القوانين المحكمة في الأصول - ج ٣

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٣

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٠

الإمام عليه‌السلام فلا يريد به بيان الاصطلاح وأنّه لا يجوز إطلاق الحرام الشّرعي عليه في الاصطلاح ، بل وظيفته بيان الحكم.

وحاصله ، أنّ ذلك ليس بحرام شرعي ، فإذا لم يكن حراما فهو مباح فيرجع إلى المعنى الثاني.

فإن قلت : المراد من المعنى الأوّل بيان أنّ الحكم الظّاهرىّ للمكلّف هو الإباحة نظرا إلى أصل البراءة حتى يصل النهي ، لا أنّ حكمه الإباحة في نفس الأمر.

والمراد من المعنى الثاني بيان أنّ حكم ما لم يصل حكمه هو الإباحة لنفس الأمرية مطلقا.

قلت : لا يصحّ حمل المعنى الثاني على الإباحة الواقعيّة ، لأنّه لا يصحّ حينئذ جعله مغيّا بغاية ، ويدفعه كلمة «حتى» ، وإن اريد أنّ المكلّف لا بدّ له أن يبني على هذا حتّى يظهر له خلافه ، فهذا يرجع إلى بيان الحكم الظّاهرىّ فيرجع إلى الأوّل وليس معنى آخر.

فالتّحقيق : أنّ المعتبر في الدّلالة هو الظّاهر لا التأويل ، وقوله عليه‌السلام : مطلق ، مساوق لقوله : مباح. ولمّا كان العقل يحكم بقبح إباحة القبيح فما تدركه (١). عقولنا بأنّه قبيح لا يجوز أن يبيحه الشّارع ويرخّص فيه كما بيّنا سابقا ، ومنع إدراك العقل لعلّة القبح قد عرفت فساده ، وانّ كلامنا على فرض إدراكه ، فتخصّص الحديث (٢) بما تدركه العقول أو تعمّم النّهي.

__________________

(١) مبتدأ والخبر ولا يجوز الآتي.

(٢) لا يقال : إنّ تخصيص العموم وتعميم النّهي كلاهما خلاف الظّاهر ، وقد ذكروه آنفا انّ المعتبر في الدّلالة هو الظاهر لا التأويل ، لأنّه نقول إنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره ـ

٢١

فإن قلت : إنّ إطلاق الرّخصة فيما لا يدركه العقول أيضا يوجب الرّخصة في القبيح في الجملة ؛ إذ القبيح النّفس الأمريّ قبيح في نفس الأمر وله خاصّيّة ذاتيّة توجب تأثيرا كالسّمّ.

ولا ريب أنّ في جملة ما لم يرد فيه نصّ ولم يصل إلى المكلّف بعد مقابح ، فكيف يحكم الشّارع بالرخصة في جميعه.

قلت : بعد ما قدّمنا لك في مباحث الأخبار في مقام بيان أنّ الشّارع اكتفى عن المخاطبين بما يفهمونه بظنّهم وإن لم يكن موافقا للواقع لا يبقى لك مجال لهذا البحث فراجع ثمة ، وما يوافق هذا الخبر من رخصة تعاطي ما فيه حلال وحرام حتّى يعرف الحرام بعينه ، وترخيصه أخذ اللّحوم والجلود من سوق المسلمين ، وترخيصه أكل طعام أهل الكتاب من غير اللّحوم ، ونحو ذلك في غاية الكثرة.

والجواب عن الكلّ واحد ، فإنّ الحسن والقبح قد يكون بالوجوه والاعتبارات ، فتأثير الأشياء تابع لتلك الوجوه ، مثل تفاوت الأشخاص والأزمان والأمكنة ، وحال العلم والجهل وغيرهما. وقد يتدارك تأثير التسمية بترياق الإتيان من باب التسليم والانقياد والامتثال بحكم الله الظّاهرىّ.

وثالثها : أنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : إنّ التكليف فيما يستقلّ به العقل لطف ،

__________________

ـ إن كان لقرينة لفظية ظاهرة كانت أو عقلية لا تخرج الدّلالة عن الظهور ، بل يكون الظاهر حينئذ ما دلّت عليه القرينة ، فإنّ أسدا وإن كان ظاهرا في الحيوان المفترس إلّا إلّا أنّه مع قولك يرمي ليس ظاهرا فيه ، بل ظاهر في غيره ، وبعد ما بيّن انّ الشارع لا يجوز منه أن يبيح ما أدرك العقل قبحه يكون الخبر ظاهرا فيما ذكره من خصوص صدره أو عموم ذيله كما في حاشية الملا محمد تقي الهروي.

٢٢

يعني أنّ انضمام التكليف الشرعي بالتكليف العقلي (١) بمعنى تواردهما معا لطف ، كما أنّ مطلق التكليف السّمعي لطف فيما لا يستقلّ به العقل ، والعقاب بدون اللّطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشّرع نصّ لعدم اللّطف فيه حينئذ.

أقول : سلّمنا وجوب اللّطف ، لكن وجوب كلّ لطف ممنوع (٢) ، إذ كثير من الألطاف مندوبة ، فإنّ التكليفات المندوبة أيضا لطف في المندوبات العقلية أو مؤكّدة للواجبات العقلية (٣) ، وقد يكتفى في اللّطف بالتكليف بسمعيّ لا يستقلّ به

__________________

(١) أريد بالتكليف الشرعي الايجاب والتحريم الشرعيين اللّذين يدركهما العقل بعد إدراكه الوجوب والحرمة العقليين بالمعنى المرادف للحسن والقبح ، لا ما هو مفاد الخطاب اللّفظي وإلّا لعبّر عنه بالتكليف السمعي كما عبّر به فيما بعد. وعلى هذا فالوجه المذكور دليل لنا لا علينا. والسرّ في ذلك انّ هذا الكلام من أصحابنا والمعتزلة إنمّا قصد به إثبات الملازمة بين حكم العقل والحكم الشّرعي بقا عدة اللّطف ، فكيف يستدلّ به لنفي الملازمة. وممّا يرشد الى ذلك أيضا انّ جمهور العدلية جعلوا الايجاب والتحريم الشرعيّين لطفا في الواجبات والمندوبات العقلية ولم يقصدوا بذلك انّه لا بد وان يكون بخطاب لفظيّ حتى في المستقلّات ، لأنّ غاية ما ذكروه كون الإيجاب والنّدب بالمعنى المتضمّن للطلب الفعلي لطفا ، وهذا أعمّ من أن يكون مدلولا عليه بالعقل وبخطاب الشّرع هذا كما أفاده السيد القزوينى في حاشية.

(٢) يعنى ان قولهم بوجوب اللّطف إنّما يسلم على طريقة القضيّة المهملة التي هي في قوّة الجزئيّة ، بل على طريقة الجزئيّة الخاصّة ، فإنّ اللّطف منه ما هو واجب ومن جملته التكليف السّمعي فيما لا يستقل به العقل ، ومنه ما هو مندوب ، ومن جملته التكليف السمعي فيما يستقل به العقل ، فبطل بذلك ما أطلقه المستدلّ من أنّ العقاب بدون اللّطف قبيح فإنّه إنّما يسلّم في الألطاف الواجبة لا المندوبة. كما في حاشية السيد القزويني أيضا.

(٣) وقد تعرّض لهذا القول في «الفصول» ص ٣٤٥ وقوله أو مؤكدة مرفوع عطفا على ـ

٢٣

العقل لا بنفس التكليف العقليّ كما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١).

فوجوب كل الألطاف إذا لم يثبت ، فإن أراد من قوله : إنّ العقاب بدون اللّطف قبيح قبحه مع عدم شيء من الألطاف فسلّمناه ، لكن اللّطف لا ينحصر في توافق التكليف السّمعي وتوارده مع التكليف العقلي ، وانتفاء المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية بدون ذلك ممنوع ، إذ البلاء والمرض والموت وأمثال ذلك ، وكذلك سائر التكاليف السّمعية كلها لطف.

مع أنّا نقول : إنّ بعث الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب من الألطاف البالغة ، ومع ذلك فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمتابعة العقل وورود الكتاب بذلك كاف في التقريب والتبعيد ولا حاجة إلى الحكم الخاصّ بما يوافق مدركات العقل.

__________________

ـ قوله : لطف ، يعني إنّ التكليف النّدبي بالمندوبات العقلية مؤكد للواجبات العقلية ، وهذا قريب من ما ذكره المحقق الثاني في «جامع المقاصد» في بيان نيّة وجه الوجوب والنّدب في الوضوء حيث قال : المراد بوجه الوجوب والنّدب السّبب الباعث على ايجاب الواجب وندب المندوب فهو على ما هو قرّره جمهور العدليين من الإمامية والمعتزلة انّ السّمعيات ألطاف في العقليات ، ومعناه انّ الواجب السّمعي مقرّب من الواجب العقلي أي امتثاله باعث على امتثاله ، فإنّ من امتثل الواجبات السّمعية كان أقرب الى امتثال الواجبات العقلية من غيره ، ولا معنى للّطف إلّا ما يكون المكلّف معه أقرب الى الطاعة ، وكذا النّدب السمعي مقرّب من الندب العقلي أو مؤكدا لامتثال للواجب العقلي فهو زيادة في اللّطف والزّيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا. ولا نعني أنّ اللّطف في العقليات منحصر في السّمعيات فإنّ النّبوة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد ، بل جميع الآلام تصلح للألطاف فيها ، وإنّما هي نوع من الألطاف.

(١) العنكبوت : ٤٥.

٢٤

فقوله : فلا يجوز العقاب ... الخ ؛ إن أراد عدم نصّ أصلا ، فعلى فرض تسليم أصل المسألة نسلّمه ، ولكن النصّ على لزوم مطلق متابعة العقل موجود.

وإن أراد عدم نصّ خاص يرد على ما يستقلّ به العقل فلزومه ممنوع ، وكذا عدم جواز العقاب حينئذ ممنوع.

ثم اعلم أنّ ما ذكرنا من حكم ما يستقلّ بإدراكه العقل وأنّه دليل الشّرع إنّما كان مبنيّا على القول بأنّ العقل يدرك الحسن والقبح كما هو مذهب العدليّة وأكثر العقلاء ، وحكمهم بإدراكه إنّما هو على طريق الإيجاب الجزئيّ.

فإنّ بعض الأشياء ممّا يدرك حسنها وقبحها بالضّرورة كالصّدق النافع والكذب الضارّ ، وبعضها بالنظر كقبح الصّدق الضارّ وحسن الكذب النّافع.

وبعضها ممّا لا يدرك العقل فيه شيئا ، والأشاعرة يقولون بعدم إدراكه على طريق السّلب الكلّي.

ثم إنّهم بعد التّنزّل والمماشاة ناظروا مع القائلين به في الأشياء الغير الضّرورية للتّعيّش ، كالتنفّس في الهواء ، وشرب الماء عند العطش الشّديد قبل ورود الشّرع مع وجود النّفع فيها كشمّ الطّيب ، وأكل الفاكهة ، وقالوا : بأنّ العقل لا يدرك فيها شيئا.

واختلف القائلون بالتّحسين والتّقبيح (١) : فوافقهم بعضهم.

وذهب آخرون الى الحظر.

__________________

(١) فقد اختلف القائلون بالتّحسين والتّقبيح والمنكرون لهما بعد التّنزّل في حكمه قبل ورود الشّرع فذهب الأكثرون الى الإباحة ، وآخرون الى الحظر ، وذهب الحاجبي إلى أنّه لا حكم فيه أصلا ، وتوقف شيخ الأشاعرة ، وفسّر تارة بعدم العلم بالحكم وأخرى بعدم الحكم.

٢٥

وتوقّف بعضهم.

وذهب الأكثرون الى أنّ العقل يدرك إباحتها ، فيكون دليلا على الإباحة الشرعيّة(١).

ويظهر من ذلك أنّ ما هو المسلّم عند كلّ القائلين بالتّحسين والتّقبيح العقليّين ، والمتّفق عليه بينهم ، إنّما هو الأحكام الأربعة في الجملة ، وليس عندهم شيء مباح عقليّ كان متّفقا عليه بينهم (٢) إذ الحكم بالإباحة العقلية موقوف على حكم العقل باستواء الفعل والترك في المصلحة والمفسدة ، بأن لا يكون في شيء منهما مصلحة ولا مفسدة ، فإذا كان مثل أكل الفاكهة وشمّ الطيب من الخلافيّات بينهم ؛ فأيّ شيء يبقى بعد ذلك لأن يحكموا عليه بالإباحة بالاتّفاق.

فما لا منفعة فيه (٣) أصلا مثل تحريك اليد بلا جهة ولا داع ، ومضغ الخشب والنّبات الغير اللّذيذ ، لا حكم للعقل فيها عند الكلّ (٤) ، ولذلك عقدوا مسألة التنزّل

__________________

(١) لمزيد من المعرفة في المقام راجع «الفصول» ص ٣٤٦ و «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٤ ، و «المحصول» ١ / ٥٤.

(٢) وقد استدل على ضعف هذا القول في «الفصول» ص ٣٤٦.

(٣) وقد علق هذا الكلام صاحب «الفصول» فيه عند بحثه الى انقسام الفعل بالتّحسين والتّقبيح الى ما يستقل العقل بإدراك حسنه او قبحه ، والى ما لا يستقل به فقال : وكأنّهم أخذوا القيد المذكور من الحجّة المعروفة للقائلين بالإباحة حيث اعتبروا في الفعل اشتماله على المنفعة والأقرب عندي أن يحمل المنفعة المأخوذة في الدليل على منفعة ما أعني موافقة القصد والدّاعي سواء سميت عرفا منفعة أو لا ومرجعها الى ما يمتنع بدونها صدور الفعل الاختياري ، وبهذا يحصل التّوفيق بين الدّليل والعنوان ، وحمل كلام المعتبرين لهذا القيد في العنوان على ذلك تعسّف واضح.

(٤) والاتفاق الذي حكاه المصنّف على أنّه لا حكم فيما لا يشتمل على المنفعة فكأنّه ـ

٢٦

فيما يشتمل على منفعة ، وما هو من ضروريّات العيش ، يحكم العقل بالرّخصة فيها اتّفاقا ، بل بوجوبها ، لأنّ تركها موجب لقتل النفس القبيح عقلا ، المنافي لغرض الخالق من خلقه ، ولذلك لم يختلف فيه القائلون بإدراك الحسن والقبح للعقل.

وممّا ذكرنا (١) ظهر ما في كلام الفاضل الجواد رحمه‌الله حيث قال : الأشياء الغير الضروريّة عند المعتزلة قسمان : ما يدرك العقل حسنها أو قبحها ، وينقسم الى الأحكام الخمسة ـ الى أن قال ـ : وما لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها ، ولكنّها ممّا ينتفع بها ، كشمّ الطّيب وأكل الفاكهة مثلا ، فهذا قبل ورود الشّرع ممّا اختلف في حكمها ... الى آخر ما ذكره (٢).

وتبعه في هذه الغفلة (٣) بعض الأفاضل ممّن تأخّر عنه أيضا.

والمختار قول الأكثر من الحكم بالإباحة ، لأنّها منفعة خالية عن أمارة المفسدة

__________________

ـ وقع سهوا من قلمه ، لأنّ من قال بالحظر في المشتمل على المنفعة كيف يقول بأن لا حكم فيما لا يشتمل على المنفعة وإنّما يلزمه بطريق الأولوية القول بالحظر.

(١) قال ليس عندنا مباح عقلي وهذا الفاضل يقول بوجود مباح عقلي.

(٢) ما يظهر من المصنّف أنّ ما فعله الفاضل الجواد شيء ابتكره هو ولم يسبقه غيره إليه ، بل تبعه بعض بعده وانّه غفلة صدرت منه ليس كذلك ، بل هو رحمه‌الله كشيخه البهائي وغيره تبعوا السّابقين. قال العضدي : قد قسّم المعتزلة الأفعال الاختيارية الى ما لا يقضي العقل فيها لحسن ولا قبح ولهم فيها ثلاثة مذاهب الحظر والإباحة والوقف ، وهو ينقسم الى الإقسام الخمسة المشهورة انتهى ، ومثله عن العلّامة والآمدي وغيرهما ، بل قد يستظهر كونه محل اتفاق المخالف والمؤالف وليس فيما ذكروه غفلة ، ولا يرد عليهم ما أورده من التّناقض كما ستعرف ان شاء الله تعالى. كما أفاد ملا محمد تقي الغروي في حاشيته.

(٣) وقد ردّ هذه الغفلة في «الفصول» ص ٣٤٦ ، واعتبر بأن ذلك الرّأي لم ينفرد به الشّارح الجواد ، بل هو متداول بين القوم.

٢٧

العاجلة والآجلة ، والإذن من الله تعالى شأنه في التصرّف معلوم عقلا ، لأنّ ما يتصوّر من جانبه من المانع إنّما هو التضرّر ، وهو منتف قطعا كالاستظلال بحائط الغير ، والاستضاءة بنوره ، والتسخّن بناره ، حيث لا يوجب المذكورات ضررا على أحد ، فيكون حسنا ، بمعنى أنّ للفاعل القادر أن يفعله ولا يستحقّ ذمّا.

واحتمال حصول المفسدة في الواقع وإن لم تعلمها كما نشاهد وجودها في بعضها بعد كشف الشّرع ، مثل حرمة الغناء ، والفقّاع الغير المسكر ، وأمثال ذلك ، لا يوجب حصول تزلزل في إدراك العقل ، لأنّ هذا الاحتمال المبحث الذي لا منشأ له ولا أمارة عليه قبل ورود الشّرع ممّا لا يعتدّ به عند العقلاء ، كما ترى إنّهم يلومون من يتحرّز عن الجلوس تحت الحائط المحكم البنيان الذي لا ميل فيه ويلحقون تجويز المضرّة حينئذ بظنّ أصحاب الجنون والسّوداء ، مع أنّ هذا الاحتمال معارض باحتمال المفسدة في ترك الفعل أيضا ، وهو يستلزم التكليف بالمحال ، والمانع هنا أيضا لم يتشبّث إلّا بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فكأنّه نفى احتمال مفسدة أخرى أيضا ، وقد عرفت أنّه فاسد ، مع أنّ حرمة مطلق التصرّف في مآل الغير غير معلوم عقلا ولا نقلا ، وكذلك مطلق الغير حتى الخالق المنزّه عن النّقص والاحتياج (١).

ثمّ إنّ الفاضل الجواد بعد ما استدلّ على مختاره بمثل ما ذكرنا ، قال : لكن لا يبقى شيء هو أنّ الحكم بالحسن فيما نحن فيه لا يجتمع مع فرض أنّه ممّا لا يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه.

__________________

(١) وكل هذه الاحتجاجات للمصنّف على مختاره من الإباحة الواقعية ، لم تنهض إلّا بإثبات الإباحة الظّاهرية كما عند صاحب «الفصول» ص ٣٤٨.

٢٨

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ العقل لا يدرك الحسن ولا القبح بالنظر إلى خصوصيّاتها (١) ، ويحكم حكما عامّا بالحسن بالنّسبة إلى الجميع.

ويمكن أن يجاب أيضا عن ذلك : بأنّ المراد أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها ابتداء ومجرّدة (٢) عن ملاحظة شيء آخر ، ولا ينافي ذلك حكمه بالحسن عامّا بالنّظر إلى الدليل فتأمّل. انتهى.

أقول : والغفلة (٣) التي حصلت أوّلا : هو الذي أورد عليه هذا الإشكال وتفطّن له ، لكنّ الجوابين اللّذين ذكرهما (٤) لا ينفعانه في شيء لإمكان أن يقال : شمّ الورد منفعة مأذون فيها ، وكلّ ما هو كذلك فحسن ، يعني لا حرج في فعله ولا يستحقّ به الذمّ ، فهو حسن ، فقد علم حسنه بالخصوص من ذلك.

وأمّا الجواب الثاني : فيظهر بطلانه ممّا مرّ (٥) من عدم انحصار مدركات العقل في الضروريّات (٦).

وقد يوجّه كلامه : بأنّ مراده أنّ النّزاع فيما لا يدرك العقل حسنه أو قبحه بدليل

__________________

(١) فلا يحكم العقل في كل واحد من الأشياء غير الضّروريّة بشيء في خصوص كل واحد ، بل يحكم حكما عاما يندرج تمامها فيه ، وببيان آخر أي لا يحكم العقل في خصوص شمّ الورد بشيء ، بل يحكم أنّ كل ما فيه منفعة ولم يظهر منه ضرر ولا ضرار يجوز ويحق الاتيان به ومن هنا يظهر معنى كلامه من حكم الخاص والعام.

(٢) فيحكم من دون نظر واجتهاد كالمستقلّات العقلية الضّرورية.

(٣) وأشار صاحب «الفصول» الى كلام الفاضل الجواد في هذا.

(٤) الشّارح الجواد.

(٥) أي من حكمه بأنّ حكم العقل مستقل على قسمين ضروري ونظري فالانحصار بالابتدائي الذي هو الضروري لا وجه له.

(٦) وردّ المصنّف على الجوابين فيه كلام في «الفصول» ص ٣٤٩.

٢٩

مختصّ به وإن أدرك حسنه من دليل عامّ يجري في الكلّ.

مثال الثاني : ما تقدّم وهو قوله : شمّ الورد منفعة مأذون فيها.

ومثال الأوّل : أن يقال : شمّ الورد فيه المنفعة الفلانيّة ، مثل تطريف الدّماغ ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن.

وفيه : أنّ هذا القياس في المباح لا يثمر إلّا مع انضمام كونه مأذونا فيه ، وبعد ضمّ كونه مأذونا فيه ، لا فرق بين النفع الخاصّ والنفع العامّ.

وإن أراد من النفع الخاصّ هو ما يوجد في غير المباح ، مثل أن يقال : في ردّ الوديعة جهة حسن خاصّ وهو حفظ العرض مثلا ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن ، بخلاف شمّ الورد لأنّه يقال فيه : إنّ شمّ الورد موجب لمنفعة مأذون فيها ، وكلّ ما هو كذلك فهو حسن ، فهو مع أنّه غير ملائم للسياق من ذكر النفع ، وتعميمه وتخصيصه لا يجدي طائلا ، لأنّه لا معنى لجعل أحدهما موضع النزاع دون الآخر مع صحة القياس وإنتاجه (١).

وربما يدفع أصل الإشكال : بأنّه لا منافاة بين عدم حكم العقل على شيء مع قطع النظر عن كونه مجهولا بين حكمه عليه مع ملاحظة وصف الجهالة. يعني أنّ حكم العقل بحسن شمّ الورد وأكل الفاكهة إنّما هو مع ملاحظة أنّهما مجهولا الحكم.

وأمّا مع قطع النظر عن كونهما مجهولي الحكم ، فلا حكم للعقل فيهما.

__________________

(١) فإنّ القياس كما هو صحيح ومنتج في ردّ الوديعة بالنّفع الخاص فكذلك في شمّ الورد بالنّفع العام المأذون فيه فإنّه صحيح ومنتج أيضا ، إذا فلا معنى لجعل شمّ الورد محلا للنزاع عند من يقولون بالتّحسين والتّقبيح العقليين دون ردّ الوديعة ، هذا مقصوده من قياسه ونتاجه على ما يبدو.

٣٠

وفيه أيضا : أنّ حكم المبيح بالإباحة حينئذ ليس من جهة أنّه مجهول الحكم عند العقل ، بل لأنّه يحكم بأنّه منفعة مأذون فيها ، وحكم الحاظر بالحظر أيضا ليس من جهة أنّه مجهول الحكم ، بل لأنّه يزعم أنّه تصرّف في مال الغير وهو حرام ، فكيف يجعل محلّ النزاع مجهول الحكم ، مع كون مقتضى دليل الباحثين علمهم بالحكم؟

فإن قيل : إنّ ذلك مقتضى دليلهم نظرا إلى ظاهر الحال وإغماضا عن الاحتمال فقد يتبدّل الحكم بظهور خلافه ، كما لو حكم الشّارع بعد ذلك بالحرمة ، فيظهر الخلاف ويعلم أنّ الحكم السّابق إنّما كان حكما لمجهول الحكم.

قلنا : هذا كلام سار في جميع المطالب المعلومة عند النّاظرين ، فكثيرا ما يقام البرهان على المطلوب ، بل وقد يدّعى بداهته ثمّ يظهر خلافه. وذلك لا يوجب الحكم بكون ذلك الحكم العقليّ الذي هو مقتضى البرهان ، حكم ذلك الشّيء من حيث إنّه مجهول الحكم ، بل تكليف النّاظر في كلّ وقت مع التّخلية التامّة هو ما يصل إليه نظره ، سواء صادف الواقع أم لا.

نعم ، هذا الكلام يجري فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي لا مسرح للعقل فيها أصلا ، مثل وجوب غسل الجمعة مثلا ، فإنّ حكمه قبل ثبوته من الشّرع ، من حيث هو مجهول عدم الوجوب ، لا مع قطع النظر عنه ، وأين هو من الحكم بالإباحة. فحينئذ يمكن أن يقال : إنّ للأشياء قبل العلم بأحكامها تفصيلا حكم عقليّ من حيث كونها مجهولا بالاستقلال وإن لم يكن العقل مستقلّا بإدراك أحكامها ، مع قطع النظر عن الجهالة ، وكلّ ذلك صدر من الغفلة التي أشرنا إليها (١).

__________________

(١) للفاضل الجواد وتبعه فيها بعض الأفاضل ممّن تأخّر عنه أيضا ، وفي حاشية الملا ـ

٣١

وبما ذكرنا ظهر اندفاع ما ربّما يورد هنا من الإشكال من لزوم تسبيع الأحكام لزيادة الإباحة الظّاهرية والحظر الظّاهريّ على الأحكام الخمسة ، إذ أدلّة القائلين بها لا تفيد إلّا الإباحة والحظر ما لم يظهر مفسدة أو رخصة ، فإنّه لا يمكن نفي الاحتمال العقليّ رأسا ، سيّما مع ملاحظة ما ورد في الشّرع من تحريم بعض المنافع الخالي عن المضرّة ، مثل الغناء ، وشرب الفقّاع الغير المسكر ، ونحوهما. فربّما يكون في الشّيء مفسدة ذاتيّة لا يدرك العقل (١) ، ثمّ يكشف عنه الشّرع ، إذ ذلك إشكال سار في جميع الأحكام ولا اختصاص له فيما نحن فيه ، بل بجميع المطالب المستدلّ عليها ، والمبيح والحاظر لا يريدان إثبات الإباحة والحظر الظّاهريّتين ، بل يثبتان الإباحة والحظر النّفس الأمريّتين كما هو مقتضى دليلهما.

نعم ، قد يتّضح هذا الإشكال (٢) إذا استدلّ على هذا المطلب بمثل قولهم عليهم‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣).

ويمكن أن يقال فيه أيضا : إنّه مباح لمن لم يطّلع على النهي في نفس الأمر (٤) ، وحرام على من اطّلع عليه في نفس الأمر ، لا أنّه لغير المطّلع مباح ظاهرا وحرام

__________________

محمد تقي الهروي : يعني أنّ جميع ما ذكر من الإشكال والأجوبة المذكورة عنه ناشئ عن الغفلة التي صدرت عن الفاضل الجواد رحمه‌الله ، وقد عرفت انّه لا غفلة هنا لا منه ولا من غيره.

(١) كذا في المصنّف.

(٢) إشكال لزوم التّسبيع.

(٣) «الوسائل» ٢٧ / ١٧٤ حديث ٣٣٥٣٠ ، وفيه وجوه واحتمالات ذكره الشيخ الحرّ العاملي رحمه‌الله.

(٤) بل يمكن أن لا يسمّى محظور إلّا بعد أن يكون أعلم حظره أو دلّ عليه.

٣٢

واقعا ، نظير ذلك ما بيّنا في الواجب المشروط بالنّسبة الى الواجد للشرط والفاقد ، كما بيّنا مرارا.

ثمّ قد ظهر لك أنّ الأقوال في المسألة أربعة :

الإباحة ، وهو مذهب الأكثرين من أصحابنا ، والمعتزلة البصريّة (١).

والحظر ، وهو مذهب بعض أصحابنا ، والمعتزلة البغدادية (٢).

والوقف ، وهو مذهب المفيد من أصحابنا ، وبعض العامّة (٣).

__________________

(١) وذهب أكثر المتكلّمين من البصريّين وهي المحكيّ عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء على الإباحة كما ذكر الشيخ في «العدّة» ٢ / ٧٤٢ ، وكما عن «المعتمد» ٢ / ٣١٥ ، و «التبصرة» ٥٣٢ ، و «اللّمع» ١١٦ وشرحه ٢ / ٩٧٧ ، واختاره السيّد المرتضى في «الذريعة» ٢ / ٨٠٩.

(٢) وذهب كثير من البغداديّين ، وطائفة من أصحابنا الإمامية الى أنّها على الحظر ، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء ، كما في نقل الشيخ في «العدة» ٢ / ٧٤٢ ، وكما عن «المعتمد» و «التبصرة» و «اللّمع» و «شرحه».

(٣) وذهب كثير من الناس الى أنّها على الوقف كما عن «العدة» ، وكذا في «المعتمد» و «التبصرة» و «اللمع» و «شرحه» ، وأضاف الشيخ في «العدة» ويجوّز كل واحد من الأمرين فيه وينتظر ورود السّمع بواحد منهما ، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله ، وهو الذي يقوى في نفسي.

وبالرّجوع إلى «التذكرة بأصول الفقه» للشيخ المفيد ص ٤٣ من سلسلة مؤلّفاته المطبوعة نجده يقول فيه : فأمّا القول في الحظر والإباحة فهو أنّ العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما يجوز ورود السّمع فيها بإباحته ، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره ، ولكن العقل لم ينفكّ قطّ من السّمع [باباحته وحظره] ولو أجبر الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرّهم الى مواقعة ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم الى العلم باباحته من حظره ، وألجأهم الى الحيرة التي لا تليق بحكمته.

٣٣

وذهب الأشاعرة إلى أنّه لا حكم لها.

والمراد بالوقف : أنّا نجزم أنّ هناك حكما ولم نعلم أنّه إباحة أو تحريم.

والفرق بين المتوقّف والحاظر أنّه يجزم بالحرمة فيكفّ عنه لأجل الحرمة ، والمتوقّف يكفّ عنه خوفا عن الوقوع في الحرام.

بقي الكلام في معنى : قبل الشّرع ، والمراد به قبل وصول الشّرع إليه ، سواء كان ذلك في زمان الفترة ، أو في وقت اضطرار المكلّف وانقطاعه بسبب حبس أو مانع أو نحو ذلك(١).

ولا ينافي ذلك عدم خلوّ زمان من الأزمنة عن نبيّ أو وصيّ أو حافظ للشريعة على أصولنا ، ولا ما ورد بأنّ جميع الأحكام صدر عن الله تعالى وهو مخزون عند أهله ، فإنّ من المعاين المحسوس أنّ ذلك بحيث يمكن وصوله إلى كلّ أحد من المكلّفين مع أنّ بيان الأحكام تدريجيّ.

نعم ، بعد ما وردت (٢) الأحكام الشرعيّة وظهر لنا حرمة بعض الأشياء التي لم تدرك عقولنا حرمتها ، ووجوب بعض آخر كذلك ، فلا يجوز الاعتماد على ذلك الأصل حتى يقع التتبّع التّام كما في كلّ ما لا نصّ فيه ، فإنّه لا يجوز التمسّك بأصل البراءة أوّلا حتى يحصل الظنّ بعدم المعارض كما سيجيء إن شاء الله تعالى (٣).

ثمّ إنّ القول : بأنّ كلّ ما فيه منفعة خالية عن المضرّة قبل ورود الشّرع ممّا يستقلّ بحكمه العقل على القول بالإباحة والحظر ، إنّما يتمّ أن لو قلنا بأنّ الدليل

__________________

(١) في نسخة الأصل (ورد).

(٢) يبدو أنّه أتى على تبيينها لوجود كلام فيها ، وقد فصّله في «الفصول» ص ٣٥٠ ، واعتبر انّ حمل المصنّف له لا وجه له.

(٣) في مبحث البراءة الآتي.

٣٤

على ذلك يفيد القطع ، كما في الظّلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، لعدم دليل على كون غير المقطوع به دليلا للشّرع بالخصوص.

ودعوى قطعيّته من حيث عدم كون التصرّف في مال الغير مانعا وإن كان يمكن ، لكن دعوى عدم مضرّة مفسدة أخرى محتملة فيه بعنوان القطع في ما ينفعنا اليوم ـ أعني بعد ثبوت الشّرع وبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصب الأوصياء ـ من ثمرات هذه المسألة ، مشكلة (١) ، إذ المفروض أنّ كثيرا ممّا يشتمل على المنفعة الخالية عن المضرّة في عقولنا قد نهى عنها الشّارع ، وصار ذلك كاشفا عن قبح واقعيّ ، ويحتمل فيما لم نقف فيه على نهي أن يكون مثل ذلك وعدمه مظنون لا مقطوع به.

فالاعتماد إذا إمّا باستصحاب الإباحة السّابقة على بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وورود الشّرع في الجملة ، أو باستصحاب عدم ورود النّهي بذلك ، أو بالظنّ الحاصل بملاحظة محض أنّه منفعة خالية عن المضرّة ، لا مؤاخذة فيه.

وكيف كان ، فالحكم بالإباحة في مثل ذلك في أمثال زماننا ، من الظنيّات ، والدليل عليه ظنّي ، فكيف يقال : إنّها ممّا يستقلّ بحكمها العقل بعنوان القطع.

نعم ، يمكن أن يقال : لمّا كان العمل بظنّ المجتهد ممّا يستقلّ به العقل بعنوان القطع لانسداد باب العلم وانحصار المناص في الظنّ وذلك من جزئيّاته ، فمن هذه الجهة يصير من جملة ما يستقلّ به العقل.

ومن ذلك ظهر أنّ ما يقال : إنّ التكلّم في هذا القسم من الأدلّة العقليّة قليل الجدوى لعدم انفكاك ما استقلّ به العقل من الدّليل الشرعي عليه ، كما يلاحظ في

__________________

(١) خبر للدعوى.

٣٥

قبح الظلم وحسن العدل ووجوب ردّ الوديعة وغير ذلك لا وجه له ، فإنّ العمل بظنّ المجتهد من أعظم ثمرات هذا الأصل ، وأيّ فائدة أعظم من ذلك.

ولا ريب أنّ الدّليل المعتمد فيه هو دليل العقل إذ ما يستفاد من الشّرع في هذا الباب لا يفيد إلّا ظنّا ، والتمسّك به بدون دليل قاطع ، لا وجه له.

وهذا هو الوجه في جعل الظنّ المستفاد من الاستصحاب وغيره أيضا من الأدلّة العقليّة.

وبعد ملاحظة هذا المعنى ، واندراج المذكورات في أفراد ظنّ المجتهد ، فيعاضدها الأدلّة الشرعيّة أيضا من الآيات والأخبار في أصل الإباحة والاستصحاب وغيرهما ، كما سنشير إليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

هذا ولكن إثبات حجّية ظنّ المجتهد لا دخل له في الأدلّة الشرعيّة التي هي المناط (١) ، لاستفادة الأحكام الفرعيّة ، وهي الموضوع لعلم أصول الفقه ، والمرجع في استنباط المسائل الفقهية ، بل هو يشبه المسائل الكلاميّة كما سنشير إليه في مباحث الاجتهاد والتقليد.

نعم ، يمكن أن يقال : ظنّ المجتهد بالمسائل الفقهيّة ، كما قد يحصل من الأدلّة اللّفظية ، كالكتاب والسنّة ، فقد يحصل من الأدلّة العقلية ، وإذا حصل الظنّ له ، فيحصل الظنّ بالضّرر بمخالفته ، فيلزم اتّباعه ، ومن ذلك يظهر الكلام في

__________________

(١) قد لا يستقيم هذا الكلام ، مع العلم بأنّ إثبات مثل حجيّة الخبر الواحد والشهرة والاجماع المنقول من حيث قيام الحجّة على حجّية ظنّ المجتهد ، فمع القول بها في الأدلّة النقلية فما الذي يمنع من عدم القول بها في الأدلّة العقلية.

٣٦

الاستصحاب وغيره أيضا.

فحاصل الكلام في هذا المقام ، أنّ الدليل العقلي إمّا حكم العقل بعنوان القطع على وجوب الشّيء عقلا ، كردّ الوديعة ، أو حرمته كذلك ، كالظّلم ، أو استحبابه كذلك كالإحسان ، وهكذا.

ومن جملتها : حكمه بالإباحة في المنافع الخالية عن المضرّة قبل ورود الشّرع على القول به ، أو حكمه بعنوان الظنّ به ، مثل أنّ العقل يحكم حكما راجحا ببقاء ما كان عند عروض الشّك في زواله ، وبأنّ ما ثبت يدوم الى أن يحصل الرّافع ، فإذا ظنّ بقاء الحرمة السّابقة أو الوجوب السّابق بسبب حصولهما في الآن السّابق ، فيظنّ الضّرر بمخالفة الحالتين السّابقتين ، ويحكم بعد ملاحظة أنّ دفع الضّرر المظنون واجب ، بأنّ متابعة الحالتين السّابقتين واجبة.

فهذا هو المائز (١) بين الأدلّة التي تفيد الظنّ للمجتهد ، إذ بعضها يفيد الظنّ من جهة أنّه كلام الشّارع ، وبعضها يفيد الظنّ من جهة أنّه حكم العقل ولو كان حكما ظنيّا.

ومن هذا يظهر الكلام في الحكم بإباحة ما لم يبلغنا المنع عنه بعد ظهور الشّرع أيضا ، لحصول الظنّ حينئذ من جهة العقل.

فالعقل إمّا يحكم في الموضوعات الخاصّة صريحا قطعيّا كالعدل والظّلم مطلقا ، وشمّ الورد وأكل الفاكهة قبل ورود الشّرع.

__________________

(١) المائز أو المائز كما عبّر في الكتاب وهي بالميم من التّمييز ، وفي بعض النّسخ كتبت بالحاء من الحيازة وفي الاثنين توجيهين مع درك المطلب.

٣٧

وإمّا من جهة عموم حكمه بقبح تكليف ما لا يطاق ، ويندرج تحته نفي وجوب الوضوء على من فقد الماء ، والصّوم على من لم يقدر عليه ، وكذا العمل على مقتضى الحكم النّفس الأمري فيما لا نصّ فيه ولم يدرك حكمه العقل ، فيحكم العقل بعدم الوجوب وعدم الحرمة إذا لم يثبت الحكم بنصّ أو عقل قاطع ، وهذا هو الأصل المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، بل وكذلك حكمه الظّاهرىّ كما سنبيّنه (١) ، وهو ما تنازع فيه الفريقان في الإباحة والحظر والتوقّف كما سيجيء في أصل البراءة.

والظاهر أنّ العقل أيضا يحكم برفع التكليف فيه.

وإمّا من جهة عموم حكمه بأنّ ما ثبت فالمظنون بقاؤه إذا كان ما يثبت ثبوته محقّقا من عقل أو حسّ أو شرع ، ثمّ يجب العمل عليه استنادا الى أنّ دفع الضّرر

__________________

(١) فإنّ ايجاب العمل على ما هو مقتض الحكم النّفس الأمري كما يكون تكليفا بما لا يطاق فيما ليس فيه حكم من العقل ولا نص فيه من الشّرع ، كذلك إيجاب العمل على مقتضى الحكم الظاهري هو أيضا تكليف بما لا يطاق ، وذلك لأنّ الحكم الظّاهرى بعد تعارض أدلّة الإباحة والحظر الواردة في بيان الحكم الظاهري يكون مجهولا كالحكم الواقعي ، فلو كلّف بما هو حكم ظاهري بحسب نفس الأمر لا بحسب ظنّنا لكان تكليفا بما لا يطاق ، لأن الحكم الظّاهري سواء قلنا إنّه الإباحة أو الحظر يكون مظنونا كما يعلم من كلمات المصنّف في مبحثه لأصل البراءة حيث قال : إنّ الأقوى والأظهر هو العمل على البراءة الأصليّة وإنّ أدلّة البراءة الأصلية أقوى من أدلّة التّوقف ، وأمثال ذلك ممّا ينادي بأنّ الحكم الظاهري ليس مقطوعا به ، بل ظنّي والظّن كثيرا ما يخالف الواقع ، وهذا هو مراده بقوله : كما سنبيّنه ، وإلّا فليس في كلامه فيما يأتي تصريح بأنّه لو لم يكتف الشارع هنا بهذا الحكم الظّاهري في ظنّنا يلزم التكليف بما لا يطاق.

٣٨

المظنون واجب.

وهذا هو أيضا ممّا يثبت بالعقل القاطع ، وهذا هو الاستصحاب.

وكذلك الأمر في استصحاب الإباحة فيما يدرك العقل إباحته ، فإنّ المظنون حينئذ ارتفاع المنع والوجوب ويثبت الإباحة بمثل ما تثبت فيما لا نصّ فيه ولم يحكم العقل فيه بشيء.

فهذا حاصل الكلام في مباني الأدلّة العقليّة ومعنى انتسابها الى العقل.

وأمّا غير هذه الثلاثة المذكورة ممّا ذكروها ، مثل أنّ عدم الدّليل دليل العدم ، والأخذ بالأقلّ عند عدم الدّليل على الأكثر ، وغيرهما ، فيرجع إليها كما سيظهر لك في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.

٣٩

قانون

من جملة الأدلّة العقلية ؛ أصالة البراءة (١) ، ويقال لها : أصالة البراءة ، وربما يقال لها : أصالة النّفي.

والأصل (٢) يطلق في مصطلحهم على معان كثيرة ، مرجعها الى أربعة : الدّليل ، والقاعدة ، والاستصحاب ، والرّاجح ، وهو هنا قابل لثلاثة منها (٣).

الأوّل : استصحاب البراءة السّابقة في حال الصّغر أو الجنون ، أو حالة علم فيها عدم اشتغال الذّمة بشيء ، مثل البراءة عن المهر قبل النّكاح ، وعن الدّين قبل زمان ادّعاء المطالبة في ذلك الزّمان ، وإجراء حكم هذه الحالة في الآن الذي شكّ فيه باشتغال الذّمة.

__________________

(١) ربما جعله من الأدلّة العقلية لدلالة مثل قبح العقاب بلا بيان عليه ، وهذه القاعدة عبارة عن حكم عقلي ، هذا وبعضهم اعتبره مدلول يستنبط تارة من الأدلّة العقلية واخرى من الأدلّة النّقلية فمن هنا قال : بأنّ جعله دليلا عقليا غير سديد.

(٢) لغة أسفل كل شيء وهنا بمعنى ما يبنى عليه الشّيء. راجع «المصباح المنير» ص ١٦ ، و «لسان العرب» ١ / ١١٤.

(٣) وكذا ذكر الشهيد في «التمهيد» ص ٣٢ ، ولكن بلا ذكره لما ذكر من أنّها تطلق على معان كثيرة مرجعها الى أربعة ، وبلا ذكره : وهو هنا قابل لثلاثة منها.

هذا ولم أجدا غيره من أطلق الأصل على غير المعاني الأربعة بحسب الاصطلاح الأصولي ، نعم لها معاني وإطلاقات كثيرة ، بحسب اللغة ، وأيضا بحسب إطلاق الرّجاليين فإنّهم كثير ما يعنون بأن له أصل أي كتاب ، وأيضا كثيرا ما يستعملون كلمة الأصل في كثير من المواضع التي لا ترجع الى الأصل المذكور انّه حجّة ولا إلى القاعدة المستفادة من الشّرع. والشهيد في «قواعده» استعمل كلمة الأصل في مواضع ، منها صحيح ، ومنها لا يظهر له وجه ، وقد ذكر عدد أمثلة منها في «الوافية» ص ١٩٦.

٤٠