القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

مطّرد (١) في جميع المسائل ، وهو أنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ، هكذا قرّره القوم.

أقول : ويرد عليه ، أنّ ذلك الدّليل الإجمالي بعينه موجود للمجتهد ، وهو أنّ كلّ ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي.

فإن قلت : نعم ، ولكن له أدلّة تفصيليّة أيضا مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٢) ونحوهما ، والمراد هنا تلك ، وليس مثلها للمقلّد.

قلت : للمقلّد أيضا أدلّة تفصيليّة ، فإنّ كلّ واحد من فتاوى المفتي في كلّ واقعة دليل تفصيلي لكلّ واحد من المسائل ، فالأولى في الإخراج التمسّك بإضافة الأدلّة الى الأحكام وإرادة الأدلّة المعهودة ، فإنّ الإضافة للعهد ، فيكون التفصيليّة قيدا توضيحيّا.

ثم إنّ ما ذكرته ، بناء على عدم الإغماض عن طريقة القوم رأسا. وإلّا فأقول : إنّ ما ذكره القوم من كون التفصيليّة احترازا عن علم المقلّد ، إنّما يصحّ إذا كان ما ذكروه من الدّليل الإجمالي للمقلّد دليلا لعلمه بالحكم ، وليس كذلك ، بل هو دليل لجواز العمل به ووجوب امتثاله وكونه حجّة عليه. كما أنّ الدّليل الإجمالي الذي ذكرناه للمجتهد هو أيضا كذلك ، فلا يحصل بذلك احتراز عمّا ذكروه.

ويمكن أن يقال : أنّ قيد «التفصيلية» لإخراج الأدلّة الإجمالية كما بيّنّا سابقا

__________________

(١) المطّرد هو العام الذي لا شذوذ فيه ومنه القاعدة المطّردة. وسمّي دليل المقلّد بالاجمالي لانتسابه الى الاجمال ، والذي يقابله التفصيلي أي المنتسب الى التفصيل من الفصل بمعنى الفرقة بين شيئين. ومعناه كونه عن أوساط متعدّدة متفرقة يختص كل واحدة بطائفة من المسائل كالكتاب والسنة والاجماع والعقل ، وبهذا عرّف خروج علم المقلّد بقيد التفصيلية.

(٢) البقرة : ٤٣ و ٨٣ و ١٠١ ، النساء : ٧٧ ، النور : ٥٦ ، المزمل : ٢٠.

٤١

من أنّ ثبوت الأحكام في الجملة من ضروريّات الدّين ، فما دلّ على ثبوت الأحكام إجمالا من الضرورة وغيرها مثل عمومات الآيات والأخبار الدالّة على ثبوت التكاليف إجمالا ، أدلّة لكن إجمالا لا تفصيلا. وهذا لا يسمّى فقها ، بل الفقه هو معرفة تلك الأحكام الإجمالية من الأدلّة التفصيليّة.

والعجب من فحول العلماء كيف غفلوا عن ذلك ، ولم يسبقني الى ما ذكرته أحد فيما أعلم.

ثمّ إنّهم أوردوا على الحدّ بأمرين (١) :

الأوّل : أنّ «الفقه» أكثره من باب الظنّ لابتنائه غالبا على ما هو ظنّي الدلالة أو السّند ، فما معنى العلم (٢)؟

واجيب عنه بوجوه ، أوجهها :

أنّ المراد ب : «الأحكام» الشرعيّة أعمّ من الظاهريّة والنفس الأمريّة (٣) ، فإنّ

__________________

(١) وقد ذكرهما في «المعالم» ص ٦٩

(٢) فما معنى العلم : بعد ما عرّفناه بأنّه إدراك الشيء بحقيقته أو المعرفة واليقين. وبناء على ما مرّ لا يكون التعريف جامعا لجميع أفراد المعرّف لخروج أغلب مسائل الفقه عنه لكونها ظنيّات باعتبار أدلّتها دلالة أو سندا أو هما معا ، حيث منها ما هو ظنّي الدلالة والسند معا كخبر الواحد في متن كان من الظواهر. ومنها ما هو ظنّي الدلالة مع قطعيّة السند كظواهر الكتاب. ومنها ما هو ظنّي السند مع قطعيّة الدلالة كخبر الواحد في متن كان من قبيل النصوص مثلا.

(٣) المراد بالأحكام الشرعية أعم من الظاهريّة والنفس الأمرية أي معنى يعمّ القسمين ، بأن يكون أمرا جامعا لهما وقدرا مشتركا بينهما ، وهو الحكم الفعلي الذي هو عبارة عمّا تعلّق بالمكلّف ووجوب التعبد به بحيث يستحق العقاب على مخالفته.

والحكم النفسي الأمري هو الحكم الواقعي ، وهو في عرفهم عبارة عما يتعلّق بالواقعة ـ

٤٢

ظنّ المجتهد بعد انسداد باب العلم ، هو حكم الله الظاهري بالنسبة إليه ، كالتقيّة في زمان المعصوم ، فإذا سمع المكلّف من لفظه يحصل العلم به مع أنّه ليس بحكم الله النفس الأمريّ ، ولكن هو حكم الله بالنسبة إليه ، والى ذلك ينظر قول من قال (١) : إنّ الظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، وإنّ ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ، وذلك لا يستلزم التصويب كما توهّمه بعض الأصحاب (٢).

__________________

ـ لعنوانها الخاص. ويقابلها الحكم الظاهري ، وهو عبارة عما يتعلّق بها ، بوصف كونها مجهول الحكم بالنظر الى الواقع أي لجهالة حكمها الواقعي بالمعنى المقابل للعلم اليقيني ، سواء كان مشكوكا فيه بمعنى تساوي الطرفين كما في موارد الأصول العلمية من أصل الإباحة وأصل البراءة والاستصحاب وأصل الاشتغال أو مظنونا كما في موارد الأدلّة الظنيّة المفيدة للظنّ بحكم الله الواقعي ، ولذا يقال انّ ظنّ المجتهد بعد انسداد باب العلم هو حكم الله الظاهري في حقه. كما أفاده القزويني أعلى الله مقامه. هذا وفي جعل التقيّة حكما ظاهريّا خروج عن الاصطلاح ، بل هو نوع من الحكم الواقعي ، غير أنّه واقعي ثانوي قبالا للواقعي الأوّلي ، ولذا قد يجامع العلم بالواقعي الأوّلي ولا يعتبر فيه الجهل بالحكم الواقعي الذي هو معتبر في الحكم الظاهري ، فعلى هذا جعل التقيّة حكما ظاهريا فيه كلام.

(١) كالعلّامة.

(٢) والذي توهم الاستلزام «في المعالم» ص ٧١ في حد الفقه الذي اعترض على العلّامة حيث أجاب عن الاشكال من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنيّة الطريق لا تنافي علمية الحكم. أي جعل الطريق الى الحكم الشرعي من الأدلّة الظنيّة كالكتاب وغيره. وانّ ظنيّة هذه الأدلّة الناظرة الى الواقع لا تنافي قطعيّة الحكم الظاهري ، وصيرورة المظنون حكما واقعيا في حقه بعنوان القطع ، وهذا عين مذهب المصوّبة القائل بأن ليس لله تعالى سبحانه في الوقائع قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن ، فإذا اجتهد وأدّى اجتهاده الى الظنّ يصير ذلك المظنون حكما واقعيا في حقه وحق مقلّده ، وليس هذا مراده رحمه‌الله. والظاهر انّ مراده انّ لله تعالى أحكاما واقعية يشترك فيها العالم والجاهل ، وجعل ظنّ المجتهد حكما ظاهريا.

٤٣

ومنها : أنّ المراد ب «العلم» هو الظنّ أو الاعتقاد الرّاجح فيشمل الظنّ ، وهو مجاز يبعد استعماله في الحدود (١).

ومنها : أنّ المراد به العلم بوجوب العمل به.

ومنها : أنّ المراد العلم بأنّه مدلول الدّليل.

وكلّها بعيد.

والثاني : أنّ المراد بالأحكام إن كان كلّها ـ كما هو مقتضى ظاهر اللّفظ ـ فيخرج عنه أكثر الفقهاء (٢) لو لم يخرج كلّهم ، وإن كان البعض ، فيدخل فيه من علم بعض المسائل بالدّليل.

والجواب : أنّا نختار أوّلا : إرادة الكلّ ، ولكنّ المراد بالعلم التهيّؤ والاقتدار والملكة (٣) التي بها يقتدر على استنباط الأحكام من الأدلّة ، ولا ينافي ذلك ما مرّ

__________________

(١) فيشمل الظن إذ إنّ الاعتقاد الرّاجح مع المنع من النقيض علم وبدونه ظنّ وهو مجاز ، ويبعد استعمال المجاز في تعريف الفقه وغيره من الحدود.

وقوله : العلم بمعنى الظنّ مجاز استعاري بعلاقة المشابهة في رجحان الحصول في الذهن ، وبمعنى الاعتقاد الرّاجح مجاز مرسل بعلاقة ذكر الخاص وإرادة العام. هذا والقول في المراد من العلم بين الظنّ أو الاعتقاد الرّاجح ، الأوّل للشيخ البهائي في «الزبدة» ص ٤٠ ، والثاني لصاحب «المعالم» فيه عند سؤال الظن في حد الفقه ص ٧١.

(٢) أي علم أكثر الفقهاء.

(٣) بعد أن أفصح عن المراد من العلم بأنّه التهيؤ والاقتدار والملكة يمكن أن يقال ما الفرق بين هذه الثلاثة وما الفائدة من ذكرها جمعا. قلت : ما ذكره شارح «المطالع» في شرحه للديباجة : أنّ النفس الناطقة لها أربع مراتب اختصّ كل مرتبة باسم أحدها وقت خلوّها عن العلوم في أوّل الخلقة قبل حصول المبادئ الأوّليّة لها تسمى بالعقول الهيولاني «الهيولى جمع هيوليات وهي المادة الأولى والنسبة إليه هيوليّ وهيولانيّ ـ يونانية ـ» تشبيها لها بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصّور القابلة ـ

٤٤

من الأجوبة عن السّؤال الأوّل ، من جهة أنّها مبتنية على جعل العلم بمعنى الإدراك ما هو الظّاهر فيما ذكر متعلّقه ، سواء كان الإدراك يقينيا أو ظنيّا. والملكة لا تتّصف بالظنيّة والعلميّة (١) ، لأنّا نقول : الملكة معنى مجازيّ للعلم بمعنى الإدراك ، فتتّصف بالظنيّة والعلميّة باعتبار الإدراك أيضا (٢).

__________________

ـ إيّاها ، يعبر عنه بالتهيؤ المطلق أيضا. ثانيها بعد حصول المبادئ المذكورة وقبل ترتيب المقدمات تسمى العقل بالملكة المعبّر عنه بالتهيؤ القريب والاقتدار أيضا.

ثالثها بعد الحصول والترتيب والانتقال الى النتائج النظريّة تسمى العقل بالفعل. رابعها بعد حصول الثلاثة بحيث صارت مخزونة عند النفس وحصّله متى شاءت بلا حاجة الى ترتيب المقدمات تسمى بالعقل المستفاد. وهذه المرتبة مختصة بالمعصومين عليهم أفضل الصلاة والتسليم ، ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ). وفي بعض الكتب تسمية الرّابع باسم الثالث وبالعكس.

إذا عرفت كل هذا تعلم أنّ المراد من العلم في الحدّ ليس المرتبة الأولى أي التهيؤ المطلق ، لحصول هذا في جميع أفراد الانسان في بداية الخلقة ، فبإرادته لم يكن الحدّ مانعا ، فلذا قيّده بعضهم بالتهيؤ القريب. ولا المرتبتين الأخيرتين أيضا ، إذ بإرادة كل واحدة منها لم يكن النقض المذكور مدفوعا لعدم حصول ترتيب المقدمات والانتقال الى النتائج لأكثر الفقهاء ، بل المراد منه هو المرتبة الثانية أعني العقل بالملكة ، ولمّا فسّر المصنف رحمه‌الله العلم بالتهيؤ جمع بينه وبين الاقتدار للاحتراز عن المرتبة الاولى ثم تأكيدا لعدم إرادة الأولى أتى لجامع بينهما وهو الملكة.

(١) فلا يقال إنّها ظنّ ولا يقال إنّها علم.

(٢) فيقال للملكة ظنيّة ، ويقال لها علمية باعتبار كونها سبب الادراك. فكما يتّصف الادراك بالظنيّة والعلمية وهو المسبب ، فكذلك تتّصف الملكة بهما أيضا وهي السبب.

ويحتمل أن يكون المراد منه أنّ الملكة كما تتّصف بالظنيّة والعلمية على القولين الأوّلين ، أعني أخذ العلم بمعنى القطع أو الظنّ ، كذلك تتّصف بهما على القول الثالث باعتبار الإدراك ، أعني أخذ العلم بمعنى الاعتقاد.

٤٥

فنقول بناء على جعل العلم بمعنى اليقين : إنّ المراد الملكة التي يقتدر بها على الإدراكات اليقينيّة ، وبناء على جعله بمعنى الظنّ ؛ الملكة التي يقتدر بها على الإدراكات الظنيّة ، غاية الأمر أنّه يلزم على إرادة الظنّ من العلم (١) سبك مجاز من مجاز ، فالعلم بالحكم مجاز عن الظنّ به ، والظنّ به مجاز عن ملكة يقتدر بها على تحصيل الظنّ به ، وكذلك يلزم ذلك على الوجهين الأخيرين (٢).

فالعلم على أوّل الوجهين استعارة للظنّ بمشابهة وجوب العمل. كما أنّ في الصّورة السّابقة كان استعارة بمشابهة رجحان الحصول ، أو مجازا مرسلا بذكر الخاصّ وإرادة العامّ ، ثمّ يترتّب على ذلك إرادة الملكة من ذلك بعلاقة السّببيّة والمسبّبيّة.

ويظهر من ذلك الكلام في الوجه الأخير أيضا ، وهو أردأ الوجوه (٣) ، وأمّا على ما اخترناه من الوجه الأوّل فلا يلزم ذلك (٤).

وثانيا : إرادة البعض ، ونقول : إمّا أن يمكن تحقّق التجزّي ، بأن يحصل للعالم الاقتدار على استنباط بعض المسائل عن المأخذ ـ كما هو حقّه دون بعض ـ أو لا يمكن.

__________________

(١) كما في القسم الأوّل من الوجه الثاني في قوله : ومنها انّ المراد بالعلم هو الظنّ.

(٢) فيلزم سبك المجاز من المجاز على الوجهين الأخيرين ، وهما العلم بوجوب العمل به والعلم بمدلولية الدليل.

(٣) الوجه الأخير بأنّه مدلول الدليل هو أفسد الوجوه. وقد توجّه الأردئية بعدم كون الفقه هو العلم بمدلولية الأحكام للأدلّة ، بل هو العلم بنفس الأحكام.

(٤) الوجه الأوّل وهو جعل العلم بمعنى اليقين ، فلا يلزم سبك مجاز من مجاز ، بل يلزم سبك مجاز وهو الملكة من حقيقة وهي اليقين ، وكذا لا يلزم ذلك على الوجهين الأخيرين كما عرفت.

٤٦

فعلى الثاني ، فلا ينفكّ الفرض عن المجتهد في الكلّ.

وعلى الأوّل كما هو الأظهر ، فإمّا أن نقول بحجّيته وجواز العمل به كما هو الأظهر أو لا.

وعلى الأوّل فلا إشكال أيضا لأنّه من أفراد المحدود.

وعلى الثاني ، فإن قلنا : إنّ التعريف لمطلق الفقه فيصحّ أيضا.

وإن قلنا : إنّه للفقه الصحيح ، فيقع الاشكال في إخراجه.

واستراح من جعل العلم في التعريف عبارة عما يجب العمل به ، بأنّ ذلك (١) خرج عن العلم ، فإنّه ليس بذلك (٢).

ويمكن دفعه على ما اخترناه أيضا (٣) : بأنّه لم يثبت كون ما أدركه حكما شرعيّا حقيقيا ولا ظاهريا ، لأنّ الدّليل لم يقم على ذلك فيه (٤).

وأمّا موضوعه (٥) : فهو أدلّة الفقه وهي : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل.

__________________

(١) أي الفقه الذي لا يجوز العمل به وهو غير الصحيح خرج من اعتبار وجوب العمل به بعد العلم فليس بباق حتى يحتاج الى الاخراج.

(٢) أي الفقه غير الصحيح ليس مما يجب العمل به لفرض عدم حجيته.

(٣) من أنّ المراد بالأحكام الشرعية أعمّ من الظاهرية والنفس الأمريّة ، وفي حاشية هو أخذ العلم بمعنى الظن أو الاعتقاد الرّاجح ، الأوّل مختار الشيخ البهائي والثاني خيرة صاحب «المعالم» كما مرّ.

(٤) إذ إنّه لم يثبت ما أدركه ظنا أو اعتقادا راجحا لأنّه لم يقم الدليل على أنّ ما أدركه المتجزّي حكما شرعيا حقيقيا أي واقعيا ولا ظاهريا في علم المقلّد.

(٥) وموضوعه : انّ كل قضية كلّية أو جزئية موجبة كانت أو سالبة فهي مركّبة من حدّين يسمّى أحدهما الموضوع والآخر المحمول ، مثال ذلك قولك : النار حارة فالنار هي ـ

٤٧

وأمّا الاستصحاب ، فإن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة ، وإلّا فيدخل في العقل(١).

وأمّا القياس فليس من مذهبنا.

__________________

ـ الموضوعة والحرارة هي المحمولة. قالوا : إنّ كل علم من العلوم المدوّنة لا بد فيه من أمور ثلاثة : الموضوع والمسائل والمبادئ وسميت بأجزاء العلوم. وهذا القول مبني على المسامحة ، فإنّ حقيقة كل علم مسائله. وعدّ الموضوع والمبادئ من الأجزاء إنّما هو لشدة اتصالهما بالمسائل التي هي المقصودة في العلم.

ملاحظة : ويبدو أن المصنف لم يذكر غاية هذا العلم لوضوحها وهي الترقي عن حضيض التقليد في الدّين الى أوج الاستدلال واليقين.

(١) ويظهر انّ المصنف قد خص الاستصحاب بالذكر دون البراءة والاحتياط والتخيير كعمل بعض القدماء كالمحقق في «المعتبر» حيث قال في الفصل الثالث في «مستند الأحكام» ١ / ٢٧ : وهي عندنا خمسة : الكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل والاستصحاب. وقد اشار المصنف هنا الى مبنى حجّية الاستصحاب فإن كان على التعبّد بالأخبار كما عند المتأخرين فهو داخل في السنة وإن كان من العقل صار دليلا عقليا. وفي كل هذا كلام.

٤٨

قانون

اللّفظ قد يتّصف بالكلّية والجزئيّة باعتبار ملاحظة المعنى كنفس المعنى ، فما يمنع نفس تصوّره عن وقوع الشركة ؛ فجزئي ، وما لا يمنع ؛ فهو كلّي.

فإن تساوى صدقه في جميع أفراده ؛ فهو متواط ، وإلّا ؛ فمشكّك (١).

وهذا التقسيم في الاسم واضح ، وأمّا الفعل والحرف ؛ فلا يتّصفان بالكلّيّة والجزئية في الاصطلاح ، ولعلّ السرّ فيه ، أنّ نظرهم في التقسيم الى المفاهيم المستقلّة التي يمكن تصوّرها بنفسها والمعنى الحرفي غير مستقلّ بالمفهوميّة ، بل

__________________

(١) قال في شروح «الشمسية» ١ / ٢١١ : «مجموعة حواش وتعليقات» بأنّ الكلي لا يخلو إما أن يكون حصوله في أفراده الذهنية والخارجية على السوية أو لا ، فإن تساوت الافراد الذهنية والخارجية في حصوله وصدقه عليها يسمى متواطئا لأنّ افراده متوافقة في معناه من التواطؤ وهو التوافق كالانسان والشمس ، فإنّ الانسان له أفراد في الخارج وصدقه عليها بالسويّة ، والشمس لها أفراد في الذّهن وصدقها عليها أيضا بالسويّة. وإن لم يتساوى الافراد ، بل كان حصوله في بعضها أولى أو أقدم أو أشد من البعض الآخر يسمّى مشككا. والتشكيك على ثلاثة أوجه : التشكيك بالأولويّة والتشكيك بالتقدم والتأخر والتشكيك بالشدة والضعف. وإنما سمي مشككا لأنّ أفراده مشتركة في أصل المعنى ومختلفة بأحد الوجوه الثلاثة. هذا كله عند المنطقي ، وأما المتواطئ الأصولي هو ما تساوى ظهوره في جميع أفراده من حيث الظهور والخفاء. والمشكك الأصولي ما لا يتساوى ظهورا وخفاء في جميع الأفراد.

ومع التأمل تجد أنّ مناط التواطؤ والتشكيك عند الأصولي ليس هو التساوي وعدم التساوي أي التفاوت في الأولويّة ، والأولويّة والشدة والضعف كما هو عند المنطقي ، بل التساوي والتفاوت من حيث الظهور والخفاء الناشئ عن اختلاف أفراد المعنى في الشيوع والندرة وعدم اختلافها فيه.

٤٩

هو أمر نسبيّ رابطيّ وآلة لملاحظة حال الغير (١) في الموارد المشخّصة المعيّنة ، ولا يتصوّر انفكاكها أبدا عن تلك الموارد ، فهي تابعة لمواردها ، وكذلك الفعل بالنسبة الى الوضع النسبي ، فإنّ له وضعين : فبالنسبة الى الحدث كالاسم ، وبالنسبة الى نسبته الى فاعل ما كالحرف.

وأمّا أسماء الإشارة والموصولات والضمائر ونحوها (٢).

فإن قلنا بكون وضعها عاما والموضوع له خاصا ، فيشبه الحروف لمناسبتها في الوضع ، فلا بدّ أن لا يتّصف بالكلّية والجزئية ، وإنّما المتّصف هو كلّ واحد من الموارد الخاصّة.

ولعلّ ذلك هو السرّ في عدم التفات كثير منهم في تقسيماتهم للمعاني والألفاظ إليها.

وأمّا على القول بكون الموضوع له فيها عاما كالوضع كما هو مذهب قدماء أهل العربية (٣) ، فهو داخل في الكلّي ؛ فيكون مجازا بلا حقيقة ، لأنّ الاستعمال لم يقع

__________________

(١) فالأمر النسبي كالنسبة بين السير والنجف ، والرّابطي يربط النجف بالسير ، والآلة يلاحظ به حال السير كما يلاحظ به حال النجف كما في قول القائل : سرت من النجف الى الإمام الحسين عليه‌السلام. هذا وقد شبّه المعنى الحرفي بظلّ الشاخص ، فكما أنّ الظلّ موجود بوجود الغير من الشاخص مثلا فكذلك المعنى الحرفي لأنّه موجود بوجود الغير أي مدخوله ومتعلّقه.

(٢) كالاستفهام والنفي والاستثناء به.

(٣) هناك قول بأنّ الوضع عام والموضوع له خاص ينسب الى جماعة ومنهم السيد الشريف كما في حاشية ، وقول بأنّ الوضع عام والموضوع له أيضا عاما وقد حكي هذا القول عن الأسنوي والتفتازاني وأبي حيّان والرضي وغيرهم من قدماء أهل العربية ـ

٥٠

إلّا في الجزئيات.

ثمّ إنّ اللّفظ والمعنى إمّا يتّحدا ؛ بأن يكون لفظ واحد له معنى واحد فاللّفظ متّحد المعنى والمعنى متّحد اللّفظ أو لا.

فإن تكثّر كلّ منهما ؛ فالألفاظ متباينة ، سواء توافقت المعاني أو تعاندت.

وإن تكثّرت الألفاظ واتّحد المعنى ؛ فمترادفة.

وإن اتّحد اللّفظ وتكثّرت المعاني ، فإن وضع لكلّ منها مع قطع النظر عن الآخر ومناسبته ، سواء كان مع عدم الاطلاع كما لو تعدّد الواضعون أو عدم التذكّر أو مع التذكّر ولكن لم يلاحظ المناسبة ؛ فمشترك ، ويدخل فيه المرتجل (١).

وربّما جعل قسيما له نظرا الى أنّ المشترك هو ما لم يلاحظ فيه المعنى الآخر ، وإن كان من جهة عدم المناسبة أيضا بخلاف المرتجل ، فيلاحظ فيه عدم المناسبة فيحصل فيه نوع تبعيّة ، وفيه تعسّف (٢).

__________________

ـ والأصول كما في الحاشية. وكذا قول المحقق في «الكفاية» في تعريف الوضع ص ٥ (الأمر الثاني) ، ولكن مع عمومية المستعمل فيه لا خصوصيته. يعني أنّ الوضع والموضوع له عامّان ، وكذلك المستعمل فيه.

(١) وهكذا يدخل المرتجل في المشترك ويصبح قسما من أقسامه ، وقد ذهب الى هذا الرأي الشيرواني وسلطان العلماء على ما حكي عنهما خلافا للآمدي والفخري والعلّامة كما في «المبادئ» ص ٦٣ في تقسيم الالفاظ ، وصاحب «المعالم» ص ٨١ في تقسيم اللفظ والمعنى الذين قالوا بأنّ المرتجل قسما على حدة. والتفت الى أنّ المرتجل عند الأصوليين هو ما يلاحظ فيه عدم المناسبة كجعفر علما لرجل بعد كونه في الأصل موضوعا للنهر الصغير ، وهو مخالف لما هو عند النحويين ، فهو في اصطلاحهم علم لم يسبق استعماله في غير العلميّة أو سبق وجهل ثم جعل علما.

(٢) أخذه على غير هداية وحمله على معنى لا تكون دلالته عليه ظاهرة ، وهذا معنى التعسّف وقد نعته بذلك للزوم كثرة الأقسام مع أنّ التقليل منها أحسن.

٥١

فعلى هذا يخرج المبهمات (١) من المشترك على القولين لعدم تعدّد الوضع المستقلّ بالنسبة الى كلّ واحد من الجزئيات.

أمّا على قول قدماء أهل العربيّة فظاهر.

وأمّا على القول الآخر ، فلأنّ الملحوظ حين الوضع هو المعنى الكلّي ووضع لكلّ واحد من الجزئيات بوضع واحد لا متعدّد.

ولا ينافي ذلك ثبوت الاشتراك في الحروف بالنسبة الى المفهومات الكلّيّة كالتبعيض والتبيين (٢) ، وإن لم نقل باشتراكها في خصوص الموارد الجزئية.

وإن اختصّ الوضع المستقلّ بواحد ، فهو الحقيقة ، والباقي مجاز إن كان الاستعمال فيها بمجرّد المناسبة والعلاقة مع القرينة.

وإن كانت مجرّد الشهرة ليدخل المجاز المشهور كما سيجيء ، أو منقول إن ترك المعنى الحقيقي أوّلا ووضع لمعنى آخر بمناسبة الأوّل ، أو استعمل المعنى المجازي وكثر استعماله الى أن وصل الى حدّ الحقيقة.

فالمنقول قسمان : تخصيصيّ ، وتخصّصي.

والثاني يثمر بعد معرفة تاريخ التخصيص.

وهذا كلّه في الأسماء ظاهر ، وأمّا الأفعال والحروف ؛ فالحقيقة والمجاز فيهما إنّما هو بملاحظة متعلّقاتها وتبعيّتها كما في نطقت الحال : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا)(٣).

__________________

(١) كالحروف وأسماء الاشارة ونحوها.

(٢) كاشتراك حرف من مثلا بين مفهوم التبيين ومفهوم التبعيض ومفهوم الابتداء ، وكاشتراك الباء بين الالصاق والسببيّة وغيرهما ، وقد أشار الى دفع ذلك بقوله : ولا ينافي ذلك ثبوت الاشتراك في الحروف.

(٣) القصص : ٨.

٥٢

هذا بحسب المواد (١).

وأمّا الهيئة ، فقد يتّصف الفعل بالحقيقة والمجاز والاشتراك والنقل ، كالماضي للإخبار والإنشاء ، والمضارع للحال والاستقبال ، والأمر للوجوب والندب.

ولا يذهب عليك أنّ الحيثيّة معتبرة في هذه الأقسام ، فقد يكون المشترك مباينا أو مرادفا ، والمرادف مباينا ، الى غير ذلك فلاحظ ولا تغفل.

__________________

(١) كما في نطقت الحال حيث يقال المجاز على نطق تبعا للمصدر ، وتوجيهه على ما قرّره علماء البيان انّ الدلالة قد شبهت بالنطق في ايضاح المعنى وايصاله الى ذهن السّامع ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه فصار النطق بمعنى الدلالة مجازا بالاستعارة ، ثم اشتق منه نطق فصار نطقت الحال بمعنى دلّت الحال. وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) حيث توصف «اللّام» في ليكون بالمجاز تبعا لمدخولها. وتوجيهه على ما ذكر في البيان أيضا ان العداوة والحزن شبها بالمحبة والتبني في ترتبهما بحسب الخارج على فعل الالتقاط ، فالغاية التي قصد ترتبها من الأخذ والالتقاط هي المحبة ترتب خلافها وهي العداوة ، فجعل تعالى غير الغاية للشباهة في الترتب فتكون لام الغاية أيضا مجازا تبعا لمجازيّة الغاية ، هذا كله بحسب المادة.

٥٣

قانون

فى الحقيقة والمجاز اللّفظ إن استعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك ؛ فحقيقة ، وفي غيره لعلاقة ؛ فمجاز (١).

والحقيقة تنسب الى الواضع ، وفي معنى الوضع استعمال اللّفظ في شيء مع القرينة مكرّرا الى أن يستغني عن القرينة فيصير حقيقة.

فالحقيقة باعتبار الواضعين والمستعملين في غير ما وضع له الى حدّ الاستغناء عن القرينة ، تنقسم الى اللّغوية والعرفيّة الخاصّة مثل الشرعية والنحوية والعامة (٢) ، وكذلك المجاز بالمقايسة (٣).

واعلم أنّ المجاز المشهور المتداول في ألسنتهم ، المعبّر عنه بالمجاز الرّاجح

__________________

(١) الحقيقة على وزن فعيلة وهي من الحق بمعنى الثابت والمقابل للباطل. والمجاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الجواز بمعنى العبور وهو الانتقال الى مكان آخر.

واطلق على اللّفظ المخصوص لانتقاله عن محله الأصلي وهو الموضوع له الى غيره.

(٢) أي والعرفية العامة وهي التي لم يتعيّن ناقلها ، وأما العرفيّة الخاصة وهي التي تعيّن ناقلها كالشرعي أو النحوي أو المنطقي أو الأصولي.

(٣) وكذلك ينقسم المجاز بالمقايسة كالحقيقة ، يعني انّ استعمال اللّفظ بالمعنى المجازي إن كان لمناسبة لما وضع له في اللّغة فهو مجاز لغوي ، وشرعا فهو مجاز شرعي وهكذا.

فإذا كل واحد من الحقيقة والمجاز ينقسم الى ثلاثة أقسام : أحدها : اللّغوية كلفظ الاسد مثلا اذا استعمل في الحيوان المفترس فيكون حقيقة لغويّة ، وفي الرجل الشجاع يكون مجازا لغويا. وثانيها : العرفية الخاصة كلفظ الصلاة مثلا إذا استعمل في الركوع والسجود يكون حقيقة شرعية ، وفي الدعاء يكون مجازا شرعيا. وثالثها : العرفية العامة كلفظ الدابّة مثلا اذا استعمل في ذي الأربع يكون حقيقة عرفية ، وفي الانسان يكون مجازا عرفيا عاميّا.

٥٤

يعنون به الرّاجح على الحقيقة ، يريدون به ما يتبادر به المعنى بقرينة الشهرة.

وأما مع قطع النظر عن الشهرة فلا يترجّح على الحقيقة ، وإن كان استعمال اللّفظ فيه أكثر ، وسيجيء تمام الكلام.

وأما المجاز الذي صار في الشهرة بحيث يغلب على الحقيقة ويتبادر ولو مع قطع النظر عن الشهرة ، فهو حقيقة كما بيّنا.

٥٥

قانون

طرق معرفة الحقيقة والمجاز اعلم أنّ الجاهل بكلّ اصطلاح ولغة ، إذا أراد معرفة حقائق ألفاظه ومجازاته فله طرق (١) :

الأوّل : تنصيصهم بأنّ اللّفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني ، وأنّ استعماله في الفلاني خلاف موضوعه.

الثاني : التبادر وهو علامة الحقيقة ، كما أنّ تبادر الغير علامة المجاز.

والمراد بالتبادر أنّ الجاهل بمصطلح هذه الطائفة إذا تتبّع موارد استعمالاتهم ومحاوراتهم ، وعلم من حالهم أنّهم يفهمون من لفظ خاصّ معنى مخصوصا بلا معاونة قرينة حالية أو مقالية (٢) ، ولو كان شهرة في الاستعمال في المعنى الغير الموضوع له ، وعرف أنّ ذلك الفهم من جهة نفس اللّفظ فقط ، يعرف أنّ هذا اللّفظ موضوع عندهم لذلك المعنى وينتقل إليه انتقالا إنّيا (٣) فيكون التبادر معلولا للوضع.

__________________

(١) قيل : إنّ الفرق بين الدليل والأمارة والطريق ، هو أنّ الدليل ما يكون الشيء منه مقطوعا والأمارة ما يكون الشيء منه مظنونا والطريق يعمهما ، ويمكن لهذا اختار الطريق عليهما ، وقد يطلق بعضها على بعض مجازا.

(٢) أي بلا مساعدة قرينة حالية أو مقالية أي في الحال أو المقال.

(٣) الدليل الإني هو الانتقال من المعلول الى العلّة ، في مقابل الدليل اللّمي الذي هو الانتقال من العلّة الى المعلول. ووجه التسمية هو انّ الحدّ الأوسط في القياس إنّما يسمى حدا أوسط لكونه واسطة في التصديق بالنتيجة ، وهو مع ذلك ان كان واسطة في النسبة الايجابية أو السلبية أي علّة لها يسمى البرهان حينئذ البرهان اللمّي لدلالته على ما هو لمّ الحكم وعلّته وذلك كتعفن الأخلاط في قولك هذا متعفّن الأخلاط وكل ـ

٥٦

وأمّا العالمون بالأوضاع ، فلا يحتاجون إلى إعمال هذه العلامة إلّا من جهة إعلام الجاهل.

ولمّا كان استناد الانفهام إلى مجرّد اللّفظ وعدم مدخلية القرينة فيه أمرا غامضا لتفاوت الأفهام في التخلية وعدمه ، وتفاوت القرائن في الخفاء والوضوح (١) ، فمن ذلك يجيء الاختلاف في دعوى التبادر من الأجانبة (٢) بالاصطلاح المذكور. فقد يكون الانفهام عند أهل هذا الاصطلاح من جهة القرائن الخفيّة ، ويدّعي الغافل التبادر بزعم انتفاء القرينة ، ويدّعي خصمه المتفطّن التبادر في معنى آخر ، وهكذا.

ولذلك أوجبوا استقراء غالب موارد الاستعمال ليزول هذا الاحتمال ، فالاشتباه والخلط ؛ إمّا لعدم استفراغ الوسع في الاستقراء (٣) ؛ وإمّا لتلبيس الوهم وإخفاء القرينة على المدّعى ، ولذلك قالوا : إنّ الفقيه متّهم في حدسه بالنسبة الى العرف وإن كان هو من أهل العرف ، لكثرة وفور الاحتمالات وغلبة مزاولة المتخالفة من الاستعمالات مع ما يسنحه من المنافيات (٤) من جهة الأدلّة العقلية والنقلية ،

__________________

ـ متعفّن الاخلاط محموم فهذا محموم. وإن لم يكن واسطة في ثبوت النسبة في نفس الامر فالبرهان يسمى البرهان الإني حيث يدل على إنيّة الحكم خاصة ، وتحققه في الواقع دون علّيته في الذهن سواء كانت الواسطة حينئذ معلولا للحكم كالحمى في قولنا زيد محموم وكلّ محموم متعفّن الاخلاط فزيد متعفّن الاخلاط ، هذا كما في حاشية الميرزا موسى.

(١) إذ إنّ فهم العوام خال عن الأدلّة الخارجية بخلاف العلماء ، وتفاوت القرائن لأنّ بعضها خفيّة وبعضها واضحة.

(٢) أي صادرة تلك الدعوة من الغافل الجاهل بالاصطلاح المذكور.

(٣) لعدم بذل تمام الطاقة في التتبع.

(٤) يعرضه من المنافيات.

٥٧

فلذلك قد يدّعي أحدهم أنّ الأمر بالشيء لا يدلّ على النّهي عن ضدّه الخاص عرفا بأحد من الدّلالات (١) كما هو الحقّ ، ويدّعي آخر دلالته لما التبس عليه الأمر من جهة الأدلّة العقلية التي قرّبت إليه مقصوده.

وكذلك في مقدّمة الواجب ، فلا بدّ أن يرجع الى عرف عوامّ العرب ، فإنّهم هم الّذين لا يفهمون شيئا إلّا من جهة وضع اللّفظ ، فالفقيه حينئذ كالجاهل بالاصطلاح وإن كان من جملة أهل هذا الاصطلاح.

وبالجملة ، لا بدّ من بذل الجهد في معرفة أنّ انفهام المعنى إنّما هو من جهة اللّفظ لا غير.

وبما ذكرناه (٢) ؛ يندفع ما يتوهّم ، أنّ التبادر كما هو موجود في المعنى الحقيقي. فكذلك في المجاز المشهور ، فلا يكون علامة للحقيقة ولا لازما خاصّا لها ، بل هو أعمّ من الحقيقة.

وتوضيح ذلك : أنّ المجاز المشهور ، هو ما يبلغ في الاشتهار بحيث يساوي الحقيقة في الاستعمال أو يغلبها [يغلب] ، ثمّ إنّ الأمر فيه الى حيث يفهم منه المعنى بدون القرينة ، ويتبادر ذلك حتّى مع قطع النظر عن ملاحظة الشهرة أيضا ، فلا ريب أنّه يصير بذلك حقيقة عرفيّة كما ذكرنا سابقا ، وهذا أيضا وضع ، فالتبادر كاشف عنه ، وإن لم يكن كذلك ، بل كان بحيث يتبادر المعنى بإعانة الشّهرة وسببيّته وإن لم يلاحظ تفصيلا (٣) ، وهو الذي ذكره الأصوليّون في باب تعارض الأحوال.

__________________

(١) الدلالات الثلاث.

(٢) من أنّ التبادر بلا قرينة هو علامة الحقيقة بخلاف التبادر مع القرينة ولو كانت قرينة الشهرة كما مرّ الاشارة إليه ، فإنّ ذلك التبادر علامة المجاز.

(٣) بمعنى انّ سبب التبادر هو الشهرة ، والمراد بالملاحظة التفصيليّة هو أن يلاحظ المعنى الحقيقي أوّلا ثم المعنى المجازي ثانيا ثم العلاقة والمناسبة بينهما ثالثا.

٥٨

واختلفوا في ترجيحه على الحقيقة المرجوحة في الاستعمال (١).

فالحقّ ، أنّ هذا مجاز ، والتبادر الحاصل في ذلك ليس من علائم الحقيقة ، والذي اعتبر في معرفة الحقيقة هو التبادر من جهة اللّفظ مع قطع النظر عن القرائن ، وإن كانت القرينة هي الشّهرة ، والموجود فيما نحن فيه إنّما هو من جهة القرينة.

وبعد ما بيّنا لك سابقا (٢) ، لا مجال لتوهّم أن يقال إنّ الجاهل بالاصطلاح إذا رأى أنّ أهل هذا الاصطلاح يفهم من اللّفظ هذا المعنى ، ولا يظهر عليه أنّ ذلك من جهة الشهرة أو من جهة نفس اللّفظ فينفي القرينة بأصل العدم ويحكم بالحقيقة مع أنّه في نفس الأمر مجاز ، فالتبادر لا يثبت الحقيقة فقط ، وذلك لأنّ أصل العدم لا يثبت إلّا عدم العلم بالقرينة ، وما ذكرنا مبنيّ على لزوم العلم بعدم القرينة حتّى يختص بالحقيقة ، هذا إذا قلنا بلزوم تحصيل العلم في الأصول.

وأمّا على القول بعدمه (٣) كما هو الحق والمحقّق ، فهذا الظنّ الحاصل من الأصل مع التتبّع في محاورات أهل ذلك الاصطلاح يقوم مقام العلم كما في سائر المسائل الأصولية والفقهية وغيرها (٤). فاعتقاد كونها حقيقة مع كونها مجازا في

__________________

(١) فمنهم من قال بتقديم الحقيقة على المجاز المشهور كأبي حنيفة كما في «المحصول» ١ / ١٨٩ ، ومنهم من قال بالعكس كأبي يوسف ، كما في «المحصول» في المسألة العاشرة في المجاز وتوقف الأكثر عن حمل اللّفظ على شيء منهما ، ومنهم صاحب «المعالم» في صيغة افعل ص ١١٦. وسيشير المصنف الى هذا الاختلاف.

(٢) من لزوم التخلية والاستقراء.

(٣) بعدم لزوم تحصيل العلم في علم الاصول وحينئذ يكفي التبادر الفقاهتي وهو التبادر المظنون استناده الى نفس اللّفظ مع انضمام أصالة عدم القرينة ، فلا يكون علامة لأنّه يعمل بظنّه وربما يكون في الواقع مجازا.

(٤) المراد من سائر معنى الجميع وان كان قليل الاستعمال في هذا المعنى مأخوذا من ـ

٥٩

نفس الأمر غير مضرّ ، مع أنّ هذا لا يتصوّر إلّا في فرض نادر كما لا يخفى ، فلا يوجب القدح في القواعد المبتنية على الغالب.

وينبّه على ما ذكرنا (١) ، البناء على أصالة الحقيقة فيما لم يظهر قرينة المجاز ، وإن كان المراد هو المجاز في نفس الأمر.

فإن قلت : فأيّ فائدة في هذا الفرق ، وما الفرق بين المجاز المشتهر (٢) إلى أن يفهم منه المعنى مع قطع النظر عن الشّهرة ، وما يتبادر منه المعنى مع ملاحظة الشّهرة ، بل هذا مجرّد اصطلاح ولا يثمر ثمرة في الأحكام؟

قلت : الفرق واضح ، فإنّ الحقيقة في الأوّل مهجورة ، وفي الثاني غير مهجورة.

فإن قلت : إذا كانت الحقيقة الأولى محتاجة فى الانفهام الى القرينة فهو أيضا في معنى المهجور ، فيصير معنى مجازيّا كالصّورة الاولى.

__________________

ـ السير فلا اشكال حينئذ في عطف الفقهية على الاصولية. وان جعل سائر بمعنى الباقي أخذا من السؤر لا بد من عطف الفقهية على الاصولية مع اعتبار موصوف لها مقدّر على نفس سائر الاصولية. وأما المراد من غيرها أي مسائل النحو والصرف والمعاني والبيان والطب وغيرها من العلوم اللّفظية والمعنوية التي يكتفى فيها بالظن. وقوله : الاصولية ظاهر في أصول الفقه ، وأصول الدين يدخل في غيرها بناء على كفاية الظنّ في أصول الدّين أيضا في الجملة.

(١) الفرض النادر لا يوجب الطعن في القواعد المبتنية على الغالب ، وينبّه على ما ذكرنا من كفاية الظنّ.

(٢) لما كان المصنف قد أشار سابقا الى الفرق بين قسمي المجاز المشهور بأنّه إن تبادر مع قطع النظر عن الشهرة فحقيقة عرفية ، وإن تبادر بملاحظة الشهرة فمجاز ، وذلك في قوله : وتوضيح ذلك انّ المجاز المشهور ... الخ. واحترازا عن القدح من التقسيم المذكور والفائدة منه ومن القول بعدم ثمرته في الأحكام الفقهية أجاب بالمذكور.

٦٠