القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

والثالث (١) : مبنيّ على أنّ المجاز مستلزم للحقيقة ، فمع الاتّحاد لا يمكن القول بمجازيّته ، وأمّا مع التعدّد ؛ فلمّا كان المجاز خيرا من الاشتراك فيؤثر عليه (٢) ويترتّب على ذلك لزوم استعمال أمارات الحقيقة والمجاز في التمييز ، وحيث لم يتميز ؛ فالوقف.

وردّ : بمنع استلزام المجاز للحقيقة ، بل إنّما هو مستلزم للوضع ك : (الرّحمن) ، والحقيقة مستلزم للاستعمال ، وأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

ثمّ اعلم : أنّ عدم العلم بالوضع مع العلم بالمستعمل فيه ، يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يعلم لفظ استعمل في معنى واحد أو في معان متعدّدة ، ولم يعلم أنّه موضوع لذلك المعنى أو المعاني أم لا ، فيحتمل عندنا أن يكون المستعمل فيه نفس الموضوع له ، ويحتمل أن يكون له معنى آخر وضع له ، ويكون هذا مجازا عنه فلا يعرف فيه الموضوع له أصلا ، لا معيّنا ولا غير معيّن.

وعلى هذا يترتّب القول بكون مبنى القول الثالث على كون المجاز مستلزما للحقيقة لا على الوجه الآتي (٣) ولكنّ ذلك الفرض مع وحدة المستعمل فيه فرض

__________________

(١) لم يصرّح هنا بالقائل لظهوره من دليله انّه كلّ من قال باستلزام المجاز للحقيقة.

(٢) أي يختار المجازية ونقول بعض منها مجاز والآخر حقيقة ، والتمييز يحتاج إلى إعمال أمارات الحقيقة والمجاز وحيث لم يتميّز فالوقف.

(٣) لأنّ هذا الوجه مما لم يعلم للّفظ حقيقة أصلا لا معيّنا ولا غير معيّن فيتم كلام هذا القائل حينئذ من حمل المستعمل فيه الواحد على الحقيقة لا المجاز ، إذ لو كان مجازا لا بد أن يكون له حقيقة أيضا لاستلزامه الحقيقة ، والمفروض وحدة المستعمل فيه بخلاف الوجه الآتي ، فإنّ فيه يعلم الحقيقة في الجملة سوى المستعمل فيه ، وإن لم يكن نفسها معلوما لنا. وبالجملة هذا الوجه ممّا يتصوّر فيه وحدة المستعمل فيه ، ـ

٨١

نادر ، بل لم نقف عليه أصلا.

والثاني : أن يعلم الموضوع له الحقيقي في الجملة ، وهو يتصوّر أيضا على وجهين :

أحدهما : انّا نعلم أنّ له معنى حقيقيّا ، ونعلم أنّه استعمل في معنى خاصّ أيضا ولا نعلم أنّه هل هو أو غيره ، وذلك الجهالة إنّما هو بسبب جهالة نفس الموضوع له (١) ، لا بسبب جهالة الوضع ، مثل إنّا نعلم أنّ ليلة القدر موضوعة لليلة خاصّة ، واستعمل فيها أيضا مثل قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٢) ولكن لا نعلمها بعينها ، فإذا أطلقها الشّارع على ليلة النصف من شعبان مثلا ، أو ليلة الإحدى والعشرين من شهر رمضان مثلا ، فهل يحكم بمجرّد ذلك الإطلاق أنّها هي الموضوع له اللّفظ ، أو يقال أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة إذ يمكن أن يكون إطلاقها عليها من باب الاستعارة ويكون نفس الموضوع له اللّفظ شيئا آخر.

هذا إذا لم يكن من باب التّنصيص أو الحمل الظاهر في بيان الموضوع له ، كما لو انحصر الاستعمال في الواحد ، وقال بأنّ ليلة القدر هي هذه ، وذلك مثل أن يقول : اقرأ في ليلة القدر هذه اللّيلة فلانا ، ولو تعدّد المستعمل فيه حينئذ فيتّضح عدم دلالة الاستعمال على شيء (٣) ، ويلزم السيّد ومن قال بمقالته القول بتعدّد

__________________

ـ بخلاف باقي الأقسام الآتية ، فإنّه لا يخلو عن التعدّد فيه معلوما كان أو مجهولا ، ولا ريب انّ القول بأنّ المجاز مستلزم للحقيقة يتمّ على فرض اتحاد المستعمل فيه لا غير.

(١) اي بعينه شخصا.

(٢) القدر : ١.

(٣) أي شيء من الحقيقة. ووجه هذا الاتضاح هو أنّ المستعمل فيه إذا تعدّد وكان أحدهما على سبيل الحمل والانحصار والآخر خال عنه لا يمكن القول حينئذ بأنّ ـ

٨٢

الموضوع له لو عمّموا المقال حينئذ ، وهو كما ترى.

والثاني : انّا نعلم أنّ اللّفظ مستعمل في معنى أو أكثر ، ونعلم أنّ له معنى آخر حقيقيّا معيّنا في نفس الأمر أيضا ، ولكن نشكّ في أنّ المستعمل فيه أيضا حقيقة أم لا ، وذلك يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن نشكّ في أنّه هل هو فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، أو مجاز بالنسبة إليه.

وثانيهما : أن نشكّ في أنّ اللّفظ هل وضع له أيضا بوضع على حدة فيكون مشتركا ، أم لا. مثل : إنّا نعلم أنّ للصلاة معنى حقيقيّا في الشّرع قد استعمل فيه لفظها وهو المشروط بالتكبير والقبلة والقيام ، فإذا استعملت في الأفراد المشروطة بالطهارة والرّكوع والسجود منها أيضا ، نعلم جزما أنّها من معانيها الحقيقيّة ، وإذا أطلقت على صلاة الميّت ، فهل هذا الإطلاق علامة الحقيقة ، بمعنى أنّ المعنى الحقيقي للصلاة هو المعنى الأوّل العامّ لا المشروط بالطّهارة والرّكوع والسّجود أيضا ، أو أنّها موضوعة بوضع على حدة لصلاة الميّت أيضا ، أو الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز؟

فالمشهور على التوقّف ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة (١) ، والسيّد يحملها على الحقيقة ، فإن ظهر عنده أنّها من أفراد الحقيقة المعلومة ؛ فيلحقها بها ، وإلّا فيحكم بكونها حقيقة بالوضع المستقلّ فيكون مشتركا لفظيّا ، وكذلك إذا رأينا

__________________

ـ الاستعمال في الخالي عن الحمل ، والحصر أيضا علامة للحقيقة ، وذلك لمنافاته للحصر المستفاد من الحمل الواقع في المستعمل فيه الأوّل.

(١) ويعنون به صورة تعدّد المعنى وأمّا مع اتحاده فالمعروف دلالته على الحقيقة كما في تبيين الاصفهاني في «هدايته» ١ / ٢٩٢.

٨٣

إطلاق الخمر على الفقّاع (١).

ويظهر الثمرة (٢) في عدم إجراء حكم الحقيقة على المشكوك فيه على المشهور ، وإجرائه على مذهب السيّد على الاحتمال الأوّل ، والتوقّف في أصل حكم الحقيقة حتّى يظهر المراد منها بالقرائن على الثاني.

مثلا : إذا رأينا أنّ الشارع حكم بوجوب نزح تمام ماء البئر للخمر ، الخالية عن قرينة المراد ، مع علمنا بأنّ المسكر المأخوذ من العنب خمر حقيقة ، فيتردّد الأمر بين أن يكون المراد أنّ الفقّاع مثل الخمر في الحرمة فيكون مجازا ، فلا يثبت به جميع أحكام الحقيقة فيه ليتفرّع عليه نزح جميع ماء البئر ، وبين أن يكون المراد منه الخمر الواقعي ، إمّا بمعنى أنّ الخمر اسم للقدر المشترك بينهما فيدخل الفقّاع في الخمر المطلق المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع ، أو بمعنى أنّ الخمر كما أنّه موضوع للمتّخذ من العنب المسكر فكذلك موضوع للفقّاع أيضا ، فحينئذ يتوقّف حتّى يظهر من القرينة أنّ أيّ المعنيين هو المراد في الخمر المطلق المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع.

فظهر بما ذكرنا ، أنّ المراد بالمعنى في قولنا : أمّا إذا استعمل لفظ في معنى أو معان ما ذا ، وأنّ المراد بالمعاني ما ذا ، وأنّ الأوّل إنّما يتمّ بالنظر الى الوجه الأوّل إذا اتّحد المستعمل فيه المعلوم (٣).

__________________

(١) كما في قوله عليه‌السلام : الفقّاع خمر استصغره الناس.

(٢) الثمرة من نزاع السيد والمشهور في محل الشك.

(٣) في بعض النسخ ان اتحد المستعمل فيه المعلوم أي ان اتفق اتحاد المستعمل فيه ، وفي بعضها كما في المتن بدل كلمة إن كلمة إذ ، ويبدو بمعنى إن ، إذ المقام مقام التشكيك لا الجزم إذ اتحاد المستعمل فيه مشكوك لا مجزوم كما ذكره سابقا بقوله : فرض نادر ، بل لم نقف عليه أيضا.

٨٤

وأمّا مثل كلمة الرحمن (١) فهو خارج عن المتنازع فيه ، إذ المجازيّة فيه مسلّمة.

إنّما النزاع في أنّ له حقيقة أم لا ، وذلك لا ينافي القول بصيرورتها حقيقة عرفية فيه تعالى.

وممّا حقّقنا ، ظهر لك أنّه لا منافاة بين قول مشهور بوجوب التوقّف ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة في صورة تعدّد المستعمل فيه ، وقولهم بأنّ المجاز خير من الاشتراك.

أمّا في صورة التردّد بين كون المستعمل فيه مجازا أو فردا من أفراد ما هو القدر المشترك بينهما ؛ فظاهر لعدم اشتراك لفظيّ هناك يرجّح للمجاز عليه ، وهو غالب موارد قولهم : إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، يعنون بذلك أنّه لا يثبت حكم ما ، هو من أفراد الكلّي حقيقة لهذا المشكوك فيه بمجرّد اطلاق الإسم عليه.

وأمّا في صورة التردّد بين كون المستعمل فيه حقيقة أو مجازا ، كما لو سلّم كون صيغة افعل حقيقة في الوجوب ، وشكّ في كونه حقيقة في الندب أيضا لأجل الاستعمال ؛ فمرادهم بقولهم : إنّ الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة وأنّه أعمّ ، الردّ على السيّد ومن قال بمقالته.

فإذا قطعنا النظر عن غير الاستعمال ، فلا يوجب الاستعمال إلّا التوقّف ، لأنّه لا يمكن ترجيح المجازيّة بدليل آخر ، فلذلك يقولون : بأنّ الصّيغة في الندب مجاز ولا يتوقّفون في ذلك ، فتبصّر حتى لا يختلط عليك الأمر.

ولا بأس أن نشير الى بعض الغفلات ، فمنها ما وقع عن صاحب «المدارك» قال في منزوحات البئر : واعلم أنّ النصوص إنّما تضمّنت نزح الجميع في الخمر ، إلّا أنّ

__________________

(١) وهذا دفع لما يمكن أن يقال من أنّه كيف تحكم بأنّ اتحاد المستعمل فيه مشكوك والحال انّ كلمة الرحمن قد اتّحد فيها المستعمل فيه وهو الله سبحانه وتعالى.

٨٥

معظم الأصحاب لم يفرّقوا بينه وبين سائر المسكرات (١) في هذا الحكم واحتجّوا عليه بإطلاق الخمر في كثير من الأخبار على كلّ مسكر ، فيثبت له حكمه وفيه بحث ، فإنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك (٢).

ونظير ذلك ايضا قال في ردّ من أوجب نزح الجميع للفقّاع مستدلّا بإطلاق الخمر عليه في الأخبار ، وأنت خبير بعدم صحّة الجمع بين قوله : فإنّ الإطلاق أعمّ ، وقوله : والمجاز خير من الاشتراك ، ويظهر وجهه بالتأمّل فيما حقّقناه.

وأمّا نظر جمهور علمائنا رحمه‌الله في الاستدلال بتلك الأخبار ، فليس الى كون المسكرات خمرا حقيقة أو الفقّاع خمرا كذلك ، بل وجه استدلالهم هو أنّ الاستعارة والتّشبيه المطلق يقتضي اعتبار المشابهة في جميع الأحكام لوقوعه في كلام الحكيم ، أو الأحكام الظاهرة الشّائعة ، ومنها حكم النجاسة ومقدار النزح ، فقد ذكروا في مثل ذلك وجوها ثلاثة :

أحدها : الإجمال ، لعدم تعيين وجه الشّبه.

والثاني : العموم ، لوقوعه في كلام الحكيم.

والثالث : التّشريك في الأحكام الشّائعة ، وهو أظهر الاحتمالات. ومن هذا القبيل قولهم : «الطواف في البيت صلاة» (٣).

__________________

(١) كالنبيذ من التمر ، والتبع بكسر الباء وسكون التاء المثناة وفتحها ، وهو نبيذ العسل.

والفضيخ بالمعجمتين من التمر والبسر ، والنقيع من الزّبيب ، والمرز بكسر الميم والزاء المعجمة الساكنة المهملة ، والجعة بكسر الجيم وفتح العين المهملة نبيذ الشعير ، وسائر المسكرات الأخرى تجد ذكرها في الكتب الفقهية المبسوطة في أبواب المطاعم والحدود.

(٢) «مدارك الأحكام» : ١ / ٦٣.

(٣) «عوالي اللئالي» : ١ / ٢١٤ ، الحديث ٧٠ ، و ٢ / ١٦٧ الحديث ٣ ، وفيهما : بالبيت بدل في البيت.

٨٦

قانون

قد ذكرنا أنّ الأصل في التفهيم والتفهّم هو الوضع ، وأيضا الأصل والظاهر يقتضيان من عدم إرادة الزّائد على المعنى الواحد ، وعدم وضع اللّفظ لأكثر من معنى حتّى يكون مشتركا أو منقولا ، وعدم إرادة معنى آخر من اللّفظ غير المعنى الأوّل بسبب علاقة حتّى يكون مجازا ، فحيث علم وجود هذه المخالفات (١) وإرادة هذه الأمور من اللّفظ بقرينة حاليّة أو مقاليّة ، فهو وإن احتمل إرادة هذه الأمور ولم يكن قرينة عليها ، فلا ريب أنّه يجب الحمل على الموضوع له الأوّلي كما تقدّم (٢).

وأمّا لو كان الاحتمال والتردّد [الترديد] بين هذه الامور المخالفة (٣) لأصل الموضوع له المتجدّدة الطارئة له ، الحاصلة بسبب دواع خارجيّة ، فيتصوّر هناك صور عديدة يعبّر عنها الاصوليّون ب «تعارض الأحوال» يحصل من دوران اللّفظ

__________________

(١) ويبدو من قوله : فحيث علم الاعتقاد الراجح ليشمل الظنّ لوجود المخالفة أيضا ، فإنّه كالعلم به متّبع. هذا والصّور المتصورة هنا خمس هي العلم بالمخالفة ، والظنّ ، والعلم بالموافقة ، والظنّ بها ، وخامسها الشك بين الأمرين في الأوّلين ، بحمل اللّفظ على المخالف للأصل ، وفي الثلاثة الباقية على الموافق للأصل.

(٢) كما تقدم في أنّ الأصل في التفهيم والتفهم هو الوضع والظاهر منه أيضا الواضع الأوّلي.

(٣) الفرق جلي بين هذا القسم الأخير والقسمين الأوّلين في قوله : فحيث علم وجود هذه المخالفات ، وقوله : ان احتمل إرادة هذه الأمور. لأنّ في الأوّل العلم بوجود واحد من الأمور المخالفة للأصل بواسطة القرينة موجود فيؤخذ بمقتضاه. وفي الثاني وجود أحدها محتمل مع وجود احتمال وجود الموضوع له الأوّلي فيؤخذ بمقتضى أصالة الحقيقة وظاهر اللّفظ ، ولكن في هذا القسم احتمال وجود الموضوع له الأوّلي منتف ، والعلم الاجمالي بوجود أحد الأمور المخالفة موجود من غير قرينة على التعيين فهذا القسم هو عنوان مسألة تعارض الأحوال.

٨٧

بين بعض من الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والمجاز ، وبعض آخر (١).

__________________

(١) قال في الحاشية : وتصوّر الصّور العديدة يكون حيث ذكر المصنف انّ الأحوال خمسة الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والمجاز ، فإذا ضربنا هذه الأحوال الخمس في أنفسها تحصل النتيجة عندنا خمسة وعشرون قسما. والصحيح منها العشرة المعروفة وهي ملاحظة الاشتراك من الأربعة الباقية فتحصل أربع صور ، ثم ملاحظة النقل مع الثلاثة الباقية فتحصل ثلاث صور ، ثم التخصيص مع الباقين أي المجاز والإضمار فتحصل صورتان ، فجميع هذه الصّور تسع ثم ملاحظة الإضمار والمجاز معا فتحصل صورة واحدة فيكون مجموع ذلك كله عشرة صور.

هذا كله إذا كانت صور التعارض ثنائية ، وقد تكون ثلاثية وهي أيضا عشر ، وقد تكون رباعية وهي خمسة ، وقد تكون خماسية وهي صورة واحدة. فمجموع هذه الصّور أعني غير الثنائية ستّ عشرة ، فعلى هذا ترتقي الصّور الصحيحة الى ست وعشرين. والمصنف رحمه‌الله كان قد تعرّض لبيان جميع صحاح الصّور الثنائية ولم يتعرض للثلاثية والرباعية والخماسية لظهور أحكامها مما يذكر من أحكام الصّور الثنائية فلا فائدة لذكرها. نعم قال بعضهم : إنّ الأحوال المتعارضة سبعة بإضافة التقييد والنسخ فلا وجه لتركهما فعلى قوله هذا إن شئت إجمال الحساب ضربت الأحوال السّبع في أنفسها تحصل تسع وأربعون صورة والصحيح منها إحدى وعشرون فعليك باستخراج هذه الصّور مع ملاحظة ما عدا الثنائية من الثلاثية الى السّباعية. ونشير الى أنّ العلّامة في «التهذيب» ص ٨١ حصرها في عشرة.

وإليك هذه الصورة للتوضيح

٨٨

والتّخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز ، لكنّه لمّا كان لهما مزيد اختصاص وامتياز افردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيما له ، وذكروا لكلّ واحد منها مرجّحا على الآخر (١) ، مثل.

أنّ المجاز أرجح من الاشتراك (٢) لكثرته وأوسعيّته في العبارة ، وكونه أفيد ، لأنّه لا توقّف فيه أبدا بخلاف المشترك. والاشتراك أرجح من المجاز (٣) من حيث أبعديّته عن الخطأ إذ مع عدم القرينة يتوقّف ، بخلاف المجاز ، فيحمل على الحقيقة ، وقد يكون غير مراد في نفس الأمر ، وأنّ المجاز يصحّ من كلّ من المعنيين فيكثر الفائدة ، بخلاف المجاز من النقل ، لأنّ النقل يقتضي الوضع في المعنيين على التعاقب ونسخ الوضع الأوّل بخلاف الاشتراك ، والنسخ يقتضي بطلان المنسوخ ، والاشتراك ، يقتضي التوقّف فيكون أولى ، وأنّ الاشتراك أكثر من النقل.

والإضمار أرجح من الاشتراك لاختصاص الإجمال الحاصل بسبب الإضمار ببعض الصّور ، وذلك حيث لا يتعيّن المضمر ، وتعميمه في المشترك ، وأنّ الإضمار أوجز وهو من محاسن الكلام.

__________________

(١) أراد من هذا القول في الجملة وإلّا فسيأتي أنّ بين المجاز والإضمار قول بالمساواة فلا مرجّح لأحدهما على الآخر على ما ذكره ، مع أنّه لم يذكر في بعض أطراف الصّور مرجّح.

(٢) أي من بعض صور الدوران بعضها مع بعض دوران الاشتراك مع المجاز ، فقوله : لكثرته دليل على أرجحية المجاز.

(٣) وهذا عطف على قوله : المجاز أرجح من الاشتراك. وهذه الأرجحيّة علّتها بوجهين : أحدهما من حيث أبعديّته كما أشار. وثانيهما : انّ المجاز يصح لكل من المعنيين أي كل واحد من المعنيين المشترك باعتبار كونه معنى حقيقيا يصح المجاز ، أما معنى المجازي لا يصح منه المجاز إلّا على القول بسبك المجاز من المجاز.

٨٩

والتخصيص أرجح من الاشتراك لأنّه خير من المجاز ، وهو خير من الاشتراك.

والمجاز أرجح من النقل لاحتياج النقل الى اتّفاق أهل اللّسان على تغيير الوضع ، والمجاز يفتقر الى قرينة صارفة هي متيسّرة ، والأوّل متعسّر ، والمجاز فوائده أكثر من النقل ، ويظهر من ذلك ترجيح الإضمار عليه أيضا.

والتخصيص أرجح من النقل لأنّه أرجح من المجاز وهو أرجح من النقل.

والتّخصيص أرجح من المجاز لحصول المراد وغيره مع عدم الوقوف على قرينة التّخصيص ، والمجاز إذا لم تعرف قرينة يحمل على الحقيقة وهي غير مرادة.

والتّخصيص أرجح من الإضمار لكونه أرجح من المجاز المساوي للإضمار.

الى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها ، وفي كثير منها نظر إذ أكثرها معارض بمثلها ، والبسط في تحقيقها وتصحيحها لا يسعه هذا المختصر.

وحاصل غرض المستدلّ في الترجيح (١) بهذه الوجوه إبداء كون صاحب المزيّة الكاملة أولى بالإرادة للمتكلّم ، فلا بدّ من حمل كلامه على ما هو أكمل وأحسن وأتمّ فائدة ، فلا يختار المتكلّم ما هو أخسّ وأنقص وأقل فائدة إلّا في حال الضّرورة ، وحال الضّرورة نادرة بالنسبة الى غيرها ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

وفيه : انّا نمنع أنّ غالب المتكلّمين في غالب كلماتهم يعتبرون ذلك.

فإن قيل : الحكماء منهم يعتبرون ذلك ، وما يجدي للاصوليّ هو ملاحظة كلام الشارع ، وهو حكيم.

__________________

(١) حاصله أنّ من يرجّح بعض هذه المعاني على بعض الآخر ، نظره انّ هذا البعض أرجح وأولى وأتم وأنسب بقاعدة البلاغة من الآخر ، فيكون أولى بإرادة المتكلّم من الآخر.

٩٠

فيقال : إنّ الحكمة لا تقتضي ذكر الأتمّ والأحسن غالبا ، بل ربّما يقتضي ذكر الأنقص.

نعم ، إذا كان المراد إظهار البلاغة للإعجاز ونحوه ، فيعتبر ما له مزيد دخل بموافقة مقتضى المقام ، والخلوص عن التعقيد اللّفظيّ والمعنويّ ، وما يرتبط بالمحسّنات اللّفظية والمعنويّة ، ولكن مقتضى المقامات مختلفة ، وما هذا شأنه من كلامهم ليس له مزيد دخل في بيان الأحكام الشرعيّة الذي هو محطّ نظر الأصوليّ ، ومع تسليم ذلك ، فنمنع حجّية مثل هذا الظنّ (١).

والتحقيق أنّ المجاز في نفس الأمر أغلب من غيره من المذكورات في أكثر كلام المتكلّمين ، ولا يمكن إنكار هذه الغلبة ، وكذلك التخصيص أغلب أفراد المجاز في العامّ لا مطلقا.

وأمّا حصول الغلبة في غيرها ، فغير معلوم ، بل وندرتها معلومة ، وعلى هذا يقدّم المجاز على الاشتراك والنقل ، بل ولا يبعد ترجيحه على الإضمار أيضا ، ويقدّم التخصيص على غيره من أقسام المجاز وغيرها لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

__________________

(١) لأنّ هذا الظنّ قد حصل من الاستحسانات والأقيسة ، والظنّ الذي نقول بحجّيته هو الظنّ المستفاد من الألفاظ بحسب المحاورات المتعارفة لا مطلقا. ومن هنا تعرف عدم المناقضة بين هذا الكلام وما سيقوله بعد ذلك من تقديم بعض المعاني على بعض ، لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعم الأغلب. ووجه المناقضة تارة يمنع الظن الحاصل من الغلبة كما أشار بقوله : وفيه إنّا نمنع ... الخ ، وتارة يجوّز كما أشار بقوله : هذا لأنّ الظنّ ... الخ.

ووجه عدم المناقضة انّ دعوى الغلبة التي منعها حجّتها هي الغلبة الحاصلة من الأقيسة والاستحسانات لا الحاصلة من الألفاظ ، وأما الغلبة التي سلّم حجّتها هي الغلبة الحاصلة من الألفاظ فلا مناقضة بينهما.

٩١

وأمّا حجّية مثل هذا الظنّ ، فيدلّ عليه (١) ما يدلّ على حجيّة أصالة الحقيقة مع احتمال إرادة المجاز ، وخفاء القرينة ، فكما أنّ الوضع من الواضع ، فهذه الامور المخالفة له الطارئة عليه أيضا من جانب الواضع ، ولذا يقال : إنّ المعنى المجازيّ وضع ثانويّ ، فكما يكتفى في المعنى المجازي بالقرائن المعهودة المعدودة ، فكذا يكتفى في معرفة أنّ ذلك اللّفظ مجاز لا مشترك ولا منقول ، بقرينة الغلبة ، سيّما والأصل عدم الوضع الجديد ، وعدم تعدّده ، وعدم الإضمار ، وغير ذلك ، ولم نقف على من منع اعتبار مثل هذا الظنّ من الفقهاء.

وبالجملة ، فلا مناص عن العمل بالظنّ في دلالة الألفاظ ، خصوصا على قول من يجعل الأصل جواز العمل بالظنّ إلّا ما خرج بالدّليل (٢) ، مع أنّه يظهر من تتبّع تضاعيف الأحكام الشرعيّة والأحاديث ، اعتبار هذا الظنّ ، فلاحظ وتأمّل. وإن شئت أرشدك الى موضع واحد منها ، وهو ما دلّ على حلّيّة ما يباع في أسواق المسلمين وإن أخذ من يد رجل مجهول الإسلام ، فروى إسحاق بن عمّار في الموثّق عن العبد الصالح (٣) أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في فرو اليماني وفيما صنع

__________________

(١) غرضه انّ حجّية هذا الظنّ ليس لأجل دليل الانسداد الذي يثبت حجّية الظنّ في زمان الانسداد دون الانفتاح ، بل حجّيته لأجل الدليل الخاص الذي يثبت حجّية هذا الظنّ ولو مع الانفتاح وهو بناء العقلاء.

(٢) كالظنّ في أصول الدّين وكالظنّ الحاصل من القياس والاستحسان أو المصالح المرسلة.

(٣) يراد منه الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ويستفاد من بعض الأخبار أنّه صار ملقّبا بهذا اللّقب في عالم القدس. وروي انّ هارون أرسل جارية لها جمال فائق يريد بالامام عليه‌السلام سوءا وكيدا فجعلها معه في السّجن ، وبعد مدة أرسل هارون خادمه ـ

٩٢

في أرض الإسلام».

قلت : فإن كان فيهما غير أهل الإسلام؟ قال : «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس» (١). ويدلّ على ذلك العرف أيضا ، فلاحظ.

__________________

ـ ليتفحّص عن حال الجارية فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك ، فقال هارون : سحرها موسى بن جعفر بسحره عليّ بها ، فأتى بها وهي ترعد شاخصة نحو السّماء بصرها. فقال : ما شأنك. فقالت : شأني الشأن البديع ، إني كنت واقفة عنده وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف عن صلاته وهو يسبح الله ويقدسه. قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها. قال عليه‌السلام : وما حاجتي إليك.

قلت : إني ادخلت عليك لحوائجك. قال : وما بال هؤلاء. قالت : فالتفت فأنا بروضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة من الوسد والديباج وفيها وصف ووصائف لم أر مثل وجوههم حسنا ولا مثل لباسهم لباسا ، عليهم الحرير الأخضر والإكليل والدّرر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم. فرأيت نفسي حيث كنت. فقال هارون : يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت فرأيت في منامكهذا هذه الخبيثة إليك فلا يسمع منها أحد. فاقبلت في الصلاة فإذا قيل لها في ذلك. قالت : هكذا رأيت العب. قالت : لا والله يا سيدي إلّا قبل سجودي رأيت ، فسجدت من أجل ذلك. فقال هارون : اقبض د الصالح. فسألت عن قولها. قالت : إنّي لما عاينت من الأمر نادتني الجوار يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه ، فنحن له دونك. فما زالت كذلك حتى ماتت. هذا كما في «البحار» ج ٤٨ ص ٢٣٩ عن «المناقب» ج ٣ ص ٤١٤.

(١) «تهذيب الأحكام» : ٢ / ٣٦٨ الحديث ١٥٣٢ ، «وسائل الشيعة» : ٤ / ٤٥٦ الحديث ٥٧٠٨.

٩٣

قانون :

كلّ لفظ ورد في كلام الشّارع ، فلا بدّ أن يحمل على ما علم إرادته منه ، ولو كان معنى مجازيا. وإن لم يعلم المراد منه ، فلا بدّ من أن يحمل على حقيقة اصطلاحه سواء ثبت له اصطلاح خاصّ فيه أو لم يثبت ، بل كان هو اصطلاح أهل زمانه.

وإن لم يعلم ذلك أيضا ، فيحمل على اللّغوي والعرفي إن وجد أحدهما بضميمة أصالة عدم النقل ، فإذا وجد واحد منهما واتّحد ، فهو (١) ، وإن تعدّد ، فيتحرّى في تحصيل الحقيقة باستعمال أماراتها أو القرينة المعيّنة للمراد ، ثمّ يعمل على مقتضاه من الترجيح أو التوقّف.

وإن وجد كلاهما (٢) ، فإن كان المعنى العرفي هو عرف المتشرّعة ، فهو محلّ

__________________

(١) يعني إذا وجد واحد من المعنى اللّغوي أو العرفي واتحد ذلك المعنى فهو المراد ، وانّ احتمال وجود معنى آخر للفظ غير المعنى المعلوم وهو المراد في نفس الأمر ينفيه أصالة العدم.

(٢) بأن يكون المعنى اللّغوي والعرفي كلاهما موجودين ومعلومين وهو على قسمين :

الأوّل : أن يكون أحدهما معلوما بالإجمال والآخر بالتفصيل ، ولكن الشك كان في التطابق والتخالف ، بمعنى ان يشك في أن معناه العرفي هل هو مطابق لمعناه اللّغوي أم لا. فحينئذ يحمل على اللّغوي لأصالة التطابق وعدم النقل.

والثاني : أن يكون كلاهما معلومين بالتفصيل ، ولكن الشك في أنّ معناه العرفي هل هو كان في زمان الشارع أو حدث بعد زمانه ، فحينئذ إن كان المعنى العرفي هو عرف المتشرعة ؛ فهو محل النّزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وإلّا ؛ فهي المسألة المعبر عنها في الأصول بتعارض العرف واللّغة ، وقد اختلفوا في ذلك على أقوال ثالثها التوقف ولم يذكره المصنف.

٩٤

النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وإلّا فالمشهور تقديم العرف العامّ لإفادة الاستقراء ذلك.

وقيل : يقدّم اللّغة لأصالة عدم النقل ، والأوّل أظهر.

وأمّا ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ففيه خلاف ، والمشهور بينهم أنّ النزاع في الثبوت مطلقا والنّفي مطلقا.

والحقّ كما يظهر من بعض المتأخّرين التفصيل (١).

وتحرير محلّ النزاع هو أنّ كثيرا من الألفاظ المتداولة على لسان المتشرّعة ـ أعني بهم من يتشرّع بشرعنا فقيها كان أو عاميّا ـ صارت حقائق في المعاني الجديدة التي استحدثها الشارع ولم يكن يعرفها أهل اللّغة ، مثل الصلاة في الأركان المخصوصة ، والصوم في الإمساك المخصوص ، الى غير ذلك ، فهل ذلك بوضع الشارع إيّاها في إزاء هذه المعاني بأن نقلها من المعاني اللّغوية ووضعها لهذه المعاني الجديدة ، أو استعملها مجازا في هذه المعاني مع القرينة وكثر استعمالها فيها الى أن استغنى عن القرينة فصارت حقائق ، أو لم يحصل الوضع الثانوي في كلامه بأحد من الوجهين وكان استعماله فيها بالقرينة؟

__________________

(١) يمكن أن يقصد من هذا البعض السيد صدر الدين حيث اختار التفصيل كما في شرح «الوافية» تبعا لما حكاه عن معاصره السيد الفاضل نصر الله المدرّس بالحائر. هذا وسيأتي من المصنف كلام في التفصيل كما في طيّ قوله : وكيف كان فالحق ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة ، وأما في جميع الألفاظ والأزمان فلا ... الى آخر كلامه.

ويمكن لنا أن نقول انّ التفصيل أي التفصيل بين الألفاظ والأزمان كليهما يعني ثبوتها في بعض الألفاظ وبعض الأزمان ، فحينئذ مراد القول بثبوتها مطلقا ، ثبوتها في جميع الألفاظ والأزمان ، وبنفيها مطلقا نفيها في جميعها ، وأما التفصيل بثبوتها في جميع الألفاظ وبعض الأزمان أو بالعكس فالظاهر أنّه لم يظهر من أحد.

٩٥

ويظهر ثمرة النزاع إذا وجدت في كلامه بلا قرينة.

فإن قلنا بثبوت الحقيقة ، فلا بدّ من حملها على هذه المعاني وإلّا فعلى اللّغوي.

وقد طال التّشاجر بينهم في الاستدلال ، ولكلّ من الطرفين حجج واهية (١). وأقوى أدلّة النافين (٢) أصالة عدم النقل.

وأقوى أدلّة المثبتين (٣) : الاستقراء ، فيدور الحكم مدار الاستقراء.

وقد يستدلّ بالتبادر (٤) ، بأنّا إذا سمعنا هذه الألفاظ في كلام الشارع ، يتبادر في أذهاننا تلك المعاني ، وهو علامة الحقيقة. وهذا الاستدلال من الغرابة بحيث لا يحتاج الى البيان ، إذ من الظاهر أنّ المعتبر من التبادر هو تبادر المعنى من اللّفظ عند المتحاورين بذلك اللّفظ ، فإذا سمع النحويّ لفظ الفعل من اللّغوي وتبادر الى ذهنه ما دلّ على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، لا يلزم منه كونه حقيقة فيه عند اللّغوي أيضا.

وربّما زاد بعضهم مصادرة (٥) وقال : الظاهر أنّ ذلك التبادر استعمال الشارع لا

__________________

(١) بمعنى ضعيفة.

(٢) كالقاضي أبي بكر منع منه مطلقا كما في «المحصول» وليس حصرا فيه فقط وقد نسب إليه القول : بأنّ هذه الألفاظ باقية في معانيها اللّغوية والزيادات شروط لقبولها وصحتها.

(٣) كالمعتزلة فإنّهم اثبتوها مطلقا ، فما كان اسما للفعل كالصلاة والصوم والزكاة والوضوء سموها شرعيّة وما كان اسما للذّات كالمؤمن والكافر والمنافق سمّوها دينية كما في «المحصول» ، وليس حصرا فيهم فقط فقد صرّح الآمدي بنسبته الى الخوارج والفقهاء أيضا.

(٤) على الاثبات.

(٥) قيل انّ مراده من هذا البعض هو الوحيد البهبهاني. وقيل : السيد صدر الدّين. وقيل هو ـ

٩٦

لأجل إلف (١) المتشرّعة بهذا المعنى.

ثمّ أغرب وقال : إنّ التبادر معلوم ، وكونه لأجل أمر غير الوضع ، غير معلوم ، يعني وضع الشارع ، وهو مقلوب عليه بأنّ التبادر معلوم وكونه من أجل وضع الشارع غير معلوم ، وعلى المستدلّ الإثبات ولا يكفيه الاحتمال.

وكيف كان ، فالحقّ ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة ، وأمّا في جميع الألفاظ والأزمان ، فلا.

والذي يظهر من استقراء كلمات الشارع ، أنّ مثل الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والركوع والسجود ونحو ذلك ، قد صارت حقائق في صدر الإسلام ، بل ربّما يقال أنّها كانت حقائق في هذه المعاني قبل شرعنا أيضا (٢) ، لكن حصل اختلاف في الكيفية ،

__________________

ـ الفاضل التوني الذي ذكر في «الوافية» ص ٦٠ فقال معلّقا : غايته أنّك تقول : إنّ هذا التبادر لأجل المؤنسة بكلام المتفقّهة. فنقول : هذا غير معلوم ، بل الظاهر أنّه لكثرة استعمال الشارع هذه الألفاظ في هذه المعاني. والحاصل : أنّا نقول إنّ التبادر معلوم ، وكونه لأجل أمر غير الوضع غير المعلوم. هذا وانّ المصادرة في اللّغة هي المراجعة والمطالبة ، وأما في الاصطلاح هي أخذ المدّعي دليلا لتمام الدّعوى أو جزءها. والمناسبة بينهما ظاهرة لرجوع المستدلّ به الى الادّعاء وطلبه له حيث أخذه أوّلا مدّعى لنفسه ثم رجع إليه وجعله دليلا ، وبطلان المصادرة للزوم الدّور ، لأنّ ثبوت المدّعى موقوف على ثبوت الدليل وبالعكس. ويمكن دفع هذه المصادرة بأنّ مدّعى هذا البعض هو ثبوت الحقيقة الشرعية ودليله هو ظهور التبادر من كثرة استعمال الشارع ، فلا يكون الدليل عين المدّعى.

(١) الإلف بالكسر مصدر على وزن العلم وهي بمعنى الأنس والاسم الألفة.

(٢) كما عند صاحب «الفصول» ص ٤٣ ، ونجد صحة هذا بالتتبع للآيات والروايات وهي تحدث عن مآثر الأنبياء وإن كانت صلاتهم تختلف عما نحن عليه وكذا صيامهم.

٩٧

وحصولها فيها وفي غيرها من الألفاظ الكثيرة الدّوران في زمان الصّادقين عليهما‌السلام (١) ومن بعدهما ؛ ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما صرّح به جماعة من المحقّقين (٢).

وأمّا مثل لفظ الوجوب والسنّة والكراهة ونحو ذلك ، فثبوت الحقيقة فيها في كلامهما عليهما‌السلام ومن بعدهما أيضا محلّ تأمّل ، فلا بدّ للفقيه من التتبّع والتحرّي ، ولا يقتصر ولا يقلّد.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الوجهين في كيفية صيرورتها حقيقة ، فالأوّل منهما في غاية البعد ، بل الظاهر هو الوجه الثاني (٣).

وعليه فلا تحصل الثّمرة إلّا فيما علم أنّه صدر بعد الاشتهار في هذه المعاني الى أن استغنى عن القرينة ، فإن علم أنّه كان بعده ، فيحمل على الحقيقة ، وإلّا فيمكن صدوره قبله ، وحينئذ فيمكن إرادة المعاني الجديدة واختفى [واختفت] القرينة.

ويمكن إرادة المعنى اللّغويّ ، والأصل عدمها (٤) ؛ فيحمل على اللّغويّ وهذا أقرب ،

__________________

(١) وهما الباقر والصادق عليهما‌السلام وإنّما خصّهما بالذّكر دون غيرهما من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام يمكن لأنّ صدور الكثير من الروايات وإظهارها كان في عصرهما ، وربما لأجل ذلك اصطلح تسمية المذهب الحق بالمذهب الجعفري.

(٢) كالوحيد في «الفوائد» ص ١٠٢ ، وقد ذكر القول بالتفصيل في «المسترشدين» ١ / ٤١٣. ونقل في «الفصول» ص ٤٢ : وقد يحكى عن بعضهم نفيها فيما تقدّم على زمن الصادقين أيضا.

(٣) المراد بالأوّل هو قوله : انّ الشارع قد نقل هذه الألفاظ عن المعاني اللّغويّة ووضعها لهذه المعاني الجديدة ، ووجه بعده ظاهر ، بل الظاهر هو الوجه الثاني وهو انّه استعمله فيها بمعونة القرينة مجازا الى ان استغنى عن القرينة فصارت حقائق فيها.

(٤) الضمير في عدمها راجع الى إرادة المعاني الجديدة لا الى إرادة المعنى اللّغوي كما قد ـ

٩٨

فليرجع الى التفصيل الذي ذكرنا وليتأمّل وليتتبّع لئلّا يختلط الأمر ، والله الهادي.

ثمّ اعلم أنّه قد نسب الى بعض المنكرين (١) للحقيقة الشرعيّة ، القول بأنّ الشارع لم يستعمل تلك الألفاظ في المعاني المخترعة ، بل يقول : إنّه استعملها في المعاني اللّغوية ، والزّوائد شروط لصحّة العبادة. فالصلاة مثلا مستعملة في الدّعاء وكونه مقترنا بالرّكعات شرط لصحّة الدّعاء ، والشرط خارج عن المشروط.

وكذلك الغسل هو غسل مشروط بزوائد ، وهكذا ، فلا نقل عنده ولا حقيقة جديدة.

وردّ : بأنّه يلزمه أن لا يكون المصلّي مصلّيا إذا لم يكن داعيا فيها كالأخرس ، أو لم يكن متّبعا كالمنفرد وهو باطل.

ويلزم (٢) هذا القائل نفي التركيب والماهيّات المخترعة عند الشارع.

__________________

ـ يتوهم نتيجة لقربها. فإذا يكون المعنى عدم إرادة المعاني الجديدة لأنّ المجاز على خلاف الأصل.

(١) كالقاضي أبو بكر الباقلّاني من الشافعية على ما نسب إليه بعضهم كالفخر الرازى ، وشرذمة أخرى من العامة. واسم القاضي محمد بن طيب البصري ، وقيل في الباقلّاني بكسر القاف منسوب الى الباقلّي ، ففي «الفصول» ص ٤٣ : وربما عزى الى الباقلّاني القول بأن هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغوية والزيادات مشروط لقبولها وصحتها وهو غير ثابت.

(٢) في بعض التعاليق للشهشهاني ذكر : انّه ربما يتراءى في بادئ النظر عطفه على يلزم الأوّل فيكون دليلا ثانيا على بطلان مذهب القاضي ، لكنه ليس بذلك لأنّه يشبه المصادرة ، ويشهد بذلك إسقاط وهو عن ذيل الكلام ، مع انّه من أجزاء الدليل ومتعلّقاته يلزم الأوّل أيضا. ولم يصرّح به ثمة لظهوره ، فالتصريح به هناك يكشف عن مغايرة السياق وانقطاع الكلام عن السائق ، بل هو كلام مستأنف جيء لبيان منشأ ترتب الثمرة على المذهبين ، فإنّ جواز إجراء الأصل على مذهب القاضي في ضبط الأجزاء ـ

٩٩

ويظهر الثمرة في إمكان جريان أصل العدم في إثبات الأجزاء والشرائط وعدمه.

وبيان ذلك أنّه لا خلاف ولا ريب في كون الأحكام الشرعية توقيفيّة لا بدّ أن يتلقّى من الشارع.

وأمّا موضوعات الأحكام ، فإن كان من قبيل المعاملات فيرجع فيها الى العرف واللّغة وأهل الخبرة كالبيع والأرش ونحوهما. وكذلك كلّ لفظ يستعمل في كلام الشارع لإفادة الحكم أو لإفادة بيان ماهيّة العبادة ، كالغسل بفتح الغين والمسح ونحوهما. وإن كان من قبيل العبادات كالصلاة والغسل ونحوهما فهو أيضا كنفس الأحكام ، فإنّها حقائق محدثة من الشارع لا يعلمها إلّا هو.

وأمّا هذا القائل فيرجع فيها أيضا (١) الى اللّغة والعرف ، كالمعاملات ، لأنّه لم يقل بكونها منقولات ، غاية الأمر أن يقارنها بما يثبت عنده من الشرائط.

فإن قلنا بجعل الماهيّات الجديدة من جانب الشارع وإحداثها ، فيصير العبادات من باب مركّب ذي أجزاء ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، فلا بدّ في حصول الامتثال به من حصول العلم بجميع أجزائه وشرائطه ، فإذا شكّ في كون شيء جزء له أو شرطا له ، فلا يمكن القول بأنّ الأصل عدم المدخليّة ، للزوم العلم بالإتيان بالماهيّة المعيّنة ، ولا يكفي في ذلك عدم العلم بعدم الإتيان.

وامّا على القول بعدم تركيب جديد ، فالمكلّف به هو المعنى اللّغوي ولا تأمّل

__________________

ـ والشرائط إنّما نشأ من نفيه التركيب فهو من باب المقدمة. لقوله : ويظهر الثمرة وهو وإن كان لازما لكلامه الأوّل الذي جعل مذهبا له من نفي الاستعمال كعكسه ، إلّا أنّه لمّا كانت الملازمة من هذه الجهة أخفى من الأخرى صرّح به المصنف وقرّره ليترتب عليه بدو الثمرة ، وإنّما لم ينعكس لأنّ الكلام في أبواب اللّغات فتدبّر.

(١) القائل هو القاضي أبو بكر والظاهر انّ كلمة أيضا زائدة.

١٠٠