القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

قلت : ليس كذلك (١).

أمّا أوّلا : فلأنّ احتياج الحقيقة حينئذ الى قرينة إنّما هو لعدم إرادة المعنى المجازي ، فإنّ دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي موقوف على انتفاء قرينة المجاز حقيقة أو حكما ولا شبهة في ذلك ، فإنّ انفهام الحيوان المفترس من الأسد موقوف على فقدان يرمي مثلا ، ولمّا لم يمكن إزالة الشّهرة التي هي قرينة في هذا المجاز حقيقة ، فيكتفى بانتفائها حكما بنصب قرينة تدلّ على المعنى الحقيقي ، كما أشار إليه الفاضل المدقّق الشيرواني (٢).

وأمّا ثانيا (٣) : فلأنّ اللّفظ يستعمل في المعنى الحقيقي حينئذ أيضا بلا قرينة ، غاية الأمر حصول الاحتمال ، فينوب ذلك مناب الاشتراك ، ولا يسقط عن كونه حقيقة ، ولا يلزم الاشتراك المرجوح أيضا (٤).

ألا ترى أنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٥) مع أنّه جعل الأمر في أخبار الأئمة عليهم‌السلام

__________________

(١) ليس كل معنى يحتاج الى قرينة يكون معنى مجازيا.

(٢) في حاشية على «المعالم»

(٣) مشيرا الى اثبات الفرق بين القسمين بحسب الحكم أيضا.

(٤) إنّ ما نحن فيه يشبه الى حد ما الاشتراك ، فكما انّ لفظة العين إن استعملت بلا قرينة يحتمل حينئذ جميع معانيها ، فكذلك الأمر بعد اشتهاره بالندب لو استعمل بلا قرينة يحتمل إرادة الوجوب وارادة الندب. ومع ذلك حقيقة في الوجوب فقط ، ويجوز إرادته ولم يكن مشتركا بينهما كما قال ، ولا يلزم الاشتراك المرجوح أيضا إذ المفروض مجازيّة الندب. والمراد من الاشتراك المرجوح هو أن يكون احتمال أحد المعنيين فيه أظهر من الآخر لكثرة الاستعمال فيه ، فكان هو راجحا والآخر مرجوحا.

(٥) لقد استشهد بكلام صاحب «المعالم» في إثباته للجواب الثاني من جواز استعمال ـ

٦١

مجازا راجحا في الندب مساويا للحقيقة من جهة التبادر وعدمه ، لم يقل بصيرورته مجازا في الوجوب في عرفهم ، فإنّ الذي يصحّ أن يحمل كلامه عليه دعوى شيوع استعمال الأمر في كلامهم في الندب خاليا عن القرينة وانفهام إرادة الندب من رواية اخرى أو إجماع أو غير ذلك ، فإنّ كثرة الاستعمال مع القرينة لا يستلزم ما ذكره كما لا يخفى ، وهو لا ينكر أنّ الأمر في كلامهم أيضا مستعمل في الوجوب بلا قرينة ؛ وإن علم الوجوب من الخارج ، ولا يتفاوت الأمر حينئذ بين تبادر المجاز الرّاجح أو حصول التوقّف (١).

والظاهر أنّ من يقول بتبادر المجاز الرّاجح أيضا ، لا يقول بعدم جواز الاستعمال في اللّفظ بلا قرينة ، غاية الأمر توقّف الفهم على القرينة ، ومطلق ذلك التوقّف لا يستلزم المجازية ، ولذلك اختلفوا في مبحث تعارض الأحوال في حكم اللّفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز الرّاجح.

فقيل : بتقديم الحقيقة (٢) من جهة رجحان جانب الوضع.

وقيل : بتقديم المجاز الرّاجح ؛ لترجيح جانب الغلبة ، فإنّ الظنّ يلحق الشيء

__________________

ـ القسم الثاني من المجاز المشهور في المعنى الأوّل وبدون القرينة ، فإنّ الشيخ حسن رحمه‌الله يقول : بأنّ صيغة افعل مجاز مشهور في الندب ، ومع ذلك فهو لا ينكر أن يستعملها الأئمّة عليهم‌السلام في الوجوب بدون قرينة راجع ص ١٣٥ من مبحث دلالة صيغة افعل.

(١) فلا يتفاوت الأمر الذي هو جواز استعمال المجاز المشهور بدون قرينة في المعنى الأوّل بين القول بتقديم المجاز المشهور الراجح وبين القول بالتوقف ، فيجوز استعماله فيه بدون القرينة على كلا القولين.

(٢) كما ذهب الفاضل التوني في «الوافية» ص ٦١ ، والغزالي في «المستصفى» ١ / ٢٣٧ ، وراجع الفائدة الرابعة والثلاثون من «الفوائد الحائرية» ص ٣٢٣ ففيها زيادة بيان.

٦٢

بالأعمّ الأغلب (١).

ومثل ما ذكرنا مثل المشترك إذا اشتهر في أحد معانيه مثل : العين في الباصرة أو هي مع الينبوع أو هي مع الذّهب ، فإنّه لا ريب أنّه عند إطلاقها ينصرف الذّهن الى أحد المذكورات لا الى غيرها من المعاني ، ومع ذلك فلا يجوز الاعتماد على هذا الانصراف.

وبالجملة ، التبادر مع ملاحظة الشّهرة لا يثبت كونها حقيقة ، ولا يخرج الحقيقة الأولى عن كونها حقيقة ، فتأمّل وافهم واستقم ، وبالتأمّل فيما حقّقنا تعلم معنى كون تبادر الغير علامة للمجاز.

الثالث : صحة السّلب يعرف بها المجاز كما تعرف الحقيقة بعدمها (٢). والمعتبر فيه أيضا اصطلاح التخاطب ، فصحّة السّلب وعدمها في اصطلاح لا يدل إلّا على كون اللّفظ مجازا أو حقيقة في ذلك الاصطلاح ، كما عرفت في التبادر.

والمراد صحّة سلب المعاني الحقيقية عن مورد الاستعمال وعدمها ، مثل قولهم للبليد : ليس بحمار ، وعدم جواز : ليس برجل. وزاد بعضهم (٣) في نفس الأمر

__________________

(١) فقد عزي الى بعض المتأخّرين الميل الى تقديم المجاز على الحقيقة لما حكي عن ابن جنّي من غلبة المجاز على الحقيقة ، وانّ أكثر اللغة مجازات فالظنّ يلحق المشكوك بالأعم الأغلب. وقد أظهر بيان فساده الأصفهاني في «هداية المسترشدين» راجعه في الفائدة التاسعة في طرق معرفة الحقيقة والمجاز.

(٢) أي بعدم صحة السلب.

(٣) كالعضدي في شرح «المختصر» في طي قوله : ومنها صحة النفي في نفس الأمر. قال : وإنّما قلت في نفس الأمر ليدفع ما أنت بانسان لصحته لغة. وأوضحه التفتازاني بقوله : وقيد بنفس الأمر لأنّه ربما يصح النفي لغة واللّفظ حقيقة كما في قولنا : زيد ليس ـ

٦٣

احترازا عن مثل قولهم للبليد : ليس بإنسان ، ولا حاجة إليه (١) ، لأنّ المراد صحّة سلب المعاني الحقيقيّة حقيقة ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فالقيد غير محتاج إليه وإن كان مؤدّاه صحيحا في نفس الأمر.

وقد اورد على ذلك : باستلزامه الدّور المضمر بواسطتين (٢) ، فإنّ كون

__________________

ـ بإنسان. ويمكن أراد المصنف الفاضل الجواد حيث زاد في شرحه «للزبدة» قيدا للصحة زاعما أنّه لولاه انتقضت علامة المجاز بنحو البليد ليس بإنسان بزعم أنّ الصحة أعم منها بحسب الصورة وبحسب نفس الأمر ، فمسّت الحاجة الى اعتبار هذا القيد في التعريف احترازا عن مثالهم المذكور.

(١) لا حاجة الى قيد نفس الأمر كما ذهب إليه المصنف ، وذلك لأنّ صحة السلب مجاز في السلب بحسب الصورة ، وحقيقة في السلب بحسب نفس الأمر ، فلفظ السّلب عند الاطلاق لا يفيد إلّا السّلب الحقيقي إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة لا المجاز.

(٢) الدّور على ما عرّفه أصحاب المعقول عبارة عن كون الشيء موقوفا على موقوف نفسه فهو المصرّح ، وإن كان على موقوف موقوفه فهو مضمر بواسطة واحدة أو على موقوف ، موقوف موقوفه فهو مضمر بواسطتين وهكذا. وإن أردت زيادة في التوضيح فاعلم أنّ توقف الشيء يتصوّر أوّلا بوجهين : لأنّه إما أن يكون بحيث يتوقف وجوده على وجوده ، وهذا توقف الشيء على نفسه ، أو يتوقف وجوده على وجود غيره وكان وجود ذلك الغير أيضا موقوفا على وجود ذلك الشيء فهو المسمى بالدّور. وهو على أقسام ثلاثة دور معيّ ودور حقيقي مصرّح ودور حقيقي مضمر. الدور المعيّ وهو ما كان وجود كل واحد من الشيئين بواسطة الآخر من دون أن يكون أحدهما علّة للآخر كاللّبنتين القائم كل منهما بالآخر ، فإنّ الوجود القائم منهما موقوف على وجود القيام في الاخرى من دون العلّية في البين ، ووجه التسمية به كون التوقف فيه عبارة عن مجرّد التقارن في الوجود والمصاحبة وهذا القسم صحيح لا غبار عليه. وإن كان أحد الطرفين موقوفا على الطرف الآخر أو كان هو أيضا موقوفا على نفس الطرف الأوّل بلا ـ

٦٤

المستعمل فيه مجازا لا يعرف إلّا بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية ، ولا يعرف سلب جميع المعاني الحقيقة إلّا بعد معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها ، بلّ هو لاحتمال الاشتراك ، فإنّه يصحّ سلب بعض معاني المشترك عن بعض ، وهو موقوف على معرفة كونه مجازا ، فلو أثبت كونه مجازا بصحة السّلب لزم الدّور المذكور.

وأمّا لزوم الدّور في عدم صحّة السّلب ، فإنّ عدم صحة سلب المعنى الحقيقي موقوف على معرفة المعنى الحقيقي ، فلو توقّف معرفة المعنى الحقيقي على عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي لزم الدّور ، هكذا قيل.

والحقّ ، أنّ الدّور فيه أيضا مضمر (١) ، لأنّ معرفة كون الإنسان حقيقة في البليد موقوف على معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد ، كالكامل في الإنسانية ، ومعرفة عدم هذا المعنى موقوف على معرفة كون الإنسان حقيقة في البليد.

نعم لو قلنا : إنّ قولنا (٢) : عدم صحّة سلب الحقائق علامة الحقيقة سالبة جزئيّة ، كما هو الظاهر فلا يحتاج الى إضمار الدّور ، لكنّه لا يثبت إلّا الحقيقة في الجملة ، وبالنسبة كما سنذكره.

__________________

ـ واسطة كتوقف «أ» على «ب» و «ب» على نفس «أ» فهو دور حقيقي مصرّح. وإن كان أحد الطرفين موقوفا على الآخر ، وهو موقوف على واسطة وهي موقوفة على الطرف الأوّل ، والواسطة إمّا واحدة كتوقف «أ» على «ب» و «ب» على «ج» ثم «ج» على «أ» وعلى واسطتين مترتبتين أو ثلاث أو أكثر يتوقف أخيرتيها في الجميع على الطرف الأوّل ، فيقال في الأوّل دور مضمر بواسطة وفي الثاني بواسطتين وفي الثالث بوسائط وهكذا. ولا حصر لأقسامه ولكن إطلاقه ينصرف الى واسطة واحدة.

(١) وذكر هذا القول في «هداية المسترشدين» ١ / ٢٤١ وردّ عليه هناك. وكذا في «الفصول الغروية» ص ٣٤.

(٢) وهذا القول الآتي كلّه قد ردّ عليه الاصفهاني في «هداية المسترشدين» ١ / ٢٤٢.

٦٥

وعلى هذا فلم لم يكتفوا في جانب المجاز أيضا بالموجبة الجزئية ، ويقولوا إنّ صحّة سلب بعض الحقائق علامة للمجاز في الجملة وبالنسبة (١)؟

وقد أجاب عنه بعضهم (٢) : بأنّ المراد إنّا إذا علمنا المعنى الحقيقي للفظ ومعناه المجازي ولم نعلم ما أراد القائل منه ، فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد [الموارد] ، أنّ المراد المعنى المجازي وذلك ظاهر.

ثمّ قال : إنّ ذلك الدّور لا يمكن دفعه في جانب جعل عدم صحّة السّلب علامة للحقيقة ، لعدم جريان هذا الجواب فيه ، ويبقى الدّور فيه بحاله ، فإنّا إذا علمنا المعنيين ولم نعلم أيّهما المراد ، فلا يمكن معرفة كونه حقيقة لعدم صحّة سلب المعنى الحقيقي ، فإنّ العامّ المستعمل في فرد مجاز مع امتناع سلب معناه الحقيقي عن مورد استعماله ، وأنت خبير بما فيه.

__________________

(١) هذا إيراد من المصنف على القوم حاصله ، إن أرادوا إثبات الحقيقة والمجاز على الاطلاق كان اللّازم أن يعتبروا العلامة من الطرفين كليّة ، فيقولون عدم صحة سلب جميع الحقائق علامة الحقيقة وصحة سلب جميعها علامة المجاز ، وإن أرادوا استعلام كون المستعمل فيه حقيقة أو مجازا في الجملة وبالنسبة فلم لم يكتفوا في جانب المجاز بصحة سلب بعض الحقائق ، إذ يثبت بذلك كون المستعمل فيه مجازا بالنسبة الى المسلوب عنه.

وقوله في الجملة : أي لا من جميع الوجوه. وبالنسبة يعني استعمال اللّفظ في مورد الاستعمال يكون حقيقة بالنسبة الى ذلك المعنى الذي لا يجوز سلبه عنه ، وإن كان معنا مجازيا بالنسبة الى معنى حقيقي آخر للفظ يجوز سلبه عنه هذا كما في الحاشية.

(٢) كالمحقق الشريف وكذا العضدي والتفتازاني إلا أنّهما لم يتعرضا لدفع الدّور عن علامة الحقيقة ، وصرّح الشريف بعدم إمكانه كما سيذكر وقد اتى على هذه المسألة الاصفهاني في «الفصول الغروية» ص ٣٦ ، وفيه اعترض على السيد المدقّق الشيرازى فراجع «الفصول».

٦٦

أمّا أوّلا : فلأنّه خروج عن محلّ البحث ، فإنّ الكلام فيما علم المستعمل فيه ولم يتميّز الحقائق من المجازات ، لا فيما علم الحقيقة والمجاز ولم يعلم المستعمل فيه ، ولا ريب أنّ الأصل في الثاني هو الحمل على الحقيقة.

وأمّا ثانيا : فلأن سلب المعنى المجازي حينئذ أيضا يدلّ على إرادة المعنى الحقيقي ، فلا اختصاص لهذه العلامة بالمجاز.

لا يقال : أنّ المجازات قد تتعدّد ، فنفي الحقيقة لا يوجب تعيين بعضها ، لأنّ هذا القائل (١) قد عيّن المجاز ، والمفروض أيضا إرادة تعيين شخص المجاز لا مطلقة ، مع أنّ لنا أيضا أن نقول : سلب مطلق المعنى المجازي علامة للحقيقة ، فافهم.

وأمّا ثالثا : فما ذكره في عدم صحّة السّلب للحقيقة ، فمع أنّه يرد عليه ما سبق من كونه خروجا عن المبحث.

فيه : أنّ العامّ إذا استعمل في الخاصّ فهو إنّما يكون مجازا إذا اريد منه الخصوصيّة لا مطلقا ، ومع إرادة الخصوصيّة فلا ريب في صحة سلب معناه الحقيقي بهذا الاعتبار ، وإنّما يختلف ذلك باعتبار الحيثيّات (٢).

وقد اجيب أيضا (٣) : بأنّ المراد سلب ما يستعمل فيه اللّفظ المجرّد عن القرينة وما يفهم منه كذلك عرفا ، إذ لا شكّ في أنّه يصحّ عرفا أن يقال للبليد : إنّه ليس

__________________

(١) جواب لقوله : لا يقال.

(٢) فمن حيث الخصوصيات مجاز يصح السّلب وبدونها حقيقة يمتنع.

(٣) هذا الجواب ذكره الوحيد البهبهاني في «فوائده» ص ٣٢٥ وذكره المحقق الاصفهاني في «هدايته» ١ / ٢٥٩ ، وهو جواب آخر راجع الى ما ذكر سابقا في دفع الدّور ، من أنّ صحة السلب وعدمها عند العالمين بالأوضاع علامتان للجاهل لوضوح معرفة أهل العرف بأوضاع ألفاظ لغتهم.

٦٧

بحمار ، ولا يصحّ أن يقال : ليس برجل ولا ببشر أو بإنسان.

وفيه : أنّ ذلك مجرّد تغيير عبارة ولا يدفع السّؤال (١) فإنّ معرفة ما يفهم من اللّفظ عرفا مجرّدا عن القرائن هو بعينه معرفة الحقائق سواء اتّحد المفهوم العرفي وفهم معيّنا أو تعدّد بالاشتراك ففهم الكلّ إجمالا وبدون التعيين ، وذلك يتوقّف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو عين ما يفهم عرفا على التعيين أو من جملة ما يفهم عرفا على الإجمال ، فيبقى الدّور بحاله (٢).

ويمكن أن يقال : لا يلزم من نفي المعاني الحقيقيّة العلم بكون المستعمل فيه مجازا ، بل يكفي عدم ثبوت كونه حقيقة لسبب عدم الانفهام العرفي ، فإذا سلب ما علم كونه حقيقة العرفي ؛ يحكم بكون المستعمل فيه مجازا ، لأنّ احتمال الاشتراك مدفوع بأنّ الأصل عدمه ، والمجاز خير من الاشتراك ، فهذه العلامة مع هذا الأصل والقاعدة يثبت المجازيّة.

وفيه : أنّه مناف لإطلاقهم بأنّ هذه علامة المجاز أو الحقيقة ، فإنّ ظاهره كونه سببا تامّا لفهم المجازية أو الحقيقية لا جزء سبب ، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ عند من يقول بكون المجاز خيرا من الاشتراك وظاهرهم الإطلاق (٣).

__________________

(١) أي لا يدفع الدّور. ثم اعلم أنّ هذا الاعتراض إنّما نشأ من توهم أنّ عرفا قيد للفهم ، وقد عرفت أنّه قيد للصحة لا للفهم.

(٢) وقد جاء على ذكره والتعرض لهذا الجواب الاصفهاني في «هداية المسترشدين» ١ / ٢٥٩.

(٣) يعني انّ ظاهر كلمات الأصوليين في كون صحة السلب وعدمها علامتين للمجاز والحقيقة مطلق أي غير مقيّد بمجتهد دون آخر ، بل علامة عند جميعهم حتى عند السيّد المرتضى واتباعه القائلين بكون الاشتراك خير من المجاز كصاحب «المعالم» ص ١٣٣ في مبحث الاشتراك لغة.

٦٨

والذي يختلج بالبال في حلّ الإشكال وجهان :

الأوّل : أن يقال : إنّ المراد بكون صحّة السّلب علامة المجاز ، أنّ صحة سلب كلّ واحد من المعاني الحقيقية عن المعنى المبحوث عنه علامة لمجازيّته بالنسبة الى ذلك المعنى المسلوب ، فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر ، فيكون ذلك المبحوث عنه مجازا مطلقا ، وإن تعدّد فيكون مجازا بالنسبة الى ما علم سلبه عنه لا مطلقا (١) ، فإذا استعمل العين بمعنى النابعة في الباصرة الباكية لعلاقة جريان الماء ، فيصحّ سلب النّابعة عنها ، ويكون ذلك علامة كون الباكية معنى مجازيا بالنسبة الى العين بمعنى النّابعة ، وإن كانت حقيقة في الباكية أيضا من جهة وضع آخر.

فإن قلت (٢) : إنّ سلب العين بمعنى الذّهب عنها بمعنى الميزان ، لا يفيد كون الميزان معنى مجازيّا لها لعدم العلاقة.

قلت : هذا لو أردنا كونه مجازا عنها بالفعل ، وأمّا إذا كان المراد كونه مجازا بالنّسبة إليها لو استعمل فيه ، فلا يرد ذلك ، وهو كاف فيما أردنا. وما ذكرنا في المثال إنّما هو من باب المثال ، فافهم.

وبالجملة : قولهم للبليد : ليس بحمار ، إذا أريد به سلب الحيوان النّاهق الذي هو معنى حقيقي للحمار في الجملة جزما ، فيكون البليد معنى مجازيا بالنسبة الى ذلك المعنى الحقيقي ، وإن احتمل أن يكون الحمار موضوعا بوضع آخر للحيوان القليل الإدراك ، ويكون البليد حقيقة بالنسبة إليه حينئذ.

__________________

(١) وقد جاء على ذكره وردّه صاحب «الفصول» ص ٣٦.

(٢) وقد تفطن لهذا الاشكال فأورده على وجه السّؤال. وقد ذكره مع ردّه في «الفصول».

٦٩

وممّا ذكرنا (١) ؛ يظهر حال عدم صحّة السّلب بالنسبة الى المعنى الحقيقي ، فإنّ المراد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، فيقال : إنّه علامة لكون ما لا يصحّ سلب المعنى الحقيقي عنه معنى حقيقيّا بالنسبة الى ذلك المعنى الذي لا يجوز سلبه عنه ، وإن احتمل أن يكون للفظ معنى حقيقي آخر يصح سلبه عن المبحوث عنه فيكون مجازا بالنسبة اليه ، فلا يتوقّف معرفة كون المبحوث عنه حقيقة على العلم بكونه حقيقة حتّى يلزم الدّور.

وكيف يتصوّر (٢) صدق جميع الحقائق على حقيقة لو فرض كون اللّفظ مشتركا حتّى يجعل ذلك منشأ للإشكال كما توهم (٣) في جانب المجاز ، إذ هذا التصوّر مبنيّ على جعل قولهم عدم صحّة سلب الحقائق سلبا كليّا كما في المجاز ، وأمّا لو جعل سلبا جزئيّا فلا يرد ذلك ، ولا يحتاج الى إضمار الدّور ، ولكنّه لا يناسب حينئذ إثبات الحقيقة مطلقا ، بل يناسب إثباتها في الجملة ، فليعتبروا في المجاز أيضا كذلك ويضيفوا إليه ملاحظة النسبة حتى يرتفع الدّور.

والحاصل ، أنّ معرفة كونه حقيقة في هذا المعنى الخاصّ موقوف على معرفة الحقيقة في الجملة ، وذلك لا يستلزم دورا.

الثاني : أن يكون المراد من صحّة السّلب وعدم صحّة السّلب ، سلب المعنى

__________________

(١) أي كونه موضوعا بوضع آخر.

(٢) الاستفهام هنا إنكاريّ أي لا يتصوّر فيه غير ما ذكرنا من إثبات الحقيقة في الجملة لا مطلقا.

(٣) توهّم الاشكال في جانب المجاز بناء على اعتبار علامته موجبة كلية وهي صحة سلب جميع الحقائق. والاشكال المتوهم هنا هو عدم دفع الدّور بحسب اعتقاد المصنف.

٧٠

الحقيقي وعدمه عمّا احتمل فرديّته له ، بأن يعلم للفظ معنى حقيقي ذو أفراد وشكّ في دخول المبحوث عنه فيها وعدمه.

وحاصله ، أنّ الشّك في كون ذلك مصداق ما علم كونه موضوعا له ، لا في كون ذلك موضوعا له أم لا. مثل : أن نعلم أنّ للماء معنى حقيقيّا ونعلم أنّ الماء الصّافي الخارج من الينبوع من أفراده ، ونعلم أنّ الوحل خارج منها ولكن نشكّ في ماء السّيل الغليظ أنّه هل خرج عن هذه الحقيقية أم لا. وكذا الجلّاب (١) المسلوب الطّعم والرّائحة هل دخل فيها أم لا ، فيختبر بصحّة السّلب وعدمه ، وهذا ايضا لا يستلزم الدّور ، فافهم ذلك.

وهذان الوجهان ممّا لم يسبقني إليهما أحد فيما أعلم (٢) والحمد لله.

الرابع : الاطّراد (٣) وعدم الاطّراد ، فالأوّل علامة للحقيقة ، والثاني للمجاز.

__________________

(١) الجلاب والجلّاب معرّب گلاب أي ماء الورد بالفارسية.

(٢) أي لا أعلم أحدا قد تفطن من قبلي لهذين الجوابين ، ولا يخفى عليك انّ جمال المحققين قد سبق المصنف الى الوجه الأوّل منها في مقام الاعتراض على المدقق الشيرازي وقد تقدم كلام المدقق المذكور بعنوان وإن شئت. وكلام جمال العلماء بعنوان ما يقال عند شرح قول المصنف هذا لو أردنا كونه مجازا بالفعل وقد أشار الى ذلك صدر الدين الشوشتري في حاشيته.

(٣) الاطّراد لغة الجري والاتباع ، يقال اطّردت الأنهار أي جرت واطّرد الأمر أي تبع بعضه بعضا. وفي الاصطلاح عرّفه العلّامة السيد بحر العلوم الطباطبائي في شرح «الوافية» : بأن يكون المعنى الذي لأجله جاز الاستعمال في مورد مجوّزا للاستعمال في كل ما يشاركه في ذلك المعنى كالعالم لما صدق على زيد لعلمه صدق على كل ذي علم لذلك. وهو بظاهره يختص بما كان الوضع فيه عاما سواء كان الموضوع له أيضا عاما أم خاصا ، وسواء كان الوضع شخصيا أم نوعيا ، فلا يجري فيما كان الوضع ـ

٧١

فنقول : هيئة الفاعل حقيقة لذات ثبت له المبدا ، فالعالم يصدق على كلّ ذات ثبت له العلم ، وكذا الجاهل والفاسق.

وكذلك (اسأل) موضوع لطلب شيء عمّن شأنه ذلك.

فيقال : اسأل زيدا أو اسأل عمروا الى غير ذلك ، بخلاف مثل : اسأل الدّار ، فنسبة السّؤال مجازا الى شيء وإرادة أهلها غير مطّرد ، فلا يقال : اسأل البساط واسأل الجدار.

وبيان ذلك يحتاج الى تمهيد مقدمة وهي :

إنّ الحقائق وضعها شخصيّ ، والمجازات نوعيّ.

والمراد بالأوّل : أنّ الواضع عيّن اللّفظ الخاصّ المعيّن بإزاء معنى خاصّ معيّن ، سواء كان المعنى عامّا أو خاصّا ، وسواء كان وضع اللّفظ باعتبار المادّة أو الهيئة.

أمّا ما وضع باعتبار المادّة ؛ فيقتصر فيه على السّماع ، بخلاف ما وضع باعتبار الهيئة ؛ فيقاس عليه ، كأنواع المشتقّات إلّا ما خرج بالدّليل كالرّحمن والفاضل والسّخي والمتجوّز ونحوها للمنع الشرعي ، وإنّ أسماء الله توقيفيّة.

والمراد بالثاني : أنّ الواضع جوّز استعمال اللّفظ فيما يناسب معناه الحقيقي بأحد من العلائق المعهودة ، فالمجازات كلّها قياسي لعدم مدخليّة خصوص المادّة

__________________

ـ كالموضوع له خاص كالأعلام الشخصيّة ، لعدم المشاركة فيها في معنى يجوز لأجله الاستعمال. والأولى ما عرّفه في «الهداية» : بأنّه اطّراد استعمال اللّفظ في المعنى المفرد من حيث المقامات بحيث يخصّص جوازه بمقام دون آخر وصورة دون اخرى.

ويصح اطلاقه على مصاديق ذلك المعنى إذا كان كليّا من غير اختصاص له ببعضها.

ولا يقال انّه مستلزم للدّور ، لأننا نقول انّ المقصود من الاطّراد في الحدّ معناه اللّغوي وفي المحدود معناه الاصطلاحي.

٧٢

والهيئة فيها ، بل المعتبر فيها هو معرفة نوع العلاقة بينها وبين المعاني الحقيقية.

وبعبارة اخرى : لا يحتاج المجاز الى نقل خصوصيّاته من العرب ، بل يكفي أن يحصل العلم أو الظنّ برخصة ملاحظة نوع العلاقة في الاستعمال فيها من استقراء كلام العرب ، فيقاس عليه كلّ ما ورد من المجازات الحادثة وغيرها ، ولا يتوقّف على النقل ، وإلّا لتوقّف أهل اللّسان في محاوراتهم على ثبوت النقل ، ولما احتاج المتجوّز الى النظر الى العلاقة ، بل كان يكتفي بالنّقل ، ولما ثبت التجوّز في المعاني الشرعيّة المحدثة مع عدم معرفة أهل اللّغة بتلك المعاني ، وبطلان اللّوازم بيّن (١).

وذهب جماعة (٢) الى اشتراط نقل آحادها (٣) لوجهين :

__________________

(١) المقصود من اللّوازم أي اللّوازم الثلاثة التي أحدها توقف أهل اللّسان في محاوراتهم على ثبوت النقل ، وثانيها : عدم احتياج للتجوّز الى النظر الى العلاقة ، وثالثها : عدم ثبوت التجوّز في المعاني الشرعية المحدثة. يعني انّ بطلان هذه اللّوازم بيّنة لا يحتاج الى كثير بيان فيكون الملزوم وهو توقف التجوّز على النقل من العرب أيضا باطلا.

(٢) منهم الفخر الرّازي كما في «المحصول» ١ / ١٧٨ كما ويعرف من عباراته هناك في بحث المجاز أيضا.

(٣) هنا قول ثالث بالتفصيل بين مثل معاني الحروف وما في معناها من الأسماء والظروف وصيغة الأمر والنهي والأفعال الناقصة ونحوها وبين غيرها ، باشتراط نقل الآحاد في الأوّل ونفيه في الثاني ، نقله جماعة منهم المحقّق الكاظمي عن بعض مشايخه ، واستدلوا عليه باشتداد اهتمام علماء اللّغة والأدب لاستقصاء معاني تلك الألفاظ ، وحيث يقع الخلاف في بعض تلك المعاني يستند كلّ من الطرفين في إثبات مطلوبه الى شواهد شعرية ونثرية ، فلو لم يكن نقل الآحاد شرطا في صحة استعمال تلك الألفاظ وجاز التعدي من المعاني الموضوعة لها تلك الألفاظ الى معانيها المجازية لم يترتب فائدة على ما ارتكبوه ، ولغي اهتمامهم لما صنعوه لاتساع دائرة ـ

٧٣

أحدهما : أنّه لو لم يكن كذلك للزم كون القرآن غير عربيّ ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١).

توضيحه : أنّ ما لم ينقل من العرب فهو ليس بعربيّ ، والقرآن مشتمل على المجازات فلو لم يكن المجازات منقولة عنهم يلزم ما ذكر.

وفيه : أوّلا : النقض بالصّلاة والصوم وغيرهما على مذهب غير القاضي (٢).

وثانيا : أنّ ما ذكر يستلزم كون مجازات القرآن منقولا عن العرب لا جميع المجازات.

وثالثا : لا نسلّم انحصار العربي فيما نقل بشخصه عن العرب ، بل يكفي نقل النوع.

ورابعا : لا نسلّم كون القرآن بسبب اشتماله على غير العربيّ ، غير عربي ، لأنّ المراد كونه عربيّ الاسلوب ، مع أنّه منقوض باشتماله على الروميّ والهندي

__________________

ـ المجاز عما ذكروه. وأجيب عن ذلك كما في الحاشية : انّ اهتمام علماء اللّغة بضبط معاني تلك الألفاظ أكثر من اهتمامهم بضبط معاني سائر الألفاظ ، ولذا ترى أنّهم ربما يوردون في غالب الألفاظ معاني متعددة حتى أنّهم قد ذكروا لبعضها ستين معنى ، ولا ريب انّ أكثر هذه الألفاظ من قبيل متحد المعنى.

(١) يوسف : ٢.

(٢) وتقريب النقض انّ الصلاة ونحوها من الألفاظ التي استعملها الشارع في الماهيات المخترعة مجازا ولم يعرفها العرب ، فلو كان غير المنقول بشخصه غير عربي لورد تلك الألفاظ نقضا على المستدل هذا على مذهب القائلين بالماهيات المخترعة. وأما على قول أبي بكر القاضي الباقلاني فلا يرد ذلك نقضا عليه ، فإنّه إنّما يقول ببقاء تلك الألفاظ على معانيها اللّغوية والشارع إنّما زاد عليها شروطا لصحتها خارجة عنها فتلك الألفاظ لا تخرج عن العربية.

٧٤

والمعرّب كالقسطاس والمشكوة والسّجّيل (١).

وخامسا : لا نسلّم بطلان كونه غير عربيّ ، فإنّه مسلّم لو أريد بضمير (أَنْزَلْناهُ) مجموع القرآن ، لم لا يكون المراد البعض المعهود كالسّورة التي هذه الآية فيها ، بتأويل المنزل والمذكور ، لأنّ القرآن مشترك معنوي بين الكلّ والبعض فيطلق على كلّ واحد من أجزائها.

وثانيهما : أنّه إن كان نقل نوع العلاقة كافيا ، لجاز استعمال النّخلة في الحائط والجبل الطويلين للشباهة ، والشبكة للصيد ، وبالعكس للمجاورة ، والابن للأب ، وبالعكس للسببية والمسبّبية (٢) وهكذا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وقد أجيب (٣) عن ذلك : بأنّ ذلك من جهة المانع لا عدم المقتضي ، وإن لم يعلم المانع بالخصوص.

أقول : الصواب في الجواب أن يقال : إنّ المقتضي غير معلوم ، فإنّ الأصل عدم جواز الاستعمال لكون اللّغات توقيفية إلّا ما ثبت الرّخصة.

فنقول : إنّ المجاز على ما حقّقوه هو ما ينتقل فيه عن الملزوم الى اللّازم ، فلا بدّ فيه من علاقة واضحة توجب الانتقال ، ولذلك اعتبروا في الاستعارة أن يكون

__________________

(١) ويمكن المناقشة فيه باحتمال كون هذه الألفاظ من توارد اللّغتين فلا يتمّ النقض المذكور. قال في «المجمع» ٤ / ٩٦ القسطاس بالضم والكسر وبهما قرأ السبعة ، الميزان أيّ ميزان كان ، قيل هو عربي مأخوذ من القسط العدل ، وقيل روميّ معرّب.

وفي المشكاة قال الزجاج هي الكوّة ، والمشكاة من كلام العرب كما في «لسان العرب» وأما السجيل حجر من طين ، وقال أهل اللغة هذا فارسي والعرب لا تعرف هذا ، كما في «لسان العرب» ومثله الأزهري.

(٢) لف على غير ترتيب النشر لأنّه راجع الى العكس.

(٣) المجيب هو الحاجبي في «المختصر» والعضدي في «شرحه».

٧٥

وجه الشّبه من أشهر [أظهر] خواصّ المشبّه به ، حتى إذا حصل القرينة على عدم إرادته انتقل الى لازمه ، كالشجاعة في الأسد ، فلا يجوز استعارة الأسد لرجل باعتبار الجسميّة أو الحركة ونحوهما. وكذلك الحال في المشبّه فلا بدّ أن يكون ذلك المعنى أيضا فيه ظاهرا ، ولذلك ذهب بعضهم (١) الى كون الاستعارة حقيقة. فإنّ التجوّز في أمر عقلي ، وهو أن يجعل الرّجل الشجاع من أفراد الأسد ، بأن يجعل للأسد فردان حقيقي وادّعائي ، فالأسد حينئذ قد اطلق على المعنى الحقيقي بعد ذلك التصرّف العقلي ، وهذا المعنى مفقود بين النخلة والحائط والجبل ، فإنّ المجوّز لاستعارة النخلة للرّجل الطّويل هو المشابهة الخاصّة من حصول الطّول مع تقاربهما في القطر ، وهو غير موجود في الجبل والحائط.

وهكذا ملاحظة المجاورة ، فإنّ المجاورة لا بدّ أن يكون بالنسبة الى المعنيين معهودا ملحوظا في الأنظار كالماء والنّهر والميزاب ، لا كالشّبكة والصّيد ، فإنّ المجاورة فيهما اتفاقية (٢) ، بل المستفاد من المجاورة المعتبرة هو المؤانسة ، والتنافر بين الشبكة والصّيد واضح.

وأمّا الأب والابن ، فعلاقة السّببية والمسبّبية فيهما أيضا خفية عرفا ، وليس أظهر خواصّ الابن والأب حين ملاحظتهما معا السببيّة والمسبّبيّة.

__________________

(١) لقد اختلفوا في أنّ الاستعارة مجاز لغوي أم عقلي ، فذهب الجمهور الى الأوّل بمعنى أنّها لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة ، ونسب الثاني الى السّكاكي بمعنى أنّها حقيقة لغوية ومجاز عقلي.

(٢) غير معهودة في الأنظار ، أو تحصل أحيانا واتفاقا لعدم كثرة وجود الشبكة على فرض الكثرة ، فالشبكة مخصوصة بالصياد في البحار والأنهار لا يراها الناس غالبا ولا يتصوّرها الأكثر ، بخلاف الميزاب لكونه في مرئ الناس ومسمعهم غالبا.

٧٦

نعم التربية والرّئاسة والمرءوسيّة من الخواصّ الظاهرة فيهما ، مع أنّ التقابل الحاصل من جهة التضايف يوجب قطع النظر عن سائر المناسبات.

وبالجملة ، لمّا كان الغرض من المجاز الانتقال من الملزوم الى اللّازم ، فلم يظهر من العرب إلّا تجويز العلاقة الظّاهرة.

ألا ترى أنّ استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ليس بمحض علاقة الجزئية والكليّة ، بل لوحظ فيه كمال المناسبة بين الجزء والكلّ ، بأن يكون ممّا ينتفي بانتفاء الجزء كالرّقبة للإنسان والعين للرّبيئة (١) باعتبار وصف كونه ربيئة.

وبالجملة ، الرّخصة الحاصلة في النّوع يراد بها الحاصلة في جملة هذا النوع ، وإن كان في صنف من أصنافها أو في أفرادها الشائعة الظاهرة. وهكذا فالاستقراء في كلام العرب لم يحصل منه الرّخصة في مثل هذه الأفراد من الشّباهة والسببيّة والمجاورة ونحوها ، إلّا أنّه حصل الرّخصة في نوعها بعمومه وخرج المذكورات بالدّليل ، فلاحظ وتأمّل.

إذا تقرّر ذلك فنقول : قد أورد على كون الاطّراد دليل الحقيقة ، النّقض بمثل : (أسد) للشجاع ، فإنّه مطّرد ومجاز ، فيتخلّف الدّليل عن المدلول ، وعلى كون عدم الاطّراد دليل المجاز النقض بمثل : الفاضل والسّخي فإنّهما موضوعان لذات ثبت له الفضيلة والسّخاء ، ولا يطلق عليه تعالى مع وجودهما فيه ، والقارورة فإنّها موضوعة لما يستقرّ فيه الشيء ، ولا يطلق على غير الزّجاجة.

__________________

(١) يقال كان لهم ربيئة أي عينا يرقب لهم وهو من كان يصعد الى ربوة لينظر الى الأطراف ليطّلع على من يجيء ليخبر القوم بذلك.

٧٧

وأجيب (١) عن الثاني مضافا الى ما ذكرنا : بأنّ (الفاضل) موضوع لمن من شأنه الجهل (٢) ، و (السّخي) [والسخاء] موضوع لمن من شأنه البخل فلا يشمله تعالى (٣) بالوضع ، و (القارورة) للزجاج لا كلّ ما يستقرّ فيه الشيء.

أقول : والقارورة منقولة وقد ترك المعنى الأوّل وإلّا لجاز الاطّراد.

والتحقيق (٤) أن يقال : إن أريد بكون عدم الاطّراد دليل المجاز ، أنّه يقتصر فيه بما حصل فيه الرّخصة من نوع العلاقة ولو في صنف من أصنافه ، فلا ريب أنّ المجاز حينئذ ينحصر فيما حصل فيه الرّخصة وهو مطّرد.

وإن أريد أنّه بعد حصول الرّخصة في النوع غير مطّرد ، فقد عرفت أنّه ليس كذلك.

فنقول (٥) : إنّ عدم جواز : اسأل الجدار مثلا إنّما هو لعدم مناسبة الأهل للجدار المناسبة الظاهرة المعتبرة في المجاز. وكذلك : اسأل الشّجر و : اسأل الإبريق ، ونحو ذلك ، فذلك لعدم انفهام الرّخصة فيه ، لا لوجود المانع كما نقلنا عن بعضهم ، ألا ترى أنّه يجوز أن يقال : اسأل الدّار ، و : اسأل البلدة ، و : اسأل الرّستاق (٦) و : اسأل المزرعة ، و : اسأل البستان ، وغير ذلك.

__________________

(١) المجيب هو الفاضل الجواد.

(٢) اي لمن يجوز عليه الجهل.

(٣) يعني ان الله تعالى لم يوجد فيه المبدا حتى يصدق عليه الشأن هذا كما في الحاشية للشهشهاني الأصفهاني.

(٤) التحقيق في مقابل القول المشهور وقد ذكره في «هداية المسترشدين» ١ / ٢٦٥ وفيه كلام له.

(٥) في بيان عدم الاطراد في المجاز.

(٦) معرّب رستاء بمعنى القرية والجمع رساتيق.

٧٨

ومثله اطّراد الأسد لذات ثبت له الشجاعة وإن كان من سائر أفراد الحيوان غير الانسان.

وبالجملة ، المجاز أيضا بالنسبة الى ما ثبت نوع العلاقة فيه مطّرد ولو كان في صنف من أصناف ذلك النوع.

٧٩

قانون

إذا تميّز المعنى الحقيقي من المجازي ؛ فكلّما استعمل اللّفظ خاليا عن القرينة فالأصل الحقيقة ، أعني به الظاهر ، لأنّ مبنى التّفهيم والتّفهم على الوضع اللّفظي غالبا ، ولا خلاف لهم في ذلك.

قانون وأمّا إذا استعمل لفظ في معنى أو معان لم يعلم وضعه له ، فهل يحكم بكونه حقيقة فيه أو مجازا ، أو حقيقة إذا كان واحدا دون المتعدّد ، أو التوقّف لأنّ الاستعمال أعم؟

المشهور الأخير ، وهو المختار لعدم دلالة الاستعمال على الحقيقة ، والسيّد المرتضى على الأوّل لظهور الاستعمال فيه (١) ، وهو ممنوع.

والثاني : منقول عن ابن جنّي (٢) ، وجنح إليه بعض المتأخّرين (٣) ، لأنّ أغلب لغة العرب مجازات (٤) ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب وهو أيضا ممنوع ، ولو سلّم فمقاومته للظنّ الحاصل من الوضع ممنوع.

__________________

(١) راجع «الذريعة» ص ١٠.

(٢) بكسر الجيم وتشديد النون وسكون الياء وتخفيفهما ، كنية أبو الفتح عثمان بن جنّي ، ونقل عن سيبويه انّ جنّي معرّب كني وليس الياء للنسبة.

(٣) وممن آل الى ما مآل إليه ابن جنّي وهو دلالة الاستعمال على مجازيّة المستعمل فيه ، المحقق جمال الدّين الخوانساري في بحثه على المشتق. واستفهم ذلك من جملة كلام له في «حواشيه» على شرح «المختصر» وكأنّه غير دال عليه.

(٤) ودليل ابن الجنّي لأن أكثر اللّغات مجازات فمنعه أيضا ، وردّ عليه صاحب «الفصول» ص ٤١.

٨٠