القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

قانون

المشهور عدم جواز التّقليد في أصول الدّين ، وقيل بجواز التقليد.

وهذه المسألة من المشكلات ، فلنقدّم ما عندنا في المسألة وبلغة مجهودنا ، ليكون ذلك معينا على بيان الأدلّة وتوضيح مطالب القوم ، ويظهر به محلّ النّزاع في المسألة ، ثمّ نتعرّض للأقوال والأدلّة مفصّلا ، ونتكلّم فيها ، فنقول : قولنا : يجوز التقليد في الأصول ، إن كان معناه يجوز الأخذ بقول الغير في الأصول كما هو كذلك في الفروع ، فيشكل بأنّ الأخذ بقول الغير هنا لا يمكن ، إذ المعيار في الأصول هو الإذعان والاعتقاد ، وجواز الإذعان بقول الغير وعدمه ممّا لا محصّل له ، إذ حصول الظنّ واليقين من قول شخص ليس من الأمور الاختياريّة حتّى يصير موردا للتكليف ، وإنّما يصحّ الأخذ بقول الغير في الفروع ، لأنّ المراد به العمل على مقتضاه لا الاعتقاد به في نفس الأمر ، فلا بدّ أن يتكلّف هنا ويراد بالأخذ بقول الغير هو العمل على مقتضاه ، مثل إنّ من يقلّد المجتهد الذي يقول بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معنى تقليده أن يعمل على شريعته ويتّبع سننه وإن لم يحصل له إذعان بحقيّته بالخصوص قطعا أو ظنّا ، وإن كان قد يحصل له الظنّ الإجمالي الذي بسببه يعتمد على هذا المجتهد.

وبهذا يظهر لك الفرق بين هاتين (١) المسألتين المتداولتين هنا إحداهما جواز التّقليد في الأصول ، وعدمه.

والثانية : جواز الاكتفاء بالظنّ وعدمه ، إذ قد لا يحصل بالنّظر إلّا الظنّ ، فالظنّ

__________________

(١) في نسخة الأصل (هذين).

١٢١

قد يجامع النّظر وقد ينفكّ عن التّقليد في التّفاصيل وخصوصيّات المسائل ، وإن أمكن حصوله بالإجمال ، فيمكن القول بعدم جواز التّقليد مع الاكتفاء بالنظر المفيد للظنّ في بعض الأحيان.

والقول بجواز التّقليد مع عدم حصول الظنّ بالخصوص وبالتّفصيل وإن كان معناه يجوز العمل بالجزم المطابق للواقع الغير الثّابت ، كما هو مصطلح أرباب المعقول ، فيؤول النّزاع فيه الى أنّه هل يجب عليه إقامة الدّليل المقيّد للثبوت على مقتضى جزمه أم لا.

وعلى هذا ، فقول المحقّق البهائيّ رحمه‌الله (١) في آخر الكلام على جواز التّقليد في الأصول وعدمه ، أنّ هذا النّزاع يرجع الى النّزاع في اشتراط القطع ـ يعني إن قلنا باشتراط القطع ـ فلا يجوز التّقليد ، وإن لم نقل باشتراطه واكتفينا بالظّنّ فيجوز ، لا يخلو عن تأمّل ، إذ لقائل أن يقول بعدم لزوم القطع مطلقا وعدم جواز التّقليد معا ، كما سنشير إليه ، أو أنّه قد يحصل القطع مع التّقليد على الاصطلاح الآخر ، وإذ قد عرفت أنّ العلم والظنّ ليسا من الأمور الاختياريّة ، فمن يقول بوجوب تحصيل القطع أو الظنّ في الأصول ، لا بدّ أن يريد من ذلك وجوب النّظر ، إذ العلم والظنّ في أنفسهما ليسا من الأمور الاختياريّة بالذّات.

والنّظر قد يحصل به اليقين وقد يحصل به الظنّ ، وقد لا يحصل به شيء منهما ، كالمسائل المتردّد فيها المتوقّفة عنها ، فيرجع الكلام في كفاية الظنّ في الفروع دون الأصول الى أنّ المجتهد في الفروع يجب عليه النّظر الى أن يحصل له الظنّ ، وإذا حصل الظنّ ، فلا يجب عليه زيادة النّظر ليحصل العلم ، لا أنّه يجب عليه

__________________

(١) في «الزّبدة» ص ١٦٨.

١٢٢

تحصيل الظنّ بها البتّة ، إذ قد لا يحصل ولا يمكن له حصوله ، كما لا يخفى.

وأمّا المجتهد في الأصول فلا يجوز له الاكتفاء بالظنّ مع إمكان زيادة النّظر المرجوّ له فيه حصول العلم ، فلا يجب عليه الاعتقاد بما يظنّ والعمل على وفقه ، بل يتوقّف مثل من لا يحصل له الظنّ في الفروع بقرينة القرينة المقابلة ، أي الاجتهاد في الفروع ، فحينئذ يرجع القول بوجوب تحصيل العلم في الأصول ووجوب النّظر حتّى يحصل العلم بإطلاقه الى دعوى أنّ مسائل الأصول كلّها ممّا ينتهي النّظر في أدلّتها الى العلم ، فيجب النّظر حتّى يحصل العلم ، فمن لم يحصل له ، فلم يؤدّ النّظر حقّه ، ولم يخل لنفسه عن الشّوائب ، وهو في المسائل الخلافيّة في غاية الصّعوبة.

ودعوى كون كلّ محقّ في نفس الأمر مؤدّيا نظره حقّ النّظر ، وكلّ مبطل مقصّرا ، في غاية الإشكال ، وأمّا مجرّد الموافقة لنفس الأمر والمخالفة بمحض الاتّفاق ، فلا يوجب الفرق كما لا يخفى ، فكما أنّ المقلّدين المتخالفين المأجورين لا يؤاخذ أحدهما بمخالفة نفس الأمر في الفروع وكذا المجتهدان المتخالفان فيها ، فكذا المجتهدان المؤدّيان حقّ النّظر ، المتخالفان في الأصول.

والقول : بأنّ المطلوب إذا كان واحدا في الأصول فيجب على الله نصب الدّليل عليه وإلّا لزم الظّلم واللّغو والعبث فمن لم يصبه فقد قصّر ، إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب إصابة الحقّ والواقع في نفس الأمر ، بل المسلّم إنّما هو إصابة الحقّ في نظره مع عدم التّقصير والتفريط.

وما ذهب جمهور العلماء من أنّ المصيب في العقليّات واحد وغيره مخطئ آثم ، كما سيجيء فيما بعد ، فلو سلّمناه ، فإنّما سلّمناه في المجتهدين الكاملين المنتبهين للأدلّة لا مطلق المكلّفين ، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

١٢٣

نعم ، لو فصّل أحد وقال بذلك في وجود الصّانع مثلا في الجملة ، أو ذلك مع وحدته ، أو ذلك مع أصل النبوّة ، أو ذلك مع أصل المعاد ، لم يكن بعيدا ، إذ الظّاهر أنّ أدلّة المذكورات ممّا يمكن فيه دعوى لزوم إصابة الحقّ النّفس الأمريّ ، أمّا مثل تجرّده تعالى ، وعينيّة الصّفات ، وحدوث العالم ، ونفي العقول ، وكيفيّات المعاد ، وغير ذلك فلا. اللهمّ إلّا ما ثبت من هذه المذكورات بالنصّ من الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثبوتهما ، وفي ثبوت الضّروريّات أيضا اختلافات ، وكذلك في مقدار ما ثبت منها وكميّتها وكيفيّتها ، كما سنشير إليها ، وكذلك تعيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ بعده لا دليل على ذلك فيهما أيضا ، إذ فائدة وجوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام وهو إرشاد الخلق وإطاعتهما لأنّهما يبلّغان من الله تعالى ، فمتابعتهما حقيقة متابعة أمر الله تعالى ، فإذا جاز أن يكتفى فيما بلّغاه بالمظنّة الحاصلة بالاجتهاد بعد عروض الحوادث وطروّ الموانع عن تحصيل الجزم بها ، فلما لا يجوز أن يكتفى في أصل التّعيين إذا حصل الاشتباه بسبب حصول الموانع.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرته لا ينافي إفادة أدلّة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليقين لنا ، وكذا أدلّة إمامة الأئمة عليهم‌السلام.

والحاصل ، انّي أقول : لا يجب إفادة اليقين مطلقا لكلّ أحد وكلّ زمان ، ألا ترى أنّه لا يجب إفادة أدلّة الفروع اليقين مع أنّها قد تفيد اليقين في بعض الموارد أيضا.

والقول : بأنّ ما حصل فيه اليقين خارج عن الفروع ، شطط من الكلام ، وقد بيّناه في أوائل الكتاب.

وكما أنّ الأصل في أصول الدّين واحد ، فكذلك الأصل في الفروع ، فإذا جاز اشتباه الحكم الفرعيّ بسبب الحوادث التي وقعت في صدر الإسلام وصارت سببا

١٢٤

لخفاء الحقّ وأهله ، فلم لا يجوز حصول الاشتباه في الأصول بسبب اختلاف أدلّته مثل حال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ، بل أقول : إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث لإرشاد الخلق وإبلاغ الحكم الذي هو واحد في نفس الأمر الى عباده.

ومقصوده تعالى أن يعيد بالحكم الخاصّ والطريق الخاصّ ، فإذا لم يقصّر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإبلاغ وتكلّم مع قومه بلسانهم في ذلك لكن اتّفق أنّ المخاطب اشتبه في فهم الخطاب وأتى بضدّ الصّواب ، فلما لا تقول : إنّ هذا المخاطب مخطئ آثم لأنّ الله تعالى أراد منه شيئا آخر ونصب علما ودليلا له ، فهو مقصّر وليس بمعذور ، فإذا كان غفلة المخاطب واشتباهه في فهم ما شافهه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخطاب بلسانه معذورا ، فلما لا يكون زلّته في فهم أدلّة الإمامة أو النّبوّة مع عدم التّقصير معذورا.

والقول : بأنّ جعل الخطاب مناطا للفروع مع قابليّته لوجوه الدّلالة وتفاوت أفهام المخاطبين بسببه دليل على رضاه تعالى بما يظنّه المخاطب من الخطاب ولا يوجب عليه إصابة الحقّ الحقيقيّ ، بخلاف ما جعل مناطه العقل الغير القابل لذلك ؛ جزاف من القول ، إذ اختلاف العقول في مراتب الإدراك وتفاوتها في المدارك بحيث لا يمكن إنكاره ، ومن ينكره فهو مكابر مقتضى عقله.

فالذي هو حجّة الله على عباده هو العقل والتّفكّر والتدبّر مع التّخلية والإنصاف وترك العناد بقدر الوسع والطّاقة والاستعداد.

والكلام في أنّ المتخالفين في المسألة كلّ منهما يدّعي التّخلية والإنصاف أيضا ، هو الكلام فيما نحن فيه ، إذ كلّ منهما في إدراك التّخلية والإنصاف وإنّ نظره

١٢٥

وفكره مقرون بهما مكلّف بما تبلغه (١) طاقته في ذلك ، إذ البواعث الكامنة في النّفوس والدّواعي الجالبة لاختيار الطّرائق قد تختفي على النّفوس الكاملة الواصلة أعلى الدّرجات ما لم يبلغ حدّ العصمة ، فكيف بالجاهل الذي لم يعرف بعد مواقع الخطأ من دقائق معايب النّفس ، والأطفال في أوائل البلوغ ، فإن فهم أنّ محض موافقة الآباء والأمّهات ، ممّا يوجب التّثبّط عن البلوغ الى الحقّ ممّا لا يخطر ببال أكثرهم ، بل يصعب إزالته غالبا على العلماء المرتاضين الّذين يحسبون أنّهم خلعوا هذه الرّبقة عن أعناقهم فضلا عمّن دونهم.

وكذلك الكلام في سائر معايب النّفس من حبّ أفكاره الدّقيقة التي استقلّ بها ، وعدم تقاعده عن مكافحة الخصوم ، وتقيّده بخوف التّضعضع عن درجات العلوم ، فإنّ لهذه المعايب دركات تحت دركات لا يتدرّج منها كلّ أحد الى درجات التّصعّد ، وربّما يكون منها ما هو أخفى من دبيب النّملة على الصّفا في اللّيلة الظّلماء.

ومن الواضح أنّ التّخلّي عن جميع عروق الأخلاق الرّديّة لا يمكن لكلّ أحد ، بل ولا لأكثر العلماء فضلا عن العوامّ ، بل ولا لأحد من النّاس بعد مدّة مديدة من المجاهدات ، وربّما يكون نهايتها نهاية العمر ، فكيف يقال ببطلان العقائد والأعمال لكافّة النّاس في غالب أعمارهم ، بل الظّاهر أنّه مناف لحكم الله تعالى ورأفته ، بل لعدله.

فظهر من ذلك أنّ مراتب التّكاليف مختلفة ، وكلّ ميسّر لما خلق له.

__________________

(١) في نسخة الأصل (يبلغه).

١٢٦

قال الشهيد رحمه‌الله في «القواعد» (١) : إنّ الرّياء قسمان : جليّ وخفيّ ، فالجليّ ظاهر ، والخفيّ إنّما يطّلع عليه أولوا المكاشفة والمعاملة لله تعالى ، كما روي عن بعضهم : أنّه طلب الغزو وتاقت نفسه إليه وتفقّدها فإذا هو يحبّ المدح بقولهم : فلان غاز ، فتركه ، فتاقت نفسه إليه ، فأقبل يعرض عن (٢) ذلك الرّياء حتّى أزاله ، ولم يزل يتفقّدها شيئا بعد شيء حتّى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث فاتّهم نفسه ، وتفقّد أحوالها فإذا هو يحبّ أن يقال : إنّ فلانا مات شهيدا ، لتحسن سمعته في النّاس بعد موته ، الى آخر ما ذكره.

والحاصل ، أنّ التّكليف باستيصال عروق الأخلاق الرّديّة لكلّ النّاس في أوّل التّكليف عسر وحرج عظيم لو لم نقل أنّه تكليف بما لا يطاق ، ولذلك جعل المناص من ذلك طائفة من الصّوفيّة بأخذ طريقة الملامة ، وجعلوا يباشرون الأمور الرّذيلة ، بل الأفعال الشّنيعة والأعمال القبيحة لإسقاط نفوسهم من أعين النّاس حتّى لا يبقى لهم داعية ليتوصّلوا بذلك الى اكتساب المنال.

وأنت خبير بأنّ كلّ ذلك معصية ومخالفة للشرع مذموم ، ومبادرة الى الهلكة برجاء النّجاة ، وهو مذموم بالعقل والشّرع ، فترخيص الشّارع لأكل اللّحم ، بل الأمر به مع كونه مقويّا للقوة البهيمية ، لا ينفكّ عن تقوية تلك العروق ومعالجاته التي ذكرها الشّارع ، وإن كانت دافعة لها ، ولكن لم يجر عادة الله تعالى بذلك في أغلب النّاس.

وبالجملة ، ما يقتضيه دقيق النّظر هنا ، غير ما اقتضته الأنظار الجليّة ، فنستعين

__________________

(١) الشهيد الأوّل في «القواعد والفوائد» ١ / ١٢٠ الفائدة الثامنة والعشرون.

(٢) في المصدر (على).

١٢٧

الله على إلهام الحقّ والصّواب وإصابة التّحقيق في كلّ باب.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته من التّفصيل في المسألة والفرق بين مسائل الأصول قول بالفصل وخرق للإجماع.

قلت : لا معنى لدعوى الإجماع في هذا المقام ، إذ نحن ـ مع قطع النّظر عن الشّرع ـ في صدد بيان إثبات الشّرع ، مع أنّ عدم وجدان القول بعدم الفصل ليس قولا بعدم الفصل ، بل الظّاهر وجود القول بذلك في الجملة ، كما يظهر من الشّارح الجواد رحمه‌الله وغيره.

فقد تقرّر بما قرّرنا أنّ الجزم المطلق يكفي في سقوط الإثم مع عدم التّقصير إذا حصل له الجزم ، ويكتفى بالظنّ إذا لم يمكنه تحصيل الجزم ، ولا دليل على وجوب تحصيل الجزم بتفاصيله الخاصّ المسمّى باليقين في الاصطلاح ، وهو ما لا يقبل الزّوال المطابق للواقع ، ولا تحصيل ما يقبله ولكن كان مطابقا للواقع ، وترتّب أحكام الكفر على بعض الصّور في الدّنيا لا نمنعه ، ولا ينافي الحكم بسقوط الإثم ، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ تحصيل العقائد الأصوليّة يتصوّر على صور ثلاث :

الأولى : ما يحصل بالنّظر في الدّليل.

والثّانية : ما يحصل بالتّقليد ، نظير ما يحصل في الفروع ، أعني ما لا يستلزم الظنّ التّفصيليّ بها وإن أمكن حصول ظنّ إجماليّ كما في الفروع.

والثّالثة : ما يحصل بالتّقليد مع حصول الجزم بها.

والظّاهر أنّ كلمات الأصوليّين إنّما هي في الأوّلين ، وأنّ مرادهم بالتّقليد هو تقليد المجتهد الكامل ، نظير التّقليد في الفروع المتداول بينهم المصطلح عندهم ،

١٢٨

لا مجرّد الأخذ بقول الغير وإن لم يكن مجتهدا ، وهذا مختصّ بالّذين زالت (١) غفلتهم وحصل لهم العلم بأنّ اللّازم على المكلّف إمّا الاجتهاد أو التّقليد.

ومراد المحقّق البهائي رحمه‌الله (٢) من قوله : والى اشتراط القطع يرجع الكلام ، يعني الكلام في جواز التّقليد وعدمه أيضا ، التّقليد بهذا المعنى ، إذ هو الذي لا يفيد إلّا الظنّ ، لا المعنى الثّالث.

وأما الثّالث : فإن أمكن حصول الجزم من تقليد المجتهد الكامل لهؤلاء الأزكياء الّذين زالت (٣) عنهم الغفلة المتفطّنين لأنّ تكليفهم أحد الأمرين ، فهو يرجع أيضا الى النّظر والاجتهاد مع المعرفة بأنّه نظر واجتهاد ، فإنّه يثبت أوّلا بالنّظر صدق المجتهد ، ثمّ يتبعه فيرجع الى القسم الأوّل ، ولكن حصول الجزم نادر حينئذ.

وأمّا الجزم الحاصل لغير هؤلاء من تقليد غير المجتهدين الكاملين ، مثل الجزم الحاصل للأطفال والنّساء والعوامّ النّاشئين عن الاعتقاد بقول آبائهم وأمّهاتهم وأساتيذهم وإن كانوا هم مقلّدين لمثلهم أيضا ، بل علمائهم المجتهدين أيضا ، مع عدم معرفة أنّ المجتهدين هم المستحقّون للاعتقاد لا غير.

فالظّاهر أنّ ذلك خارج عن مطرح النّظر لهم في هذا المقام ، لأنّهم يقولون : يجوز التّقليد في الفروع ولا يجوز في الأصول ، وموضوع المسألة واحد إلّا أن يفكّك لفظ التّقليد في عنوان المسألتين وجعل المراد من المقلّد في مسألة الأصول

__________________

(١) في نسخة الأصل (زال).

(٢) في «الزّبدة» ص ١٦٨.

(٣) في نسخة الأصل (زال).

١٢٩

من لم يأخذ العقيدة من الدّليل التّفصيليّ الخاصّ الذي هو غير حسن الظنّ يأخذ [بأحد] ، فيشمل ما نحن فيه ، فحينئذ يحتمل القسم الثّالث لصورتين :

إحداهما : حصول الجزم للعارف العالم المتفطّن لمعنى الجزم والظنّ ، والفرق بين المجتهد وغير المجتهد.

والثّانية : حصول الجزم والاطمئنان لمثل الأطفال والنّسوان والعوامّ مع عدم تأمّلهم في معنى الجزم والظنّ ، وعدم تفطّنهم لاحتمال عدم جواز الأخذ ممّن أخذوه ، والفرق بين آبائهم وامّهاتهم وعلمائهم.

أما الصّورة الأولى ، فيمكن إدخالها في القسم الأوّل كما أشرنا ، إنّما الإشكال في الصّورة الثّانية ، والكلام فيها هو نظير الكلام في تقليد آبائهم وأمّهاتهم في الفروع كما مرّ في القانون السّابق.

فحينئذ نقول : المراد من تقليدهم هنا هو الرّكون إليهم والإذعان بقولهم والاعتماد عليهم ، وهو يفيد غالبا الاطمئنان والسّكون والجزم في ظاهر النّظر لهؤلاء إذا خلت نفوسهم عن المشائب وغفلت عن الشّكوك والشّبهات لعدم عرض مخالفات الطّرائق والاحتجاجات عليها ، فحينئذ الكلام في سقوط التّكليف عن هؤلاء وعدم السّقوط ، وأنّه هل يجب عليهم النّظر أو يكفي ما حصل لهم من الاطمئنان.

والحقّ ، أنّ النّافي لوجوب النّظر مستظهر لأنّ المكلّف حينئذ غافل عن الوجوب بالفرض ، ويحسب اعتماده على مثل ذلك أوج معرفة كماله.

وأمّا من قرع سمعه أنّه يلزم عليه النّظر تفصيلا وأن يكون أخذ الاعتقاد بالدّليل التّفصيليّ لا الإجماليّ ، بمعنى الحاصل بالاعتماد على الغير ، ومع ذلك قصّر في ذلك واكتفى بالتّقليد ، فهو على قسمين :

١٣٠

الأوّل : ما يحصل بسبب ذلك له الشّك ويزول عنه السّكون والاطمئنان.

فالحقّ ، أنّ ذلك مقصّر آثم غير مؤمن ، لعدم حصول الإذعان له أصلا ، فإذا تقاعد من [عن] النّظر فلا ريب في أنّه آثم غير معذور ، وليس من جملة المؤمنين.

وسيجيء الكلام في حاله ، ولا يحسن أن يدخل ذلك في محلّ النّزاع إذ لا أظنّ أحدا أنّه قال بجواز مثل هذا التّقليد.

والثّاني : من لا يحصل له الشّك ، بل اطمئنانه باق على حاله ، وقد يظنّ أنّ الأمر بالنّظر حينئذ أمر تعبّدي وواجب آخر ، ولا يخدش في إذعانه أصلا ، كما نشاهد ذلك في الفروع أنّ بعضهم قد يظنّ أنّ عرض الصّلاة على المجتهد واجب على حدة ، بل قد يزيد هذا الشّخص في إذعانه بما قرع سمعه من وجوب النّظر ، فإنّ العالم الواعظ من أهل ملّته إذا نبّهه على أنّ مسألة الإمامة خلافيّة ، وللمخالفين أيضا أدلّة على مذهبهم لا بدّ أن يلاحظ ثمّ يختار مذهب الإماميّة ، يدخل في ذهنه أنّ هذا العالم المتبحّر الورع مع وجود الدّليل على مذهب المخالفين ترك مذهبهم وأخذ هذا المذهب ، مع معرفته بوجوب النّظر والاجتهاد ، وهذا المذهب ممّا لا يأتيه الباطل أبدا ، فيقصر في النّظر ويسامح فيه.

فهذا أيضا مثل السّابق في الغفلة عن حقيقة الأمر ، والظّاهر أنّه أيضا معذور إلّا في ترك هذا الواجب ، وسيجيء الكلام في حاله وأنّه فاسق أو لا.

هذا ، ولكن هذا الكلام لا يتفاوت فيه الحال بين الموافق والمخالف والمسلم والكافر على ما اقتضاه قواعد العدليّة.

والقول بتعذيب الكفّار والمخالفين دون المسلمين والشّيعة خروج عن العدل ، وذلك لا ينافي ثبوت أحكام الكفر لهم في الدّنيا مثل الحكم بنجاستهم ووجوب جهادهم وقتالهم.

١٣١

أمّا النجاسة فلأنّه أمر تعبّديّ ولا ريب أنّ الكلب والخنزير أبعد عن التّقصير من الكفّار ، ومع ذلك فيحكم بنجاستهما ، وكذلك أطفال الكفّار قبل التّمييز ، فهذا حكم وضعيّ تعبّديّ.

لا يقال : إنّ الحكم بالنّجاسة إيلام لهم بلا وجه وإن كان في دار الدّنيا ، وهو أيضا ظلم ، لأنّ الحاكم بنجاستهم هم المسلمون ، وهم لا يعتقدون أنّ ذلك من الله تعالى ، بل لا يعتنون بقول المسلمين أصلا.

كما إنّا لا نقول : حكم النّواصب بحليّة دمائنا وأعراضنا يوجب الظّلم من الله تعالى.

وأمّا كون جاهل هذه العقيدة مهينا عند الله تعالى فهو من توابع هذه الاستعداد [الاستعدادات] كنجاسة الكلب ، وهي راجعة الى أسرار القدر المنهيّة عن الخوض فيها.

وكذلك جواز أسرهم وبيعهم وشرائهم ، فإنّه ليس حالهم فوق حال العبد والإماء المؤمنين المتولّدين على الفطرة ، النّاسكين السّالكين على نهاية طريقة الورع والتّقوى.

وأمّا جهادهم وقتالهم ، وأمّا من تفطّن منهم وحصل له الشّك وقصّر في النّظر ، فلا إشكال فيه. وأمّا من لم يتفطّن لذلك ، بل حسب أنّ الحقّ معه والباطل مع المسلمين ، ولم يتفطّن لوجوب النّظر أصلا ؛ فهو ليس بأعلى شأنا من المسلمين إذا تترّس بهم الكفّار ولم يمكن دفاع الكفّار عن بيضة الإسلام إلّا بقتلهم ، فحينئذ فالفرق بين مقلّدة المسلمين ومقلّدة الكفّار إنّما هو في غير الإثم والعذاب.

وبالجملة ، قاعدة العدل تمنعنا عن الإقدام في الفرق فيما لا فرق بينهم أصلا.

وأمّا الآيات والأخبار الدالّة على خلود الكفّار في النّار ، فلا يتبادر منها أمثال

١٣٢

هؤلاء ، بل الظّاهر من الكافر هو من كفر وستر الحقّ بعد ظهوره ، وهذا أمر وجوديّ لا يمكن حصوله إلّا مع التّنبيه والتّقصير ، ولعلّ تعريف أكثر المتكلّمين بأنّه عدم الإيمان ممّن شأنه الإيمان ، أريد به عدم الملكة بالنسبة الى المرتبة الأدنى من كليّاتها.

فالمراد ممّن شأنه الإيمان هو الذي تمّت (١) عليه الحجّة وقصّر ، فهو مثل إطلاق الأعمى على الإنسان لا على العقرب ، أو يجعل تعريفا للكافر الذي يجري عليه الأحكام الفقهيّة لا من يعذّب ويخلّد في النّار في الآخرة ، فإنّ ذلك يكفي في الأوّل دون الثّاني.

فغاية الأمر أنّهم ممّا لم يسلموا ولم يؤمنوا ، وأمّا أنّهم ممّن كفروا ، فيشكل انفهامهم عن الآيات والأخبار.

وتفصيل الكلام في هذا المقام ، أنّ الإنسان إمّا أن يتفطّن لوجوب معرفة الأصول في الجملة أم لا.

الثّاني ، يلحق بالبهائم كالمجانين ، لا يتعلّق بهم تكليف.

وأمّا الأوّل ، فهو إمّا في حال خلوّ النّفس عن كلّ خيال ودين ومذهب ، مثل أن يكون إنسان في بلاد خالية عن مسلم أو عارف ، أو يداخله ملاحظة حال غيره المتديّن بدين أو مذهب مثل أبيه وأمّه وأستاذه ، وعلى أيّ التّقديرين ، فإمّا يأخذ طريقته بمعونة عقله ويطمئنّ بها ، أو يحصل له ظنّ بطريقته ، أو يبقى متردّدا ومتحيّرا.

وعلى الأوّل ، فيسقط عنه التّكليف بشيء آخر لغفلته عن وجوب شيء آخر

__________________

(١) في نسخة الأصل (تم).

١٣٣

عليه ، وإن كان اطمئنانه من جهة حسن ظنّه بأبيه وأمّه.

ولا فرق في ذلك بين ما صادف الحقّ وعدمه في عدم العقاب والإثم وإن ثبت الفرق من جهة الثّمرات الدّنيويّة من ترتّب الأحكام الشّرعيّة لقبح تكليف الغافل ، ولا ينبغي النّزاع في ذلك.

والظّاهر عدم الفرق بين أفراد المعارف الخمسة حتّى لو كبر صغير في جماعة الطّبيعيّين أو الدّهريين وفرض أنّه لم يتفطّن للتفكّر في بطلان طريقتهم ، فهو كذلك ، فضلا عن الفرق المختلفة في الإسلام وشعبه وطرائقه ، فإذا عرف الطّفل بالفطرة أو بالسّماع من أبيه وأمّه وجود الصّانع في الجملة ، وحصل في ذهنه أنّه جسم وأنّه في السّماء ، ولم يتفطّن لغير ذلك ولم يسمع من غيره تنبيها على ذلك حتّى كبر فلا إثم عليه ولا مؤاخذة ، حتّى إذا تفطّن لاحتمال الخلاف أو سمع من غيره المنع من اعتقاد ذلك بحيث يحصل له التّزلزل فحينئذ يجب عليه الفحص والنّظر ، والمقصّر فيه آثم.

ولا فرق في ذلك بين أن يتفطّن المكلّف ، لأنّ اطمئنانه الحاصل له هل هو يقين في نفس الأمر بمعنى عدم قبول التّشكيك بعد ما صادفه المشكك ، إنّما الكلام بعد زوال الاطمئنان.

ثمّ بعد زوال الاطمئنان ، فإمّا أن يبقى له الظنّ أو يحصل له الشّك مع معرفة أنّه ظنّ أو شكّ ، فحينئذ إذا تفطّن لوجوب المعرفة وتفطّن أنّه لم يحصل له الاطمئنان ، فإن أمكن حصول الاطمئنان له بسبب الاعتماد على شخص آخر أفضل عن الأوّل [وإلّا] ، فكالأوّل ، وإلّا فلا ريب في وجوب تحصيل ما يحصل به الاطمئنان ، فالّذي يحصل به الاطمئنان على قول شخص كامل من جهة كماله أو النّظر والاجتهاد.

١٣٤

وفي الحقيقة الرّجوع الى ذلك الشّخص أيضا نوع من النّظر والاجتهاد كما أشرنا إليه مرارا ، ثمّ إذا آل الأمر بعد زوال الاطمئنان أو في أوّل الأمر الى الرّجوع الى النّظر أو الاعتماد على شخص كامل فحينئذ ينقسم النّظر الى قسمين.

وكذلك الاعتماد على ذلك الشّخص ، إذ النّظر قد يفيد القطع ، وقد يفيد الظنّ.

وكذلك الرّجوع الى شخص ، فإنّ من تردّد أمره بين صيرورته يهوديّا أو مسلما أو إماميّا أو مخالفا ، فقد يحصل له بسبب الاعتماد على عالم الاطمئنان الذي يحسبه قطعا وجزما ، وإن أمكن في نفس الأمر زواله بتشكيك المشكّك ، وكذلك بسبب الأدلّة التي ينظر فيها. وقد يحصل له ظنّ بصحة الإسلام أو التّشيّع ولا يحصل له القطع ، فحينئذ ، فهل يجب عليه تجديد النّظر وتكريره ليحصل له القطع والاطمئنان أو التّفحّص عن الأعلم والأفضل الذي تطمئنّ به النّفس ، أو يكفي الاكتفاء بالظنّ.

والظّاهر أنّه لا يجوز فيه الاكتفاء بالظنّ مهما أمكن النّظر والاجتهاد واحتمل حصول القطع لعدم زوال الخوف.

وحال هذا الشّخص كحالنا في المسائل الفقهيّة ، إذ كثيرا ما يحصل لنا الظنّ في بادئ النّظر في المسألة قبل الخوض التّامّ في الأدلّة بأحد طرفي المسألة ، ولا نعمل به لعدم حصول الاطمئنان وزوال الخوف عن المؤاخذة بمجرّد ذلك ، ولكن إذا استفرغنا الوسع وأحسسنا العجز عن المزيد عليه ، فنكتفي حينئذ بظنّنا ، فنقول فيما نحن فيه : إذا عجز عن النّظر فوق ما أعمله وأحسّ [وأحسن] من نفسه العجز عن تحصيل العلم ، فتكليفه بتحصيل العلم أيضا تكليف بما لا يطاق ،

فإذا اتّفق لناظر في مسألة النّبوّة أو الإمامة بعد التّخلية وبذل الجهد التّامّ ، ظنّ بأحد الطّرفين ولم يمكن تحصيل القطع ، فالظّاهر أنّه يكفيه حينئذ الظنّ ، ولا يجب تحصيل اليقين.

١٣٥

والذي شيمته الإنصاف وترك العصبيّة لا يأبى عن هذا الكلام ، وقد ينكر تحقّق هذه الصّورة ، وأنت خبير بأنّها غير عزيزة ، فإنّ من تولّد في بلاد المخالفين ولم يسمع من علمائهم إلّا التبرّي عن الشّيعة وكونهم أكفر الكفرة ، ولم يسمع إلّا أحاديثهم الموضوعة في مدح خلفائهم ، ولو فرض أنّه سمع بعض أخبار الشّيعة لكان سمعها مع تأويلها المطابق لآرائهم ورأى أدلّتهم على مذهبهم مموّهة بالمقرّبات ، مشبعة في إتمام مقاصدهم بما يقرّون على الإشباع ، وأدلّة الشّيعة شعثة منكسرة الرّأس واليد ، مقطوعة الأطراف متروكة مواضع الدّلالة ، إذا بذل جهده ولم يحصل له إلّا الظنّ بأحد الطّرفين ، فكيف يقال : إنّه مكلّف بالعلم ، ويقال بترجيح المرجوح ، غاية الأمر أنّه بسبب الاحتمال النّفس الأمريّ يتوقّف عن الحكم القطعيّ بنفس الأمر ، وهو لا ينافي لزوم متابعته لدين من حصل له الظنّ بحقيّته ، وقد عرفت وستعرف أنّ القول بأنّ أدلّة المعارف كلّها ممّا يوجب اليقين حتّى للعوامّ وغير الكاملين من العلماء ، وأنّ عدم الإصابة كاشف عن التّقصير غير تمام ، ولو سلّم ، فإنّما يسلّم في بعض مجملات المعارف لا في كلّها ولا في تفاصيل بعض ما له دليل يوجب اليقين في الجملة ، وفي العلماء الكاملين لا غيرهم ، فالأحسن أن يجعل محلّ النّزاع هي هذه الصورة ، وأنّ المراد هل يجب النّظر المحصّل للقطع في صورة إمكان حصوله أم يجوز الاكتفاء بالظنّ الحاصل له؟ وأن لا يفرّق بين كون النّظر إجماليّا حاصلا له ولو بحسن ظنّه بشخص ، أو تفصيليّا حاصلا من دليل ، فتأمّل حتى لا يذهب عليك أنّ إطلاق التّفصيليّ على مقابل الإجماليّ بهذا المعنى لا ينافي كونه إجماليّا بالمعنى الذي يأتي من عدم اشتراط ملاحظة ترتيب المقدّمتين تفصيلا ، والمعرفة بتفاصيل مصطلحات أرباب الميزان.

١٣٦

فظهر ممّا ذكرنا ، أنّه ينبغي أن يكون محلّ النّزاع في النّظر في الأصول إنّما هو إذا حصل الخوف من جهة تفطّنه لوجوب شكر المنعم في أوّل النّظر كما سيجيء ، أو إذا حصل الخوف له بعد زوال الاطمئنان الحاصل له أوّلا من أيّ طريق حصل ، فالمشهور وجوبه.

والمخالف يجوّز التّقليد بالمعنى الأوّل ، أعني ما يساوق التّقليد في الفروع ، وإذا انحصر النّزاع في ذلك فالحقّ مع جمهور علمائنا من وجوب النّظر وليس من باب الفروع حتّى يكتفى بالظنّ مع إمكان تحصيل القطع أيضا كما مرّ في محلّه.

فالمختار هو أنّ عند التّفطّن في أوّل الأمر وزوال الاطمئنان بعد حصوله يلزم النّظر والتّفحّص حتّى يحصل القطع ، لعدم زوال الخوف للنفس من المضرّة إلّا بذلك ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

وإذا لم يقدر على تحصيل القطع ، فيكتفي بالظنّ ، للزوم التّكليف بالمحال لولاه ، وسيجيء بيان الأدلّة تفصيلا.

وأمّا لزوم تحصيل اليقين بمعنى الجزم الثّابت المطابق للواقع مطلقا ، فهو في غاية البعد ، إذ قد يحصل الجزم بنفس الأمر ويزول بتشكيك المشكّك ، وأكثر النّاس إيمانهم من هذا القبيل إن كانوا جازمين ، فإذا جاز زوال المطابق فكيف بغير المطابق!

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم زوال الخوف إلّا بتحصيل اليقين مع الإمكان على الإطلاق أيضا لا يخلو عن إشكال ، بل لا بدّ من التّفصيل ، فإنّا إذا دار أمرنا بين الإذعان بوجود الصّانع وبعثه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقيّة المعاد وعدم المذكورات ، فالظنّ بوجود المذكورات يزيل الخوف ، لأنّ ما يتصوّر فيه الخوف إنكار المذكورات لا الإقرار ، بخلاف دوران الأمر بين النّبيّين والوصيّين عليهم‌السلام مثلا ، إلّا أن يقال : نفس

١٣٧

كون الاعتقاد يقينيّا مطلوب بالذّات ، وحصول اليقين مطلوب من جهة الثّبات وعدم الزّوال.

وفيه : أنّا نمنع وجوبه أوّلا ، وعدم زوال اليقين بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الذي يسمّيه بعضهم بشبه اليقين ثانيا ، فإنّه قد يزول بالشّبهة وقد يزول حكمه بسبب الإنكار عنادا ، هذا حال القسم الأوّل.

وأما الثّاني ، والثّالث ، ـ أعني ما يحصل له الظنّ أو يبقى متردّدا ـ فبعد التّفطّن والشّعور يعرف حاله ممّا ذكرنا في القسم الأوّل من أنّ الحق فيه أيضا وجوب النّظر الى أن يحصل الاطمئنان ، ومع عدم الإمكان فيكتفى بالظّنّ ، والمتردّد متوقّف حتى يهديه الله الى الصّواب.

إذا تمهّد هذا فنقول : اختلف العلماء في جواز التّقليد في الأصول وعدمه ، فالمشهور المعروف من مذهب أصحابنا ، وأكثر أهل العلم ، العدم.

وذهب جماعة منهم المحقّق الطوسي رحمه‌الله الى الجواز.

وذهب طائفة الى حرمة النّظر.

واعلم أنّ هاهنا مقامات :

الأوّل : أنّه هل يجب معرفة الله أم لا؟

والثّاني : أنّ الوجوب ـ على فرض ثبوته ـ عقليّ أو شرعيّ.

والثالث : أنّ الوجوب إذا ثبت بالعقل أو بالشّرع ، فهل يكفي في المعرفة التّقليد أو يجب الاجتهاد؟

وهل يكفي الظنّ بها أو يجب القطع؟

وعلى اشتراط القطع ، هل يكفي مطلق الجزم أو يلزم اليقين المصطلح أي الجزم الثّابت المطابق للواقع؟

١٣٨

وعلى فرض كفاية الجزم مطلقا هل يلزم المطابقة للواقع أو لا؟

وقد مرّ الكلام في كثير من هذه الأقسام ، والنّزاع في المقام الأوّل بين مثبتي الصّانع ومنكريه ، وفي المقام الثّاني بين الحكماء والإماميّة والمعتزلة وبين الأشاعرة.

فالأشاعرة يقولون بالثّاني ، والباقون بالأوّل.

والثّالث هو المسألة المبحوث عنها.

فالمقام الأوّل يستغنى عن البحث عنه بالبحث في المقام الثّاني.

وأمّا المقام الثّاني ، فهو أنّ الإماميّة والمعتزلة والحكماء يقولون بوجوبه عقلا.

أمّا الحكماء فنظرهم في معرفة الأشياء بالذّات ، ولا يقولون بشريعة حتّى يقع الخلاف بينهم في كونه شرعيّا أم لا ، فينحصر طريقة إثباته في العقل.

وطريقه أنّ كلّ عاقل يراجع نفسه يرى أنّ عليه نعماء ظاهرة وباطنة ، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى كثرة ولا يشكّ ولا يريب أنّها من غيره.

فهذا العاقل إن لم يلتفت الى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعما ولم يتقرّب الى مرضاته ، يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النّعمة عنه ، وهذا معنى الوجوب العقليّ.

وأيضا إذا رأى العاقل نفسه مستغرقة بالنّعم العظام ، يجوّز أنّ المنعم بها قد أراد منه الشّكر عليها ، وإن لم يشكرها يسلبها عنه ، فيحصل له خوف العقوبة ، ولا أقلّ من سلب تلك النّعم ودفع الخوف عن النّفس واجب مع القدرة ، وهو قادر على ذلك ، فلو تركه كان مستحقّا للذّم.

فإذا ثبت وجوب شكر المنعم ووجوب إزالة الخوف عن النّفس ، وهو لا يتمّ إلّا بمعرفة المنعم حتّى يعرف مرتبته ليشكره على ما يستحقّه ، فهذا دليل على وجوب

١٣٩

معرفة الله تعالى عقلا.

والدّليل الى هنا يثبت وجوب معرفة المنعم.

أمّا كيفية تحصيل المعرفة هل يمكن فيه الرّكون الى قول عالم مثلا والإذعان بما يقوله في وصف ذلك المنعم وحاله ، أو يجب النّظر ، فهذا هو الكلام في المقام الثّالث ، فيلحق بما مرّ من تقرير الدّليل ، أنّ المعرفة إنّما تتمّ بالنّظر ، لأنّ التّقليد لا يفيد إلّا الظنّ ، وهو لا يزيل الخوف ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فالنظر واجب.

والبحث على هذا الدّليل إمّا على عدم إفادته لوجوب تحصيل المعرفة ، أو على عدم إفادته لوجوب كون التّحصيل على سبيل الاجتهاد ، فقد يمنع استلزام مجرّد التّجويز الخوف ، وأنّ ذلك ربّما يحصل لبعض النّاس دون بعض ، فلا وجه للإطلاق ، كمن قلّد محقّا وجزم به واطمأنّت (١) نفسه ، وإن فرض احتمال التّضرّر بالتّقليد فهو لا يوجب الخوف ، وإن فرض حصول الخوف فقد يزول بما ظنّ به إذا شكره على حسب ما ظنّ.

وكذلك من قلّد مبطلا واطمأنّ به وجزم ، فلا يحصل له خوف أصلا بتركه.

والجواب عن جميع ذلك يظهر ممّا فصّلناه في المقدّمة ، إذ نحن لا نحكم بالوجوب مطلقا ، ولا بدّ أن ينزّل إطلاق كلام العلماء مثل العلّامة رحمه‌الله في «الباب الحادي عشر» (٢) وغيره على ذلك ، إذ من أصولهم الممهّدة وقواعدهم المسلّمة

__________________

(١) في نسخة الأصل (واطمأنّ).

(٢) راجع الأمر الثالث من «الباب الحادي عشر» في بيان وجوب معرفته تعالى بالدليل لا بالتقليد والمطلب الثاني في بيان شرائط حس التكليف.

١٤٠