيان على اطمئنانهم السّابق ، أو يتزلزلان فيه. فمنشأ بقاء كلّ منهما على الحال السّابق في الأوّل ، وهو بقاء الاطمئنان الحاصل من حسن الظنّ الموجود فيهما ، فيلزم التّساوي.

وفي الثّاني تقصيرهما وعدم الاعتناء بأمر دينهما ، وهما متساويان فيه أيضا ، والإصابة الاتّفاقيّة لا يفيد شيئا مع أنّه لا يبقى حينئذ إصابة بسبب التّزلزل.

والقول بأنّ الكفر هو الموجب لدخول النّار لا عدم الإسلام ، وغاية الأمر هنا عدم الإسلام في جانب المقلّد للحق ؛ غير وجيه ، لأنّا مع قطع النّظر من أنّ الكفر هو عدم الإسلام لا أمر وجوديّ كما ذكره الأكثر.

٢٠٠