القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

الأفراد حينئذ إنّما تتشخّص وتتميّز بتميّز المتكلّمين والمخاطبين لا بتفاوت الطلب وملاحظة الوجوب والنّدب ، فلو استعمل حينئذ في الوجوب أو الندب فيكون مجازا.

وإن أراد القدر المشترك المنتزع من الوجوب والندب بمعنى الأمر الدّائر بين الأمرين ، فحينئذ يصحّ كلام المستدلّ من أنّه حقيقة فيهما على المختار في الموضوع له ، ويظهر بطلان كلام المجيب (١) ، ولعلّ المستدلّ أراد ذلك.

نعم لو فرض حينئذ استعمال الصّيغة في القدر المشترك بين الأمرين بالمعنى الأوّل ، أعني الطّلب الرّاجح الخالي من ملاحظة الوجوب والندب وعدم الالتفات إليهما أصلا ، فيكون مجازا.

كما يلزم هذا لو قيل بوضعها للوجوب فقط أو للنّدب فقط أيضا ، فعليك بالتأمّل في موارد إطلاق الكليّ وتمييز أنواعها وأقسامها حتى لا يختلط عليك الأمر ، هدانا الله وإيّاك الى صراط مستقيم.

الرابعة :

مقتضى ما ذكرنا (٢) من التقرير في الجمع ، أوّلا : أن يكون عموم الجمع بالنسبة الى الجماعات كالمفرد بالنسبة الى الأفراد ، فإنّ جنس الجماعة إذا عرّف بلام الجنس وأريد منه الاستغراق ، لا بدّ أن يراد منه استغراقه لجميع ما يصدق عليه

__________________

(١) بأنّه مجاز.

(٢) أي ما ذكرنا في المقدمة الثانية من أنّ عموم الجمع كالمفرد أي كما انّ عموم المفرد يقتضي استيعاب مدخوله أي الأفراد ، فكذلك عموم الجمع يقتضي استيعاب مدخوله أي الجموع.

٤٨١

مدخوله ، فيكون عمومه يشمل الجماعات ، فيكون معنى : جاءني الرّجال ، جاءني كلّ جماعة من جموع الرّجال.

وأورد (١) عليه : بأنّ ذلك يستلزم جواز صحّته (٢) إذا لم يجئه رجل أو رجلان.

وردّ : بأنّ رجلا أو رجلين إذا انضمّ الى غيرهما ممّن جاءوا أو بعضهم ، يصير أيضا جمعا آخر ، فلم يصدق مجيء كلّ جمع من الجموع ، والمراد ثبوت الحكم لآحاد كلّ جمع لا مجموع كلّ جمع حتّى لا ينافي خروج الواحد أو الاثنين ، فلا يصحّ : جاءني جمع من الرّجال باعتبار مجيء فرد أو فردين.

وأورد عليه أيضا (٣) بأنّ : إرادة ذلك تستلزم تكرارا في مفهوم الجمع المستغرق ، لأنّ الثلاثة مثلا جماعة ، فتندرج فيه بنفسها وجزء من الأربعة والخمسة وما فوقهما فتندرج فيه أيضا في ضمنها ، بل نقول : الكلّ من حيث هو كلّ جماعة ، فيكون معتبرا في الجمع المستغرق ، وما عداه من الجماعات مندرجة فيه ، فلو اعتبر كلّ واحد واحد منها أيضا لكان تكرارا محضا ، ولذلك ترى الأئمّة يفسّرون الجمع المستغرق إمّا بكلّ فرد فرد ، وإمّا بالمجموع من حيث المجموع (٤).

__________________

(١) ولعلّ هذا الايراد وردّه التقط من كلام التفتازاني في «المطوّل» كما ذكر في الحاشية.

(٢) أي صحة قولنا : جاءني الرجال ، على تقدير كون معناه جاءني كل جماعة من جموع الرجال.

(٣) أي على القول بأنّ الجمع المستغرق لا يقتضي لاستيعاب الجموع ، كما انّ المفرد يقتضي استيعاب الأفراد.

(٤) كذا يستفاد من كلام المحقق الشريف كما في «هداية المسترشدين» : ٣ / ١٩٦.

٤٨٢

وأورد عليه (١) ، أوّلا : بالنّقض بقوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٢) و : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)(٣) ونحو ذلك.

وفيه : أنّ الحزب والأمّة في الآيات قد اعتبرت منفردة منفردة ، ولم يعتبر فيه للأحزاب المتداخلة باعتبار مفهوم الجزئيّة حكم على حدة ، وهكذا في الأمّة ، فاليهود أمّة ، والنصارى أمّة ، والمجوس أمّة ، وإن كان يصدق على كلّ واحد من أصناف اليهود أمّة أيضا (٤) ، وهكذا غيرهم.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّه إن أريد بالتكرار أنّ من يحكم بإكرام العلماء لا بدّ أن يلاحظ ثبوت الحكم للثلاثة مرارا متعدّدة فهو باطل جزما.

وإن أريد أنّه لا بد أن يكون الحكم ثابتا له في نفس الأمر مرارا متعدّدة بحسب مقتضى اللّفظ مع أنّه ليس كذلك ، فهو أيضا ممنوع.

وإن أريد أنّ لنا أن نعتبر دخول الثلاثة في الحكم باعتبارات ، فلا يضرّ على أنّه يجوز أن يشترط حينئذ عدم تداخل الجماعات وأجزائها ، لئلّا يلزم التكرار المذكور ، فاعتبار العموم بالنسبة الى كلّ فرد فرد إنّما يكون مع إبطال الجمعيّة ، واعتباره بالنسبة الى كلّ واحد من الجموع مع بقائه على حالته الأصلية من اعتبار الجميعة ، والظاهر أنّه ايضا يفيد عموم الأفراد ضمنا.

وأمّا اعتباره بالنسبة الى المجموع من حيث المجموع فلا يفيد ذلك (٥) ، فيصحّ

__________________

(١) أي على ايراد استلزام التكرار.

(٢) المؤمنون : ٥٣.

(٣) الاعراف : ٣٨.

(٤) وكان من الأبلغ أن يقول : ولو كان يصدق على المجموع أمة أيضا.

(٥) أي عموم الأفراد ضمنا.

٤٨٣

أن يقال للرّجال : عندي درهم على هذا (١) إذا كان الكلّ مشتركا في استحقاق درهم واحد ولا يثبت به لكلّ واحد منهم درهم.

إذا تمهّد هذه (٢) ، فنقول : أمّا الجمع المعرّف باللّام ، فالظاهر أنّه لا خلاف بين أصحابنا (٣) في إفادته العموم. ولا يضرّ في ذلك ما ذكرنا من جواز إرادة الجنس والعهد وغيره ، بل الظاهر أن المتبادر هو العموم الأفرادي لا الجمعي ولا المجموعي فينسلخ منه معنى الجمعيّة. فالظاهر أنّ هذا وضع مستقلّ للهيئة التركيبيّة على حدة وصار ذلك سببا لهجر المعنى الذي كان يقتضيه الأصل المقرّر (٤) في المقدمات ، من إرادة جنس الجمع على طريق المفرد المحلّى.

وكيف كان فالدليل قائم على كونه حقيقة في العموم فيكون في غيره مجازا ، والدّليل الاتفاق ظاهرا ، والتبادر وجواز الاستثناء مطّردا.

لا يقال : لعلّ جواز الاستثناء لاحتمال إرادة العموم ، وذلك لا يفيد إرادة العموم عند المتكلّم ، لأنّا نقول : المراد من جواز الاستثناء ، جوازه بالنظر الى ظاهر اللّفظ مطلقا في كل مقام لم يقم قرينة على خلافه ، لا الجواز العقلي بسبب إمكان أن يكون موردا للاستثناء كما لا يخفى.

__________________

(١) أي على اعتبار العموم ، بالنسبة الى المجموع من حيث هو.

(٢) أي هذه المقدّمات الأربعة المذكورة.

(٣) وبين مخالفينا أيضا إلّا ما نقل عن أبي هاشم منهم كما نقل في «العدة» : ١ / ٢٧٦ ، و «الذريعة» : ١ / ٢٢٢ ، وراجع «ميزان الاصول» : ١ / ٣٩٦ ، و «المعتمد» : ١ / ٢٢٣ ، وهو قول ضعيف شاذ لا يلتفت إليه. وقد عبّر عنه في «المعالم» ص ٢٦٢ : وربما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم.

(٤) يعني القاعدة المقرّرة.

٤٨٤

وأمّا دلالة جواز الاستثناء مطّردا على العموم فقد مرّ (١) ، وكذلك الجمع المضاف (٢) عند جمهور الأصوليّين.

ومن فروع المسألتين ما لو أوصى للفقراء أو فقراء البلد ، فإن كانوا محصورين صرف إليهم جميعا مع الإمكان وإلّا فيصرف الى ثلاثة فصاعدا ، لأنّ المقام قرينة عدم إرادة الحقيقة.

وأمّا المفرد المعرّف باللّام فقيل : بإفادته العموم ، وقيل : بعدمه (٣).

وطريقة تقسيمهم الجنس المعرّف باللّام الى أقسامه (٤) تقتضي القول بكونه حقيقة في الجميع لكن لا على سبيل الاشتراك ، بل من باب استعمال الكلّي في الأفراد كما أشرنا إليه.

__________________

(١) في مبحث العام عند تحقّق ردّ القائلين بأنّ الألفاظ حقيقة في الحصر والخصوص كما في القانون الأوّل من هذا المقصد.

(٢) ومما يدلّ على أنّ الجمع المضاف يفيد العموم احتجاج الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام على أبي بكر عند ما غصبها إرثها عن أبيها وذلك بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، ولم ينكر عليها أحد من المسلمين. نعم قد عدل أبو بكر عن ما رواه على ما نقل بحسب الظاهر وكان لعمر حينها كلام.

(٣) والقائل بالعموم هو كالشيخ في «العدة» : ١ / ٢٧٦ ، واختار المحقق في «المعارج» : ص ٨٦ ، والعلّامة في «التهذيب» : ص ١٢٩ العدم ، وكذا الرازي في «المحصول» : ٢ / ٤٩٧ الّذي قال : الواحد المعرّف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبّائي والفقهاء والمبرّد. وأمّا الشهيد في «التمهيد» ص ١٦٦ : فقال : المفرد المحلّى باللام والمضاف ، للعموم عند جماعة من الاصوليين ، والمعروف من مذهب البيانيين ونقله الآمدي عن الأكثرين ، ونقله الفخر الرازي عن الفقهاء والمبرّد ، ثم اختار هو ومختصر كلامه عكسه وهو الأظهر وأمّا في «المستصفى» فقد فصّل راجعه ٢ / ٣١.

(٤) أي الماهيّة والمفرد الواحد وجميع الأفراد.

٤٨٥

وقد يستشمّ من بعضهم (١) القول بالاشتراك اللّفظي.

وأمّا القائل بإفادته العموم فمذهبه أنّه حقيقة في الاستغراق ، ولعلّه يدّعي وضع الهيئة التركيبيّة للاستغراق.

والأظهر عندي كونه حقيقة في الجنس للتبادر في الخالي عن قرينة العهد والاستغراق ، ولأنّ المدخول موضوع للماهيّة لا بشرط إذا خلا عن التنوين واللّام ، واللّام موضوع للإشارة والتعيين لا غير ، فمن يدّعي الزيادة فعليه بالإثبات.

وحاصل هذا الاستدلال (٢) يرجع الى اعتبار الوضع الأفرادي في كل واحد من اللّام والمدخول والرّخصة النوعيّة في مجرّد التركيب مع قطع النظر عن خصوصيّات التراكيب (٣) ، فلا يرد أنّ هذا إثبات اللّغة بالتّرجيح ، إلّا أنّه يمكن أن يقال بعد الرخصة النوعيّة الحاصلة في أنواع الإشارة (٤) احتمال إرادة المتكلّم بالنسبة الى الكلّ مساو ، فلا يجري أصل العدم في واحد منها (٥) ، والكلام في أنّ مدخول اللّام حقيقة في الطبيعة لا بشرط ، والأصل الحقيقة ، لا يثبت الحقيقة في الهيئة التركيبيّة ، فالأولى التمسّك بالتبادر.

نعم يمكن الاستدلال هكذا ، في مقابل من يعترف بكون تعريف الجنس معنى له (٦) إمّا متوحّدا أو بكونه أحدا لمعاني المشترك فيها اللّفظ إلزاما بأن يقال : كونه

__________________

(١) يمكن مقصوده السيّد راجع «الذريعة» : ١ / ١٩٩.

(٢) أي الاستدلال بأنّ المدخول موضوع ... الخ.

(٣) أي الاستغراق وغيره.

(٤) أي الاشارة الى الماهيّة والمفرد الواحد وجميع الافراد.

(٥) من الأنواع المذكورة.

(٦) أي للمعرّف بالهيئة التركيبية.

٤٨٦

حقيقة فيه اتّفاقي والأصل عدم غيره ، والمجاز خير من الاشتراك.

ويبقى الكلام مع من يدّعي كونه حقيقة في الاستغراق وسنبطله إن شاء الله تعالى.

ويدلّ عليه (١) أيضا عدم اطّراد الاستثناء ، بمعنى أنّه لا يصحّ في العرف في كل موضع وإن لم يوجد هنا قرينة إرادة خلاف العموم أيضا لقبح : جاءني الرّجل إلّا البصري ، وأكرم الرّجل إلا السّفهاء.

وأمّا الاستدلال بجواز : أكلت الخبز وشربت الماء ، وعدم جواز : جاءني الرّجل كلّهم ، فضعيف لأنّ عدم إمكان أكل جميع الأخباز وشرب جميع المياه قرينة على عدم العموم ، وعدم جواز التأكيد بما يؤكد به العامّ لعلّه مراعاة للمناسبة اللّفظية.

واحتجّوا بما حكاه بعضهم (٢) عن الأخفش : أهلك الناس الدّرهم البيض والدّينار الصّفر.

وأجيب عنه : بأنّه لا يدلّ على العموم ، لأنّ مدلول العامّ كلّ فرد ، ومدلول الجمع مجموع الأفراد (٣).

وفيه ما فيه ، لما عرفت من أنّ عموم الجمع أيضا أفراديّ.

وبقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٤).

وفيه : أنّ ما يدلّ على كون اللّفظ للعموم اطّراد الاستثناء في جميع ما يحتمل

__________________

(١) أي على بطلان الاستغراق وصحة الجنس.

(٢) كصاحب «المعالم» و «المحصول» و «التهذيب» وأكثر الاصوليين وإن تركوا نسبته إلى الأخفش.

(٣) وبينهم بون بعيد كما قال المجيب وهو صاحب «المعالم» : ص ٢٦٣.

(٤) العصر : ٣.

٤٨٧

اللّفظ للعموم وغيره على السّوية ، لا مطلق جواز الاستثناء ، والاستثناء هنا قرينة على استعمال اللّفظ في الاستغراق مجازا ، ومن ذلك يظهر التحقيق في الجواب عن الأوّل أيضا ، فإنّ التوصيف بالعام قرينة على إرادة الاستغراق ، ونحن لا ننكر مطلق الاستعمال.

وما يقال (١) في الجواب عن الوجهين : أنّ الظاهر أنّه لا مجال لإنكار إفادة المفرد المعرّف باللّام العموم في بعض الموارد حقيقة ، كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة ، وكونه أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم. فالكلام حينئذ إنّما هو في دلالته على العموم مطلقا بحيث لو استعمل في غيره لكان مجازا على حدّ جميع صيغ العموم التي هذا شأنها ، والدليل لا يثبت إلّا إفادته العموم في الجملة ، وهو غير المتنازع فيه ، فإنّما هو مبنيّ على الاشتراك اللّفظي أو على إطلاق الكلّيّ على الفرد ، وقد عرفت بطلانهما.

ثمّ اعلم ، أنّا وإن ذهبنا الى أنّ اللّفظ لا يدلّ على العموم لكنّه لازم ما اخترناه من كونه حقيقة في تعريف الجنس ، إذ الحكم إذا تعلّق بالطبيعة من حيث هي والمفروض أنّها لا تنفكّ عن شيء من أفرادها ، فيثبت الحكم لكلّ أفرادها.

والقول : بأنّ الطبائع إنّما تصير متعلّقة للأحكام باعتبار وجودها (٢) ، كلام ظاهري ، بل الطبائع بنفسها تصير متعلّقة للأحكام ومتّصفة بالحسن والقبح ، وغاية ما يمكن أن يقال : إنّه لا وجود لها إلّا بالأفراد.

__________________

(١) القائل هو صاحب «المعالم» : ص ٢٦٣ ، هذا والجواب عن قوله : وما يقال ، هو قوله : فإنّما هو مبني على الاشتراك اللّفظي.

(٢) تعريف لصاحب «المعالم» هذا كما في الحاشية.

٤٨٨

وفيه : أنّا نقول بتعلّقها بها لا بشرط شيء ، لا بشرط أن لا يكون معها شيء حتّى لا يمكن التكليف بها ، وإذا تمكّن المكلّف من الإتيان بها في ضمن الفرد فيصدق عليه أنّه متمكّن منها كما أشرنا في مبحثه (١) ، ولا فرق بين تعلّق الأمر به أو تعلّق الحلّ والجواز والحرمة ونحوها (٢).

نعم ، بعد الامتثال بفرد في الأوامر ، يسقط التكليف ، وذلك لا يستلزم عدم التخيير في الإتيان بأيّ فرد يمكن حصول الطبيعة في ضمنها.

وأمّا في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) ، فلا سقوط للحلّ ، والجواز بمجرّد ثبوته لفرد منه أو أفراد ، ومن لا يجوّز تعلّق الحكم بالطبائع فقد سلك هنا مسلكا آخر في استفادة العموم إذا وقع المفرد المحلّى في كلام الحكيم ، فقال : بأنّ الطبيعة لمّا لم يمكن تعلّق الحكم بها ولا عهد خارجي يكون مرادا بالفرض ، ولا فائدة في إرادة فرد ما للزوم الإغراء بالجهل ، فتعيّن إرادة الاستغراق.

وهذا الكلام يجري على مذاق من يقول بالاشتراك اللّفظي وغيره (٤).

وأمّا المفرد المضاف (٥) ، فالظاهر أنّ المراد به الطبيعة ، فيستفاد منه العموم باعتبار الطبيعة على ما اخترناه ، وباعتبار الحكمة على التقرير الآخر.

__________________

(١) في مبحث الأمر المتعلّق بالكلّي المطلوب به هو الماهيّة كما مرّ في باب الأوامر وغيرها من الحلّ والحرمة ، والجواز في كيفية العموم بعد عدم الفرق بينهما في الأصل المتعلّق بالطبيعة. الظاهر أنّ حاصل الفرق هو تحقق العموم البدلي في الأوامر والاستغراقي في غيرها ، هذا كما في الحاشية.

(٢) وقد علّق صاحب «الصول» : ص ١٧٢ على هذا الكلام.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) المقصود من غير الاشتراك اللّفظي هو الاشتراك المعنوي.

(٥) وهو مثل : ضربي زيدا قائما ونحوه.

٤٨٩

ثم إنّ الشهيد الثاني رحمه‌الله قال في «تمهيد القواعد» : إذا احتمل كون أل للعهد وكونها لغيره كالجنس أو العموم ، حملت على العهد لأصالة البراءة عن الزّائد ، ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه. ومن فروعها ما لو حلف لا يشرب الماء ، فإنّه يحمل على المعهود حتى يحنث ببعضه ، إذ لو حمل على العموم لم يحنث.

ومنها : إذا حلف لا يأكل البطيخ ، قال بعضهم : لا يحنث بالهندي وهو الأخضر.

وهذا يتمّ حيث لا يكون الأخضر معهودا عند الحالف إطلاقه عليه إلّا مقيّدا.

ومنها : الحالف لا يأكل الجوز ، لا يحنث بالجوز الهندي ، والكلام فيه كالسّابق إذ لو كان إطلاقه عليه معهودا في عرفه حنث به ، إلّا أنّ الغالب خلافه ، بخلاف السّابق فإنّه على العكس (١).

أقول : بعد الإغماض عمّا بيّنا من أنّه حقيقة في الجنس ، وأصالة الحقيقة تقتضي إرجاعه الى إرادة الماهيّة ، نقول : إنّ أصالة البراءة لا تقتضي الحمل على العهد مطلقا (٢) ، إذ قد تقتضي الحمل على الجنس أو العموم ، فإذا قال الشارع : يجوز السّجود على الحجر ، فإذا جوّزنا السّجود على أيّ حجر كان ، فلا يجب علينا تكلّف تحصيل المعهود لو فرض حصول غير المعهود ، مثل المغناطيس ، وأمثلته في أحكام الشرع كثيرة ، مع أنّ ما ذكره في حكاية شرب الماء ، مع المناقشة في عدم كونه مثالا لما نحن فيه ، إذ العهد فيه إنّما هو في الشّرب لا الماء ، يقتضي خلاف ما ادّعاه.

وبالجملة ، فأصالة البراءة قد تقتضي الحمل على المعهود كما في المثالين

__________________

(١) إلى هنا ينتهي كلام الشهيد في «التمهيد» : ص ١٥٩.

(٢) أي في كل مسألة.

٤٩٠

الأخيرين ، وقد تقتضي الحمل على العموم (١) ، مع أنّ فيما يقتضي الحمل على العهد إنّما يتمّ ما ذكره في الجنس إن أريد به ما يستلزم العموم كما حقّقناه. وإن أريد به ما يشمل المعهود الذّهني (٢) فلا نوافقه أيضا ، لأنّه قد يكون أصالة البراءة مقتضية للتنكير ، وإن حمل العهد في كلامه على الأعمّ من الذّهني ، فمع بعده (٣) أيضا لا يتمّ ، لأنّ أصالة البراءة قد تقتضي الحمل على العموم مع أنّه لا يناسب قوله : ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه.

هذا كلّه ، مع أنّه لا يقتضي ما ذكره إلّا عدم ثبوت التكليف في غير المعهود لعدم العلم بأزيد منه ، لا أنّ المتكلّم استعمل اللّفظ في العهد ، فالأولى أن يقال في موضع أصالة البراءة أصالة عدم ثبوت الحكم إلّا في المعهود ، يعني إذا دار الأمر بين إرادة الجنس والعهد والعموم ، فالمعهود مراد بالضّرورة ، لدخوله تحتهما (٤) ، والأصل عدم ثبوت الحكم في غيره.

وحينئذ يرد عليه (٥) : أنّه يتمّ لو لم يحتمل الجنس إرادة وجوده في ضمن فرد ما ، فإنّ المعهود حينئذ غير معلوم المراد جزما.

نعم ، لو أريد بالجنس ما يستلزم العموم كما بيّناه سابقا ، فلذلك وجه ، لكن يبقى

__________________

(١) وذلك مثل ما تقدم من جواز السّجود على الحجر.

(٢) يعني أريد بالجنس ما يشمل المعهود الذّهني فلا يوافقه أيضا. يعني كما لو أريد بالجنس ما يستلزم العموم فقط ، لا يوافقه لما تقدم من أنّ أصالة البراءة قد تقتضي الحمل على العموم لا العهد ، هذا كما في الحاشية.

(٣) أي بعد حمل العهد في الكلام على الأعم من الذّهني. ووجه البعد هو انّ مطلق العهد ينصرف الى الخارجي دون الذّهني فقط ودون الأعم منهما.

(٤) أي لدخول المعهود تحت الجنس والعموم ، والأصل عدم الحكم في غير المعهود.

(٥) وقد ردّ في «هداية المسترشدين» : ٣ / ٢٢٨ على هذا الايراد.

٤٩١

عليه الأنظار الأخر.

وأمّا قوله (١) : ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه.

ففيه : أنّه إن أراد أنّه حصل العلم بسبب تقدّمه أنّه هو المراد أو الظنّ ، فيكون ذلك قرينة معيّنة لأحد المعاني المشتركة ، فحينئذ لا يبقى احتمال لإرادة المعاني الأخر ، ولا يناسب ذلك التمسّك بمقتضى أصالة البراءة.

وإن أراد أنّ التقدّم والمعهوديّة يجوّز إرادة العهد ويصحّحه ، فهو ليس إلّا جعل المقام قابلا للاحتمال وتحقيقا للإجمال بسبب إرادة كلّ واحد من المعاني المشتركة ، ومجرّد صلاحيّة إرادة أحد المعاني من المشترك لا يرجّح إرادته كما لا يخفى.

ثمّ ما يظهر لي ، أنّ ما لبس المقام وخلط الكلام في هذا المرام هو ما تعارف بينهم أنّ المطلق ينصرف الى الأفراد الشّائعة ، فجعل الشهيد الثاني رحمه‌الله الأفراد الشّائعة معهودة ، وجعل الألف واللّام إشارة الى الصنف المعهود المتعارف في المحاورات ، ثمّ عمّم الكلام في مطلق العهد (٢) ، ونظر الى أنّ التقدّم في اللّفظ يرشد الى إرادة المذكور سابقا في العهد الذّكري ، والتقدّم في التعارف والاصطلاح يرشد الى إرادة الأفراد المتعارفة فيما كان العهد من جهة ذلك ، فعلى هذا يكون التقدّم قرينة معيّنة للإرادة ، لا مجوّزة.

ويرد عليه حينئذ ، مضافا الى ما سبق (٣) : أنّ التقدم في الذّكر لا يعيّن إرادة

__________________

(١) قول الشهيد في «التمهيد» كما عرفت.

(٢) أي سواء كان من باب العهد الذّكري أو من باب العهد المتعارفي.

(٣) من عدم المناسبة بالتمسّك بأصالة البراءة.

٤٩٢

المذكور ، وإلّا فلم يبق الاحتمال المذكور في صدر المقال.

وأمّا تعيين التعارف (١) ذلك ، فالظاهر أنّه لا مدخليّة للألف واللّام فيه ، بل هو لانصراف جوهر اللّفظ إليه كما هو شأن المطلق وانصرافه الى الأفراد الشّائعة. فلنقدّم الكلام في معنى انصراف المطلق الى الأفراد الشّائعة حتى يتّضح المرام.

فنقول : إنّ ذلك لعلّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة العرفيّة لذلك اللّفظ في الأفراد المتعارفة بحيث هجر المعنى الحقيقي ، والمحقّق (٢) فيما دار الأمر بين أن يكون المراد في كلام الشّارع هو الحقيقة العرفيّة أو اللّغويّة هو تقديم العرف ، وإثبات الحقيقة العرفيّة ، دونه خرط القتاد (٣) ، ولذلك لم يعتبر ذلك علم الهدى رحمه‌الله ، ويراعي أصل الوضع ويجري الحكم في جميع الأفراد النّادرة (٤).

وأمّا إذا لم يثبت الحقيقة العرفية بمعنى هجر اللّغوي ، بل حصل حقيقة عرفيّة للّفظ في المعاني المتعارفة ، مع بقاء المعنى الحقيقي أيضا ، فيصير اللّفظ مشتركا بين الكلّيّ وبعض الأفراد ، لكن يكون استعماله في أحد المعنيين أشهر ، كما في العين بالنسبة الى الباصرة والنابعة من بين سائر المعاني ، أو حصل هناك مجاز مشهور

__________________

(١) أي إرادة المتعارف.

(٢) عندهم.

(٣) أي إثبات الحقيقة العرفيّة بالمعنى الذي ذكر وهو كونه بحيث هجر المعنى الحقيقي دور. والخرط من الأغصان هو أن تقبض على أعلاه ثم تمرّ يدك عليه الى أسفله. والقتاد شجر صلب شوكه كالإبر تضرب فيه الأمثال. وفي الحديث : إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد. اللهم أعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم ، واجعل عاقبة أمرنا الى خير ، وثبّت قلوبنا ولا تسلبنا ما أنعمت به علينا من ولايتك وولاية محمّد وآله عليه وعليهم‌السلام.

(٤) اللّغويّة المجهورة.

٤٩٣

بسبب غلبة الاستعمال ، فيشكل (١) الحمل على الأفراد الشّائعة فقط ، لعدم مدخليّة مجرّد الشّهرة في أحد معاني المشترك في ترجيحه ، ولمعارضة الشّهرة في المجاز المشهور بأصالة الحقيقة ، إلّا أنّ إرادة الأفراد الشّائعة لمّا كان متحقّق الحصول على أيّ تقدير ، فتعيّن إرادته ويصير الباقي مشكوكا فيه ، وذلك ليس لترجيح المجاز المشهور أو أحد معنيي المشترك بسبب اشتهاره ، بل لدخوله في اللّفظ على أيّ التقديرين.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : إنّ العهد الذي جعله معيار الكلام هو هذا المعنى ، وهذا لا مدخليّة له في اللّام ، اللهمّ إلّا أن يكون اللّام إشارة الى أحد معنيي المشترك اللّفظي كما أشرنا الى إمكانه سابقا (٢) ، إلا أنّه ليس في ذلك كثير فائدة مع إفادة جوهر اللّفظ ذلك ، وحينئذ يبقى الكلام في تعميم المقام بحيث يشمل العهد الذّكري.

__________________

(١) هذا جواب لقوله : وأمّا إذا لم يثبت الحقيقة العرفيّة ... الخ.

(٢) وهو ما ذكره في المقدمة الأولى من هذا القانون حيث قال : وكما يمكن إرادة المفرد المعيّن من الطبيعة الدّاخلة عليها اللّام بلام العهد هذه ، فيمكن إرادة أحد معنيي المشترك اللّفظي أيضا كما هو أحد الاحتمالين في الارجاع إلى الأفراد الغالبة.

٤٩٤

قانون

المشهور أنّ الجمع المنكّر لا يفيد العموم (١) ، خلافا للشيخ ، فقال : بإفادته العموم نظرا الى الحكمة (٢) ، والجبّائي (٣) يحمل المشترك عنده على جميع معانيه.

احتجّوا : بأنّه قابل لآحاد الجماعات ، ومنها الجميع ، ودلالته على الجميع تحتاج الى دليل ، والدلالة اللّفظية مفقودة ، فإنّها منحصرة في الثلاثة ، وانتفاء الأوّلين معلوم وكذا الثالث ، لعدم اللّزوم ، فإنّ العامّ (٤) لا يدلّ على الخاصّ ، نعم ،

__________________

(١) وإلى ذلك ذهب العلّامة في «التهذيب» : ص ١٢٩ ، والمحقّق في «المعارج» : ص ٨٧ ، وفي «التمهيد» للشهيد : ص ١٥٩ : والجمهور على أنّه لا يعمّ ، وفي «الفصول» : ص ١٧٤ عزاه إلى الأكثر.

(٢) كما حكي في «المعارج» : ص ٨٧ ، ونقل في «الفصول» : ص ١٧٤.

(٣) كما نقل العلّامة في «التهذيب» : ص ١٢٩ ، والمحقّق في «المعارج» : ص ٨٧ ، والشهيد في «التمهيد» : ص ١٥٩ ، والرازي في «المحصول» : ٢ / ٥٠٤. واعلم أنّ محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبّائي (٢٣٥ ـ ٣٠٣ ه‍) نسبة الى جبّا ـ بالقصر ـ قرية بالبصرة كما في «البداية والنهاية» وفي «معجم البلدان» «بلد او كورة من عمل خوزستان (...) حتى جعل من لا خبرة له جبّا من اعمال البصرة ، وليس الأمر كذلك». وهو من أئمة الاعتزال ورئيس علماء في عصره وإليه تنسب الطائفة الجبائية. له آراء ومقالات انفرد بها في مذهبه الكلامي. وهو أكبر معلّم للأشعري قبل أن يرجع هذا الأخير عن مذهب الاعتزال ويردّ على معتنقيه. ويعدّ الجبّائي واحدا من ثلاثة أعلام من المعتزلة يرد ذكرهم كثيرا في أصول الفقه والاثنان الآخران هما : القاضي عبد الجبّار ، وأبو هاشم نجل المترجم له. دفن المترجم له بجبّى.

(٤) لا يخفى انّ المراد بالعام ليس عام المصطلح ، إذ العام المصطلح على التحقيق يدلّ على الخاص بعنوان المطابقة ، نعم لا يدل خصوص الخاص.

٤٩٥

أقلّ المراتب معلوم المراد جزما ، ولا دلالة على ما فوقه.

احتجّ الشيخ : بأنّ اللّفظ يدلّ على القلّة والكثرة ، فإذا صدر عن الحكيم ولم يبيّن القلّة ، فعلم عدم إرادتها ، فيحمل على إرادة الكلّ حيث لا قرينة على غيره ، لئلّا يلغو كلام الحكيم (١).

واحتجّ الجبائيّ : بأنّا لو حملناه على الجميع لحملناه على جميع حقائقه ، فكان أولى(٢).

وأجيب عن الأوّل (٣) : بأنّ الأقلّ معلوم الإرادة جزما ، فيعمل عليه ويتوقّف في الباقي حتى يتبيّن ، وهو لا ينافي الحكمة.

وعن الثاني (٤) : بمنع كون اللّفظ حقيقة في كلّ واحد من المراتب ، بل هو للقدر المشترك بينها ، مع أنّ ما ذكره من لزوم حمل المشترك على جميع المعاني إذا لم يظهر قرينة على التعيين ، فهو ممنوع ، بل التحقيق التوقّف والإجمال حتى يظهر المراد.

أقول : والتحقيق (٥) أن يقال :

إنّ الجمع المنكّر يتصوّر استعماله على صور :

الأولى : الإخبار عنه ، بمثل : جاءني رجال ، وله عليّ دراهم.

__________________

(١) مع التفحّص لم أجد عين الكلام في «العدة» ، ولعلّ ما نقله المصنّف وما حكاه المحقّق عن الشيخ وذكره في «المعالم» إشارة إلى ما أورده الشيخ في «العدة» : ١ / ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٢) من حمله على بعض حقائقه ، راجع «المحصول» : ٢ / ٥٠٤.

(٣) وهذا جواب عن احتجاج الشيخ على سبيل المعارضة وهو لصاحب «المعالم» : ص ٢٦٧ على ما يظهر.

(٤) وهو أيضا لصاحب «المعالم» : ص ٢٦٧ في جوابه على الجبّائي.

(٥) في الجواب عن الشيخ.

٤٩٦

والثانية : الحكم عليه بشيء ، مثل : أحلّ الله بيوعا.

والثالثة : الأمر بإيجاده ، مثل : أقم نوافل.

والرابعة : جعله متعلّقا للمأمور به ، مثل : أعط ثلث مالي رجالا أو علماء أو أضفهم في أيّام وصم أيّاما ، ونحو ذلك.

أمّا الصّورة الأولى : فقد لا يراد من الإخبار معرفة حال المخبر عنه ، ولا يقصد إلّا إسناد الفعل إليه ، والمقصود بيان تحقّق ذلك الفعل من فاعل معيّن عند المتكلّم غير متعيّن عند المخاطب ، كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١). ففي مثل ذلك لا يقتضي الحكمة حمل اللّفظ على العموم أصلا ، ويبقى في الجمع إفادة الكثرة ، ولمّا لم يتعيّن من اللّفظ ، فيعلم أنّ الأقلّ مراد جزما. فالذي نستفيده من المثالين الأوّلين (٢) بعنوان الجزم ، هو مجيء ثلاثة رجال وثبوت ثلاثة دراهم.

وأمّا الصورة الثانية : فإذا كان المراد بيان الحكم للبيوع ، فلا بدّ من معرفة أشخاصها بصيغة خاصّة بها أو بما يعمّها ، فلا يتأتّى الجواب المذكور فيها.

وحملها على الأقلّ ينافي الحكمة لعدم التعيين ، إلّا أن يرجع ذلك المثال أيضا الى الصورة الأولى ، فيكون الإشكال في تعيين البيع لا في تعيين البيوع ، بأن يقال : لا إجمال في بيان العدد بحيث ينافي الحكمة وهو المقصود بالذّات في هذا المثال كما في : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٣). وإنّما يحتاج الى البيان في غيره ،

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) المذكورين في الصورة الاولى.

(٣) القصص : ٢٠.

٤٩٧

وهو تعيين أشخاص البيع كتعيين الرّجل ، فيحتاج في المثال المذكور الى الذّكر والتفصيل ، وهو خلاف المفروض ، فإنّ المفروض أنّ المقصود في مثله بيان حكم شخص البيع ومعلوميّة حاله كما هو شأن الحكيم في بيان الحكم.

وممّا ذكرنا (١) ، يظهر أنّ ما أورد على الجواب المذكور بالنّقض (٢) ، بأنّه إذا حصل عدم المنافاة للحكمة بحمل اللّفظ على القدر المتيقّن من مدلوله ، فيجري ذلك في المفرد المعرّف أيضا ، فما وجه حمله على العموم نظرا الى الحكمة ، لا يتمّ (٣) إلّا أن ينزّل كلام المستدلّ والمجيب على بعض هذه الصّور (٤) لا مطلقا ، لأنّ إرادة حليّة بيع غير معيّن في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٥) ، لا يعقل له فائدة وحكمة أصلا ، بخلاف الكلام (٦) في مطلق الجمع المنكر.

وأمّا الصّورتان الأخيرتان (٧) : فإن أريد منهما (٨) مثل ما أريد في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٩) ، فالحكمة تقتضي الحمل على العموم وإن

__________________

(١) من الفرق بين الصّورتين وكون الكلام في إحداهما غير الكلام في الأخرى.

(٢) نقل انّ الذي أورد ذلك هو المحقّق السلطان في حاشيته على المعالم.

(٣) هذا خبر لقوله : انّ ما أورد.

(٤) أي الصورة الثانية بأن يقصد التعيين بنفسه لا أن يقصد مجرد صدور الفعل عن واحد.

(٥) البقرة : ٢٧٥.

(٦) على الصورة الاولى دون الثانية.

(٧) الثالثة والرابعة المتصوّرة.

(٨) يعني ما كان المعيّن عند المتكلّم والمبهم عند المخاطب وسيتضح لك ذلك في قوله : فالعمدة في تحقيق المسألة إرجاع الأمر الى أنّ المراد بالجمع المنكّر في الكلام هو المعيّن عند المتكلّم المبهم عند المخاطب. هكذا عن «التوضيح».

(٩) القصص : ٢٠.

٤٩٨

وإن أريد الإتيان به مع عدم قصد التعيين عند المتكلّم ، فلا يحتاج الى الحمل على العموم أصلا ، بل يحصل الامتثال بأقلّ الأفراد ، إذ يحصل الامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد ، فهو من باب التخيير المستفاد من الأمر بالكلّي.

فكما أنّ قولك : جئني برجل ، يقتضي الامتثال بإتيان أيّ رجل يكون ، فكذلك فيما نحن فيه ، إذ كما أنّ كلّ رجل يصدق عليه أنّه رجل ، فكذلك كلّ رجال يصدق عليه أنّه رجال ، ولمّا كان ذلك في معنى التخيير ، والتخيير بين الأقلّ والأكثر لا يقتضي إلّا كون الأكثر أفضل ، فالأقلّ متيقّن المراد.

فالعمدة في تحقيق المسألة إرجاع الأمر الى أنّ المراد بالجمع المنكّر في الكلام هو المعيّن عند المتكلّم ، المبهم عند المخاطب أو مجرّد الطبيعة المبهمة ، فعلى الأوّل لا بدّ أن يحمل على العموم لئلّا ينافي الحكمة ، وعلى الثاني يكتفى بالأقلّ لأصالة البراءة عن الزّائد وحصول الامتثال بالأقلّ. وأمّا حصول العلم بإرادة الأقلّ والشّك في الباقي ، فهو مشترك بين المعنيين.

ثمّ لا بدّ أن يعرف أنّ اللّفظ أظهر في أيّ المعنيين ، والظاهر في الصّورة الاولى (١) ، بل المتعيّن هو الأوّل ، وكذا في الصّورة الثانية. وأمّا في باقي الصّور فالأظهر هو المعنى الثاني فيحمل عليه ويكتفى بالأقلّ الى أن يظهر من الخارج إرادة التعيين ، فإمّا يحمل على العموم ، أو ينتظر البيان إن كان له مجال.

ثمّ إنّ ما ذكرنا ، أنّ الحكمة تقتضي الحمل على العموم فيما يحتاج إليه ، إنّما هو

__________________

(١) المراد منها مثل جاءني رجال ، ويحتمل أن يكون المراد من الصورة الأولى هي الأولى من الصّورتين الأخيرتين فيكون المراد من قوله : فالعمدة في تحقيق المسألة ، مسألة الصورتين الأخيرتين لا كليّة المسألة في الجمع المنكر وهو خلاف الظاهر. هذا على ما في الحاشية.

٤٩٩

إذا لم يكن الإجمال مقتضى الحكمة ، وإلّا فقد يكون مقتضاها الإبهام إذا لم يكن وقت الحاجة الى بيانه ، ولكن لمّا كان الأصل عدم تلك الحكمة ، والظاهر في أكثر الخطابات أنّها وقت الحاجة ، فيحمل على العموم.

ثمّ إنّ كلام المجيب ظاهر في أنّ الأقلّ متيقّن الإرادة ، والباقي مشكوك فيه ، وهذا لا يتمّ مطلقا ، فإنّ الأمر الدالّ على التخيير في إيجاد الطبيعة لا يبقى معه شكّ في عدم وجوب الأزيد من أقلّ الأفراد.

فقول القائل : أعط زيدا دراهم ، على ما هو ظاهره من تعليق الحكم بالطبيعة المبهمة مطلقا ، لا يجعله من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١) نصّ في إجزاء ثلاثة دراهم ، ولا يبقى معه شكّ في عدم وجوب الأزيد.

ثمّ إنّ الظّاهر أنّ مراد الجبّائي الحمل على الجميع من حيث إنّه مجموع معانيه المشترك فيهما لفظا ، لا من حيث إنّه هو أحد معانيها. فعلى هذا يصحّ معنى عمومه الأفرادي والجمعي كليهما ، فيتّجه الجواب بمنع الاشتراك أوّلا ، وبمنع الظّهور في الجميع ثانيا ، وبمنع أولويّة إرادة الجميع ثالثا.

والقول بأنّ الحمل على الجميع أحوط ، معارض بأنّه قد يكون خلافه أحوط.

وعلى ما ذكرنا فلا يرد ما يقال (٢) : انّ منع الاشتراك اللّفظي لا يضرّ المستدلّ إذ يكفيه كون هذه المراتب من أفراد الحقيقة ، وكون هذا الفرد يشمل جميع الأفراد (٣).

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) هذا تفريع على قوله : انّ الظاهر انّ مراد الجبّائي ... الخ.

(٣) فالوجه منع كون هذا موجبا للأولويّة. واعلم أنّ المورد هو سلطان المحققين في حاشيته على «المعالم» ص ٢٩٦.

٥٠٠