القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

عدم تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق ، وإنكار حصول الخوف مطلقا مكابرة سيّما مع ملاحظة اختلاف العقلاء في تلك المسائل ، وسيّما مع تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتّكليف بالنّظر الى المعجزة وغير ذلك.

والحاصل ، أنّ المراد بذلك الاستدلال أنّ العقل يحكم بوجوب النّظر في الجملة ، وأنّه لا معنى لحكم الشّرع بذلك لاستلزامه المحال كما سيجيء ، لأنّ العقل يحكم بالوجوب عموما بالنّسبة الى جميع المكلّفين ، وبالنّسبة الى جميع أحوالهم ، بل التّحقيق هو ما قدّمناه من التّفصيل.

واعترض الأشاعرة على هذا الدّليل ، أوّلا : بمنع حكم العقل بالحسن والقبح وهو إنكار للبديهيّ كما أشرنا سابقا وحقّق مستقصى في محلّه.

وثانيا : بأنّ العقل والنّقل يدلّان على خلافه ، أمّا النقل ، فقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١). وقد مرّ الجواب عنه في الأدلّة العقليّة.

وأمّا العقل ، فلأنّه إن كان وجوبه لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا ، وإن كان لفائدة ، فإمّا أن تعود الى المشكور ، فهو متعال عن ذلك ، وإمّا الى الشّاكر ، فهو منتف.

أمّا في الدّنيا فلأنّه مشقّة بلا حظّ ، وأمّا في الآخرة فلا استقلال للعقل فيها ، وأيضا هو تصرّف في مال الغير بدون إذنه ، فلا يجوز.

وفيه : أنّا نقول : فائدته تعود الى الشّاكر وهو محض حصول التّقرّب ، فهو حسن بالذّات ولا يقتضي فائدة أخرى ، مع أنّ عزل العقل عن حكمه بالفائدة الآجلة محض الدّعوى ، وقد أثبتناه في محلّه ، بل نحن لا نحتاج في إثبات مطلق المعاد

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

١٤١

الى الشّرع ، والعقل حاكم به ، وليس هنا مقام بسط الكلام فيه.

وثالثا : بمنع توقّف الشّكر وزوال الخوف على المعرفة المستفادة من النّظر ، بل يكفي فيهما المعرفة السّابقة على النّظر التي هي (١) شرط النّظر.

سلّمنا عدم كفايتها ، ولكن لا نسلّم توقّفها على النّظر لجواز حصولها بالتّعليم كما هو رأي الملاحدة ، أو بالإلهام على ما يراه البراهمة ، أو بتصفية الباطن بالمجاهدات كما يراه الصّوفيّة.

وأجيب : بأنّ المذكورات تحتاج الى النّظر ليتميّز به صحيحها عن فاسدها ، وأيضا الكلام في المقدور ، يعني لا مقدور لنا من طرق المعرفة إلّا النّظر والتّعليم والإلهام من قبل الغير ؛ فليس شيء منهما مقدورا ، والتّصفية كما هو حقّها أيضا في حكم غير المقدور لاحتياجها الى مجاهدات شاقّة ومخاطرات كثيرة قلّما يفي بها المزاج.

ورابعا : بمنع أنّ ما يتوقّف عليه الواجب واجب.

ويظهر جوابه ممّا حقّقناه في محلّه.

وأمّا المعتزلة والإماميّة ، بل الحكماء أيضا إذا أرادوا إبطال مذهب الخصم وتعيين الحاكم لوجوب النّظر أنّه هو العقل لا غير ، فيحتاجون الى إبطال مذهب الخصم ، وهو أنّه [لو] قلنا بكون وجوبه شرعيّا لزم منه الدّور ، ويلزم منه إفحام الأنبياء عليهم‌السلام ، لأنّ ثبوت قولهم في معرفة الله تعالى موقوف على ثبوت صدقهم وصدقهم ، موقوف على وجوب النّظر الى معجزتهم ، وهو موقوف على ثبوت صدقهم وهو دور مستلزم لإفحامهم ، كما سنشير الى بيانه فيما بعد.

__________________

(١) في نسخة الأصل (هو).

١٤٢

ومن ذلك ظهر أنّ انحصار الحكم بوجوب النّظر في العقل ، لا يتمّ إلّا بضميمة إبطال حكومة الشّرع في ذلك.

فهذا الدّليل ، أعني لزوم إفحام الأنبياء عليهم‌السلام متمّم للدليل الأوّل على انحصار الحاكم في العقل ، وإن كان الدّليل الأوّل مستقلا في إثبات أنّ العقل حاكم في الجملة ، ففي جعلهما دليلين لإثبات كون الحاكم هو العقل ، محلّ نظر.

فالذي ظهر ممّا ذكرنا ، أنّ الذي يختصّ بإثبات المقام الثّالث من هذا الدّليل هو عدم زوال الخوف إلّا بالنّظر ، وقد عرفت التّحقيق والتّفصيل في المقدّمة.

وممّا ذكرنا ظهر دليل الأشاعرة على وجوب المعرفة شرعا وأنّه هو الآيات والأخبار.

وجوابه وهو استلزام الدّور وإفحام الأنبياء عليهم‌السلام.

واحتجّ الموجبون للنظر أيضا من أصحابنا وغيرهم بالأدلّة الشّرعيّة ، وهو من وجوه :

الأوّل : الآيات الواردة في المنع عن التّقليد عموما ، مثل ما دلّ على حرمة العمل بالظّنّ ، والقول من غير علم ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢)(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٣) ، (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) البقرة : ١٩٦.

(٣) الزخرف : ٨٦.

١٤٣

عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(١) ، (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ) (مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢) ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٣) ، (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ)(٤) ، وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٥) ، ونحو ذلك.

فهذه الآيات تدلّ على حرمة العمل بالظنّ ، خرجت (٦) الفروع بالدّليل ، وبقي الباقي.

ومثل الآيات الدالّة عليه خصوصا ، مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(٧) ، (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)(٨) ، (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ

__________________

(١) الجاثية : ٢٤.

(٢) الأحقاف : ٤.

(٣) لقمان : ٢٠.

(٤) الأنبياء : ٢٤.

(٥) النّجم : ٢٨.

(٦) في نسخة الأصل (خرج).

(٧) البقرة : ١٧٠

(٨) الأعراف : ٧٠

١٤٤

بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) الآية (١).

أقول : على ما حقّقت المقال في صدر المبحث ، لا نأبى عن العمل بمقتضاها في الجملة ، وأكثرها واردة في المتعنّتين المعاندين الّذين ظهر عليهم الحقّ وتركوه تعنّتا وأقيم عليه الحجّة من الإرشاد والهداية وكانوا يقصّرون في النّظر ، ولا تدلّ على أنّ الجاهل الغافل والذي حصل له الاطمئنان ولو بتقليد غيره من جهة حسن ظنّه به ، والذي حصل له الظنّ بطرق ولا يمكنه تحصيل أزيد منه معاقبون على ذلك.

ثمّ إنّ هذه الآيات وما في معناها لا تدلّ على اشتراط العلم بمعنى اليقين المصطلح.

ودعوى أنّه حقيقة فيه عرفا ولغة ، ممنوعة ، بلّ القدر المسلّم من العرف واللّغة هو الجزم وعدم التّزلزل.

فقد تراهم يفسّرون اليقين في كتب اللّغة بالعلم وبزوال الشّك كما صرّح به الجوهري (٢) ، بل الظّاهر أنّ ما ذكروه في معنى اليقين اصطلاح أرباب الفنّ لا اصطلاح اللّغة والعرف ، بل هو في اللّغة والعرف يستعمل في مقابل الشّك والاحتمال.

والحاصل ، أنّ العلم مستعمل في معان :

منها : الصّورة الحاصلة في الذّهن التي قسّموها الى التصوّر والتصديق بأقسامه

__________________

(١) الزخرف : ٢٠ و ٢٥.

(٢) في «الصّحاح» ٦ / ٢٢١٩

١٤٥

من الظنّ ، والجزم الثّابت المطابق للواقع الذي يسمّونه يقينا في الاصطلاح ، والغير المطابق الذي هو عبارة عن الجهل المركّب ، والجزم المطابق الغير الثّابت الذي يسمّونه تقليدا في بعض الاصطلاحات ، واعتقادا في بعض آخر.

وقد يقال : الاعتقاد على ما يشمل الأقسام الثّلاثة بل الأربعة.

ومنها : ما يشمل التّصوّر واليقين.

ومنها : اليقين ، وهذا هو الذي يدّعون أنّه هو معناه العرفيّ واللّغويّ وهو بعيد ، نعم ، هو اصطلاح أرباب الفنّ.

ومنها : الاعتقاد بالمعنى الأعمّ ، فيشمل الظّنّ وغيره.

والظّاهر أنّ هذه المعاني مجازات إلّا الجزم المطابق ، بل مطلق الجزم ، فمن يدّعي اشتراط الثّبات مع المطابقة فيخصّه باليقين المصطلح ، ومن لا ، فلا.

إذا عرفت هذا فنقول أوّلا : إنّ هذه الآيات ظواهر لا تفيد القطع ، إذ غاية ما يفيده أصالة الحقيقة الظّنّ ، وأصل المسألة من المسائل الكلاميّة التي يشترط فيها القطع باعتراف المستدلّ ، بل لا يبقى هناك أصل حقيقة من جهة الإطلاق والعموم ، لأنّها مخصّصة بالفروع جزما ، والعام المخصّص فيه ألف كلام ، فينزل الظنّ الحاصل منه عن الظنّ الحاصل من أصل الحقيقة.

والحاصل ، أنّ مقصود المستدلّ من الاستدلال أنّ التّقليد ظنّ ، والظّنّ لا يجوز العمل به لهذه الآيات ، وهو مناقض لمطلبه ، إذ العمل بالظنّ إذا كان حراما فلم يتمسّك بهذه الآيات التي لا تفيد إلّا الظنّ.

والقول : بأنّ هذا الظنّ مخرج بالدّليل ، يحتاج الى الإثبات ، إذ غاية ما في الباب تسليم خروج الفروع ، وهذا ليس من الفروع ، بل هو أساس الأصول والفروع إلّا أن يقال : كما أنّ الفروع مخرج بالدّليل للزوم تكليف ما لا يطاق مع فرض ثبوت

١٤٦

التّكليف وسدّ باب العلم لو لم نعمل به ، فهكذا في هذه المسألة ، فإنّ التّكليف بوجوب معرفة الله تعالى في الجملة ثابت ، والإشكال في كيفيّته ، فإذا لم يمكن تحصيل العلم بحقيقة التّكليف في الكيفيّة ، فيكفي بالظنّ ، بل يمكن أن يقال : إنّ المسألة أيضا فرعيّة ، ولا منافاة بينه وبين تعلّقها بالأصول ، فكأنّ الشّارع أوجب علينا إقامة الدّليل على ما أذعنّا به من العقائد ، ولكن هذا إنّما يثبت وجوبه بوجوب على حدة ، لا أنّه شرط تحقّق الإيمان بالمعنى المتنازع ، وهو خلاف مقتضى كلام الأكثرين ، فإنّهم يجعلونه شرط تحقّق الإيمان بالمعنى المتنازع ، وإن اكتفوا في الإيمان بمعنى الإسلام ليترتّب الثّمرات الدّنيويّة على مجرّد الإقرار باللّسان.

فإن قلت : التّكليف ثابت في الجملة ، والبراءة اليقينيّة لا تتحقّق إلّا بالنّظر والقطع.

قلت : مع أنّ هذا خروج عن الاستدلال بالآيات ، مدفوع بأنّ القدر المسلّم هو أنّا نقطع بالمؤاخذة على ترك كلا الأمرين : العلم ، والظنّ ، لا أنّا مكلّفون بأحد الأمرين المبهم الذي لا يحصل البراءة منه إلّا بتحصيل اليقين ، فلمن يدّعي كفاية الظنّ أن يقول : الأصل براءة الذّمّة ، ولا دليل على وجوب تحصيل العلم.

والحاصل ، أنّ التّمسّك بالأدلّة الشّرعيّة الظّنيّة لا يتمّ إلّا بجعل المسألة فرعيّة وإن تعلّقت بالأصول ، وحصر الغرض من تحقيقها في بيان الحقّ وتنبيه المكلّفين الغافلين وإراءة طريقهم ، كما سنشير إليه.

وثانيا : القرينة قائمة على أنّها مستعملة في مقابلة الظّنّ ، كما نطق به أكثر الآيات ، فالمراد ترك العمل بما لا يفيد الظّنّ ، بل لا يبقى مع معارضتهم بالأدلّة القاطعة إلّا الاحتمال.

١٤٧

وثالثا : منع كون المراد بالعلم هو اليقين المصطلح لمنع كونه حقيقة فيه ، بل هو حقيقة في الجزم أو الجزم المطابق وإن أمكن زواله بالتّشكيك وهم لا يرضون به ، ويشهد به قوله تعالى في سورة يوسف عليه‌السلام حكاية عن يوسف وإخوته : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا)(١) ، فتأمّل قبله وبعده حتّى يظهر لك الحال.

ورابعا : أنّ التّكليف إنّما يرد على مقتضى الفهم والإدراك ، فهم وإن كانوا مكلّفين بالجزم بما هو ثابت في نفس الأمر ، لكنّ المسلّم منه هو ما يفهمون أنّه هو الذي مطابق لنفس الأمر ، لا ما هو مطابق له في نفس الأمر ، وإن لم يمكن تحصيله ، فالذي يعمل بجزمه معتقدا لأنّه مطابق للواقع ، عامل بالعلم على زعمه ، وليس تكليفه أزيد من ذلك.

وخامسا : أنّ التّكليف بالجزم الكذائيّ إنّما هو بعد الإمكان ، فقد لا يمكن في كثير من المسائل تحصيل الجزم كما هو غير خاف عن المنصف المتأمّل ، فلا وجه لإطلاق وجوب تحصيل العلم.

وسادسا : أنّ المتأمّل في تلك الآيات لا يظهر له أزيد من النّهي عن العمل بما لا يفيد في نفسه إلّا الظّنّ وإن لم يبق الظّنّ معه في خصوص المقام ، لا ما يفيد الظّنّ مطلقا.

فإنّ كون عبادة الأصنام مذهبا لآبائهم بعد إقامة البراهين السّاطعة عليهم ، لا يبقى معه الظّنّ بحقيّتها في نفس الأمر ، كما يشهد به حكاية إبراهيم عليه‌السلام مع قومه حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) يوسف : ٨١.

١٤٨

فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)(١) ، ثمّ قالوا بعد ذلك : (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ)(٢).

نعم ، بعض الآيات المطلقة تدلّ على حرمة العمل بالظّنّ ، وفيها أيضا أكثر الأبحاث السّابقة.

وسابعا : أنّ التّقليد أيضا قد يفيد الجزم ، بل اليقين ، ولكن التّحقيق أنّ هذا ليس بتقليد حقيقة كما أشرنا إليه مرارا ، فهو إمّا مستدلّ أو غافل عن حقيقة الأمر ، وليس عليهما شيء.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآيات إنّما يناسب مذهب الأشعريّ ، وأمّا الإماميّة والمعتزلة فلا يمكنهم ، لاستلزامه الدّور ، لأنّ ثبوت وجوب تحصيل العلم بمعرفة الله الذي لا يمكن إلّا بالنظر بقول [الله] مستلزم للدور.

والمناص عن ذلك إمّا بجعل ذلك من باب المشي على طريقة الخصم ، فإنّه يكتفي في معرفة الله بالتّقليد أو بالظّنّ ، فيمكن إلزامه بقول الله تعالى.

وإمّا بأن يقال : إنّ ذلك من باب تحقيق أهل المعرفة ومناظرة المجتهدين لتحقيق الحقّ. وما هو ثابت في نفس الأمر بعد معرفتهم لله وفراغهم عن تحصيل اليقين واستنباطهم ذلك المطلب من كلامه وكلام أمنائه ، ويثمر ذلك في العلم لأنفسهم وفي العمل للتبليغ والإرشاد ، إذ المكلّفون تختلف مراتبهم في الذّكاء والفطانة ، فقد يحتاجون الى التّنبيه.

وما ذكرنا أنّ الغافل لا يعاقب على ما لم يبلغه فطنته ، لا يستلزم عدم لزوم تنبيهه على ما يكمّله كما هو مقتضى اللّطف ، وإلّا فلم يكن بعث الأنبياء وإنزال

__________________

(١) الأنبياء : ٦٣

(٢) الأنبياء : ٦٨

١٤٩

الكتب واجبا على الله أيضا ، وقد أشرنا الى مثل ذلك في مسألة معذوريّة الجاهل في الفروع.

الثّاني : قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(١) فإنّ الأمر للوجوب (٢) ، وإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمورا بالعلم ، فالأمّة أولى ، أو يجب عليهم من باب التّأسّي.

وأجيب عنه : بمنع الأولويّة ، لجودة قريحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقصور أفهام الأمّة ، وبمنع وجوب كلّ ما يجب عليه.

وفيه : أنّ المنع إنّما يتمشّى فيما لم يعلم وجهه من أفعاله ، وأمّا ما علم وجهه ، فيجب على الأمّة متابعته ، أي الإتيان على ما يأتيه به ، إن واجبا فواجب ، وإن ندبا فندب ، كما بيّناه في محلّه ، واحتمال كونه من خواصّه خلاف الظّاهر ، ويحتاج إخراجه من عموم قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ)(٣). الى دليل وهو مفقود.

والتّحقيق في الجواب أن يقال : إنّ ظاهر الآية وملاحظة شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقت نزول الآية ، إذ لم يقل أحد أنّه أوّل ما نزل عليه كلّها شاهد على أنّ المراد بذلك أنّك إذا عرفت حال المؤمنين وحال غيرهم فاثبت على ما أنت عليه من التّوحيد واستكمال نفسك ونفس المؤمنين بالاستغفار لك ولهم.

ثمّ إنّ الأمر بالعلم ليس معناه ، حصّل العلم حتّى يقال : إنّه أمر بشيء لا يتمّ إلّا بالنّظر ، فيجب من باب المقدّمة ، بل هو إثبات العلم وإيجاد له بهذا القول. فكما أنّ معلّم الكتاب يقول للأطفال : اعلم أنّ الألف كذا والباء كذا ، فمحض هذا القول يفيد

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٩

(٢) وكذا في الدّليل السّمعي على وجوب المعرفة في «الباب الحادي عشر».

(٣) الأعراف : ١٥٨.

١٥٠

العلم للطفل ، فكذلك قوله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعلم ، يفيد العلم بالتّوحيد له.

وقد يقال في الجواب : إنّه من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فحينئذ يمكن أن يكون المراد بالعلم الظنّ ، كما قاله الرّازي.

أقول : ولعلّ وجهه أنّه إذا خرج اللّفظ عن حقيقته وهو إرادة المخاطب لا غير المخاطب ، فلا يبقى على أصالة الحقيقة ، فلعل المراد به الظنّ.

وفيه : أنّ خروج الهيئة عن الحقيقة لا يوجب خروج المادّة.

نعم ، يرد عليه ما مرّ من الأبحاث المتقدّمة في لفظ العلم وغيره ممّا ذكرنا سابقا ، فتذكّر.

الثالث : انعقاد الاجماع من المسلمين على وجوب العلم بأصول الدّين ، والتّقليد لا يحصل منه العلم ، لجواز كذب المقلّد ـ بفتح اللّام ـ فلا يكون مطابقا للواقع ، فلا يكون علما ، ولأنّه لو حصل منه العلم لزم اجتماع النّقيضين في المسائل الخلافيّة ، مثل حدوث العالم وقدمه ، إذ المفروض أنّ خبر كلّ من المخبرين يفيد العلم ، ولأنّه لو حصل العلم ، فالعلم بأنّه صادق فيما أخبر به إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا ، والأوّل باطل جزما ، والثّاني محتاج الى دليل ، والمفروض عدمه ، وإلّا لم يكن تقليدا.

وممّن صرّح بهذا الإجماع العضديّ (١) ، قال : لنا : أنّ الأمّة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنّها لا تحصل بالتقليد ، وذكر الوجوه الثّلاثة لذلك.

وقال العلّامة رحمه‌الله «في الباب الحادي عشر» (٢) من «مختصر المصباح» : أجمع

__________________

(١) في «شرح المختصر».

(٢) في الأمر الثاني وجوب معرفة الله تعالى ـ أوّل الكتاب.

١٥١

العلماء كافّة على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته الثّبوتيّة والسّلبيّة ، وما يصحّ عليه ويمتنع ، والنّبوّة ، والإمامة ، والمعاد ، بالدّليل لا بالتقليد ، فلا بدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ، ومن جهل شيئا منه خرج عن ربقة المؤمنين واستحقّ العقاب الدّائم ، وادّعى الإجماع غيرهما (١) أيضا.

وقد أورد على الاستدلال بالإجماع بالدّور ، لأنّ حجّية الإجماع إنّما هو لكشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام عندنا ، وللآية والأخبار الدّالّة عليه عندهم ، والتّمسّك في إثبات وجوب معرفة أصول الدّين التي أحدها حجّية قول المعصوم عليه‌السلام ومعرفته مستلزم للدّور.

ويمكن دفعه : بأنّه من باب إلزام الخصم ، إذ الخصم يكتفي بالمعرفة بعنوان التّقليد ، والاستدلال بالإجماع مسبوق بتسليم الخصم لقول الشّارع ، وبأنّ ذلك من باب إثبات المسألة بين المجتهدين المناظرين للعلم بالمسألة لأنفسهم ، ولتحقيق الحال في وجوب تبليغ ذلك وتنبيه المكلّفين على ذلك لأجل التّكميل كما أشرنا سابقا وسنشير أيضا.

نعم ، يرد الإشكال على هذه الدّعوى ، فإنّ دعوى الإجماع على وجوب العلم بكلّ المعارف ولقاطبة المكلّفين ممنوعة.

أمّا أوّلا : فلأنّ من المشاهد المعاين أنّه لا يمكن تحصيل العلم في كثير منها ، فكلّ ما ورد من آية أو خبر في ذلك ، فهي (٢) مخصّصة أو مأوّلة بالجزم أو القدر

__________________

(١) راجع «المبادي» ص ٢٤٦ ، و «الزّبدة» ص ١٦٧ ، وفي «المعالم» ٥٣٤ الذي قال : والحق ، منع التّقليد في أصول العقائد ، وهو قول جمهور علماء الإسلام إلّا من شذّ من أهل الخلاف.

(٢) في نسخة الأصل (فهو).

١٥٢

المشترك بين الظنّ والجزم ، فكيف يكلّف به سيّما لقاطبة المكلّفين.

وهذا ممّا لا يخفى على من تأمّل حقّ التأمّل في كثير من المسائل ، وخلّى نفسه عن التّقليد ، مع أنّه يستلزم العسر والحرج المنفيّين شرعا مع أنّ الأصل عدم الوجوب ، وما قد يستدلّ به على الوجوب فدلالتها على العموم ممنوعة.

والحاصل ، أنّا نمنع ثبوت التّكلّف بالعلم مطلقا وفي جميع الأحوال وفيما يستلزم تحصيله العسر والحرج ، إذ غاية ما ثبت دلالة الأدلّة فيما يمكن فيها تحصيل العلم أيضا إنّما هو إذا لم يستلزم العسر والحرج ، نظير ما ذكرناه في الاكتفاء بالظّنّ في الفروع ، وبذلك يندفع القول : بأنّ اشتغال الذّمّة بالقدر المشترك يقينيّ ، ولا يثبت البراءة إلّا بتحصيل اليقين ، فإنّا نمنع اشتغال الذّمّة في هذه الموارد.

وأمّا ثانيا : فنقول : إنّ الظّاهر من كلام جماعة من الأعلام كفاية الظّنّ وهو المستفاد من كلام المحقّق الطوسي رحمه‌الله في بعض الرّسائل المنسوبة إليه ، ونقل عن «فصوله» أيضا (١) ، وكذلك المولى الورع المقدّس الأردبيلي قدّس الله روحهما ، وهو الظّاهر من شيخنا المحقّق البهائي رحمه‌الله (٢) حيث قال : اشتراط القطع في أصول الدّين مشكل ، وغيرهم (٣).

وممّن صرّح بكفاية الظنّ العلّامة المجلسي رحمه‌الله وغيره ، مع أنّ العلّامة قال في «النّهاية» : إنّ الأخباريّين من الإماميّة كان عملهم في أصول الدّين وفروعه على

__________________

(١) «راجع البحار» ٦٦ / ١٣١

(٢) «الزبدة» ١٦٨

(٣) راجع «البحار» ٦٦ / ١٣٣

١٥٣

أخبار الآحاد ، كما نقلنا عنه في مباحث الأخبار ، ولا ريب أنّ أخبار الآحاد لا يفيد إلّا الظنّ ، فكيف يدّعي إجماع العلماء على وجوب تحصيل العلم. اللهم إلّا أن يقال : مرادهم من وجوب المعرفة ووجوب تحصيل العلم عدم الاكتفاء بالتّقليد بالمعنى الذي ذكرنا ، أعني التّقليد في الفروع على ما هو المصطلح ، وهو إنّما يحصل للمتفطّن العالم بالفرق بين المجتهد والمقلّد لا ما يشمل الاعتقاد على شخص بحيث تطمئنّ النّفس إليه بسبب حسن ظنّه به ، وعدم اختلاج تشكيك في خاطره في قوله كما هو الحال في أكثر العوامّ في الفروع والأصول.

فحينئذ فالمدّعى لوجوب النّظر ليحصل العلم ، فإن حصل فهو ، وإلّا فيكتفى بالظنّ ، بل لا يبعد الاكتفاء بالظنّ مع إمكان تحصيل القطع أيضا فيما يحصل الاطمئنان بالعمل على مقتضى الظنّ كما أشرنا سابقا في مثل الظانّ بأحد الطرفين الذي لا خوف إلّا بترك مقتضى ذلك الطّرف.

فكيف كان ، فهذا من مدّعيه أيضا لا بدّ أن يخصّص بغير الغافل [غافل] المطمئنّ على مقتضى ما أخذه ، وبغير من لا يتمكّن من تحصيل القطع إمّا لمانع له من النّظر ، أو لعدم بلوغ نظره إلى حدّ العلم بعد الاستفراغ والتّخلية ، فما يوهم كلام العلّامة في «الباب الحادي عشر» من العموم المستفاد من قوله رحمه‌الله ، ممّا لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ، وثبوت العذاب الدّائم على الجاهل مخصّص بما حقّقوه في محلّه من عدم تكليف ما لا يطاق ، ونحو ذلك ، وإلّا فغاية الأمر الحكم بعدم الإسلام.

وأمّا العذاب الدّائم فلا دليل عليه ، بل ومطلق العذاب أيضا ، مع أنّه لا ريب أنّه لا يخرج من المسلمين بذلك إن أراد أنّ معرفتها بدون الاستدلال يوجب ذلك ، بل يعامل معهم معاملة المسلمين وإن لم يذعنوا بها في الباطن أيضا.

١٥٤

وإن قلنا : إنّ مراده الإسلام والإيمان الواقعيّ ، فلا دليل على أنّ كلّ من لم يكن له الإيمان الواقعيّ على ما ذكره فهو مستحقّ للعقاب الدّائم.

فحاصل الجواب عن هذا الاستدلال ، المنع عن وجوب تحصيل العلم بمعنى الاعتقاد الجازم الثّابت المطابق للواقع ، بل يكفي الظنّ.

سلّمنا ، لكنه يكفي الجزم.

ثمّ إن أراد من منع حصوله من التّقليد ، منع حصوله من التّقليد المصطلح في الفروع الذي أشرنا إليه آنفا ، فهو كما ذكره.

وإن أراد أنّه لا يحصل من الرّكون الى عارف ، فهو ممنوع ، كما أشرنا وسنشير إليه ، وإذا اكتفينا بهذا الجزم ، فلا يلزم اجتماع النّقيضين ، إذ لا يشترط في ذلك الجزم مطابقة للواقع ، ولا يشترط فيه صدق المخبر أيضا لعين ما ذكر ، ولا يضرّه الخروج عن التّقليد المصطلح.

فإن شئت قلت : إنّه اجتهاد ، وإن شئت قلت : إنّه واسطة بين الاجتهاد والتّقليد المصطلح.

الرّابع : الأخبار الدالّة على أنّ الإيمان هو ما استقرّ في القلب ، مثل ما قاله الصادق عليه الصلاة والسلام في جواب محمد بن مسلم (١) حيث سأله عن الإيمان : «إنّه شهادة أن لا إله إلّا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وما استقرّ في القلوب من التّصديق بذلك». ولا استقرار إلّا لما حصل فيه اليقين ، ولا يحصل إلّا بالاستدلال.

__________________

(١) «الكافي» ٢ / باب ١٨ ح ٣.

١٥٥

وفيه : أنّه يكفي في صدق الاستقرار عدم التزلزل والاطمئنان فهو في مقابل الشّك ، وفي مقابل من يقول باللّسان ولا يعتقد في القلب ، وهو واضح.

الخامس : ما رواه في «الكافي» (١) عن أبي الحسن موسى عليه الصلاة والسلام «قال : يقال للمؤمن في قبره : من ربّك؟ فيقول : الله. فيقال له : ما دينك؟ فيقول الإسلام. فيقال له : من نبيّك؟ فيقول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فيقال : من إمامك؟ فيقول : فلان. فيقال : كيف علمت : ذلك؟ فيقول : أمر هداني له وثبّتني الله عليه. فيقال له : نم نومة لا حلم لها ، نومة العروس. ثمّ يفتح له باب الى الجنّة فيدخل عليه من روحها وريحانها ، فيقول : يا ربّ عجّل قيام السّاعة لعليّ أرجع الى أهلي ومالي. ويقال للكافر : من ربّك؟ فيقول : الله. فيقال : من نبيّك؟ فيقول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فيقال : ما دينك؟ فيقول : الإسلام. فيقال : من أين علمت ذلك؟ فيقول : سمعت النّاس يقولون فقلته. فيضربانه بمرزبة (٢) لو اجتمع عليه الثّقلان الإنس والجنّ لا يطيقوها. قال عليه‌السلام : فيذوب كما يذوب الرّصاص». الحديث.

والتّحقيق أن يقال : إنّ المراد بالمؤمن في هذا الحديث من آمن بقلبه واعتنى

__________________

(١) «الكافي» ٣ / باب ٨٨ ح ١١.

(٢) من زرب ، ويقال أيضا : الإرزبة كما في الحديث : «مثل المنافق كمثل الإرزبة المستقيمة لا يصيبه شيء حتى يأتيه الموت» هي بالكسر مع التّثقيل ، عصاة كبيرة من حديد تتخذ لتكسير المدر ، وفي لغة «مرزبة» بميم مكسورة مع التّخفيف ، والعامة تثقل مع الميم ، وفي «شرح المصابيح» للبيضاوي : انّ المحدثين يشدّدون الباء من المرزبة والصّواب تخفيفه ، ومنه حديث ملكي القبر : «فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق الله من دابة إلّا يذعر لها ما خلا الثّقلين» كما في «مجمع البحرين» مادة زرب.

١٥٦

بدينه وجعله وسيلة الى ربّه ، وحبّب الى نفسه موادّة خالقه والاطاعة له ، وسكن الى عقائده واطمئنّ بها ، وبالكافر من يقول بلسانه تبعا للناس ما ليس في قلبه منه نور ولا اعتناء له بشأنه ، ولا يدلّ ذلك على أكثر من اعتبار الجزم والسّكون والاطمئنان والاعتناء والاعتماد.

وأمّا كونه ناشئا عن دليل تفصيليّ وبرهان مصطلح ، فلا ، ولا ريب أنّ مثل هذا الشّخص الغير المعتني مع إتمام الحجّة عليه ، مستحقّ للعقاب.

وقد ذكر بعضهم لهذا الحديث تأويلا بملاحظة نوع من التّقيّة ، وطبّقه على الأخذ بالتّقليد مستدلّا بتثبيت الله تعالى ، فإنّ التّثبيت لا يمكن إلّا في المقلّد المتزلزل ، وهو لا يتحقّق في المتيقّن بالاستدلال ، فوجه خلاص الأوّل أنّ دعامة إسلامه الى هداية الله تعالى ، والثّاني على متابعة النّاس من بيعة أو إجماع ، وهو بعيد.

احتجّ النّافون لوجوب النّظر ـ وهم بين قائل بجوازه ، وقائل بحرمته ـ بوجوه : الأوّل : لزوم الدّور إن وجب ، وذكر في تقريره وجوه ، أوجهها بناء على القول بنفي حكم العقل كما هو مذهب الأشعريّ : أنّ وجوب النّظر في معرفة الله تعالى المفروض استفادته من إيجابه تعالى موقوف على معرفة الله ، وأنّه هل يجب اتّباعه أم لا. ومعرفته كذلك موقوفة على وجوب النّظر في معرفة الله المفروضة.

وجوابه : أنّ الوجوب عندنا عقليّ لا شرعيّ كما أشرنا.

وذكر الفاضل الجواد رحمه‌الله في «شرح الزّبدة» في بيانه : أنّ النّظر لو وجب لتوقف على العلم بصدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ الوجوب ثبت بالشّرع ، والعلم بصدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوقّف على النّظر في معجزته ، إذ لو لم ينظر في معجزته لم يعلم كونه صادقا من كونه كاذبا.

١٥٧

ووجوب النّظر في معجزته يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله تعالى ، إمّا لاندراجه في مطلقه ، وإمّا لأنّه نظر في معرفة الله من حيث إنّه مرسل للرسول ، وهذا دور.

أقول : وفيه نظر ، إذ وجوب النّظر في المعجزة لا يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله ، بل إنّما يتوقّف على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ المفروض أنّ وجوبه أيضا شرعيّ ، فيحصل الدّور بين العلم بالصّدق ووجوب النّظر في المعجزة ، فيلزم توقّف العلم بالصّدق على العلم بالصّدق ، وليس هذا هو الدّور الذي هو بصدد بيانه.

فالأولى على ما يستفاد من «التّجريد» وشرحه أن يقال : لو وجب النّظر لكان وجوبه شرعيّا ، لبطلان الوجوب العقليّ ، ولو فرض كونه شرعيّا ، لزم منه الدّور ، وهو محال ، فيلزم انتفاء كونه واجبا شرعيّا ، وما يستلزم ثبوته انتفاءه ، فهو محال.

فهذا التقدير يتمّ بإدراج مقدّمة أخرى ، وهو أن يقال في تقرير الاستدلال : إنّ الوجوب لو كان بالشّرع لتوقّف على العلم بصدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعلم بصدق الرّسول يتوقّف على النّظر في معجزته بأنّه فعل صادر من الله تعالى تصديقا له ، ووجوب النّظر في معجزته أيضا ثابت بالشّرع أيضا ، إمّا لاندراجه في مطلق النّظر ، وإمّا لأنّه نظر في معرفة الله من حيث إنّه مرسل للرسل ، ولا يثبت ذلك الوجوب إلّا مع العلم بصدقه الذي لا يعلم إلّا بالنّظر الى معجزته.

نعم ، لو قال : وجوب النّظر في معجزته نفس وجوب معرفة الله ، الى آخره ، في موضع يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله لكان له وجه ، وإن كان تكلّفا وتمحّلاً.

وقد يقرّر الدّور بأنّ وجوب النّظر في معرفة الله تعالى نظريّ موقوف على النّظر

١٥٨

في دليل ذلك ، و [هو] نظر آخر ، فيجب ذلك النّظر ، ووجوبه موقوف على وجوب النّظر في معرفة الله تعالى ، إذ لو لم يجب النّظر في معرفة الله لم يجب هذا النّظر ، أي النّظر في دليله ، وهذا التّقرير غير مبتن على نفي حكم العقل رأسا.

أقول فيه : إنّ ثبوت وجوب النّظر في معرفته وأخذها على سبيل الاستدلال وإن كان متوقّفا على نظر آخر وهو الاستدلال على وجوب الاستدلال في معرفة الله تعالى ، ولكن وجوب هذا الاستدلال لا يتوقّف على وجوب النّظر في معرفة الله وأخذها بالاستدلال ، بل إنّما يتوقّف على مطلق وجوب المعرفة المشترك بين التّقليد والاجتهاد ، فإذا ثبت وجوب حصول المعرفة في الجملة ، فيقع الإشكال في أنّه هل يجب النّظر ، أو يكفي التّقليد ، وبعد النّظر في ذلك ، فإمّا يستقرّ الرّأي على وجوب النّظر أو كفاية التّقليد ، والذي يتوقّف على النّظر هو اختيار أحد طرفي المسألة إجمالا ، وهو لا يستلزم كون أحد الطّرفين بالخصوص موقوفا عليه للنظر.

الثّاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي من الكفّار بكلمتي الشّهادة ، ويحكم بإسلامهم ولا يكلّفهم الاستدلال على أصول دينهم ، ولو كان واجبا لكلّفهم ، ولو كلّفهم لنقل إلينا لقضاء العادة.

أقول : والجواب عن هذا الدّليل يتوقّف على بيان مقدّمة.

وهو أنّ الإيمان في اللّغة هو التّصديق.

واختلفوا في حقيقته شرعا ، والكلام فيه ، إمّا في بيان حقيقته بالنّسبة الى القلب والجوارح ، وإمّا في حقيقته بالنّسبة الى متعلّق الاعتقاد ، وإمّا في حقيقته بالنّسبة الى كيفيّة تحصيل الاعتقاد ، ووضع أصل المبحث للأخير ، إذ الكلام فيه كفاية الظنّ والتّقليد ، أو لزوم القطع والنّظر.

وأمّا الثّاني ، فنشير إليه فيما بعد.

١٥٩

وأمّا الأوّل ، فنقول : قيل : إنّه فعل القلب فقط. وقيل : إنّه فعل الجوارح ، وقيل : إنّه فعلهما معا.

ذهب الى الأوّل المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في بعض أقواله ، وجماعة من أصحابنا ، والأشاعرة (١).

والتّحقيق ، أنّه لا يكفي منه مجرّد حصول العلم ، بل لا بدّ من عقد القلب على مقتضاه وجعله دينا له ، عازما على الإقرار به في غير حال الضّرورة والخوف ، بشرط أن لا يظهر منه ما يدلّ على الكفر.

والحاصل ، أنّ محض العلم لا يكفي ، وإلّا لزم إيمان المعاندين من الكفّار الذين كانوا يجحدون بما استيقنت به أنفسهم ، كما نطقت به الآيات.

والى الثّاني : الكرّاميّة ، فجعلوه عبارة عن التّلفّظ بالشّهادتين والجوارح ، لعنهم الله تعالى ، فإنّهم جعلوه فعل جميع الواجبات والمستحبّات (٢).

وذهب بعضهم الى أمر آخر.

وأمّا الثّالث : فنقل عن المفيد رحمه‌الله والمحدّثين من أصحابنا ، وجماعة من العامّة أنّه التّصديق بالقلب والإقرار باللّسان والعمل بالأعضاء والجوارح.

__________________

(١) راجع «البحار» ٦٦ / ١٣١

(٢) في «البحار» ٦٦ / ١٣١ : أن يكون عبارة عن التّلفظ بالشّهادتين فقط وهو مذهب الكرّاميّة ، أو عن جميع أفعال الجوارح من الطّاعات بأسرها ، فرضا ونفلا وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والعلّاف والقاضي عبد الجبار أو عن جميعها من الواجبات وترك المحظورات دون النّوافل وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأكثر معتزلة البصرة.

١٦٠