القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

الأفراد (١).

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بدلالة الجمع المنكّر على العموم ليس من جهة دلالة اللّفظ حقيقة ، بل على مذهب الجبّائي أيضا ، فإنّ حمله على الجميع ليس من جهة أنّه أحد معانيه ، بل لأنّه يشمل جميع المعاني. فانقدح من ذلك أنّه لا نزاع في عدم دلالة الجمع المنكّر على العموم بجوهره بحيث يكون لو استعمل في غيره يكون مجازا ، فتأمّل.

تذنيب

الحقّ أنّ أقلّ ما يطلق عليه صيغ الجمع حقيقة ، ثلاثة (٢).

وقال بعض العامّة : إنّه اثنان (٣) ، والقول : بعدم جواز إطلاقها على الاثنين مطلقا (٤) شاذّ ضعيف. ولا فرق في ذلك بين المكسّر والسّالم وضمائرهما (٥).

__________________

(١) فالوجه منع كون هذا موجبا للأولويّة. واعلم أنّ المورد هو سلطان المحققين في حاشيته على «المعالم» ص ٢٩٦.

(٢) كما ذهب إليه الشريف المرتضى في «الذريعة» : ١ / ٢٢٩ ، والبهائي في «الزبدة» : ص ١٢٧ ، والعلّامة في «التهذيب» : ص ١٢٩ ، والمحقّق في «المعارج» : ص ٨٨ ، والشيخ في «العدّة» : ١ / ٢٩٨ وابن الشهيد في «المعالم» : ص ٢٦٧ ، والرازي وأبو حنيفة والشافعي كما في «المحصول» : ٢ / ٥٠٠ ، وفي «الفصول» ص ١٧٧ : فالأكثر على أنّه ثلاثة وهو المختار.

(٣) كالقاضي وأبي إسحاق وجمع من الصحابة والتابعين كما عن «المحصول» : ٢ / ٥٠٠ ، ومالك وجماعة كما عن «المستصفى» : ٢ / ٤٧.

(٤) أي ولو مجازا.

(٥) وجمع الموصول واسم الاشارة واسم الجمع ، هذا كما في الحاشية.

٥٠١

والظاهر أنّه لا نزاع في نحو : نحن ، وإنّنا ، وجئنا ، لأنّه موضوع للمتكلّم مع الغير ولم يوضع لتثنية المتكلّم لفظ.

لنا : تبادر الزّائد على الاثنين عند الإطلاق وعدم تبادر الاثنين ، ويؤيّد ذلك وضعهم للتمييز بين التثنية والجمع علامات وأمارات مثل ، الألف والنون ، والواو والنون ، وغير ذلك.

احتجّوا بقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(١) للإجماع على حجب الأخوين عمّا زاد عن السّدس ، فأطلق الأخوة على الأخوين فما زاد (٢) ، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وفيه : أنّ الإجماع إنّما هو الدّال على المطلوب ، لا الآية.

سلّمنا ، لكنّه بضمّ القرينة لا منفردا ، ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وبقوله تعالى : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)(٣) ، والمراد موسى وهارون عليهما‌السلام.

وفيه : منع الاختصاص ، بل هي لهما مع فرعون تغليبا ، مع أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما في : (مُسْتَمِعُونَ)(٤) : وبقوله عليه‌السلام : «الاثنان فما فوقهما جماعة» (٥).

وفيه : أنّ المراد حصول فضيلة الجماعة (٦) ، مع أنّه ورد في الخبر أنّ المؤمن

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) قال ابن عبّاس لعثمان حين ردّ الامّ من الثلث إلى السدس بأخوين : ليس الأخوان أخوة في لغة قومك. فقال : حجبهما قومك يا غلام. عن «المستصفى» : ٢ / ٤٧.

(٣) الشعراء : ١٥.

(٤) الشعراء : ١٥.

(٥) «سنن ابن ماجة» : ١ / ٣١٢ ح ٩٧٢ ، «مستدرك الحاكم» : ٤ / ٣٣٤ ، «الوسائل» : ٨ / ٢٩٧ ح ١٠٧١٤.

(٦) في رواية عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ الجهني أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّي ـ

٥٠٢

وحده أيضا جماعة إذا لم يكن معه من يصلّي معه ، مع أنّ بيان اللّغات ليس من شأنه عليه‌السلام ، فالمقصود بيان الحكم.

وقد يجاب أيضا (١) : بأنّ النّزاع إنّما هو في صيغ الجمع لا في لفظ الجمع ، فإنّه بمعنى مطلق ضمّ شيء الى شيء.

وفيه : أنّ المتبادر من لفظ الجماعة أيضا الثلاثة وما فوقها ، وكذلك لفظ الجمع إذا لم يقصد به المعنى المصدري ، أعني الانضمام. والظاهر إنّهما أيضا محلّ النّزاع ، والذي هو خارج عن محلّ النّزاع هو مادّة (ج م ع) بمعنى مطلق الضمّ والإلحاق ، فإنّه يصدق في الاثنين أيضا حقيقة.

__________________

ـ أكون في البادية ومعي أهلي وولدي وغلمتي ، فأؤذّن وأقيم وأصلّي بهم ، أفجماعة نحن؟ فقال : نعم ، فقال : يا رسول الله فإنّ الغلمة يتبعون قطر السماء وأبقى أنا وأهلي وولدي فأؤذّن وأقيم وأصلّي بهم ، أفجماعة نحن؟ فقال : نعم ، فقال : يا رسول الله فإنّ ولدي يتفرّقون في الماشية فأبقى أنا وأهلي فأؤذّن وأقيم وأصلّي بهم أفجماعة نحن؟ فقال : نعم ، فقال : يا رسول الله ، إنّ المرأة تذهب في مصلحتها فأبقى أنا وحدي ، فأؤذّن وأقيم وأصلّي ، أفجماعة أنا؟ فقال : نعم المؤمن وحده جماعة. وقد علّق الشيخ الحرّ العاملي على الحديث المذكور بقوله : الصورة الأخيرة جماعة مجازية لا حقيقيّة ، والمراد أنّ ثوابه يضاعف بالأذان والاقامة وإرادة الجماعة فكأنّه وحده جماعة. «الوسائل» : ٨ / ٢٩٧ باب أقل ما تنعقد به الجماعة اثنان.

(١) المجيب هو صاحب «المعالم» : ص ٢٦٩.

٥٠٣

قانون

لا خلاف ظاهرا في أنّ النّكرة في سياق النفي تفيد العموم في الجملة ، ففي بعضها بالنصوصيّة ، وفي بعضها بالظّهور.

أمّا الأوّل : ففيما إذا وقعت بعد «لا» الكائنة لنفي الجنس ، وكذلك فيما كانت صادقة على القليل والكثير ك : «شيء» ، وفيما كانت ملازمة للنفي ك : «أحد» و «بدّ» (١) ، أو مدخولة ل : «من» (٢). ولا فرق بين كون النافي هو : «لا» ، أو «لم» ، أو «لن» ، أو غيرها (٣).

وأمّا الثاني (٤) : فهو ما إذا وقعت بعد «ليس» ، و «ما» ، و «لا» المشبّهتين بليس ، وقد خالف فيه بعضهم (٥).

__________________

(١) نحو : ما لي عنه بدّ كما نقله القرافي في «شرح التنقيح». «منتهى الوصول» : ٧٠.

(٢) نحو : ما جاء من رجل.

(٣) مثل ما وليس وغيرهما.

(٤) أي بالظهور.

(٥) فقالوا بالعدم. ونقل عن بعض النحاة فيما إذا كان الدالّ على النفي «ليس» و «ما» و «لا» المشتبهين بليس ، في نحو : «ليس في الدار رجل» و «ما في الدار رجل» و «لا رجل في الدار» أو «لا رجل قائما» بنصب الخبر ، فحكي عن سيبويه وممن نقله عنه أبو حيّان في الكلام على حروف الجرّ ، ونقله من الاصوليين إمام الحرمين في «البرهان» في الكلام على معاني الحروف ، لكنّها ظاهرة في العموم لا نص فيه وذهب المبرّد إلى أنّها ليست للعموم ، وكذا الجرجاني في أوّل «شرح الايضاح» ، والزمخشري في «الكشّاف» : ٢ / ١١٣ في تفسير قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وقوله : (ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ).

٥٠٤

والحقّ أنّها ظاهرة في العموم.

ففي الأوّل (١) لا يجوز أن يقال : لا رجل في الدّار ، بل رجلان ، و : ما من رجل في الدار ، بل رجلان. وجواز الاستثناء بأن يقال : لا رجل في الدّار إلّا زيدا ، لا ينافي النصوصيّة كما توهّم ، كما لا ينافيها في الأعداد ، بخلاف الثاني (٢) ، فيجوز أن يقال : ليس في الدّار رجل بل رجلان ، و : ما في الدار رجل ، بل رجلان. بأن يراد بالتنوين الإشارة الى الوحدة العدديّة المعيّنة ويكون النفي راجعا الى الوحدة ، ولكن الظاهر منه الوحدة الغير المعيّنة ، فهو ظاهر في العموم.

فالمثال المذكور (٣) إخراج عن الظّاهر ، كما لو قيل : ما في الدّار رجل إلّا زيد.

وأمّا سلب الحكم عن العموم كقولنا : ما كلّ عدد زوجا ، فليس حكما بالسّلب عن كلّ فرد ، وهو مخرج عن هذه القاعدة كما لا يخفى.

والظّاهر أنّه لا فرق بين المفرد والجمع والتثنية في ذلك ، وأنّ الحكم في الظّهور والنصوصيّة أيضا لا يختلف فيها ، فقولك : لا رجال في الدار ، أيضا نصّ في العموم ، لكنّه نصّ في أفراد الجموع ، وإن قلنا بكونه ظاهرا في عموم الأفراد أيضا كالجمع المحلّى بسلخ معنى الجمعيّة ، ولذلك يجوز أن يقال : لا رجال في الدّار ، بل رجل أو رجلان ، بخلاف المفرد كما مرّ.

والنّهي كالنّفي فيما ذكرنا ، والظاهر أنّ النّكرة في سياق الاستفهام أيضا مثلها في سياق النفي في إفادة العموم (٤).

__________________

(١) أي نفي النصوصيّة.

(٢) أي الظهور.

(٣) أي ليس رجل في الدار بل رجلان.

(٤) لا فرق بين أن يكون الاستفهام إنكاريّا أو غيره في تلك الافادة.

٥٠٥

وذهب جماعة من الأصوليّين الى عموم النّكرة في سياق الشّرط أيضا (١) ، وفرّعوا عليه ما لو قال الموصي : إن ولدت ذكرا فله الألف ، وإن ولدت أنثى فلها المائة ، فولدت ذكرين أو أنثيين ، فيشرّك بين الذّكرين في الألف ، وبين الأنثيين في المائة ، لأنّه ليس أحدهما أولى من الآخر ، فيكون عامّا.

والأظهر أنّ مرجع ذلك (٢) الى تعليق الحكم بالطبيعة ، فعمومه من هذه الجهة كما اخترناه في المفرد المحلّى ، وإلّا فلا يستفاد العموم من اللّفظ.

وأما النّكرة في سياق الإثبات، فلا يدلّ على العموم إلّا بالنظر الى الحكمة في بعض الموارد (٣) أو بكونه في معرض الامتنان (٤) عند بعضهم (٥).

__________________

(١) حكى الشهيد في «التمهيد» ص ١٦٧ : أنّه تعمّ عند جماعة من الأصوليين ، وصرّح به الجويني في «البرهان» وتابعة عليه الأنباري في شرحه له واقتضاه كلام الآمدي.

وطبعا فقد خالف فيه آخرين.

(٢) أي مرجع النكرة في سياق الشرط أي تعليق الحكم بالطبيعة ، فعمومه حينئذ عموم بدل الاستغراق ، ولكن لا يختلف به التفريع. هذا كما في الحاشية.

(٣) فإن كانت في مقام بيان وقوع فعل منه أو عليه في الماضي أو المستقبل نحو : جاء رجل أو : يجيء رجل أو : ضربته بعضا أو : أكرمته يوما ، فلا عموم فيه مطلقا ، وإنّما يفيد ثبوت الحكم لفرد ما من غير الدلالة على الخصوصيّة المعيّنة أصلا لا ابتداء ولا إلزاما.

هذا كما في بيان المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ٢٤٣.

(٤) أي تكون النكرة في سياق الإثبات في معرض الامتنان ، وفي «التمهيد» للشهيد : إن كانت للامتنان كما ذكره جماعة عمّت. وممّا فرّعوا على عمومها طهوريّة كل ماء سواء نزل من السّماء أو نبع من الأرض لقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) الانفال : ١١.

(٥) أي على ما ذكره بعضهم ، وأما كون النسبة الى البعض من جهة الاشكال أو الخلاف فبعيد إذ الظاهر عدم الاشكال ولا الخلاف ، هذا كما في الحاشية.

٥٠٦

وأمّا لو كانت مدخولة للأمر نحو : اعتق رقبة ، فيفيد العموم على البدل ، لا الشّمول. وهذا العموم مستفاد من انضمام أصالة البراءة عن اعتبار قيد زائد من الإيمان وغيره ، فالإطلاق مع أصل البراءة يقتضيان كفاية ما صدق عليه الرّقبة أيّ فرد يكون منه ، ولذلك (١) يصحّ الاستثناء منه مطّردا.

فالفرق بين العامّ والمطلق ، أنّ المطلق من حيث اللّفظ لا يدلّ على العموم بخلاف العامّ ، فالعموم المستفاد من المطلق كالعموم المستفاد من تعليق الحكم على الطبيعة من حيث هي كما مرّ.

وهذان (٢) والوقوع في معرض الامتنان ، والوقوع في كلام الحكيم وأمثال ذلك ممّا يستفاد منها العموم وليس من جهة دلالة اللّفظ بعنوان الوضع ، بل هو مستنبط من الخارج ، ولذلك نحملها على الأفراد الشّائعة ، لأنّها هي مورد الاستعمال في الإطلاقات ، ولخروج كلام الحكيم عن اللّغوية بمجرّد ذلك ، بخلاف ما دلّ عليه اللّفظ بعنوان الوضع ، فإنّها تشمل الأفراد النّادرة ، وإطلاق كلامهم يدلّ على ذلك أيضا ، إلّا أنّ بعضهم صرّح بعدم دخول الفرد النادر كما نقله في «تمهيد القواعد» ، وليس ببعيد ، والأولى التفرقة بين الفروض النادرة ، فيقتصر في المطلقات ونحوها على الأفراد الشّائعة ، ويتعدّى في العمومات الى الأفراد الغير الشّائعة أيضا إن لم تكن في غاية النّدرة.

وأمّا ما هو في غاية النّدرة ، فيتوقّف فيه ، ويحصل الإشكال فيما يستفاد من تعليق الحكم على الطبيعة ، فإنّ الطبيعة لا تنفكّ عن واحد من أفراده فيشمل الأندر

__________________

(١) أي لأجل استفادة العموم من الاطلاق.

(٢) أي المطلق وتعليق الحكم على الطبيعة.

٥٠٧

أيضا ، إلّا أن يقال : لمّا كان الحكم على الطبيعة باعتبار وجودها فينصرف الى الوجود الغالب ، فتأمّل لئلّا تتوهّم أنّ هذا رجوع عن القول بكون الطبائع متعلّقة للأحكام كما أشرنا سابقا.

ثمّ إنّهم ذكروا (١) في مقام الفرق بين المطلق والعامّ.

أنّ المطلق هو الماهيّة لا بشرط شيء (٢).

والعامّ هو الماهيّة بشرط الكثرة المستغرقة (٣).

وهذا لا يخلو عن خفاء ، فإنّ المطلق على ما عرّفوه في بابه : هو الحصّة الشّائعة في جنسها ، وبعبارة أخرى : هو الفرد المنتشر.

وقد صرّح بعضهم بالفرق (٤) بين المطلق والنّكرة أيضا : بأنّ المطلق هو الماهيّة لا بشرط شيء ، والنّكرة هو الماهيّة بشرط الوحدة الغير المعيّنة ، وجعل الشخص المنتشر عبارة أخرى عنها. وغلط من قال : بأنّ المطلق هو الدالّ على واحد لا بعينه (٥) ، وأنت خبير بأنّ ذلك ينافي ما ذكروه في تعريف المطلق واتّفاقهم على التمثيل بمثل : اعتق رقبة.

ويمكن توجيه ما ذكروه في الفرق بين العامّ والمطلق ، بأنّ المراد من المطلق هو الماهيّة لا بشرط ، والعامّ هو الماهيّة بشرط شيء ، بأن يقال : إنّ المراد برقبة في قوله : اعتق رقبة ، هو مثل : ما أريد بأسد في قول الشّاعر : اسد عليّ وفي الحروب نعامة ،

__________________

(١) ذكره الشهيد الثاني في «تمهيد القواعد» وغيره.

(٢) «تمهيد القواعد» : ص ١٥٦.

(٣) «تمهيد القواعد» : ص ٢٢٢.

(٤) هو الشارح العميدي كما في الحاشية.

(٥) وكذا قال الرازي في «المحصول» : ٢ / ٤٦٦.

٥٠٨

أو : رجل ، في مثل : رجل جاءني لا امرأة ، كما أشرنا سابقا. ومقتضاه حينئذ جواز عتق أكثر من واحد في كفّارة واحدة.

ولكن لمّا كان الامتثال يحصل بفرد من الكلّي سيّما إذا كان تدريجي الحصول ، فلا يعدّ ما بعد الواحد امتثالا ، لأنّه مقتضى الأمر ، ولا يبقى أمر بعد الامتثال كما حقّقناه في الواجب التخييري ومسألة اقتضاء الأمر للإجزاء ، فليس الوحدة مرادا من اللّفظ ، بل استفيد من خارج أو يقال : إنّ الطبيعة لا بشرط إذا تصوّر لها قيود وشرائط متعدّدة ، فتقييدها ببعض القيود إنّما يجعلها مقيّدة بالنسبة الى هذا القيد بخصوصه ، ولا يخرجها عن الإطلاق بالنسبة الى سائر القيود. فالرّقبة في قوله : اعتق رقبة ، مع قطع النظر عن التنوين ، موضوعة للطبيعة لا بشرط شيء من الوحدة والكثرة والإيمان والكفر والصحّة والمرض والصّغر والكبر والبياض والسّواد ، كما مرّ الإشارة إليه ، وبعد لحوق التنوين وصيرورته مدخول الأمر في هذا الكلام يتقيّد بإرادة فرد ما منه ، وهذا يخرجه عن الإطلاق بالنسبة الى إرادة الوحدة ، ولكن يبقى بعد مطلقا وماهيّة لا بشرط بالنسبة الى سائر القيود. فلو قيل : اعتق رقبة مؤمنة ، فيحصل هناك قيدان للطبيعة ويبقى الطبيعة بعد مطلقة بالنسبة الى سائر القيود وهكذا.

ومرادهم في باب المطلق والمقيّد هو الإطلاق بالنسبة الى غير الوحدة ، فحينئذ يمكن توجيه كلام بعضهم (١) في الفرق بين المطلق والنّكرة أيضا باعتبار الحيثيّة ، ف : رقبة ، مطلقة بالنسبة الى عدم اعتبار غير الوحدة الغير المعيّنة ، ونكرة باعتبار ملاحظة الوحدة الغير المعيّنة ، فافهم ذلك واغتنم.

__________________

(١) قيل انّ المراد بذلك البعض هو الشارح السيّد عميد الدين كما في الحاشية.

٥٠٩

تنبيه

قالوا : إنّ عموم المفرد أشمل (١) من عموم المثنّى والمجموع ، وهو في المثنّى واضح ، فإنّ عموم المفرد يشمل كلّ فرد فرد ، وعموم المثنّى يشمل كلّ اثنين اثنين ، وخروج فرد منه غير مضرّ إلّا أن يعتبر منضمّا الى الواحد من فردي الاثنينيّات المعدودة كما أشرنا في عموم الجمع ، إلّا أنّه لا يتمّ في التثنية المنفيّة ، فيصدق : لا رجلين في الدّار ، إذا وجد فيها رجل واحد ، بخلاف : لا رجل في الدار.

وأمّا عموم الجمع فيتمّ فيه ما ذكروه (٢) إذا أردنا منه العموم الجمعي ، على إشكال فيه أيضا ، كما أشرنا.

وأمّا العموم الأفرادي كما بيّنا ، أنّه هو الظاهر في الجمع المحلّى ، فلا يتفاوت.

نعم ، قد يتفاوت باعتبار النصوصيّة والظّهور ، فالنّكرة المنفيّة في المفرد نصّ في عموم الأفراد ، مثل : لا رجل في الدّار.

وأمّا الجمع المنكّر المنفيّ ، فإمّا لا يشمل بعض الآحاد (٣) كما يقال : لا رجال في الدّار ، بل رجل أو رجلان ، أو يكون ظاهرا فيه لو سلخنا عنه الجمعية ، والمفرد نصّ.

وأمّا في مثل : ليس رجل في الدّار ، و : ليس رجال في الدّار ، فالمفرد أيضا أظهر في الشّمول ، لأنّ فيه احتمالين : إرادة الوحدة المعيّنة ، والغير المعيّنة ، وفي

__________________

(١) نحو : كل رجل ولا رجل.

(٢) من أشملية المفرد في العموم.

(٣) هذا على تقدير عدم انسلاخ الجمع المنكّر عن الجمعيّة.

٥١٠

الجمع احتمالات ثلاثة : العموم كالمفرد بانسلاخ الجمعيّة ، ونفي الجمع الواحد وإثبات الجماعات ، ونفي الجمع وإثبات الواحد أو الاثنين.

وأمّا المفرد المعرّف والجمع المعرّف ، فالأمر فيه واضح ممّا مرّ ، لقلّة الاحتمال في المفرد وكثرته في الجمع باحتمال إرادة العموم الجمعي والمجموعي أيضا.

٥١١

قانون

ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة العموم في المقال ، نقله في «التمهيد» (١) عن جماعة من المحقّقين (٢). وقال : إنّ أصل القاعدة من الشّافعي (٣). ونقل عنه (٤) كلاما آخر يعارضه ظاهرا ، وهو أنّ حكايات الأحوال (٥) إذا تطرّق اليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال.

والأظهر أنّه لا تعارض بينهما وأنّهما قاعدتان مختلفتا المورد ، فالأولى هي ما كان جوابا عن سؤال ، بخلاف الثانية.

وتفصيل القول فيهما (٦) : أمّا الأولى ، فهو أنّ السّؤال إمّا عن قضيّة وقعت وهي محتملة أن تقع على وجوه مختلفة ، وإمّا عنها على تقدير وقوعها كذلك.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يعلم أنّ المسئول يعلم بالحال على النهج الذي وقع في نفس الأمر أو لا يعلم ، سواء علم أنّه لا يعلم أو جهل الحال.

أمّا الأوّل ، فلا عموم في الجواب ، بل هو إنّما ينصرف الى الواقعة حسب ما وقع

__________________

(١) في «تمهيد القواعد» : ص ١٧٠ ، وهو عين كلام الشافعي كما نقل في «المحصول» : ص ٥١١ ، وفي نسخة تتنزل واخرى يتنزل.

(٢) كالعلّامة في «التهذيب» : ص ١٣٣ ، والرازي في «المحصول» : ص ٥١١.

(٣) وقال ذلك في «تمهيد القواعد» : ص ١٧٠.

(٤) عن الشّافعي نقل الشهيد في «التمهيد» : ص ١٧٠.

(٥) الحال الواقعة والمراد هنا فعل المعصوم والحال فيما سبق هو واقعة السائل.

(٦) وهو المذكور عن السيد في «الذريعة» والشيخ في «العدة». هذا كما عن الحاشية.

٥١٢

في نفس الأمر.

وأمّا الثاني ، فإن كان للواقعة وجه ظاهر ينصرف إليه إطلاق السّؤال ، فالظّاهر أنّ الجواب ينزّل عليه ، وإلّا فيحمل على العموم لأنّه هو المناسب للإرشاد وترك الاستفصال مع تفاوت الحال. والظاهر انصراف الجواب الى إطلاق السّؤال يستلزم الإبهام والإضلال.

وهذا فيما علم عدم العلم (١) واضح.

وأمّا فيما لم يعلم ، فهو أيضا كذلك ، لأصالة عدم العلم ، فإنّ علوم المعصومين عليهم‌السلام أيضا حادثة ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم الأزليّ يقينا ، ولا يجوز نقض اليقين إلّا بيقين مثله ، للاستصحاب ودلالة الأخبار الصحيحة.

وما يقال : إنّ ثبوت علمهم عليهم‌السلام بنفس الأمر في الجملة ، ممّا لا شكّ فيه وهو يناقض قولنا : لا شيء من العلم بحاصل لهم ، فثبوت بعض العلوم لهم يقينا ينقض عدم ثبوت العلم لهم بشيء يقينا ، فلا يمكن الاستدلال بالقضيّة الكلّيّة في المقام ، فهو كلام ظاهري ، إذ ملاحظة اليقين والشّك بالنسبة الى كلّ واحد واحد من العلوم لا بالنسبة الى القضايا المنتزعة عنها ، فلا يجوز نقض اليقين بعدم كلّ علم إلّا بحصول اليقين بحصوله.

وما يقال : إنّ القضية الجزئيّة متيقّنة الحصول وأنّ هذا الشكّ إنّما حصل من جهة هذا اليقين ، ونقض اليقين السّابق إنّما هو بالشكّ الحاصل من يقين آخر. ولا يظهر اندراج هذا الشّكّ في النّهي الوارد في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين [أبدا]

__________________

(١) أي عدم المجيب بالواقعة الحادثة إذ لو علم انصرف جوابه الى ما علم.

٥١٣

بالشكّ» (١). فهو أيضا في غاية الوهن.

أمّا أوّلا : فلأنّا نمنع كون الشكّ حاصلا من جهة هذه القضية ، بل قد يحصل الشكّ مع عدم العلم بهذه القضيّة أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ لفظ الشّكّ واليقين عامّ في الحديث ، ويشمل جميع الأفراد (٢).

وأمّا ثالثا : فلأنّ كلّ معلول يستحيل وجوده في الخارج بدون وجود علّته وإن كانت العلّة نفس الشكّ والوهم. فالشكّ قد يحصل بسبب حصول الوهم ، وقد يحصل بسبب أمر يقينيّ ، وعلى أيّ التقديرين إنّما تسبّب عن شيء يقيني (٣) فإن بنى على ذلك (٤) ، لا يوجد مورد للرواية كما لا يخفى.

نعم ، يمكن توجيه كلام القائل : بأنّ من الأشياء ما هو معلوم لهم جزما ، ومنها ما هو غير معلوم ، وقد اختلطا ، فعدم العلم بكون ذلك من المعلوم لا يوجب جواز الحكم بكونه من غير المعلوم من أجل استصحاب عدم العلم.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا علمنا بأنّ فيما لا نعلم حاله من الأشياء من جهة المعلوميّة لهم وعدمها ما هو معلوم لهم وهو فيما نحن فيه ، ممنوع ، إذ لا نعلم نحن أنّ في زمرة ما لا نعلم حاله من المسئولات ، ما يعلمه المعصوم عليه‌السلام.

وأمّا الثاني : وهو السّؤال عمّا لم يقع بعد ، فهو أيضا يحمل على العموم إن لم يكن له فرد ظاهر ينصرف إليه ، واحتمال أن يكون المقام مقتضيا للإبهام. فلعلّ المسئول أراد الحكم بالنسبة الى بعض الأحوال ، وترك بيانه الى وقت الحاجة ، مع

__________________

(١) «التهذيب» : ١ / ٨ ح ١١ ، «الوسائل» : ١ / ٢٤٥ ح ٦٣١.

(٢) أي ويشمل الشك في الحديث جميع الأفراد حتى ما حصل من يقين آخر.

(٣) وهو اليقين بحصول الوهم أو حصول أمر يقيني آخر.

(٤) أيّ على كون المراد بالشّك في الحديث هو ما لم يكن حصوله من يقين.

٥١٤

أنّه خلاف الأصل ، لا يلتفت إليه مع ثبوت الظهور في العموم ، فعدم العلم بكون المقام مقتضيا للإبهام يكفي في الحمل على العموم.

وأمّا الثانية (١) : فهو أنّه إمّا نقل فعل المعصوم عليه‌السلام سواء علم جهة الفعل ، كما لو أخذ مالا عن يد مسلم بشاهد ويمين أو لم يعلم ، كما لو أخذ المال عن يد أحد ولم يعلم وجهه ، فلا يجوز التعدّي إلّا أن يثبت بدليل من خارج ، أو نقل حكمه في مادّة مخصوصة مع احتمال وقوعها على كيفيّات مختلفة يختلف باختلافها الحكم من دون سبق سؤال.

وهذه ممّا يقولون لها قضايا الأحوال وأنّه لا عموم فيها ، فإنّها محتملة لاقتصاره في المادّة المخصوصة ، فتصير في غيرها مجمل الحكم ، فلا يصحّ الاستدلال.

وأمّا التعدّي في مثل قوله عليه‌السلام في جواب الأعرابي : «كفّر» ، حيث سأله عن مواقعة أهله في نهار رمضان (٢) ، فهو من جهة فهم العلّة كما أشرنا في باب المفهوم ، وسيجيء في باب القياس.

ولنذكر للقاعدتين مثالين :

الأولى : أنّ امرأة سألت عنه عليه‌السلام عن الحجّ عن أمّها بعد موتها فقال : «نعم»(٣).

ولم يستفصل هل اوصت أم لا.

والثانية : حديث أبي بكرة لمّا ركع ومشى الى الصفّ حتى دخل فيه ، فقال له

__________________

(١) أي القاعدة الثانية المنقولة عن الشّافعي ، وهي أنّ حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال ... الخ.

(٢) «الفقيه» : ٢ / ١١٥ ح ١٨٨٥.

(٣) «صحيح البخاري» : ٣ / ٢٣ باب الحج عمن لا يستطيع ، «صحيح مسلم» : ٣ / ١٤٧ كتاب الحج الحديث ٤٠٧ ، «سنن البيهقي» : ٤ / ٣٣٥ الحديث ١ / ٢.

٥١٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «زادك الله حرصا ولا تعد» (١). فلا يجوز الاستدلال بها على جواز المشي وإن كان كثيرا ، إذ يحتمل أن يكون مشي أبي بكرة قليلا ، فالقدر المتيقّن هو ما لم يحصل الكثرة عادة.

__________________

(١) «مسند أحمد» : ٥ / ٣٩ ، «صحيح البخاري» : ١ / ١٩٨ باب الأذان ، «سنن أبي داود» : ١ / ١٨٢ ح ٦٨٣ و ٦٨٤ ، «سنن النسائي» : ٢ / ١١٨ باب الركوع دون الصف.

٥١٦

قانون

المعروف من مذهب الأصحاب أنّ ما وضع لخطاب المشافهة من قبيل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، و : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، ونحو ذلك لا يعمّ من تأخّر عن زمن الخطاب ، بل يظهر من بعضهم (١) أنّه إجماع أصحابنا وهو مذهب أكثر أهل الخلاف (٢) ، وذهب الآخرون (٣) الى العموم والشمول ، والحقّ هو الأوّل.

لنا : أنّ خطاب المعدوم قبيح عقلا وشرعا ، وقول الأشاعرة بجوازه (٤) مكابرة ناشئة عن قولهم بقدم الكلام النفسي ، وجعلهم التكليف من جملته.

وفيه : مع أنّ الكلام النفسي (٥) غير معقول أنّ التكليف طلب ، والطلب أمر إضافي نسبي لا يتحقق إلّا بتحقّق المنتسبين ، والمفروض انعدام المطلوب منه ،

__________________

(١) كصاحب «المعالم» : ص ٢٦٩ ، وفي «التهذيب» : ص ١٣٤ قال : بالإجماع ، فإنّه معلوم من دينه ضرورة ، لقبح خطاب المعدوم ، وفي «الفصول» ص ١٧٩ : المعروف بين أصحابنا أنّه لا يعمّ ، وقد خالف الفاضل التوني في «الوافية» : ص ١٢٠ مع تصريحه بأنّ قوله خلافا للأكثر ممّن صنّف في الأصول من الشيعة والنواصب ، حيث جعلوها مختصة بالموجودين في زمن الخطاب أو بحاضري مجلس الوحي ، وجعلوا ثبوت حكمها لمن بعدهم بدليل آخر كإجماع أو نص أو قياس.

(٢) منهم الرازي في «المحصول» : ٢ / ٥١٣ ، والمولى محمّد صالح المازندراني في حاشيته قال : نقل هذا عن أصحاب الشافعي وأبي حنيفة.

(٣) الآخرون من أهل الخلاف. في «المعالم» ص ٢٦٩ قال : وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغة لمن بعدهم. وفي «التمهيد» للشهيد : ونقل عن الحنابلة أنّه يعمهم.

(٤) فقد حكى عنهم أنّه يقولون بجواز تعلّقه بالمعدومين وهو قضية قولهم بقدمه.

(٥) هو مدلول الكلام اللّفظي.

٥١٧

فينتفي تعلّق الطلب بانتفاء المطلوب منه ، فينتفي الطّلب بانتفاء جزئه.

والقول بحدوث التعلّق وقدم الطّلب مع أنّه لا معنى له ، لا يدفع التزام حدوث التكليف ، لانتفاء الكلّ في الأوّل بانتفاء جزئه ، فيكون الكلّ حادثا.

وأيضا جواز التكليف مشروط بالفهم ، فإذا لم يجز تكليف الغافل والنّائم والسّاهي ، بل الصّبي والمجنون ، فالمعدوم أولى بالعدم ، وكلّ ذلك عند القائلين بتحسين العقل وتقبيحه ، واضح.

وأيضا ، المفروض كون تلك الألفاظ موضوعة للحاضر بحكم نصّ الواضع ، والتبادر وصحّة سلب الخطاب عن مخاطبة المعدوم ، والملفّق من الموجود والمعدوم ، فالأصل إرادة الحقيقة ، ولا يجوز العدول عنه إلّا مع ثبوت المجاز ، وهو موقوف على جوازه أوّلا ، وعلى ثبوت القرينة ثانيا.

أمّا الأوّل : فممنوع ، لما ذكرنا من استحالة الطلب عن المعدوم.

فإن قلت : إنّ الطلب من المعدوم قبيح إذا كان على سبيل الخطاب الحقيقي المنجّز ، لم لا يجوز الطلب عنه على سبيل التعليق؟

قلت : أوّلا : انّ الطلب التعليقي أيضا لا محصّل له في المعدوم لاقتضاء الطلب مطلوبا منه موجودا ، وإنّ حقيقة ذلك يرجع الى إعلام الموجودين بأنّ المعدومين يصيرون مكلّفين بذلك حين وجودهم وبلوغهم ، لا الطلب عنهم بالفعل بإتيان المطلوب إذا وجدوا ، وإنّ ذلك ليس من قبيل (١) : أنّت وزيد تفعلان كذا.

__________________

(١) أي من باب التغليب وتنزيل الغائب منزلة الحاضر مجازا وتوجيه الخطاب فعلا إليهما ، وهذا الكلام بناء على عدم كون لفظ ليس في المتن يكون عطفا على المنفي ، هذا كما في الحاشية.

٥١٨

وثانيا : على تسليم جواز ذلك (١) أو أنّ المراد من التجوّز هو إعلام الموجودين بأنّ المعدومين يصيرون مكلّفين وأمرهم بتبليغهم ذلك إيّاهم.

نقول : إنّ ذلك يستلزم كون جميع الخطابات الشفاهية مجازات إن أريد التغليب (٢) وهو كما ترى. وإن أريد استعمال اللّفظ في الحقيقي والمجازي على البدل ، فهو غير جائز أيضا ، على ما حقّقناه سابقا.

وما يقال في دفع ذلك : من أنّ جميع الخطابات معلّقة على شرائط التكليف ، وهي مختلفة بالنّسبة الى آحاد المكلّفين فمن حصلت له يدخل تحته ، وهذا أمر واحد لا تعدّد فيه ، فلا يلزم استعمال اللّفظ في المعنيين الحقيقي والمجازي.

ففيه : أنّ التحقيق أنّ الخطابات المشروطة لا تتعلّق بفاقدي الشرائط قطعا ، كما حقّقناه سابقا ، والتعليق لا يصحّ من العالم بالعواقب ، وقد بيّنّا في مباحث الأوامر معنى الواجب المشروط ، فلا نعيد. فالخطابات المطلقة لا تتعلّق إلّا بالواجدين ، والغرض من التعليق بالشّرط هو إعلام الحال ، وأنّ الفاقد للشّرط إذا صار واجدا ، فيتعلّق به الحكم حينئذ ، وقد بيّنّا سابقا أنّ الأصل في الواجبات هو الإطلاق حتّى يثبت التقييد بدليل ، فلم يتعلّق المطلقات إلّا بمن وجد الشرائط الثابتة ، سواء قارن ذكر الشرط لأصل الخطاب أو ثبت من دليل خارج ، فثبت لزوم إرادة المعنيين

__________________

(١) أي على تسليم جواز الطلب عن المعدومين كما في حاشية.

(٢) وهو ما غلب أحد المتصاحبين أو المتشابهين على الآخر بأن حمل الأمر متّفقا معه في الإسم ثم سمي ذلك الإسم وقصد إليهما جميعا مثل الشمسين للشمس والقمر ، والحسنين للحسن والحسين عليهما‌السلام وما شابه ذلك. والكلام في الجمع نظير الكلام في التثنية ، كالقانتين ، وادخلوا الباب سجدا ، وما شابه ذلك.

٥١٩

الحقيقي والمجازي في الخطابات المتنازع فيها على ما ذكرت (١) ، بخلاف الخطابات المشروطة ، وبطل التنظير والمقايسة.

وأمّا الثاني (٢) : فمعدوم ، لأنّ المفروض انتفاء الدّليل عليه ، والاشتراك في أصل التكليف مع كون الرّسول مبعوثا الى الكافّة ، لا يثبت الخطاب كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا ، يظهر أنّ القول (٣) بأنّ تلك الخطابات بالنسبة الى المعدومين من باب المكاتبة والمراسلة إلى النّائي ، فكما أنّه يجوز الخطاب في الكتاب الى من لا يصل إليه إلّا بعد سنة أو أزيد ، فكذا يجوز للعالم بالعواقب مخاطبة من سيوجد ولو بعد مدّة بهذا الكتاب ، لا وجه له ، لأنّ الكلام في المكاتبة والمراسلة بعينه ، هو ما ذكرنا ، لأنّها لا تصحّ إلّا الى الموجود الفاهم إذا أريد منه الطلب الحقيقي ، وإلّا فيكون (٤) المراد من المكاتبة أيضا هو العمل على ما يشمله من الأحكام من باب الوصيّة ، لا التكلّم والتخاطب ، مع أنّ احتمال ذلك (٥) لا يكفي ، ولا بدّ للمدّعي أن يثبت ذلك.

فإن قلت : فإذا امتنع الخطاب ولو على سبيل المجاز ، فما الذي يثبت التكاليف للمعدومين حين وجودهم وبلوغهم؟

قلت : أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم إذا وجدوا يصيرون مخاطبين (٦)

__________________

(١) المعدومون لو أريد.

(٢) وهو ثبوت القرينة للمجاز على فرض جوازه.

(٣) وقال في مضمون هذا الكلام الفاضل في «الوافية» : ص ١٢٣.

(٤) أي وإن لم تكن المكاتبة والمراسلة الى الموجود الفاهم فيكون المراد .. الخ.

(٥) أي جعلها من باب المكاتبة.

(٦) المراد من كونهم مخاطبين اي كونهم في حكم المخاطبين من باب المجاز وإلّا فلا خطاب حقيقة على ما ذكره المصنّف.

٥٢٠