القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

وذهب المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في «التّجريد» (١) الى أنّه الاعتقاد بالجنان والإقرار باللّسان ، وهو مقتضى إطلاق أكثر الإماميّة.

وقد وردت الأخبار بمقتضى أكثر هذه الأقوال ، فأعلى ما اقتضاه إطلاق الأخبار هو الإذعان بالعقائد الحقّة مع اليقين الكامل ، مع الاتيان بالواجبات والمستحبّات ، وترك جميع المحرّمات والمكروهات ، والتّحلّي بالأخلاق الكريمة والتّخلّي عن الأخلاق الذّميمة ، وهذا هو المخصوص بالمعصومين عليهم‌السلام ، وأدنى ما اقتضاه هو التّلفّظ بالشّهادتين مع عدم ظهور ما يوجب الكفر عنه ، وإن لم يكن في القلب مذعنا بهما أيضا ، ويدخل فيه المنافقون.

وعلى هذا ، فالإيمان إمّا مشترك بين هذه المعاني أو حقيقة في بعضها ومجاز في الآخر ، ولكلّ منها ثمرة ، مثل أنّ ثمرة الأولى حصول جميع ثمرات سائر المعاني مع زيادة حصول درجة كمال القرب والاستحقاق للشفاعة الكبرى ، وصيرورته موردا للوحي والإلهام.

وثمرة الأخيرة إنّما هو حقن الدّم وحلّية النكاح واستحقاق الميراث والطّهارة ، وأمثال ذلك ، ولكن لا حظّ لهم في الآخرة.

والحدّ الوسط بينهما إمّا ممّن يلحق بالمقرّبين ويحشر مع الصّدّيقين مع زيادة الثّواب والأجر.

وإمّا ممّن يكفّر صغائره باجتناب الكبائر ، إذ اجتنبت الكبائر فيصير مغفورا مرحوما. وإمّا ممّن يعذّب بمعاصيه في البرزخ والقيامة الكبرى ثمّ يخرج من النّار ، أو يعذّب في البرزخ فقط ، فلا يدخل نار جهنّم على القولين فيه للمتكلّمين ،

__________________

(١) في المقصد السّادس ـ المعاد مبحث الايمان والكفر.

١٦١

والأوساط فرق ثلاثة.

الأولى : من يعتقد العقائد الحقّة ، ويفعل كلّ الواجبات ويترك كلّ المحرّمات.

والثّانية : من يعتقد بالعقائد الحقّة ويترك الكبائر ، ويأتي بالفرائض التي تركها كبيرة.

والثّالثة : من يعتقد بالعقائد الحقّة من دون عمل ، وهذا هو إطلاق أكثر الإماميّة ، وكيف كان ، ففي مقابل كلّ إيمان كفر ، فالذي يثمر في الحكم بوجوب الإهانة والإذلال والنّجاسة وعدم حلّ المناكح والمواريث ، هو نفي الإيمان بمعنى عدم التّلفّظ بالشّهادتين أيضا. والكفر الذي يوجب العذاب وإن تعقّبه النّجاة ، هو نفي الإيمان بالمعنى الذي فوق هذا ، وهكذا.

وأمّا الإسلام ، فقيل : إنّه الإقرار بالشّهادتين مع الإذعان بهما مع عدم إنكار الضّروريّ من الدّين ، وقيل : إنّه إظهار الكلمتين وإن لم يعتقد بهما.

والحق ، أنّه يطلق على كلّ ما يطلق عليه الإيمان أيضا.

وأمّا لو ذكر مع الإيمان وفي مقابله ، فيراد به أحد المعنيين.

إذا تمهّد هذا فنقول : إن أراد المستدلّ بقوله : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي من الكفّار بكلمتي الشّهادة ويحكم بإسلامهم ، الّذين كانوا ينظرون الى معجزاته وصفاته وأخلاقه الحسنة وسجيّاته المستحسنة ويتكلّمون بالكلمتين ، فهو ليس إلّا المعرفة بالنّظر والدّليل ، إذ لا نريد بالدّليل إلّا ما يوجب الاطمئنان كما سنشير إليه.

وإن أراد غير ذلك ، فعلى فرض تسليمه ، نقول : إن أردت من الاكتفاء بالكلمتين في الحكم بالإسلام ، الإسلام بمعنى الإيمان الذي لا يتحقّق إلّا مع الإذعان بالعقائد الحقّة والاطمئنان به ، فلا نسلّم أنّه كان يكتفي في ذلك بذلك.

وإن أردت ما هو أعمّ من ذلك ليدخل مطلق المقرّ بالشّهادتين ليترتّب عليه

١٦٢

الأحكام الظّاهرية فلا يضرّنا ولا ينفعك ، إذ من العيان المغني عن البيان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان طريقته في بدو الإسلام المسامحة والمماشاة مع الأجلاف والأغبياء واستمالتهم على التّدريج ليستقوي شوكة الإسلام بالاجتماع والكثرة ، ولا ريب أنّ أكثرهم كانوا منافقين ، ومع ذلك كان يعامل معهم معاملة المسلمين ، ويناكح معهم ويوارثهم ، ويباشرهم مع الرّطوبة الى غير ذلك ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرى من حال بعضهم أن يكتفي بمجرّد إظهار الإسلام ليكون وسيلة الى حصول شوكة الإسلام ثمّ يكلّمه بالتّدريج إن أمكن ، ويتركه على نفاقه مع عدم إمكانه ، فإذا احتمل اكتفاؤه لإرادة هذا المعنى ، بل ظهوره أو تساويه مع إرادة الإسلام الواقعيّ فيبطل الاستدلال.

الثّالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بدين العجائز».

ولا ريب أنّ دينهنّ بطريق التّقليد لعدم اقتدارهنّ على النّظر ، ولفظة (على) تدلّ على الوجوب ، فيحرم النّظر.

وفيه : منع صحّة الرّواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قد قيل : إنّه من كلام سفيان (١) ، والمذكور في الألسنة والمستفاد من كلام المحقّق البهائيّ رحمه‌الله في «حاشية الزبدة» أنّ هذا هو حكاية دولابها وكفّ اليد عن تحريكها لإظهار اعتقادها بوجود الصّانع المحرّك للأفلاك المدبّر للعالم.

والذي ذكره القوشجي في «شرح التّجريد» وتبعه الفاضل الجواد رحمه‌الله هو ما روي أنّ عمرو بن عبيدة لما أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال

__________________

(١) في «الزبدة» ص ١٦٧ : ودين العجائز من كلام سفيان أي ليس حديثا.

١٦٣

الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)(١) ، فلم يجعل الله من عباده إلّا الكافر والمؤمن ، فقال سفيان : عليكم بدين العجائز (٢).

أقول : والمناسب للمقام هو الحكاية الأولى.

سلّمنا أنّها رواية ، لكنّها خبر واحد معارض بالقواطع.

سلّمنا أنّه خبر قطعيّ ، لكنّها لا تدلّ على مطلوبكم ، لمنع عدم قدرة العجائز على الاستدلال ، سيّما مع ما سنبيّن من كفاية الدّليل الاجماليّ ، وعدم الاحتياج الى معرفة طريقة أهل الميزان ، مع أنّ ما ظهر من العجوزة نوع من الاستدلال كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بالعجائز هنا جنس الجمع لا العموم ، نظير قول عمر : «كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال» (٣) ، فعدم اقتدار أكثرهنّ أو بعضهنّ على الاستدلال لا ينافي اقتدار بعضهنّ.

بقي الكلام في معنى كلمة (عليكم) حينئذ ، إذ الرّجوع الى الاستدلال وترك التّقليد لا يناسب الأمر بالرّجوع الى العجائز ، كما لا يخفى حتّى يقال : أنّ المراد الأخذ بالاستدلال لا التّقليد ، قلبا على المستدلّ به.

والذي يخالجني في وجهه وجهان :

الأوّل : أنّ عليكم بتحصيل اليقين كما حصّلته العجوز ، فإنّها جعلت وجود الصّانع ، وكونه مدبّر الأفلاك ومحرّكها كالمحسوس من وقوف دولابها من الحركة بمجرّد تخليتها عن يدها.

__________________

(١) التّغابن : ٢.

(٢) وكذا ذكره في البحار ٦٦ / ١٣٦ ، ولكن برواية عمر بن عبد الله المعتزلي.

(٣) «المبسوط» للسرخسي ١٠ / ١٥٣.

١٦٤

والثّاني : أنّ الأليق والأنسب في الاستدلال والإسلام لكافّة النّاس ، والأسهل لعامّتهم ، وهو طريقة الإنّ وهو الاستدلال بالآثار على المؤثّر ، وبالخلق على الخالق ، لا النّظر في نفس الوجود والموجود المحتاج الى التمسّك ببطلان الدّور والتّسلسل لعدم بلوغ فهم العامّة إليه ، ولا التّمسّك بملاحظة نفس الوجود وادّعاء تأصّله على طريقة وحدة الوجود التي يسمّونها المتصدّون لها استدلالا من الحقّ الى الحقّ ، لأنّ محقّقي المتصدّين لذلك مقرّون بأنّه لا يتمّ إلّا بالكشف والشّهود الذي لا يحصل إلّا بالرّياضة والمجاهدة ، وليس إدراكه في وسع العقل والنّظر.

والمتصدّون لإتمامه بالاستدلال كما صدر عن بعض متأخّريهم ، لو فرض تسليم مقدّماته ، فإنّما هو ممّا لا يصل إليه يد أكثر العلماء ، فضلا عن العوامّ ، ولا ريب أنّه مزلّة ومزلقة للخواصّ فضلا عن العوامّ ، فكيف يكلّف بذلك عامّة النّاس ، فلذلك خاطب المكلّفين بقوله : «عليكم بدين العجائز».

والظّاهر أنّ هذه الطّريقة أجنبيّة بالنّسبة الى طريقة الشّرع ، ولم يدلّ عليها آية ولا خبر.

وما يقال إنّ قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١) إشارة الى الطّريقتين ، فأوّلها إشارة الى الاستدلال من الآثار الى المؤثّر كما هو طريقة المحجوبين عن الشّهود ، وآخرها يعني قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) الخ إشارة الى الطّريقة الأخيرة ، يعني وحدة الوجود ، فهو من التّأويلات التي دعا إليها رسوخ ما فهموه بأفهامهم في خواطرهم ، بل الظّاهر من الآية أنّها على نسق واحد كما ينادي به

__________________

(١) فصّلت : ٥٣.

١٦٥

استفهام عدم الكفاية ، فإنّه متعارف في باب تأكيد الكلام السابق وتتميمه ، لا أنّه مباين للأوّل.

فحينئذ ، فمعنى ما ورد في الأدعية ممّا يشعر بالطّريقة الأخيرة مثل قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا من دلّ على ذاته بذاته» (١). وقول السّجّاد عليه‌السلام : «بك عرفتك وأنت دللتني عليك» (٢). ومثلهما ، فيحتمل معنيين :

أحدهما : أنّ الظّهور الإجماليّ الذي حصل منك في فطرتنا ، بل فطرة البهائم صار سببا لتوجّهنا الى حقّ معرفتك الى أن عرفناك بما استطعنا ، أو أنّ خلقك إيّانا وجوارحنا وقوانا وحواسّنا والأمور الغريبة التي يحصل منها العبرة ويجرّنا الى وادي الفكرة ، صارت سببا لمعرفتنا إيّاك ، فبسببك وعنايتك عرفناك.

وهذا إن قلنا بالفطرة كما هو الظّاهر ، وسنشير الى بيانها في الجملة ، وإلّا فالمتعيّن هو الثّاني ، ويرجع مآله الى استدلال العجوز.

الرّابع : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الجدل كما في مسألة القدر ، روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «خرج على أصحابه فرآهم يتكلّمون في القدر ، فغضب حتّى احمرّت وجنتاه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا ، عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه أبدا» (٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ذكر القدر فأمسكوا» (٤).

وفيه : أنّ النّهي عن الجدل ، بل عن البحث ، غير النّهي عن النّظر ، إذ قد يكون الجدل مراء حراما ، وقد يكون فيما لا طائل تحته فيكون تضييعا للوقت ، وقد

__________________

(١) من دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) في دعاء عرفة.

(٣) الأحكام للآمدي : ٤ / ٢٢٤.

(٤) البحار : ٥٥ / ٢٧٦ ح ٧٤.

١٦٦

يكون في تركه حكمة وفي فعله مفسدة ، مثل : أنّ الكفّار في بدو الإسلام إذا كانوا يرون المسلمين يباحثون في المسائل ويجادلون ، كان بحثهم مظنّة أن يقال : إنّ هؤلاء بعد لم يستقرّ أمر دينهم ويدعوننا إليه ، ونحو ذلك.

وأمّا النّهي عن خصوص الخوض في مسألة القدر ، فهو لا يستلزم النّهي عن النّظر في المعارف الحقّة ، إذ القدر الذي كلّفنا به هو ما يمكن أن تبلغه عقولنا ، وأسرار القدر ممّا لا تبلغه عقولنا ، فالنّظر والكلام فيه مزلقة عظيمة.

لا يقال : إنّ ذلك أيضا يرجع الى معرفة الله تعالى بصفاته الذّاتيّة أو الفعليّة ، والأمر منه دائر بين النّفي والإثبات ، فما معنى [النّهي] عن النّظر فيه.

لأنّا نقول : النّظر في المطالب والتّمييز بين الحقّ والباطل واختيار النّفي والإثبات إمّا يحصل بإقامة البرهان على حقيّة أحد الطّرفين وبطلان الآخر بإبطال دليل الطّرف الآخر ، وإمّا يقام البرهان على حقيّة أحد الطّرفين ، فينتفي نقيضه لامتناع اجتماع النّقيضين أو الضدّين ، ولا يضرّه عدم الاقتدار على إبطال دليل الأخرى ، لاحتمال عدم القدرة على إدراكنا للمعايب الثّابتة في مادّة برهانه أو هيئته.

وحصول اليقين في الطّرف المقابل شاهد على بطلان الدّليل الذي أقيم على خلافه ، فإنّا إذا تأمّلنا في مسألة فعل العبد مثلا وأقمنا البرهان على كونه مختارا بالبراهين القاطعة من الضّرورة العقليّة ، ولزوم اللّغوية في إرسال الرّسل ، والوعد والوعيد ، ومدح الصّلحاء وذمّ الفسّاق ، وغير ذلك مما ملئ به الكتاب والسنّة ؛ فلا يضرّه العجز عن شبهة الجبر ، ولذلك قال بعض المحقّقين : إذا عارض الشّبهة البديهة ، فلا يلتفت إليها.

ففي مثل شبهة خلق الكافر المتداولة في الألسنة والكتب ، إذا أثبتنا بالبرهان

١٦٧

القاطع عدم صدور القبح عنه تعالى وأنّه لا يظلم عباده شيئا ، فإن سلّم بقاء حيرة لنا في وجه حكمة خلقه ، فهو لا يوجب التأمّل في أنّه لا يصدر عنه الظّلم ، وقد يكون التأمّل في الصّغرى ، وهو لا يوجب قدحا في الكبرى وذلك كما ورد في الحديث : «إنّ موسى عليه‌السلام قال : إلهي أرني عدلك ، فأمره أن يختفي في جنب عين على طريق ، ففعل ، فجاء فارس فاستراح ساعة وراح ونسي هميانا فيه ألف دينار ، ثمّ جاء صبيّ وأخذه وذهب ، ثمّ جاء أعمى فإذا الفارس قد عاد وأخذ الأعمى بالهميان وسلّ سيفه جزّ رأسه.

فقال موسى عليه‌السلام : إلهي ضاق صدري وأنت عادل.

فقال : يا موسى قد كان الأعمى قتل أبا الفارس ، وكان لأب الصبيّ ألف دينار عند الفارس من أجر خدمته إيّاه ، فقد استوفى كلّ حقّه».

وكذلك حكاية صحبة موسى مع الخضر على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام وحيرته في فعله في المقامات الثّلاثة ، فإذا عجز نبيّ عن إدراك حكمة عبد ، فكيف بالعبد عن إدراك حكمة الله الحكيم العليم.

وبالجملة ، لا دلالة في النّهي عن الخوض والبحث في مسألة القدر على وجوب التّقليد في أصول الدّين وعدم جواز النّظر فيها.

الخامس : أنّه بدعة في الدّين ، إذ لم ينقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الاشتغال ، إذ لو اشتغلوه لنقل إلينا لتوفّر الدّواعي وقضاء العادة كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ، وكلّ بدعة مردودة.

وفيه : منع عدم نقله أوّلا ، بل هو من اليقينيّات ، والقرآن الكريم مملوّ من المناظرات مع الكفّار ممّا وقع من الأنبياء السّالفين ، وأمر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال تعالى :

١٦٨

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(١) وغير ذلك من الآيات والأخبار التي وردت في مناظرات أهل الكتاب ، وسيّما من رواة أصحاب أئمّتنا عليهم‌السلام في مباحثهم مع الزّنادقة وأمرهم أصحابهم بذلك ، مع أنّ أصحاب النبيّ كانوا أقلّ حاجة الى النّظر لأنّهم كانوا يشاهدون المعجزات الباهرات ، بل كان يكفيهم رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورؤية أحواله وأفعاله سيّما مع قلّة الشّبهات وعدم طروّ التّشكيكات التي حصلت بعد زمانهم.

وإن أريد أنّ تدوين الأدلّة والأبواب على ما جمعته (٢) الكتب الكلاميّة بدعة ، فكذلك حال الفقه ، فلا بدّ أن يكون هو أيضا حراما مع أنّ البدعة المحرّمة هو إدخال ما ليس من الدّين في الدّين بقصد أنّه من الدّين ، لا الاهتمام والجهد في تدوين ما سمعوه من الدّين وضبط العقائد اللّازمة ، وذكر ما يذبّ به عن شبهات الملحدين وتشكيكات الضّالّين المضلّين ، بل هو عين العبادة والطّاعة ، وان سمّيته بدعة ، فنمنع كون كلّ بدعة محرّمة.

هذا واعلم أنّ هذا الدّليل وما تقدّمه معارضته على القول بوجوب النّظر شرعا ، وإلّا فلا ترد هذه الأدلّة على من قال : بأنّ الوجوب عقليّ لا شرعيّ ، وذلك لأنّ النّزاع في وجوب النّظر وكفاية التّقليد مسبوق بالنّزاع في أنّ وجوب معرفة الله تعالى عقليّ أو شرعيّ ، فكلّ من الفريقين يختلف بعد إثبات مذهبه في المقام الثّاني.

فدليل القائل : بأنّ وجوب معرفة الله تعالى عقليّ ، هو وجوب شكر المنعم

__________________

(١) النّحل : ١٢٥.

(٢) في نسخة الأصل (جمعه).

١٦٩

وإزالة الخوف ، وأنّه يقتضي معرفة المنعم ، ودليل اشتراطهم القطع أو الاجتهاد هو أنّ الخوف لا يزول إلّا بذلك ، ومن يكتفي بالنّظر الظّنّي أو التّقليد يقول : إنّ الخوف يزول بالظنّ والتّقليد أيضا.

ودليل القائل بالوجوب الشّرعيّ هو منع حكم العقل ، وأنّ الشّرع قال بوجوب المعرفة.

ثمّ إنّ القائل من هؤلاء بوجوب النّظر والعلم ، يستدلّ بمثل : (فَانْظُروا)(١)(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(٢).

والقائل بكفاية الظنّ والتّقليد يستدلّ بمثل هذه الأدلّة ، فالأوّلون في مقام البحث عن وجوب المعرفة بالنّظر أو غيره بعد لم يثبتوا الشّرع حتّى يحتج عليهم بمثل هذه الأدلّة بخلاف الآخرين. اللهمّ إلا أن يقال : المراد بهذه الأدلّة تنبيههم بعد إثباتهم الشّرع بطريق النّظر ، على بطلان ما فهمته عقولهم ، واستدلّوا به على وجوب النّظر.

ثمّ إنّ أمثال هذه الأدلّة إنّما تنفع بعد ثبوت الإسلام ، ولا تنفع للمكلّفين من اليهود والنّصارى. ونفعها للمسلمين أيضا إنّما هو في بعض المسائل ، وتتميمه يحتاج الى القول بعدم الفرق.

وأيضا هذه الاستدلالات وما يجيء بعد ذلك إنّما ينفع في العلم للمناظرين المجتهدين ، ولا ينفع لمن لم يبلغ درجتهم إذا أراد أخذ الطّريق في المسألة جواز التّقليد وعدمه ، إلّا أن يقال : تحقيقه عند المناظرين ينفع في معرفتهما [معرفتهم]

__________________

(١) يونس : ١٠١.

(٢) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٩.

١٧٠

الحقّ عن الباطل ، فإذا ثبت وجوب النّظر عندهم ، فيجب عليهم الأمر بالمعروف ، فيأمرون المكلّفين بالنّظر في هذه المسألة ، وبهذا يندفع ما لعلّه سيورد على ما حقّقناه آنفا من أنّ الغافلين منهم ليسوا مكلّفين بذلك ، من أنّ هذا يستلزم صحة طريق أكثر المخطئين ، فلا يجب إعلامهم لعدم كونهم آثمين كما ذكرناه في القانون السّابق في حكم الفروع.

ووجه الدّفع يظهر ممّا بيّناه ثمّة ، فإنّ الاستكمال أمر مقصود من الله تعالى ، ولم يكتف تعالى شأنه عن العباد بعدم كونهم معذّبين ولا بقليل من الفيض والخير ، بل أراد منهم الكمال ونهاية القرب على حسب استعدادات العباد ، فبعد تحقيق الحال وإخبار المجتهدين الآمرين بالمعروف إيّاهم بما حقّقوه ، فيحصل لهم تنبيه وتيقّظ ، فيجب على المكلّفين حينئذ ابتغاء طريقتهم في الاجتهاد والنّظر بحسب طاقتهم.

وطريقة التّنبيه تختلف (١) باختلاف المكلّفين ، وكذلك طريقة النّظر ، فربّما كان المكلّف من جملة الطلبة وقد حصّل حظّا وافرا من العلم ، ويطيق لفهم هذه الأدلّة التي يتداولها المجتهدون ، فالمجتهدون يلقون إليهم بتلك الأدلّة ليتفكّروها ويجتهدوا في مسألة لزوم النّظر وعدمه ، إذ قد ذكرنا أنّ ذلك من المسائل الكلاميّة التي من توابع أصول الدّين.

وإن لم يكن المكلّف في هذه المرتبة فيكفي التّنبيه له بأن يقال : أيّها المكلّف لا تكتف بتقليد أبيك وأمّك ، وراجع الى عقلك ، فإنّ محض التّقليد لا يصحّ [يصلح] الاطمئنان [للاطمئنان] فإنّ المكلّف حينئذ يمكنه التّمييز في هذه المسألة ، أعني لزوم النّظر والمراجعة وعدمه ، ويكفيه في المراجعة الاعتماد على عالم ورع

__________________

(١) في نسخة الأصل (يختلف).

١٧١

يطمئنّ بقوله إذا لم يستطع فوق ذلك ، وهكذا نفس مراتب المكلّفين ومراتب التّنبيهات.

ويختلف التّكليف بالنّسبة الى اختلاف طبقاتهم ، وبذلك يختلف تكليفهم في نفس العقائد أيضا ، وهذا هو واحد من النّكات التي كان يكتفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأعراب بالشّهادتين لأجلها ، فإنّ التّكليف بمعرفة التّوحيد الكامل والتّنزيه الشّامل وإتقان معنى التّجرّد وعينيّة الصّفات ، وعدم كونه تعالى في جهة ولا مكان ولا في الأرض ولا في السّماء ، وأنّه لا يرى ولا يعرضه الرّضا والسّخط المفهومان للعامّة ونحو ذلك في أوّل التّكليف لكلّ واحد ممّا يصحّ ، ولا يمكن في الأغلب.

فكما أنّ أجزاء الإيمان أيضا ممّا ينبغي في الأكثر أن يحصل تدريجا ، فكذلك الحال في كيفيّة حصولها بالأدلّة التّفصيليّة أو الإجماليّة ولو بمجرّد الاعتماد على معتمد ، وسيجيء تمام الكلام.

السّادس : أنّ الشّبهات في الأصول كثيرة ، والنّظر مظنّة الوقوع في الشّبهة وهو مستلزم للضلالة ، فيحرم النّظر ويتعيّن التّقليد ، إذ هو أسلم.

وفيه : مع أنّه وارد على التّقليد ، فإنّ مجتهد ذلك المقلّد أيضا يحرم عليه النّظر ، فيجب تقليد غيره ، فيتسلسل أو ينتهي الى ناظر ، فيعود المحذور ، مع أنّه يزيد عليه احتمال كذب المجتهد في أنّ هذا رأيه ، أنّ هذا يجري في كلّ صاحب دين ومذهب ، وتخصيصه بدين الإسلام موقوف على ثبوته. فنقول : ثبوته هل يحصل بالاجتهاد أو بالتقليد؟ فيعود الإشكال.

والظّاهر أنّ مبنى هذا الدّليل هو ما أشرنا سابقا من أنّ هذا كلام مسلّم بين مجتهدي أهل الإسلام يلقونه الى القاصرين من باب الأمر بالمعروف وهم يطمئنّون بذلك ويصير تكليفهم ذلك ، وذلك لجزمهم بأنّ عدم النّظر لا يضرّهم ،

١٧٢

وذلك إنّما يتمّ في مسلّمات الشّرع ، مثل : أنّ أهل الشّرع يمنعون الطّلبة عن النّظر في الحكمة لأنّ أهل الحكمة قد خالفوا مسلّمات الشّرع من حدوث العالم وعدم كون العقول مؤثّرات في السّفليات ، وكون المعاد جسمانيّا ، وإمكان الخرق والالتئام (١) في الأفلاك ، بل وتحقّقه ، وأمثال ذلك.

فإنّ كلّ مسلم يحكم بأنّ عدم الاعتقاد بالقدم والاستحالة للخرق والالتئام (٢) ونحو ذلك ، لا يوجب العذاب ، فإن أوجب ، فهو الاعتقاد بهما ، فلا يضرّ المنع عن النّظر في أدلّة الخلاف ، إذ المفروض بقاء اطمئنان المكلّف بحاله ، ولا داعي الى تنبيهه على الاشكال ، بل الدّاعي على خلافه ثابت.

وأمّا من حصّل مرتبة من العلم وقرع سمعه شبهات الحكماء ، فلا ريب أنّ الاكتفاء بقول العلماء في حرمة النّظر إنّما هو تقليد لهم في هذه المسألة التي هي من الأصول ، وأنّه حينئذ واجد للشبهة ومتنبّه للإشكال ، لا أنّه مظنّة للشّبهة ، وحينئذ نقول : إن كان شبهتهم ومخالفتهم إنّما هي على ما علم صدوره عن الشّرع ، فلا يمكن حصول الجزم واليقين بقولهم وأدلتهم مع الاعتقاد بالشّرع ، لامتناع اجتماع القطعيين المتخالفين.

وإن كان فيما يحتمل أن يكون مراد الشّرع غير ذلك ، كما يدّعيه حكماء الإسلام في كثير من المسائل ، فلا بدّ فيه من المراجعة والتأمّل ، فإن حصل اليقين على ما قالوه واحتمل الشّرع لموافقتهم ، فلا مناص من القول به ، وإن لم يحصل اليقين بما قالوه ، فيقدّم الشّرع وإن كان مظنونا ، لأنّ الظنّ الحاصل من ظواهر الشّرع ممّا لا ريب في حجّيته ما لم يعارضه قاطع ، بخلاف الظنّ الحاصل من

__________________

(١ ـ ٢) في نسخة الأصل (الالتيام).

١٧٣

العقل وإن كان قويّا في نفسه. وهذا هو مراد أهل الشّرع من قولهم بوجوب اتّباع الشّرع يقينا ، مع قولهم بأنّ هذا مقتضى ظاهر الشّرع وسيجيء تمام الكلام.

والحاصل ، أنّ هذا الدّليل لا يناسب إطلاق موضوع المسألة ، ومن هذا القبيل منع الشّارع من الخوض في مسألة القدر ، ومن هذا القبيل منع علماء المسلمين للعوامّ وللطلبة القاصرين عن مباحثة علماء اليهود أو النّصارى في مسألة النبوّة.

والحاصل ، أنّ هذا الكلام يتمّ ما بقي اطمئنان المكلّف بحاله ، ومع تزلزله فكيف يقال بالمنع عن النّظر مطلقا.

السّابع : أنّ الأصول أغمض من الفروع وأبعد عن الأفهام منها ، فإذا جاز التّقليد فيها ففي الأصول أولى.

وهذا الدّليل أيضا إنّما ينفع في الأغلب للعلماء المجتهدين المناظرين ويصير اختيار المذهب فيه مثمرا لجواز تنبيه العوامّ وأمرهم بمقتضى ما رأوه.

وفيه : منع الأغمضيّة فيما يحتاج إليه المكلّفون ويثبت التّكليف به من حيث إنّه أصول الدّين.

نعم ، قد يحصل الأغمضيّة في عروق مسائلها وأعماقها التي لم يثبت تكليف النّاس بها ، وإنّما يجب الغور فيها والنّظر والتّدقيق ، والنّقب لمعرفة الشّبهات ، وطريقة دفعها كفاية لمن كان قابلا لذلك ومستعدّا له حراسة للدّين المبين وإرغاما لأنوف الجاهلين والمبطلين ، ولا مدخليّة لذلك فيما نحن بصدده ، بل أدلّة أصول الدّين مبنيّة على قواعد مضبوطة وضوابط محدودة تحصل لمن صرف فيه برهة قليلة من الزّمان ، ولم يقم دليل على وجوب أزيد ممّا تقتضيه هذه الأدلّة ، بخلاف فروع الدّين فإنّها متشتّتة متفرّقة مبنيّة على أدلّة متخالفة ظنّيّة ، لا مدخليّة لإدراك

١٧٤

العقول فيها ، ويحتاج الى صرف جميع العمر أو أغلبه فيها ، وهذا من الوضوح بحيث لا يحتاج الى البيان.

والذي جعله الطّلبة في أمثال زماننا وسيلة لانحرافهم عن تحصيل الفقه واشتغالهم بتحصيل حكمة اليونانيين من المشّائين والإشراقيّين (١) تمسّكا بأنّ معرفة الله تعالى مقدّم على عبادته وطاعته ، ولا يمكن إلّا بتحصيل هذه العلوم ؛ فهو من وساوس الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور النّاس.

فربّما يصرفون عمرهم جميعا في تحصيل هذه العلوم تمسّكا بأنّه من مقدّمات الفقه ، إذ الفقه هو العلم بالأحكام الشّرعيّة ، وذلك يتوقّف على معرفة الشّارع ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

حاشا وكلّا أن يكون ذلك موجبا للمعرفة أو موجبا لمزيدها أو ممّا يتوقّف معرفة الفقه والشّرع عليها.

نعم ، قد يصير موجبا للزّندقة والإلحاد ، وقد يوجب كثرة البعد عن ساحة القرب والنّدامة والحسرة يوم التّناد ، وربّما يموت أحدهم بعد مضيّ خمسين سنة من عمره أو تسعين ، وبعد لم يعرف مسائل وضوئه وتيمّمه وصلاته ، وليس علمه

__________________

(١) وفي مثل هذا المقام ولمزيد من البيان يمكن لك الرجوع الى ما دوما يشير إليه ويؤكد عليه في هذا العصر المرجع الدّيني على الاطلاق وآية الله في الآفاق الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني (دام ظلّه) في كتبه وأقواله التي يحذر بها من التّوجه الى الفلسفة ويؤكد على مخاطرها ومفاسدها الثقافية على الحوزات والمجتمعات الدينية ، والتي قد تفضي الى القول بوحدة الوجود وآراء الكفر والفساد والزّندقة والأهواء والمذاهب الباطلة فيضيّع بعضهم في قراءتها عمره بدلا من أن يستفيد من علوم اهل البيت ومعارفهم عليهم الصلاة والسلام التي تكفي المئونة وتؤدي بالمعونة.

١٧٥

في عباداته إلّا ما علّمه أمّه وأبوه أو معلّمه في الكتّاب ، ومع ذلك يستهزءون بالفقيه ويحقّرون أهل الشّرع (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١) ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢).

نعم ، من أسّس أساس الشّرع وقوّمه واستعدّ للنظر في هذه المباحث ، فلا يضرّه النّظر فيها والتّأمّل فيها من جهة الاطّلاع على اصطلاحاتهم لئلّا يعجز عن مكالمتهم ومناظرتهم حال البحث ، إذ لا ريب أنّ مدافعة الخصم لا يتمّ إلّا مع معرفة ما يقوله ، وكلّ كلمة من كلماتهم مبتن على اصطلاح خاصّ عندهم وأصل مؤسّس بزعمهم ، ولمّا لم يكن للغافل عن هذه الاصطلاحات في حال التّخاطب الجواب على وفق سؤالهم ، يظنّ الغافل أنّ هذا من جهة عدم اقتدار المتشرّع على ذلك ، وهذا كما ترى أنّ العالم الفحل يعجز عن فهم اللّغة التّركية ، ويتكلّم الطّفل الذي له سنتان أو ثلاث سنين في غاية التّسلّط ، فلهذا لا تضايق بالقول بالوجوب كفاية على من يندفع به مضرّة أهل الشّبهة والإضلال.

الثّامن : أنّا نعلم أنّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ، بل العدل العارف ، أوقع في النّفس ممّا تفيده هذه الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، إذ هي موقوفة على مقدّمات نظريّة يتوقّف إثباتها على دفع شكوك وشبهات لا يتخلّص عنها إلّا من أيّده الله تعالى.

ويظهر الجواب عن ذلك بملاحظة ما مرّ ، إذ متابعة قول المعصوم عليه‌السلام ، بل العدل العارف يكون من باب الاستدلال غالبا ومع الاطمئنان الرّافع للخوف ، فلا حاجة

__________________

(١) الشّعراء : ٦.

(٢) الشعراء : ٢٢٧.

١٧٦

الى غيره ، وليس هذا تقليدا.

التّاسع : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وفيه : أوّلا : أنّها مختصّة بحكاية الأنبياء عليهم‌السلام كما يدلّ عليه صدر الآية.

وثانيا : أنّ منع الغافل المتمكّن عن المعرفة ليس عن أهل العلم.

وثالثا : أنّ ظاهر الآية خطاب للمكلّفين كافّة ، فمعناها : أيّها الّذين لا تعلمون اسألوا عن الذين يعلمون. فإذا أردنا شمول الآية للأصول والفروع ، فيشمل أهل جميع المذاهب ، ولا ريب أنّ أهل العلم وغير أهل العلم من اليهود هم الّذين هم يعرفون ويميّزون كما هو مقتضى متفاهم الآية عرفا.

وإن قيل : المراد أنّ غير العلماء من كافّة النّاس يجب أن يسأل أهل العلم الخاصّ وهو المحقّ الواقعيّ ، فهذا يوجب تخصيصا في أهل الذّكر لا يفهم المخاطبون ، مع أنّ المفروض أنّ الأمر في تحصيل المجتهد والعالم وأهل الذّكر لا بدّ أن يكون موكولا الى أنفسهم ، ولا معنى للتقليد فيه أيضا على سبيل الاعتماد على العالم في قوله هذا ، فيكون نوعا من الاجتهاد ، فيكون ذلك رخصة لرجوع اليهود الى علمائهم.

وهذا الاستدلال إنّما ينفع لمن يحرم النّظر ، وإلّا فالأمر ظاهر في الوجوب العينيّ وإخراجه عن الظّاهر ، وإرادة الرّخصة ليس بأولى من تخصيص المعلوم بالفروع ، مع أنّ التّخصيص مقدّم على المجاز.

ورابعا : أنّه ظاهر ظنّي لا يقاوم ما ذكرنا من الأدلّة على وجوب النّظر.

ثمّ إنّ هذا الاستدلال أيضا إنّما ينفع المناظرين المجتهدين من أهل الإسلام في

__________________

(١) النّحل : ٤٣.

١٧٧

تحقيق الحال وأمر سائر المكلّفين وتنبيههم على مقتضى ما وجدوه ، كما أشرنا سابقا.

ثمّ إنّ بعض أفاضل المتأخّرين أورد على القائلين بوجوب المعرفة بالدّليل على الإطلاق ، وجوها من الاعتراض لا بأس بإيرادها (١).

الأوّل

أنه كيف يجوز لمن لم يكن حاضرا عند إظهار المعجزة ، العلم به إلّا بالإخبار له بعنوان التّواتر ، وكيف يحصل له العلم بطبقات الرّجال الّذين يحصل بهم التّواتر لكلّ أحد ، وهو شأن من حصّل قدرا كاملا من العلم فيلزم الحرج.

ولو سلّم كونه كوجود الهند ومكّة فأنّى لهم العلم بإمامة الأئمة عليهم‌السلام ومعجزاتهم ، وليس في الكتب الآن ما يحصل به التّواتر لكلّ واحد منهم عليهم‌السلام ، وكذا الخبر المحفوف بالقرائن لكلّ أحد ، بل غاية الأمر حصول التّواتر بالمعنى لبعض أهل العلم.

وكذا الكلام في إثبات العصمة مع أنّ فهم المعجزة وتميّزها عن السّحر ليس شأن كلّ أحد ، سيّما إذا كانت من جهة البلاغة.

والظّاهر أنّ عامّة العرب قلّدوا خواصّهم في ذلك.

أقول : قد ذكرنا أنّه لا بدّ من توجيه كلام القوم ممّن أطلق الكلام وتقييده بما لا يلزم منه محال اعتمادا على قواعدهم المؤسّسة في العدل من قبح تكليف الغافل ،

__________________

(١) في الحاشية : الظّاهر أنّه أراد صدر الدين محمد باقر الرّضوي حيث ذكر ما أشار إليه المصنّف من الوجوه في شرحه على «الباب الحادي عشر» الذي صنّفه العلّامة أعلى الله مقامه.

١٧٨

وتكليف ما لا يطاق ، ونحو ذلك.

ثمّ إن كان مراده تجويز التّقليد المصطلح في الفروع ، أعني الاعتماد على الظنّ الاجماليّ وإن لم يحصل له الجزم في نفس الأمر ولا الظنّ الذي تطمئنّ به النّفس ويزول به الخوف ، فالعجز عمّا ذكره لا يدلّ على جواز الاكتفاء به. وإن أراد أنّه لا يجب الاستدلال بالأدلّة التّفصيليّة ومعرفة المعجزة على التّفصيل في حصول الاطمئنان ، فهو كما ذكره ، وقد مرّ بيان ذلك.

ونقول هنا : مع أنّ إثبات النبوّة والإمامة لا ينحصر في ثبوت المعجزة ، بل له طريق آخر مثل الأفضليّة بعد ثبوت لزومهما بالدّليل ، وإذا ثبت عنده لزوم النبيّ أو الوصيّ ، فيمكن أن يحصل له الجزم الذي تطمئنّ به النّفس ، ويزول الخوف بمتابعة جماعة ممّن يعتمد عليه من العلماء ، بل واحد منهم كما مرّ ، وهو أيضا بمنزلة الاستدلال ، ولا يضرّنا إطلاق التّقليد عليه. فإنّ المعيار في الجواز وعدم الجواز هو الدّليل لا الإطلاق والإسم ، فإذا ثبت عند المكلّف بدليل إمّا من عنده أو بالاعتماد على أحد يطمئنّ بقوله أصل لزوم بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصب الوصيّ ثمّ يذكر له أنّ الواسطة بين الله وعباده لا بدّ أن يكون أمينا معتمدا عليه أفضل من كلّ من يجب له متابعته ، أو معصوما ومحفوظا من الزّلل والخطأ واطمئنّ المكلّف بذلك ، ثمّ ذكر أنّ هذا الشّخص في هذا الدّين هو محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه كان كذا في أخلاقه ، وكذا في أفعاله ، وكذا في خلقته ، وكذا فيما أظهره من الخوارق ، وذكر له برهة من الأحوال ، وقارن بذلك امور وقرائن من حال هذا الذي يعتمد عليه أنّه صادق في ذلك ، وانضمّ إليه قول عالم آخر مثله ، وهكذا ، فإنكار حصول الاطمئنان له بحيث يزول الخوف عنه ؛ مكابرة ، غاية الأمر أنّه ظنّ في نفس الأمر وجزم عنده ، يعني أنّه بحيث لو عرض له تشكيك من مشكّك ، فقد يحصل له

١٧٩

احتمال الخلاف أو الظنّ بالخلاف ، وهو لا يضرّه ما دام باقيا على جزمه غافلا عن لزوم شيء آخر عليه ، وهذا الذي يسمّيه أهل المعقول اعتقاد الرّجحان ، وهو غير الظنّ عندهم ، وقد ذكرنا أنّه كاف.

وكذا الكلام في معرفة حال الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ لحصول المعرفة بها للعوامّ طرقا سوى معرفة خصوص المعجزة ، منها : أنّه قد يمكنه معرفة أنّ الدّين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منحصرة في فرقتين ، منهم من جعل الوصيّ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا واسطة فلانا ، ومنهم من جعله فلانا ، وهذا حال هذه الجماعة وقولهم وطريقتهم ، وهذا حال هذا الشّخص وطريقته ، وهذا حال الجماعة الأخرى وطريقتهم وحال الشّخص الذي اتّبعوه ، ويحصل للمكلّف الجزم بصدق هذا القائل المخبر ، ثمّ يتأمّل هو ويختار أحدهما لما يراه موافقا لما يحكم به العقل الصّريح ، ولا يلزم في صورة الاكتفاء بما ذكر عسر ولا حرج.

وقد يشكل للمكلّف فهم بعض مطالب أحد المذهبين كما لو قدر على الإذعان بمذهب الإماميّة وحصل له الجزم ، ولكن بقي في شبهة غيبة إمام الزّمان عليه‌السلام متحيّرا ولم يحصل له الاطمئنان بأنّه كيف يصير شخص واجب الإطاعة من عند الله ولا نعرفه بشخصه ولا يمكننا الوصول إليه أبدا ، واختفى عليه فائدة ذلك ، فإذا لم يكن له تحصيل الجزم بالنّصوص والأدلّة القائمة على لزوم وجود معصوم في كلّ عصر ، فيكفيه أن يلاحظ أنّ ثبوت أحد المذهبين من طريقة الإماميّة ومخالفيهم متحقّق جزما ، فإذا حصل له الجزم باختيار مذهب الإمامية ، فيلزم الإذعان بذلك لعدم انفكاكه في نفس الأمر من ذلك ، وإن لم يبلغ عقله الى إدراك حقيقة الأمر في خصوص ذلك.

وأمّا حكاية فهم المعجزة ، فمع تسليم ما ذكره من عجز العوامّ عن فهمها ، فلا

١٨٠