القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

تجزّي الملكة والاقتدار ، إذ الملكة والاقتدار قابلان للزيادة والنقصان بحسب الاقتصار والاستكمال أو إلى تجزّي المسائل بالنسبة الى الملكة ، بمعنى أن يكون سليقته وطبيعته ملائمة لبرهة من المسائل دون بعض ، فيكون له ملكة هذا البعض دون الآخر. كما أنّ الإنسان قد يكون له سليقة فهم المعقولات دون المنقولات ، وسليقة نظم الشّعر دون الرسائل أو الخطب أو بالعكس ، والغالب الوقوع في الفقه هو المعنى الأوّل إذ الغالب فيه مدخلية الأنس والمزاولة والقصور والكمال ، ولذلك يحصل ذلك غالبا في أوائل بلوغ مرتبة الاجتهاد.

وأمّا تجزّي الاجتهاد ، بمعنى أن يكون قد اجتهد في بعض المسائل بالفعل دون الباقي ، فهو ليس بمعنى التجزّي في شيء ، إذ من المحال عادة أن يوجد عالم اجتهد في جميع المسائل ، بل هو محال عقلا إذ المسائل الفقهيّة غير متناهية ، هي تتجدّد كلّ يوم وساعة.

والحقّ ، أنّ النّزاع في إمكان التجزّي وتحقّقه بالمعنى الذي ذكرنا.

ومنع ذلك مستندا بأنّ القوّة الاستنباطيّة لا تتفاوت (١) في المسائل ، فمن كان له قوّة البعض فله قوّة الجميع يشبه المكابرة ، فنقتصر في المقام على الكلام في النّزاع الواقع في جواز العمل به وعدمه ، والأقوى جوازه.

واحتجّوا على الجواز : بأنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء ، فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلّة غيرها لا مدخل له فيها ، فكما جاز لذلك الاجتهاد فيها ، فكذا هذا.

واعترض : بأنّ كلّ ما يقدّر جهله به يجوز تعلّقه بالحكم المفروض ، فلا يحصل

__________________

(١) في نسخة الأصل (يتفاوت).

١٠١

له ظنّ عدم المانع من مقتضى ما يعلمه من الدّليل.

واجيب : بأنّ المفروض حصول جميع ما هو دليل في تلك المسألة بحسب ظنّه وعدم تعلّق غيره بها.

واعترض أيضا : بأنّ ذلك قياس غير جائز لعدم النصّ بالعليّة ، ولا القطع بأنّ العلّة هي القدرة على الاستنباط ، أو وجود المدارك لاحتمال كونها هي القدرة الكاملة ، بل هو أقرب الى الاعتبار ، لكونها أبعد من الخطأ.

وردّ : بأنّ العلّة هي الضّرورة والاحتياج لسدّ باب العلم.

وأجيب عنه : بأنّه لا ضرورة مع وجود ظنّ المجتهد المطلق ، وأيضا ، الأصل حرمة العمل بالظنّ ، خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع وبقي الباقي.

أقول : تحرير الاستدلال يظهر بعد التأمّل فيما بيّناه في إجمال المقال ، وانّ ذلك ليس بقياس. فإنّا نقول : بعد انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة ، على العالم الممارس لمدارك الأحكام لا مناص له عن العمل بالظنّ

الحاصل له من تلك المدارك ، فكما أنّ المجتهد المطلق يعمل بظنّه لذلك ، فكذا هذا.

فمآل الاستدلال أنّ الدّليل العقليّ القائم على عمل المجتهد المطلق بظنّه قائم فيما نحن فيه ، وحرمة العمل بالظنّ مطلقا ممنوع ، بل الظّاهر من أدلّة الحرمة بقدرها ، وهي ترتفع بظنّ المجتهد المطلق.

قلنا : هو أيضا ظنّ ، فما وجه الترجيح.

قولكم : إنّ العمل به إجماعيّ وهو المخصّص.

قلنا : الإجماع على أيّ قدر وعلى أيّ حال؟ فإنّ الاجماع على اعتبار ظنّ المجتهد في الكلّ ، له عرض عريض ، بل لا يوجد له مصداق إذ قد بيّنا أنّ المراد من المجتهد في الكلّ هنا مقابل المتجزّي وهو أيضا على أقسام : منهم من يكون

١٠٢

على طريقة الأصوليين ، ومنهم من يكون على طريقة الأخباريين ، ومنهم متوسّطون. وكلّ من أرباب هذه الطّرائق يخطّئ الآخر ، واختيار إحدى هذه الطّرائق أيضا مسألة اجتهاديّة ظنيّة ، فأين المجمع عليه القطعيّ المقابل للظنّي؟واعتبار القطعيّة من جهة كونه اجتهادا في الكلّ لا يفيد مع كونه ظنّا بحسب الطّريقة ، فبقي أفراد المجتهد المطلق أيضا تحت الظنّ.

فإن قلت : نعم ، لكنّ ظنّ المجتهد في الكلّ أقوى.

قلنا : لا نمنع وجوب متابعة الأقوى ، وإلّا فيلزم رجوع أحد المجتهدين المطلقين إذا كان ظنّ أحدهما أضعف الى الآخر.

سلّمنا ، لكن قد يكون ظنّ المتجزّي بما فهمه أقوى من الظنّ الحاصل ممّا فهمه المجتهد المطلق ، أو يساويه.

هذا كلّه ، مع أنّ الكلام في تكليف المتجزّي ، ولا بدّ للمتجزّي هو أن يعرف تكليفه ، فاعتبار الظنّ لا يلاحظ إلّا بالنسبة إليه في نفسه ، فإذا حصل له ظنّ بأنّ هذا الحكم كذلك في الواقع ، فهو لا يجامع حصول الظنّ له بأنّ الحكم كما فهمه المجتهد في الكلّ حتّى يقال : أحدهما أضعف عنده والآخر أقوى ، فمع حصول الظنّ له بما فهمه ، يصير ظنّ المجتهد في الكلّ المخالف له وهما عنده.

ولو فرض عنده احتمال أن يكون لكمال قوّة المجتهد في الكلّ مدخليّة في فهم المسألة ليست هي موجودة عنده ، فلا يحصل له الظنّ بالحكم أصلا ، وهو خلاف المفروض.

والقول : بأنّ فهم المجتهد في الكلّ أبعد من الخطأ في نفس الأمر عن فهم المتجزّي ، إن أريد منه بالنّسبة الى مجموع المسائل ، فهو كذلك ، ولا كلام لنا فيه.

وإن أريد بالنّسبة الى ما فرض كون المتجزّي مستقلا فيه محيطا بجميع مداركه ،

١٠٣

فكلّا ، مع أنّ الكلام ليس في ذلك ، بل في تكليف المتجزّي.

وإن أريد أنّ كثرة الاعتماد على قوّة المطلق من جهة الغلبة يوجب ترجيح تقليده على تقليد المتجزّي ، فهو كلام آخر لا نمنعه بين المطلقين المتفاوتين في العلم ، فكيف بالمتجزّي والمطلق ، ولا دخل له بما نحن فيه ، مع أنّا نقول : كما أنّ العمل بالظنّ حرام ، فكذلك التقليد أيضا حرام. فإذا نفيتم جواز عمل المتجزّي بظنّه فكيف جوّزتم له التقليد ، مع أنّ التقليد أيضا ظنّ!

فإن قلتم : إنّ الإجماع وقع على جواز تقليد المجتهد المطلق ولم يقع على جواز عمل المتجزّي بظنّه.

قلنا : الإجماع قد عرفت محلّه في المجتهد المطلق والإشكال فيه.

سلّمنا ، لكنّ الإجماع على وجوب تقليده حتّى على المتجزّي أيضا ، أوّل الكلام ، كيف والمشهور بين العلماء جواز التجزّي.

فغاية الأمر تساوي الاحتمالين ولا مناص عن التخيير ، وهو أيضا يقتضي جواز التجزّي ، واحتمال وجوب التوقّف أو الاحتياط ضعيف لا دليل عليه ، وإذا ثبت الجواز ، بطل المنع وإن لم يثبت التعيّن ، ويمكن إثباته بعدم القول بالفصل أيضا.

ويؤيّد التعيّن انّه ترك للتقليد ، وأنّه أخذ من المدارك نفسها مهما أمكن ، وموافقته لعمومات وجوب العمل بالآيات والأخبار وغير ذلك.

ويدلّ على جواز التجزّي أيضا مشهورة أبي خديجة (١) عن الصادق عليه الصلاة والسلام حيث قال : «انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه

__________________

(١) «تهذيب الأحكام» ٦ / ٢٤٥ كتاب القضايا والأحكام باب ١ ح ٨.

١٠٤

بينكم قاضيا فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه».

واعترض عليه بما حاصله ، أنّ العلم بشيء من القضايا إن أريد به ما يشمل الظنّ المعلوم الحجّية ، فالمنكر للتجزّي يدّعي أنّه لا يحصل إلّا لمن أحاط بمدارك جميع المسائل ، فالعلم بشيء من القضايا لا ينفكّ عن المطلق ، وإن أريد به العلم الحقيقيّ فموضع النّزاع إنّما هو ظنّ المتجزّي لا علمه.

أقول : ويمكن دفع ذلك بأنّ أصحابنا رضوان الله عليهم استدلّوا بمقبولة عمر ابن حنظلة (١) على جواز عمل المجتهد المطلق بظنّه والتّحاكم إليه ، حيث قال عليه‌السلام فيها : «انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» ، الحديث.

فنقول أوّلا : إنّ ظاهر الرّوايتين هو العلم والخطاب الشّفاهيّ ، وإن كان مخصوصا بالحاضرين لكنّ الغائبين مشتركون معهم في أصل التكليف ، فإذا لم يكن للغائبين الرّجوع الى العالم بالأحكام بالعلم الحقيقي ، فيكتفى بالظّانّ من جهة استفراغ الوسع في الأدلّة المعهودة ، فكما أنّ الظانّ بجميع الأحكام من جهة استفراغ وسعه في جميع أدلّتها يقوم مقام العالم بها كما في مقبولة عمر بن حنظلة ، فكذلك الظانّ ببعض الأحكام من جهة استفراغ وسعه في أدلّة ذلك البعض يقوم مقام العالم بذلك البعض المذكور في رواية أبي خديجة.

فإن قلت : ذلك الظنّ ثبت حجّيته بالإجماع فيقوم مقام العلم بخلاف هذا.

قلت : هذا خروج عن الاستدلال بالرّواية ورجوع الى أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وقد مرّ الكلام فيه ، وكلامنا هنا في الاستدلال بالرّواية.

__________________

(١) «تهذيب الأحكام» : ٦ / ٢٤٤ كتاب القضايا والأحكام باب ١ ح ٦.

١٠٥

وثانيا نقول : يمكن أن يقال : إنّه يظهر من التأمّل في سير الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم وطريقة رواية الأخبار وتجويزهم رجوع النّاس الى أصحابهم ورخصتهم لأصحابهم في الأحكام بمجرّد أنّهم علّموهم طريقة الجمع بين مختلفات الأحاديث واستخراجهم الفروع عن الأصول مع أنّهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ والنّسيان والاشتباه ، أنّهم كانوا راضين بعلمهم بظنون [بعملهم بظنونهم] الحاصلة من تلك الطّرائق. ودعوى أنّهم بعد جميع ذلك كانوا قاطعين بالحكم الشّرعيّ ولم يكن عندهم احتمال الخطأ ، مجازفة من القول.

فعلى هذا ، فيمكن حمل العلم والمعرفة في الرّوايتين على ما يشمل الظنّ ، فيتمّ دلالة رواية أبي خديجة على التجزّي في الاجتهاد.

والقول بالفرق بين الظنّ الحاصل لأصحاب الأئمة عليهم‌السلام دون الموجودين في زمان الغيبة اعتساف ، سيّما والاضطرار في هذا الزّمان الى العمل بالظنّ أشدّ ، لكون حصول العلم فيه أبعد.

احتجّ المانعون بوجهين :

الأوّل : لزوم الدّور ، وقرّروه على وجوه نذكر بعضها.

فمنها : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّي في المسائل موقوفة على صحّة اجتهاده في جواز التّجزّي ، وصحّة اجتهاده في هذه المسألة ـ أعني جواز التجزّي ـ موقوفة على صحّة اجتهاده في المسائل ، إذ هذه أيضا من المسائل المجتهد فيها ، ورجوعه في ذلك الى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا ، لكنّه خلاف المفروض إذ المراد إلحاقه بالمجتهد أوّلا ، وهذا إلحاق به بالمقلّد بالذّات وإن كان إلحاقه بالمجتهد بالعرض.

وفيه : أنّ محلّ النّزاع جواز اجتهاد المتجزّي في المسائل الفرعيّة.

١٠٦

فنقول : جواز اجتهاد المتجزّي في المسائل الفقهيّة موقوف على صحّة اجتهاده في مسألة جواز التجزّي في الاجتهاد ، وجواز الاجتهاد في هذه المسألة لا يتوقّف على صحّة اجتهاده في المسائل الفرعيّة ، بل هو إنّما يتوقّف على صحّة دليله الذي استدلّ به في إثبات هذه المسألة الأصوليّة ، واجتهاده الحاصل بهذا الاستدلال ليس اجتهادا منه في المسائل الفقهيّة ، بل اجتهاد منه في المسائل الأصوليّة ، ولا خلاف في جوازه كما يظهر من المحقّق البهائي رحمه‌الله وغيره.

ووجهه أنّ مناط الاستدلال فيها هو العقل واستقلال العقل في إدراك كلّ مسألة بدون ملاحظة مسألة أخرى بحيث يجزم بعدم المعارض ممّا لا يمكن إنكاره ، نظير الاجتهاد في المسائل الحكميّة مع أنّه لا يلزم أن يكون المتجزّي متجزّيا في الأصول ، وإنّما يتمّ حينئذ إطلاق المتجزّي إذا لاحظنا جميع مسائل الأصول والفروع ، وجعلنا مسألة جواز الاجتهاد في المتجزّي جزء من المجموع.

وأنت خبير بأنّه لا ملازمة بين التّجزّي في الفروع والتّجزّي في الأصول ، فإنّا نفرض كونه مجتهدا في جميع مسائل الأصول ، فنفرض أوّلا علم الأصول علما مستقلّا ونثبت فيه الاجتهاد المطلق في هذا العلم ، ولمّا كان علم الفقه متوقّفا على معرفة أشياء أخر غير هذا العلم ، فيمكن عدم الاقتدار على الاجتهاد في جميع مسائلها مع كونه مجتهدا في جميع مسائل الأصول.

وحاصل الكلام ، أنّ جواز التّجزّي في الفروع موقوف على صحّة الاجتهاد في مسألة جواز التّجزّي في الفروع ، وصحّة اجتهاده في هذه المسألة موقوفة على صحة الاجتهاد في هذه المسألة الأصولية ، سواء كان متجزّيا في المسائل الأصوليّة أو مجتهدا مطلقا فيها ، فلا دور ، وأنت خبير بأنّ نظير ما ذكره المانع يجري في المجتهد المطلق أيضا.

١٠٧

فإنّا نقول : جواز اجتهاده في المسائل موقوف على جواز اجتهاده في مسألة أنّه يجوز له الاجتهاد ، وجواز اجتهاده في هذه المسألة أيضا يتوقّف على جواز اجتهاده في المسائل ، إذ هذه أيضا مسألة من المسائل.

وطريق الدّفع : أنّ جواز الاجتهاد في جواز الاجتهاد من المسائل الكلاميّة أو الأصوليّة ، فتوقّف جواز اجتهاده في الفروع على جواز اجتهاده في مسألة الأصول ، أعني الاجتهاد في جواز الاجتهاد لا يستلزم الدّور.

ودفعه : بأنّ ذلك يثبت بالإجماع والضّرورة غير صحيح ، لما بيّنا من كون دليله أيضا ظنّيّا في أكثر أفراده.

نعم ، يمكن ذلك في إثبات أصول الدّين بأن يقال : إنّ وجود الصّانع ممّا ثبت بحكم العقل ، وحجّية حكم العقل ثبت بالضّرورة ، فتأمّل.

ومنها : أنّ اعتماد المتجزّي على ظنّه بدليله الظنّي تعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ ، بأن نقول : اعتماد المتجزّي بظنّه الحاصل من اجتهاده في المسائل يتوقّف على جواز عمله بظنّه الحاصل من اجتهاده في مسألة جواز التّجزّي.

ويظهر جوابه ممّا مرّ ، إذ جواز الاجتهاد في مسألة جواز التّجزّي من المسائل الأصوليّة الثّابتة صحّتها بدليل ، وتوقّف أحد الظنّين على الظنّ الآخر ليس بدور ، وقد يقرّر هذا الاستدلال على وجه لزوم التسلسل.

وجوابه : أنّ الظنّ الموقوف عليه هو الظنّ الحاصل في المسألة الأصوليّة ، ولا مناص عن العمل به ، فلا يحتاج الى دليل آخر لانتهائه الى القطع ، وهو انسداد باب العلم وانقطاع السّبيل إلّا إلى الظنّ.

ومنها : أنّ علم المتجزّي بصحّة عمله على ظنّه ، والدّليل الظّنّي الدالّ على مساواته للمجتهد المطلق موقوف على علمه بقبول الاجتهاد للتّجزية ، وهذا

١٠٨

موقوف على علمه بصحّة عمله على ظنّه ، وإن شئت بدّلت العلم بالظنّ.

وفيه : أنّ الدّليل الظنّي في المقدّمة الأولى إن كان عطفا تفسيريّا لظنّه وكان المراد أنّ جواز اجتهاده في جواز التّجزّي موقوف على علمه أو ظنّه بقبول الاجتهاد للتّجزية ، يعني بجواز التّجزّي في الاجتهاد. فإن أراد من جواز التّجزّي في الموقوف عليه التّجزّي في المسألة الأصوليّة ، فلا مغايرة بين الموقوف والموقوف عليه ، فلا معنى للدّور ، وإن اراد جواز التّجزّي في الفروع ، فلا نسلّم التوقّف ، كما هو واضح.

وكذلك إن أراد التّجزّي في كليهما وإن لم يكن عطفا تفسيريّا ، ويكون المراد من ظنّه الظنّ في الفروع ، ومن الدّليل الظنّي الدّليل على جواز التّجزّي الذي هو مسألة أصولية ، فإن أريد من قبول التّجزّي في الموقوف عليه التّجزّي في الفروع ، فلا نمنع التّوقّف في المعطوف وتنتفي (١) المغايرة في المعطوف عليه ، وإن أريد التّجزّي في الأصول وبالعكس.

ويظهر ممّا ذكر حكم ما لو أريد كلاهما أيضا ، لانتفاء المغايرة حينئذ أيضا.

الثاني : حرمة العمل بالظنّ ، خرج ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع والضرورة وبقي ظنّ المتجزّي تحت المنع.

والجواب عنه : منع عموم حرمة العمل بالظنّ وشموله لما نحن فيه ، لما مرّ مرارا.

سلّمنا ، لكنّه فيما لم ينسدّ باب العلم والمفروض انسداده ، والمفروض منع رجحان تقليد المجتهد المطلق حتّى يقال : غاية الأمر انحصار الأمر في الظنّ ، ومع

__________________

(١) في نسخة الأصل (ينتفي).

١٠٩

رجحان أحدهما فهو مقدّم.

ثمّ قد يستشكل في دعوى الإجماع والضّرورة على حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، أمّا الإجماع فلأنّ ذلك ليس من المسائل المسئول عنها عن أئمّتنا عليهم‌السلام حتّى يعرف من اجتماع أصحابهم عليهم‌السلام عليه موافقته لرأيهم عليهم‌السلام كما هو المناط في الإجماع عندنا.

وأمّا الضّرورة ، فلأنّ العمل بالظنّ ليس من الضّروريّات الصّرفة التي لا يحتاج الى واسطة بالبديهة.

وإن أريد أنّه بعد انسداد باب العلم فالعمل بالظنّ الناشئ عن الدّليل عند دوران بينه وبين التقليد ضروريّ ، فهو حسن لكن لا اختصاص له بالمجتهد المطلق ، بل المتجزّي أيضا يأخذ بالدّليل.

أقول : ويمكن الجواب عن الأوّل بوجهين :

الأوّل : إنّ مرادهم من دعوى الإجماع ، لعلّه إجماع العقلاء وأهل العدل من جهة أفهامهم النّاشئة عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم يكن ظنّه حجّة من جهة بقاء التكليف وانسداد باب العلم كما هو المفروض ، وهذا الدّليل وإن كان إنّما يثبت حجّية الظنّ بالحكم الشّرعيّ من حيث إنّه ظنّ به ، لا خصوص ظنّ المجتهد من حيث هو ، لكنّه يكفينا في هذا المقام ، لأنّ المستدلّ لم يرد إلّا جواز ذلك ، لا تعيّنه ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّه بالنّسبة الى نفسه والى مقلّده لمّا كان أرجح ، فتركه الى غيره ترجيح المرجوح ، وقبحه أيضا إجماع العقلاء ، ولكن هذا يرجع الى دعوى الضّرورة ببعض معانيها الآتية.

والثاني : إنّ المراد هو الإجماع المصطلح ، ولا مانع منه ، ويمكن إثباته بوجهين :

١١٠

الأوّل : أنّ من تتبّع سير الصّحابة والتابعين ورجوع بعضهم الى بعض وتقرير أئمّتهم عليهم‌السلام ذلك وتجويزهم الرّجوع الى أصحابهم وتقريرهم على طريقتهم في فهم مطالبهم ، والجمع بين أخبارهم المختلفة ، وأمرهم بالجمع بالقواعد الملقاة بينهم التي لا يمكن التفريع عليها والعمل بها إلّا مع الاعتماد بظنونهم في فهم موافقة الكتاب ومخالفته ، وموافقة المشهور ومخالفته ، وكذلك معرفة الأعدل والأفقه الذي لا ينفكّ عادة عن لزوم معرفة العامّ عن الخاصّ وطريق التخصيص ، ومعرفة الإطلاق والتقييد والأمر والنّهي ، والمجمل والمبيّن ، والمنطوق والمفهوم بأقسامها ، وغير ذلك من المباحث المحتاج إليها ، فبعد ملاحظة ذلك ، يحصل له القطع برضا أئمّتهم عليهم‌السلام بما يتداولون بينهم من الطّريقة ، بل هذه الطّريقة يثبت حجّية ظنّ المتجزّي أيضا ، كما أشرنا سابقا ، فكيف بالمطلق.

والثاني : أنّ الكلام هنا في مقام تجزّي الاجتهاد وإطلاقه لا في طريقة الأصوليّ والأخباريّ وغيرهما ، وحينئذ فنقول : اتّفاق العلماء في كلّ عصر ومصر من زماننا مترقّبا الى زمان أئمّتهم عليهم‌السلام بحيث لم يعرف منكر يعتمد بقوله على جواز عمل المستنبط القادر على تحصيل كلّ الأحكام بقوّته الحاصلة لذلك ومتابعة مقلّده له ، بل لزوم ذلك ووجوبه يكشف عن أنّ ذلك كان من جهة رخصة من جانب أئمّتهم عليهم‌السلام ، فهذا هو من مصاديق الإجماع المصطلح ، كما حقّقناه في مبحثه ، ولا ينحصر تحقّق الإجماع فيما كان المسألة ممّا يتداوله أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ويسألونه عن أئمّتهم عليهم‌السلام.

وأمّا الجواب عن الثاني : فأمّا أوّلا : فبإمكان إرادة ضرورة الدّين بتقريب ما ذكرنا أخيرا في الإجماع ، بدعوى أنّ هذه الطّريقة المستمرّة أفادت رضى صاحب الشّرع بذلك بديهة.

١١١

وأمّا ثانيا : فبإمكان إرادة بديهة العقل بعد ملاحظة الوسائط ، أعني بقاء التكليف وانسداد باب العلم وقبح تكليف ما لا يطاق ، ولكنّ ذلك لا يفيد إلّا جواز العمل به من حيث إنّه ظنّ ، ولا يفيد تعيينه ، وقد عرفت كفايته في المقام.

وما ذكر في الاعتراض من تسليم ذلك وتحسينه لأجل أنّه يعتمد على الدّليل ، فليس بشيء ، لأنّه حينئذ ليس بضروريّ لاحتياج إبطال التقليد حينئذ الى الاستدلال.

نعم ، ما ذكره يصير مرجّحا لاختبار الاجتهاد للمجتهد المطلق على التقليد ، ولا يفيد الضّرورة.

ومقتضى ما ذكره كون جواز التّجزّي أيضا بديهيّا مطلقا وهو كما ترى ، إذ ترجيحه على تقليده لمثله إن سلّم ، فلا نمنع ترجيحه على تقليده للمجتهد المطلق ، بل يحتاج ذلك الى الاستدلال ، وليس بضروريّ.

وأمّا ثالثا : فبإمكان إرادة الاضطرار ولا احتياج من الضّرورة ، ووجهه يعلم ممّا سبق.

١١٢

قانون

التّقليد في اللّغة تعليق القلادة. قال في «الصّحاح» (١) : القلادة : التي في العنق ، وقلّدت المرأة فتقلّدت هي ، ومنه التّقليد في الدّين ، وتقليد الولاة الأعمال.

وقال علماء الأصول كالعضدي وغيره : هو العمل بقول الغير من غير حجّة ، كأخذ العامّيّ والمجتهد بقول مثله.

قال العضديّ : وعلى هذا فلا يكون الرّجوع الى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقليدا له ، وكذا الإجماع ، وكذا رجوع العامّيّ الى المفتي ، وكذا رجوع القاضي الى العدول في شهادتهم ، وذلك لقيام الحجّة لقول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجزة ، والإجماع بما مرّ في صحّته. وقول الشّاهد والمفتي بالإجماع ولو سمّي ذلك أو بعض ذلك تقليدا ، فلا مشاحّة في التّسمية والاصطلاح.

أقول : وعلى هذا فيشكل قولهم : يجوز التّقليد في الفروع ولا يجوز في الأصول ، بأنّ المراد من لفظ التّقليد هنا إن كان ما ليس عليه دليل ، فكيف يجوز في الفروع ، وإن كان ممّا يثبت عليه دليل ، فكيف لا يجوز في الأصول؟

والمناص عنه أن يجعل التّقليد هنا مجرّد الأخذ بقول الغير مع قطع النّظر عن القيدين ، فمآله الى أنّ أخذ قول الغير في الأصول هو التّقليد الاصطلاحيّ ، أعني الأخذ من غير دليل.

ووجه عدم جوازه هو عدم الدّليل أو الدّليل على العدم ، وقبوله في الفروع ليس به ، بل هو ما أطلق عليه التّقليد أيضا باصطلاح جديد وهو الأخذ ممّن قام الدّليل

__________________

(١) ٢ / ٥٢٧.

١١٣

على جواز الأخذ عنه.

ثمّ يشكل المقام في قولنا : إنّ بعد جواز التّقليد في الفروع فإنّما يتعيّن المجتهد العادل للتقليد ، ولا يجوز تقليد غيره ، فإنّ ذلك في معنى أنّ هذا القسم من الأخذ بقول الغير مخرج عن التّقليد على الاصطلاح الأوّل ، لأنّه عمل بقول الغير بالدّليل ولذلك يجوز ، وأمّا غيره فهو بقول الغير من غير دليل فلا يجوز.

وفيه : أنّك قد عرفت سابقا أنّ أخذ العامّيّ من مثله قد يكون من جهة حجّة من عنده وأنّه مكلّف به حينئذ ، فيكون هو مثل تقليد للمجتهد [المجتهد] واعتبار كون الدّليل على الأخذ دليلا في نفس الأمر لا عند المكلّف ، لا يتمّ للزوم الظّلم في الفرق بين المكلّفين الآخذين أحدهما بقول المجتهد والآخر بقول غيره مع عدم معرفة كليهما بوجوب الأخذ من المجتهد ، وعدم أخذ الآخذ من المجتهد من جهة الدّليل ، بل أخذه رجما بالغيب أو بمظنّة أنّه أيضا مثل العامّيّ الآخر الذي أخذ منه الآخر. واعتبار أن يكون الدّليل دليلا عنده وفي نفس الأمر كليهما في جواز التّقليد أيضا ممّا لم يدلّ عليه دليل ، كما مرّ وسيجيء.

ويمكن رفع هذا الإشكال بتخصيص النّزاع في الصّورة التي زالت (١) الغفلة بالمرّة وحصل الشّك في الصحّة ، وهو مخصوص بالعلماء والأذكياء كما سنشير إليه ، ولكنّ كلماتهم مطلقة ، ولم نقف على تفصيل في كلامهم ، إلّا أن يقال : اعتمدوا في التّقييد على أصولهم المقرّرة النّافية للظّلم المثبتة للعدل.

وكيف كان ، فالمشهور بين علمائنا المدّعى عليه الإجماع أنّه يجوز لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد التّقليد للمجتهد في المسائل الفرعيّة ، بمعنى أنّه لا يجب على كلّ

__________________

(١) في نسخة الأصل (زال).

١١٤

مكلّف الاجتهاد عينا ، بل هو كفائيّ.

قال في «الذّكرى» : وعليه أكثر الإماميّة ، وخالف فيه بعض قدمائهم وفقهاء حلب فأوجبوا على العوامّ الاستدلال ، واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة الى الوقائع أو النّصوص الظّاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته والنّصوص محصورة. انتهى.

وقال بعض البغداديين من المعتزلة : إنّما يجب على العامّيّ أن يسأل العالم بشرط أن يتبيّن له صحّة اجتهاد المجتهد بدليله.

والحقّ ، الجواز مطلقا ، سواء كان عاميّا بحتا أو عالما بطرق من العلوم للإجماع المعلوم بتتبّع حال السّلف من الإفتاء والاستفتاء وتقريرهم وعدم إنكارهم والمدّعى في كلماتهم.

وصرّح بالإجماع السيّد المرتضى رحمه‌الله ، وغيره من علماء الخاصّة والعامّة.

قال في «الذكرى» بعد ما نقلنا عنه : ويدفعه إجماع السّلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ، ولا تعرّض لدليل بوجه من الوجوه. انتهى.

ويدلّ عليه أيضا عموم قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وكلّ ما دلّ من الأخبار على جواز الأخذ من العلماء ، وهي كثيرة جدّا وسنذكر بعضها.

ويدلّ عليه أيضا لزوم العسر والحرج الشّديد ، بل اختلال نظام العالم إذ الاجتهاد ليس أمرا سهلا يحصل عند وقوع الواقعة ، بل يحتاج الى صرف مدّة

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

١١٥

العمر ، أو أغلبه فيه.

وأمّا ما ذكره البغداديّون فهو أيضا ضعيف ، لعموم الأدلّة. وضعف ما استندوا به من أنّ تجويز المستفتي على المفتي الخطأ يمنع من قبول قوله لعدم الأمن من الإقدام على القبيح ، وأنّه لا يجوز التقليد البحت في الأصول ، فإذا كان مكلّفا بالاجتهاد والعلم في الأصول فلا بدّ أن يكون متمكّنا منه ، وإلّا لزم التكليف بالمحال ، ومن تمكّن من الاجتهاد في الأصول فيتمكّن منه في الفروع أيضا ، لأنّها أشكل من الفروع وأكثر شبها منها.

ويرد على الأوّل ، أوّلا : منع كون مطلق تجويز الخطأ مانعا عن العمل ، وإلّا لامتنع على المجتهد لنفسه أيضا.

وثانيا : منع زوال تجويز الخطأ بذكر الدّليل كما لا يخفى.

وعلى الثاني منع كون الاجتهاد في الأصول أصعب ، فإنّها مبنيّة على قواعد عقليّة وشواهد ذوقيّة وجدانيّة يسهل إدراكها إجمالا لكلّ من التفت إليها ، وليس المطلوب فيها إلّا الدّليل الإجماليّ كما سنبيّنه ، مع أنّ مسائلها قليلة غاية القلّة في جنب الفروع ، وأدلّة الفروع جزئيّات متفرّقة متشتّتة ، وأكثرها مبنيّة على مدلولات خفيّة محفوفة باختلافات واختلالات لا يرجى زوالها في كثير منها.

ثمّ قال في «الذكرى» بعد العبارتين السّابقتين : وما ذكروه لا يخرج عن التّقليد عند التّحقيق ، وخصوصا عند من اعتبر حجّية خبر الواحد ، فإنّ في البحث عنه عرضا عريضا.

أقول : والظّاهر أنّ مراده أنّ الرّجوع الى إجماع العلماء والى النّصوص وغيرهما كما ذكروه ، مبنيّ على صحّة الاستدلال بالإجماع والنّصوص ، وهو من

١١٦

المسائل الاجتهادية ، سيّما إذا كانت (١) النّصوص من أخبار الآحاد التي فيها المعركة العظمى ، فلا يجوز الاعتماد على الإجماع والنّصوص إلّا بعد الاجتهاد في حجّيتهما وجواز العمل عليهما ، فإذا اعتمد في ذلك على العلماء ، فهو تقليد ، وإن كان يجتهد في ذلك أيضا فلا فرق بينهم وبين المجتهد ، مع أنّ ظاهرهم أنّهم يفرّقون ، حيث قال : واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الى آخره.

وكيف كان فالمسألة واضحة ، وضعف القولين أظهر من إن يبيّن.

نعم ، هاهنا كلام آخر وهو أنّ إثبات جواز التّقليد للعامّيّ في الفروع أو وجوب الاجتهاد من المسائل النّظريّة التي لا بدّ أن يجتهد فيها ، واجتهاد المجتهد فيها كيف ينفع العامّيّ ، ورجوع العامّيّ الى المجتهد فيها امّا بالتّقليد ، ففيه : أنّه يتوقّف على جواز التقليد فيه وهو دور ، نظير ما أورد على التّجزّي ، وامّا بالاجتهاد وهو خلاف الفرض.

ويمكن دفعه : بأنّ عدم وجوب الاجتهاد عليه من المسائل الكلاميّة التي لا بدّ أن يستقلّ بها المقلّد ، فلا يرجع فيها الى تقليد المجتهد ، بل يجتهد المقلّد فيها فيحكّم عقله إمّا بعدم وجوب الاجتهاد في الجزئيّات ، أو بجواز تقليده في عدم وجوب الاجتهاد ، ثمّ التّقليد فيها ، لأنّ العقل بعد التأمّل ، سيّما بعد سماعه عن العلماء ، إنّما يجوز له التّقليد لقبح التكليف بما يوجب اختلال النظام ويستلزم العسر والحرج أو المحال ؛ يحكم بعدم وجوب الاجتهاد ، فهذا أيضا اجتهاد للعامّيّ ويجب عليه الرّجوع الى اجتهاده حينئذ ، كما أنّه يرجع في جواز الرّجوع الى المجتهد حينئذ الى الكبرى الكليّة الثّابتة له من الأدلّة المذكورة مع بقاء التكليف

__________________

(١) في نسخة الأصل (كان).

١١٧

بالضّرورة ، وسيجيء الكلام في تمام المقام عند بيان لزوم النّظر في أصول الدّين للعامّيّ ، وكيفيّته ومقدار تكليفه ، فإنّ هذه المسألة حينئذ ترجع الى المسائل الأصوليّة ، والمباحث العقليّة الكلاميّة.

وممّا حرّرنا في القانون السّابق ، وما ذكرنا هاهنا تعلم أنّ هذا النّزاع إنّما هو بعد زوال الغفلة والجهالة الحاصلة في المراتب الأول من [الأوّل عن] التّكليف الى أن يحصل له الإشكال في أنّه هل يجب عليه الاجتهاد في جزئيّات المسائل أو يجوز له التقليد فيها ، وذلك إنّما هو لمن حصّل حظّا وافرا من العلم أو أوتي قسطا عظيما من الفطنة والذّكاء ، سيّما بعد التّنبيه بمجالسة العلماء والاستماع منهم ، فعلم القول بوجوب الاجتهاد في الفروع للعوامّ أيضا لا بدّ أن يخصّ الكلام بما بعد التّفطّن لذلك ، لا في حال الغفلة.

هذا هو الكلام في العامّيّ ، وأمّا المجتهد فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين إجماعا إذا اجتهد في المسألة.

وأمّا قبل الاجتهاد في المسألة ، ففيها أقوال : الجواز مطلقا ، وعدمه مطلقا ، والتفصيل بتضييق الوقت ، وعدمه ، والتفصيل بما يخصّه وما لا يخصّه من الأحكام ، والتفصيل بتقليد الأعلم منه وغيره ، والتفصيل بتقليد الصّحابيّ وغيره.

دليل المجوّز مطلقا ، عموم قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وفيه : أنّ المجتهد في غير حال الضّيق ليس ممّن لا يعلم ، بل الظّاهر أنّه من أهل الذّكر وأهل العلم الذي في مقابل غير العالم.

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

١١٨

ودليل المانع مطلقا : وجوب العمل بظنّه إذا كان له طريق إليه إجماعا ، خرج العامّيّ بالدّليل وبقي الباقي.

وفيه : منع الإجماع فيما نحن فيه ، ومنع التمكّن من الظنّ مع ضيق الوقت.

فظهر أنّ الأقوى الجواز مع التّضييق واختصاص الحكم به ، أمّا عدم الجواز في غيره ، فلأنّ ظنّه أقوى من الظنّ الحاصل بالتّقليد ، إذ احتمال الخطأ في اجتهاد نفسه من وجه ، وفي اجتهاد من يقلّده من وجهين ، إذ احتمال الخطأ في الاجتهاد وفي إخباره عن نفسه أنّه ممّا اجتهد فيه صحيحا ، بخلاف اجتهاد نفسه فإنّه يعلم بأنّه مظنونه.

ومآل هذا الكلام الى عدم حصول الظنّ بفتوى المجتهد ، إذ لا معنى لحصول الظنّين في آن واحد أحدهما أقوى من الآخر ، وما قرع سمعك فيما سبق من عدم لزوم تحصيل الظنّ الأقوى للمجتهد ، بل يكفي مجرّد حصول الظنّ بعد استفراغ الوسع ، فهو معنى آخر ، لا يشتبه الفرق بينهما على المتأمّل.

وأمّا تقليد الأعلم فهو أيضا لا يجوز ، لأنّه لا يلزم من كونه أعلم عدم الخطأ في اجتهاده ، وعدم احتمال عدم كونه ممّا اجتهد فيه في الواقع.

نعم ، ربّما يكون اجتهاد الأعلم معيّنا [معينا] في اجتهاد نفسه ، مثل أن يلاحظ المجتهد المسألة ملاحظة إجماليّة والتفت الى أدلّتها على سبيل الإجمال ولم يعمّق النّظر فيها ، ولكن حصل في نظره الظنّ بأحد طرفي المسألة ، فحينئذ إذا صادف ذلك موافقة رأي المجتهد الأعلم الأورع. فقد تطمئنّ نفسه بذلك ، فيصير اجتهاد ذلك المجتهد وموافقته له من جملة أدلّة المسألة والأمارات المحصّلة للظنّ الموجبة للاطمئنان عنده.

وأمّا مجرّد اجتهاد الأعلم والأورع ، فلا يكفي.

١١٩

وتتفاوت (١) المسائل في هذا المعنى باعتبار المأخذ [و] باعتبار عموم البلوى وعدمه ، وباعتبار كونها من الأمّهات (٢) ، أو من الفروع ونحو ذلك.

وربّما يوجد في نهاية مرتبة التحصيل التردّد للمحصّل بين أن يجوز له الاعتماد على المجتهد أو يجب عليه النّظر ، وحينئذ فموافقة رأي المجتهد الأعلم يصير معيّنا [معينا] لاعتماده على نظره ، ولا يبعد حينئذ العمل عليه مع قطع النّظر عن كونه تقليدا ، بل اعتمادا على ما حصل له ، والفرق بين هذا والسّابق ، أنّ المجتهد في السّابق لا ينظر حقّ النّظر ولا يتأمّل حقّ التأمّل ، ويتمّم نظره بإعانة ، وفاق المجتهد الآخر ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه يتمّم نظره بقدر طاقته ، لكنّه لا يطمئنّ بمجرّد استفراغ نفسه ، فيتمّم حجّيته بموافقة مجتهده.

__________________

(١) في نسخة الأصل (يتفاوت).

(٢) ولو قال : أمّات لكان أفضل.

١٢٠