القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

بأفعال المكلّفين ، حيث نقض بالخواصّ مثل وجوب صلاة اللّيل (١) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّ المراد جنس الفعل وجنس المكلّف ولكنّه مجاز ، لأنّ انسلاخ معنى الجمعيّة لا يوجب كون اللّفظ حقيقة في المفرد كما صرّحوا بأنّ قولهم فلان يركب الخيل مجاز ، وبنوا فلان قتلوا فلانا وقد قتله واحد منهم ، مع أنّ انسلاخ الجمعيّة لا يوجب انسلاخ العموم ، فعلى القول بأنّه حقيقة في العموم كما هو المشهور والمعروف فيكون حينئذ أيضا مجازا.

نعم يمكن أن يقال بعد التجوّز وإرادة الجنس ، فلا يكون إرادة الواحد مجازا بالنسبة الى هذا المعنى المجازي ، ومثل قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)(٢) يحتمل انسلاخ الجمعية وجنس الجمع كليهما ، ولعلّ الثاني أظهر (٣).

الثالثة

قد علمت أنّ الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الكليّة لها وضع شخصي مع قطع النظر عن اللّواحق ، ووضع نوعي بالنظر الى لحوقها.

فاعلم أنّ الوضع النوعي الحاصل بسبب اللّواحق قد يكون حقيقيّا ، وقد يكون

__________________

(١) فإنّها لا تعم جميع المكلّفين وإنّما بعضهم.

(٢) النساء : ٣٤.

(٣) قال في الحاشية ، لا يخفى أنّه على الأوّل يصير المعنى انّ جنس الرّجل قوّامون على جنس المرأة ، وعلى الثاني أنّ جنس جماعة الرّجال قوّامون على جنس جماعة النساء. ولعلّ وجه أظهريّة الثاني على الأوّل هو كون لفظ قوّامون على صيغة الجمع فإنّه يناسب لفظ الرّجال على تقدير بقاء الجمعيّة فيه ، مع أنّه يلزم المجاز على تقدير الانسلاخ دون إرادة جنس الجمع.

٤٦١

مجازيا كسائر الحقائق والمجازات ، فيحصل الإشكال هنا في أنّ المعاني المستفادة بسبب لحوق اللّام أو التنوين أو غيرهما أيّها حقيقة وأيّها مجازا ، إذ كما انّ وضع المجازات نوعي باعتبار ملاحظة أنواع العلائق ، فقد يكون وضع الحقائق أيضا نوعيّا باعتبار الضمّ والتركيب (١) ، فمعنى تعريف الماهيّة وتعيينها بسبب لحوق اللّام مما لا ينبغي الريب في كونه معنى حقيقيّا للمفرد المعرّف باللّام.

وأمّا دلالته على العهد الذهني أو الخارجي او الاستغراق ففيه إشكال.

ويظهر من التفتازاني في «المطوّل» أنّ استعماله في العهد الذهني حقيقة ، فإنّه أطلق وأريد منه الجنس وفهم الفرد من القرينة كما في قولك : جاء رجل ، فإنّ المعنى المستعمل فيه اللّفظ هو ما كان الغرض الأصلي من استعمال اللّفظ هو الدلالة عليه ، والمقصد الأصلي هنا إرادة الجنس لكن فهم إرادة فرد منه بانضمام قرينة المقام. ويلزم من ذلك كونه في الاستغراق أيضا حقيقة ، إذ هو أيضا من أفراد تعريف الجنس ، وبسبب قيام القرينة على عدم إرادة فرد معيّن أو غير معيّن يحمل عليه ، بل ويلزم ذلك في العهد الخارجي أيضا على ما بيّناه من عدم الفرق ، وضعف إخراجه عن تعريف الجنس وإدخال صاحبيه فيه (٢).

ويظهر ذلك من غيره من العلماء أيضا ، وهذا إنّما يتمّ (٣) لو جعلنا اسم الجنس هو الماهيّة لا بشرط ، وإلّا فعلى اعتبار الوحدة الغير المعيّنة فيه ، يصير مجازا بسبب التعريف لإسقاط الوحدة عنه ، وإرادة الوحدة الثانية بسبب المقام في العهد

__________________

(١) والضمّ بالنسبة إلى كل اسم جنس في كل معنى ملحوظ في الجنس ، والتركيب أي المعاني الحاصلة منهما من العهد الذهني أو غيره.

(٢) أي ادخال العهد الذهني والاستغراق في تعريف الجنس.

(٣) يعني انّ ما ذهب اليه التفتازاني إنّما يتم.

٤٦٢

الذهني أو الكثرة في الاستغراق إنّما هو بقرينة المقام لا بسبب ما كان في أصل الموضوع له ، وإلّا لم يتمّ في الاستغراق جزما.

وأنا أقول : الظاهر أنّ المعرّف بلام الجنس لا يصحّ إطلاقه على المذكورات بعنوان الحقيقة ، لأنّ مدلول المعرّف بلام الجنس هو الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد مع التعيّن ، والحضور في الذّهن وذكره وإرادة فرد منه ، استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

لا يقال : التّعرية عن ملاحظة الأفراد ليس عبارة عن ملاحظة عدمها ولا منافاة كما يقال : هذا رجل لا امرأة (١) ، وهو حقيقة جزما ، لأنّا نجيب عنه بنظير ما أشرنا إليه في مبحث استعمال اللّفظ المشترك في المعنيين ، من أنّ الوضع توقيفيّ كالأحكام الشرعيّة ، وأنّ اللّفظ المشترك موضوع لكلّ من المعاني في حال الوحدة لا بشرط الوحدة ، وأنّه لا رخصة في إرادة غيره معه ، ولا ريب أنّ حال عدم الملاحظة مغاير لحال اعتبار الملاحظة (٢) ، وذكر اللّفظ الموضوع لمعنى وإرادة معنى آخر منه غير حمل اللّفظ الموضوع لمعنى على معنى آخر مغاير له في الجملة.

والثاني : قد لا يستلزم المجازيّة كما في قولك : هذا رجل ، فإنّ المراد هنا صدق رجل على المشار إليه ، وغايته إفادة اتّحاد وجودهما ، لا كونهما موجودا واحدا كما أشرنا في مفهوم الحصر ، فقولك : زيد الرّجل ، يغاير معنى : زيد رجل ، ولذلك يحمل الأوّل على المبالغة ، لأنّ معناه أنّ زيدا نفس الطبيعة المعيّنة ، ومعنى الثاني

__________________

(١) هذا مثال لعدم المنافاة من إرادة الفرد من الجنس مع كونه حقيقة لا مجازا.

(٢) هذا جواب عن التمثيل بقوله : كما يقال هذا رجل لا امرأة.

٤٦٣

أنّه يصدق عليه أنّه رجل.

إذا عرفت هذا ، علمت أنّ القول بكون الأقسام المذكورة من أقسام المعرّف بلام الجنس وأنّه حقيقة في الكلّ غير صحيح ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراك اللّفظي ، أو كونه حقيقة في بعضها ومجازا في الآخر.

والذي يترجّح في النظر هو كونه حقيقة في تعريف الجنس مجازا في غيره ، للتبادر في تعريف الجنس. فمن يدّعي الحقيقة في العهد أو الاستغراق ، لا بدّ له من إثبات وضع جديد للهيئة التركيبيّة ، أو يقول باشتراك اللّام لفظا في إفادة كلّ واحد منهما ، وتعيينها يحتاج الى القرينة والتبادر وغيره ممّا سنذكر ، سيّما أصالة عدم إرادة الفرد يرجّح ما ذكرنا (١).

وعلى ما ذكرنا من التقرير في الجمع مطابقا للمفرد ، لا بدّ أن يقال : إنّه أيضا حقيقة في الجنس إذا عرّف باللّام ، لكن الغالب في استعماله الاستغراق ، فلعلّه وضع جديد للهيئة التركيبيّة وسنحقّقه إن شاء الله تعالى.

وبقي الكلام في النّكرة وأنّه حقيقة في أيّ شيء ، فقولنا : رجل جاءني لا امرأة (٢) ، و : جاءني رجل ، و : جئني برجل (٣) ، ونحو ذلك ، أيّها نكرة حقيقة وأيّها مجازا أم مشترك بينهما لفظا أو معنى.

ويظهر الثمرة في الخالي عن القرينة ، كقولنا : رجل جاءني ، فيحتمل إرادة واحد من الجنس لا اثنين كما هو معنى النّكرة المصطلحة المجعولة قسيما لاسم الجنس ،

__________________

(١) من كونه حقيقة في تعريف الجنس ومجازا في غيره.

(٢) وهذا في التنكير الجنسي.

(٣) وهذا في التنكير الفردي بكلا قسميه.

٤٦٤

ويحتمل إرادة نفس الماهيّة بدون اعتبار حضورها في الذّهن ، والظّاهر أنّه حقيقة في النّكرة المصطلحة (١) ، فإطلاقها على اسم الجنس المنكر يكون مجازا ، ويحتمل كونها (٢) حقيقة في الأعمّ (٣).

تنبيه

اعلم ، أنّ استعمال الكلّي في الفرد يتصوّر على وجوه لا بدّ من معرفتها ومعرفة أنّ أيّها حقيقة وأيّها مجاز.

منها : حمل الكلّي على الفرد صريحا ، مثل أن يقال : زيد إنسان ، فالإنسان قد حمل على زيد ولكن لم يستعمل في زيد ، بل استعمل في مفهومه الكليّ الذي زيد أحد أفراده ، وتنوينه تنوين التمكّن لا التنكير.

لا يقال : أنّ الحمل يقتضي الاتّحاد ، فإذا كان المراد بالإنسان هو المفهوم الكلّي ، فيلزم أن يكون الإنسان منحصرا في زيد ، لأنّا نقول : الاتّحاد الحملي لا يقتضي إلّا اتّحاده مع الموضوع في الوجود ولا يقتضي كونهما موجودا واحدا وإلّا لبطل قولهم : الأعم ما يصدق على الأخصّ صدقا كلّيّا دون العكس.

فالحاصل ، أنّ زيدا والإنسان موجودان بوجود واحد ، وإن أمكن أن يوجد الإنسان مع عمرو أيضا بوجود واحد ، وهكذا. ولو أريد كونهما موجودا واحدا فلا ريب أنّه لا يصحّ إلّا على سبيل المبالغة ، وهذا هو مآل قولهم : إنّ الانسان حمل

__________________

(١) وهو التنكير الفردي.

(٢) أي النكرة.

(٣) من القسمين.

٤٦٥

على زيد مع الخصوصيّة ، يعني أنّ زيدا لا غير إنسان ، وكونهما موجودا واحدا.

وبهذا الوجه يستفاد الحصر في مثل قولهم : زيد الشّجاع ، على أحد الوجوه ، وحينئذ فلا مجاز في اللّفظ أصلا ، بل المجاز إنّما هو في الإسناد ، وهو خارج عمّا نحن فيه ، ومن هذا يعلم حال قولنا : زيد الإنسان ، معرّفا باللّام وإنّ إسناده مجازي.

فالأولى أن يخرج هذا من أقسام إطلاق الكليّ على الفرد.

ومنها : أن يطلق الكليّ ويراد به الفرد

، وهذا يتصوّر على أقسام :

مثل : جاءني رجل ، و : جئني برجل ، و : هذا الرّجل فعل كذا.

فلو أريد اتّحاد المفهوم مع الفرد في كلّ منها (١) ، بأن يكون المراد جاءني شخص هو الرّجل لا غير ، بأن يكون مع الفرد موجودا واحدا ويكون هو هو ، فلا ريب أنّه مجاز في الجميع ، وهذا معنى قولهم : إذا أطلق العامّ على الخاصّ مع قيد الخصوصيّة فهو مجاز.

وإن أريد كونهما موجودين بوجود واحد فهو حقيقة ، لكنّ فهم ذلك يحتاج الى لطف قريحة.

وبيانه ، أنّا قد حقّقنا لك أنّ اللّفظ الموضوع للكليّ وهو الجنس ، أعني الشامل للقليل والكثير المنشئان بالشئون المختلفة ، هو مادّة اللّفظ المفرد بدون اللّام والتنوين (٢) أو إذا دخله تنوين التمكّن أيضا في بعض الصّور ، وأمّا فيما دخله تنوين التنكير فلا ريب أنّه يحصل له معنى آخر بوضع نوعي هو معنى النّكرة كسائر

__________________

(١) أي من الأقسام المذكورة.

(٢) هذا كما في الأسماء المعدودة.

٤٦٦

التصرّفات الأخر الموجبة لتنويع الأوضاع ، كالتثنية والجمع وغيرهما. ففي قولنا : جاء رجل ، أريد شخص معيّن في الخارج عند المتكلّم ، غير معيّن عند المخاطب ، ومعناه حينئذ في ظرف التحليل ، جاء شخص متّصف بأنّه رجل ، فيستلزم تلك النسبة التقييدية المستفادة من المادّة ، والتنوين نسبة خبريّة وهو قولنا : هو رجل ، بالحمل المتعارفي ، والكلام فيه هو الكلام في : زيد إنسان ، كما مرّ ، ولا مجاز في أطرافه ولا في نسبته كما بيّناه. ولو أريد : جاء شخص هو لا غير رجل ، فيستلزم المجاز في اللّفظ بظاهر الإطلاق ، فإنّ الحبيب النجّار (١) لا غير مثلا معنى مجازي للّفظ المركّب من (ر ج ل).

فإن قلت : إرادة الخصوصيّة من الفرد لا يستلزم انحصار الكليّ في الفرد ، بل معناه أنّ هذا الشخص مع الخصوصية رجل ، فاستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ بطريق الحمل المتعارفي ، وهو لا ينافي تحقّق الرجل في غير هذا الشخص أيضا.

والحاصل ، أنّ اللّفظ هنا استعمل في الفرد مع قيد الخصوصية وأطلق عليه ، والمفروض أنّه (٢) لم يوضع إلّا للماهيّة ، فاستعماله في الماهيّة والتشخّص

__________________

(١) وفيه نزل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) ـ الى قوله : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ـ في سورة يس ـ كما في «تفسير القمّي». وقيل أنّه ممن آمن بالنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينهما ست مائة سنة : وقيل أنّه كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أظهر دينه. وفي «الجوامع» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وصاحب يس ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون وعلي أفضلهم. وهو هنا غير الذي هو في سورة القصص على ما يظهر من التفسير.

(٢) أي اللّفظ المركب من (ر ج ل) لم يوضع إلّا للماهيّة.

٤٦٧

استعمال في غير ما وضع له ، وهو مجاز ، وذلك لا يستلزم الحصر ، فما معنى قولك : لا غير ، في هذا المقام؟

قلت : هذا كلام (١) ناشئ عن الغفلة عن فهم الحقيقة والمجاز.

وتحقيق المقام ، أنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضع له ، المستلزمة في ظرف التحليل للحمل الذّاتي ، فإنّا إذا سمعنا أنّ العرب وضع لفظ الأسد لنوع من الحيوان واشتبه علينا هذا النوع ، فإذا وصف لنا هذا الحيوان وتميّز من بين الحيوانات ، وقيل لنا : هذا الأسد ، فلا ريب أنّ هذا حمل ذاتي وانّ المجاز أيضا هو استعمال اللّفظ الموضوع لمعنى في معنى آخر ، بأن يفيد أنّ هذا ذاك بعنوان الحمل الذّاتي لا الحمل المتعارفي ، فإنّ أسدا في قولنا : رأيت أسدا يرمي ، لم يستعمل إلّا في الرّجل الشّجاع ، ولم يستعمل في زيد مثلا.

نعم استعمل الرّجل الشّجاع الذي أريد من هذا اللّفظ (٢) في زيد على نهج يتضمّن الحمل المتعارفي ، إذ التشبيه إنّما وقع بين مفهوم الأسد ومفهوم الرّجل الشجاع ، بمعنى أنّ زيدا شبّه من جهة أنّه رجل شجاع بالحيوان المفترس (٣) لا من حيث الخصوصيّة ، واستعير لفظ الأسد الموضوع له (٤) لزيد من حيث إنّه رجل شجاع لا من حيث الخصوصيّة ، فلفظ : أسد في هذا التركيب مجاز من حيث إنّه أريد منه (٥) الرّجل الشجاع ، وحقيقة من حيث إطلاقه على فرد منه. فإطلاق أسد

__________________

(١) أي عدم استلزام انحصار الكلي في الفرد حين إرادة الخصوصيّة من المفرد.

(٢) أي من لفظ الأسد.

(٣) الحيوان المفترس متعلّق بشبّه.

(٤) أي الحيوان المفترس.

(٥) أي من الأسد.

٤٦٨

على زيد ، له جهتان : من إحداهما مجاز وهو إطلاقه عليه من حيث إنّه رجل شجاع ، ومن الاخرى حقيقة وهو إطلاقه عليه من حيث إنّه فرد من أفراد الرّجل الشجاع ، وهذا الأخير بعد جعل الأسد عبارة عن الرّجل الشجاع ، ففي هذا المثال لم يوجد الحمل المتعارفي للمعنى الحقيقي بالنسبة الى زيد من حيث إنّه رجل شجاع ، بل حمله ذاتي ، فإنّ الرجل الشّجاع ليس من أفراد المعنى الحقيقي إلّا على مذهب السّكاكي من باب الادّعاء ، حتّى يمكن أن يقال : حمل الأسد عليه لا يفيد انحصار أفراده فيه.

فظهر أنّ إطلاق المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ليس إلّا من باب الحمل الذّاتي ، فإذا كان من باب الحمل الذّاتي فهو يفيد كونهما موجودا واحدا إدّعاء ، وهذا معنى انحصار المحمول في الموضوع وانحصار المستعمل في المستعمل فيه. وإذا عرفت هذا في الاستعارة يظهر لك الحال في غيرها من أنواع المجاز ، فإنّ قولنا : رعينا الغيث ، أطلق فيه الغيث على النبات (١) بعنوان الحمل الذّاتي إدّعاء. يعني أنّ النبات غيث لا بمعنى أنّه فرد من أفراد الغيث الحقيقي ، بل هو هو.

نعم ، لمّا أريد منه النبات الخاصّ الذي رعوه ، فإطلاق الغيث بعد جعله بمعنى النبات على الفرد ، حقيقة من باب إطلاق الكليّ على الفرد بالحمل المتعارفي ، ولا منافاة بين كون اللّفظ مجازا في معنى ، وحقيقة في حمله على بعض أفراد ذلك المعنى المجازي من جهة إطلاق الكلّي على الفرد.

إذا تحقّق لك هذا ؛ فاعلم أنّ استعمال العامّ في الخاصّ ـ يعني الكليّ في الفرد ـ

__________________

(١) فإنّ هذا الاطلاق المجازي من باب تسمية المسبّب باسم سببه لأنّ النبات سبب عن الغيث والغيث سببه.

٤٦٩

إن كان من باب الحمل المتعارفي ، بأن كان المراد بيان اتّحاد العامّ مع الخاصّ في الوجود لا كونهما موجودا واحدا.

وبعبارة أخرى : أطلق العامّ على الفرد باعتبار الحصّة الموجودة فيه ، فهو حقيقة كما بيّنا ، لأنّ المجاز لا بدّ فيه من الحمل الذّاتي.

وأمّا إذا أريد الخاصّ بشرط الخصوصيّة ومع اعتبار القيد ، فلا يمكن فيه الحمل المتعارفي ، إذ لا وجود للإنسان بهذا المعنى في فرد آخر ، لاستحالة تحقّق الخصوصيّة في موارد متعدّدة ضرورة ، وإمكان صدقه على عمرو بالحمل المتعارفي إنّما هو بانسلاخ الخصوصيّة ، ومع الانسلاخ فهو معنى آخر هو الموضوع له ، لا هذا المعنى.

والمراد من الحمل المتعارفي حمل المشترك المعنوي على أفراده ، لا من قبيل حمل المشترك اللّفظي على معانيه أو حمل المعنى الحقيقي والمجازي على معنييه.

ومن التأمّل في جميع ما ذكرنا ظهر لك أنّ قولنا : إنّ العامّ إذا أطلق على الخصوص باعتبار الخصوصيّة ، معناه ادّعاء ، كون العامّ منحصرا في الخاصّ ، وغفلة المعترض هنا تدعوه الى أن يقول : لا نسلّم ذلك ، فإنّ إرادة الخصوصيّة هنا لا تمنع استعماله في خصوصيّة أخرى ، فلا يفيد الحصر وقد عرفت بطلانه ، فإنّ ما يستعمل في غير هذه الخصوصيّة ليس هذا المعنى ، بل هو المعنى الحقيقي ، والخصوصيّة عنه منسلخة بالمرّة حتى يصحّ استعماله في الخصوصيّات المتعدّدة ، وكلامنا في هذا المعنى المجازي.

فظهر بطلان قوله : وهو لا ينافي تحقّق الرّجل في غير هذا الشخص (١).

__________________

(١) وهذا القول كان اعتراضا من المعترض.

٤٧٠

وعلى هذا فمدخول اللّام الذي يفيد العهد الخارجي حقيقة في المشار إليه مثل : هذا الرجل خير من هذه المرأة ونحو ذلك. وذلك لأنّ اللّام للإشارة الى شيء يتّصف بمدخولها إمّا اتّصافا يستلزم الحمل الذّاتي كما في تعريف الحقيقة أو الحمل المتعارفي كالعهد الخارجي.

وأيّا ما كان فلفظ المدخول مستعمل في معناه الحقيقي ، ولا ينافي ذلك كون المعرّف باللّام حقيقة في تعريف الجنس مجازا في العهد الخارجي كما حقّقناه (١) ، مع أنّ الكلام في كون لفظ الكلّي حقيقة في الفرد أو مجازا ، ولفظ الكليّ هو مدخول اللّام ، فلا مدخليّة في تحقّق هذا الإطلاق للّام وغيرها من العوارض ، فإن أشير باللّام الى الفرد كما في العهد الخارجي فيتّضح المقصود (٢) ، وأمّا إذا أشير الى تعيين الجنس ، فلا بدّ أن يراد من مدخوله نفس الطبيعة المعرّاة عن الفرد. فما اشتهر بينهم من أنّ المفرد المحلّى بلام الجنس إذا استعمل في إرادة فرد ما ويقال له المعهود الذّهني فهو حقيقة غير واضح ، لأنّ معيار كلامهم في ذلك ، هو أنّه من باب إطلاق الكليّ على الفرد وهو حقيقة ، ولا ريب أنّ المعرّف بلام الجنس معناه الماهيّة المتّحدة المتعيّنة في الذّهن المعرّاة عن ملاحظة الأفراد عموما وخصوصا ، وإطلاقه وإرادة الماهيّة باعتبار الوجود خلاف المعنى الحقيقي.

فإن قلت (٣) : إنّ الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد لا تستلزم ملاحظة عدمها.

__________________

(١) في قوله في المقدمة الثالثة التي ذكرها قبل هذا التنبيه : انّ مدلول المعرّف بلام الجنس هو الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد مع التعيين والحضور في الذّهن ، وذكره وإرادة فرد منه استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

(٢) وهو كون العهد الخارجي معنى مجازيّا للمحلّى باللّام.

(٣) وقد تعرّض لهذا القول بعد نقله المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ١٧٧ وعزاه لبعض الأعلام.

٤٧١

قلت : نعم لكنّها تنافي اعتبار وجود الأفراد ، وإن لم تنافي تحقّقها في ضمن الأفراد الموجودة مع أنّه لا مدخليّة للّام (١) في دلالة لفظ الكلّي على فرده ، فيصير اللّام ملغاة. فإنّ اللّفظ الموضوع للكلّي من حيث هو كلّي مدخول اللّام لا المعرّف باللّام ، مضافا (٢) إلى أنّه لا معنى لوجود الكليّ في ضمن فرد ما ، لأنّه لا وجود له إلّا في ضمن فرد معيّن ، مع أنّ المعرّف باللّام قد وضع للماهيّة المعرّاة في حال عدم ملاحظة الأفراد ، ولذلك مثّلوا له بقولهم : الرّجل خير من المرأة ، ورخصة استعمالها في حال ملاحظة الأفراد لم تثبت من الواضع كالمشترك في أكثر من معنى.

لا يقال : يرد هذا (٣) في أصل المادّة بتقريب أنّها أيضا موضوعة للماهيّة في حال عدم ملاحظة الأفراد ، لأنّا نقول إنّ استعمالها على هذا الوجه (٤) أيضا مجاز ، وما ذكرناه من كونها حقيقة ، إنّما كان من جهة الحمل لا من جهة الإطلاق ، وهو غير متصوّر فيما نحن فيه لعدم صحّة حمل الطبيعة على فرد ما (٥).

والحاصل ، أنّ وجود الكليّ واتّحاده مع الفرد إنّما يصحّ في الفرد الموجود الذي هو مصداق فرد ما لا مفهوم فرد ما ، والمطلوب هنا (٦) من المعرّف بلام

__________________

(١) هذا جواب عن الاعتراض ثانيا.

(٢) هذا جواب عن الاعتراض ثالثا.

(٣) أي ما ذكرته في الجواب رابعا من أنّ المعرّف باللّام قد وضع ... الخ.

(٤) أي على وجه ملاحظة الأفراد.

(٥) وهذا القول : لا يقال يرد هذا ... الخ جاء على ذكره المحقق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ١٧٧ في بحثه لبيان معنى «اللام» تحت عنوان ، ولبعض الأعلام كلام في المقام أحببت ايراده مع تلخيص له ، وبعد أن ذكرها ، قال : والوجوه المذكورة كلّها مدفوعة.

(٦) أي في العهد الذّهني.

٤٧٢

الجنس هو مفهوم فرد ما ، ومفهوم فرد ما لا وجود له حتى يتحقّق الطبيعة في ضمنه.

وبالجملة ، مقتضى ما ذكروه أنّ المراد بالمعرّف باللّام إذا أطلق وأريد منه العهد الذّهني هو الطبيعة بشرط وجودها في ضمن فرد ما ، لا حال وجودها في الأعيان الخارجيّة ، ولا معنى محصّل لذلك إلّا إرادة مفهوم فرد ما من الطبيعة (١) من اللّفظ ، ولا شبهة أنّ مفهوم فرد ما مغاير للطبيعة المطلقة ولا وجود له.

نعم مصداق فرد ما يتّحد معها في الوجود وليس بمراد جزما (٢) ، فهذا من باب اشتباه العارض بالمعروض.

فإن قلت (٣) : هذا بعينه يرد على قولك : جئني برجل ، فإنّه أريد منه الماهيّة بشرط الوجود في ضمن فرد ما ، يعني مصداق فرد ما (٤) لا مفهوم فرد ما ، فلم قلت هنا : إنّها حقيقة ولم تقل فيما نحن فيه؟

قلت : كونه حقيقة من جهة إرادة النّكرة الملحوظة في مقابل اسم الجنس ، وله وضع نوعي من جهة التركيب مع التنوين ، ونفس معناه فرد ما ، وهو أيضا كليّ ، وطلبه يرجع الى طلب الكليّ لا طلب الفرد ولا طلب الكليّ في ضمن الفرد ،

__________________

(١) من الطبيعة هذا متعلّق بقوله : مفهوم فرد ما. كما انّ قوله : من اللّفظ ، متعلّق بقوله : إرادة مفهوم فرد ما.

(٢) أي انّ اتّحاد مصداق فرد ما مع الطبيعة المطلقة ليس بمراد في العهد الذهني جزما ، بل المراد إنّما هو اتّحاد مفهوم فرد ما معها ، وقد مرّ أنّ مفهوم فرد ما مغاير للطبيعة المطلقة ولا وجود له في الخارج حتى يمكن تحقّق الحمل ، ويقال : إنّه حقيقة من جهة.

(٣) وجاء على ذكره والتعرّض لهذا القول المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ١٧٨.

(٤) هذا تفسير لما يرد على قولنا : جئني برجل على سبيل المعارضة.

٤٧٣

فالمطلوب منه فرد ما من الرّجل لا طبيعة الرّجل الحاصلة في ضمن فرد ما ، إلّا أنّ الإتيان بالكليّ يتوقّف على الإتيان بمصداق فرد ما ، وهو فرد معيّن في الخارج بتعيين المخاطب ، فلو أردت من قولك : جئني برجل ، جئني بالطبيعة الموجودة في ضمن الفرد ، فهو مجاز أيضا لعدم الوجود بالفعل اللّازم لصحّة الإطلاق بالفعل ، بخلاف هذا الرّجل مشيرا الى الطبيعة الموجودة بالفعل في ضمن فرد.

وأمّا مثل : جاء رجل ، فإن أريد منه النّكرة فهو بعينه مثل : هذا الرّجل ، لأنّه أطلق على الطبيعة الموجودة ، فإنّ الرّجل الجائي هو مصداق فرد ما لا مفهومه ، وطبيعة فرد ما موجودة في ضمنه ، وإن أريد منه اسم الجنس فيصحّ أيضا حقيقة لإطلاقه على الطبيعة الموجودة.

ومع هذا كلّه ، فالعجب من هؤلاء (١) إنّهم أخرجوا العهد الخارجي عن حقيقة الجنس وهو أولى بالدّخول!

ولعلّهم توهّموا أنّ هاهنا لما أطلق وأريد الفرد بخصوصه فهو مجاز ، وهو توهّم فاسد ، لأنّ هذا ليس معنى إرادة الخصوصيّة كما بيّنا ، فإنّ قولنا : هذا الرّجل ، أيضا من باب العهد الخارجي الحضوري. ولا ريب أنّ المشار إليه هو الماهيّة الموجودة في الفرد ، لا إنّ المراد أنّ المشار إليه هو هذا الكليّ لا غير حتّى يكون مجازا.

وظنّي ، أنّ توهّم (٢) القول بكون المعرّف بلام الجنس حقيقة في العهد الذهني ، إنّما نشاء من أنّهم لمّا رأوا الأحكام المتعلّقة بالطبائع على أنواع :

منها : ما يفيد حكما للماهيّة من حسن أو قبح أو حلّ أو حرمة ونحو ذلك مثل :

__________________

(١) وقد أتى على ذكره ومعالجته في «هداية المسترشدين» : ٣ / ١٧٨ ـ ١٨٣.

(٢) إذ كلماتهم صريحة في إرادة الفرد من مفرد المعرّف بالذّات لا بالتّبع.

٤٧٤

البيع حلال ، والرّبا حرام ، والصلاة واجبة ، والصوم جنّة من النار ، والخمر كذا ، والخنزير كذا ، واللّحم كذا وأمثال ذلك مما لا يحتاج تصوّر معناه ولا تحقّقه الى ملاحظة فرد.

ومنها : ما يفيد طلب تحصيل الماهيّة مثل : صم وصلّ واشتر اللّحم ، وجئني باللّحم وغير ذلك. وفي هذه الأمثلة يدلّ الأمر على إيجاد الماهيّة في ضمن الفرد ، والإتيان بفرد منها دلالة طبعيّة غير مقصودة بالذّات من باب المقدّمة ، وهذا لا يسمّى مدلولا حقيقيّا للّفظ ، فالمقصود بالذّات من قول القائل : اشتر اللّحم ، طلب نقل طبيعة اللّحم لا بشرط الى المشتري من دون التفات الى فرد ، ولكن يلزمه وجوب كون فرد ما مطلوبا بالتّبع وهو عين [غير] المعرّف بلام الجنس ، ولم يرد من اللّفظ فرد ما مطلقا ، فظنّوا أنّ هذا المعنى التّبعي هو مدلول اللّفظ.

فإن قلت : إنّ مراد هؤلاء أيضا هو ما ذكرت لا غير.

قلت : ليس كذلك ، بل صرّحوا بأنّ المعرّف باللّام مستعمل في فرد ما ، لا انّ العقل يحكم تبعا بوجوب إيجاد فرد ما ، وإن شئت لاحظ كلام التّفتازاني في «المطوّل» : وقد يأتي المعرّف بلام الحقيقة لواحد من الأفراد (١) باعتبار عهديّته في الذّهن لمطابقة ذلك الواحد الحقيقة ، يعني يطلق المعرّف بلام الحقيقة الذي هو موضوع للحقيقة المتّحدة في الذّهن على فرد موجود من الحقيقة باعتبار كونه معهودا في الذّهن وجزئيّا من جزئيّات تلك الحقيقة مطابقا إيّاها ، كما يطلق الكلّي الطبيعي على كل من جزئياته الى آخر ما ذكره.

__________________

(١) هذا كلام التفتازاني في «المطوّل» في تعريف المسند إليه باللّام ص ٦٣ وكذا كلامه الآتي وهو انّه إنّما اطلق على الفرد الموجود ... الخ وقد ذكره المصنف.

٤٧٥

وصرّح في موضع آخر : بأنّه إنّما أطلق على الفرد الموجود منها باعتبار أنّ الحقيقة موجودة فيه.

وفي موضع آخر : والحاصل ، أنّ اسم الجنس المعرّف باللّام إمّا أن يطلق على نفس الحقيقة من غير نظر الى ما صدقت الحقيقة عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحوه علم الجنس كأسامة (١) ، وإمّا على حصّة غير معيّنة وهو العهد الذّهني ومثله النّكرة كرجل ، وإمّا على كل الأفراد وهو الاستغراق ومثله كلّ مضافا الى نكرة. وقد صرّح بذلك في مواضع أخر (٢).

ثم قال في آخر كلامه (٣) : فإن قلت المعرّف بلام الحقيقة وعلم الجنس إذا أطلقا على واحد كما في : ادخل السّوق و : رأيت أسامة مقبلة ، أحقيقة هو أم مجاز؟

قلت : بل حقيقة إذ لم يستعمل إلّا فيما وضع له. الى أن قال : وسيتّضح هذا في بحث الاستعارة.

وحاصل ما ذكره هنا (٤) ، أنّ لفظ الأسد لم يوضع للرّجل الشّجاع ، ولا لمعنى عام يشمل الرّجل الشّجاع والحيوان المفترس كالحيوان المجتري ، وإلّا لكان استعمال الأسد في الرّجل الشّجاع في قولنا : رأيت أسدا يرمي حقيقة لا مجازا

__________________

(١) «وامّا على حصة معيّنة منها واحدا أو اثنين أو جماعة وهو العهد الخارجي ونحوه علم الشخص كزيد» وهذه تتمة ما ذكره صاحب «المطوّل» والذي لم يذكره المصنّف.

(٢) في الصفحة ص ٦٥ منه.

(٣) ص ٦٤ هذا وكلامه المذكور في «المطوّل» لم يأتي في آخر كلامه فقد سبق جملة والحاصل المذكورة.

(٤) في بحث الاستعارة.

٤٧٦

لغويّا ، نقل هذا عن الجمهور ، واستشهد بذلك على أنّ استعمال العامّ في الخاصّ حقيقة كما إذا رأيت زيدا فقلت : رأيت إنسانا أو رجلا ، فلفظ إنسان ورجل لم يستعمل إلّا فيما وضع له ، لكنّه قد وقع في الخارج على زيد ، وكذا إذا قال القائل : أكرمت زيدا وأطعمته وكسوته. فقلت : نعم ما فعلت.

ثم قال : وقد سبق في بحث التعريف باللّام إشارة الى الحقيقة ، وهذا كلّه كما ترى يشهد بأنّه أراد أنّ المعرّف بلام الجنس إذا أطلق على فرد ما يكون حقيقة.

والحاصل ، أنّي أقول : لو أريد من المعرّف بلام الجنس فرد ما ، بل الطبيعة التي توجد في ضمن فرد ما فهو مجاز ، وهم يقولون إنّه حقيقة ، فتبصّر بعين الاعتبار وانظر الى ما قيل لا الى من قال.

لا يقال : كيف تجترئ على مخالفة أئمة الفنّ في ذلك ، وهذا من مباحث الألفاظ.

لأنّا نقول : هذا الكلام مبني على اجتهادهم في فهم إطلاق الكليّ على الفرد وليس ذلك أمرا مقصورا على النقل ، بل فيه للفكر والاجتهاد مدخليّة فتفكّر وتدبّر ، مع أنّ الفاضل الچلبي (١) نقل الاعتراض على دعوى الحقيقة ، فالقول به أيضا غير عزيز (٢) مضافا الى ما يظهر من غيره أيضا (٣).

__________________

(١) حسن الچلبي وهو أحد المحشّين على كتاب «المطوّل» ، قال في «التوضيح» على ما نقل عنه في الحاشية : لا يخفى انّ الفاضل نقله في جملة حاشية كتبها في بحث تعريف المسند إليه باللّام على التفتازاني حيث ادعى الحقيقة في العهد الذهني ، قال : واعترض عليه بأنّ الموضوع له هو الماهية المطلقة والمستعمل فيه هو الماهية الملحوظة ولا شك في تغايرهما ، فينبغي أن يكون مجازا.

(٢) أي القول بكون المعرّف بلام الجنس مجازا في العهد الذّهني غير نادر.

(٣) أي من غير الچلبي أيضا.

٤٧٧

والحاصل ، أنّهم إن أرادوا أنّ مثل : ادخل السّوق و : اشتر اللّحم أو نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) ، لتعريف الجنس ، ولكنّ العقل يحكم بسبب المقام انّ إتيان فرد ما مطلوب بالتّبع وهو حقيقة من جهة انّه مستعمل في نفس الموضوع له وهو الجنس فنعم الوفاق ، لكنّه غير موافق للكلمات المتقدّمة ، فإنّها صريحة في الإطلاق على الفرد.

وما يتوهّم (٢) من الفرق بين الإطلاق والاستعمال ، بأنّ الإطلاق يطلق على ما هو غير مقصود بالذّات بخلاف الاستعمال ، فهو كلام يرجع حاصله الى ما ذكرناه من الدّلالة التبعيّة ، فلا ريب أنّ رجل في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٣) ليس من هذا القبيل ، وكذلك : رأيت اسدا ورجلا ونحو ذلك ، فكيف يحوّل تحقيق المقام على ما يذكره في باب الاستعارة؟

وإن أرادوا انّه أطلق وأريد منه فرد ما أو جميع الأفراد وهو حقيقة لوجود الكليّ في ضمنها مثل : رأيت إنسانا ، وجاء رجل ، فهو مجاز لا حقيقة لاستعمال اللّفظ في غير ما وضع له كما بيّنا.

فغاية الأمر أنّ وجود الكليّ في ضمن الفرد علاقة للمجاز ، وكذا مناسبة الكليّ لفرد ما علاقة له.

بقي الكلام في بيان مطلب من قال : انّ صيغة افعل حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو الطلب الرّاجح ، لأنّه قد استعمل فيهما ، فلو كان حقيقة في

__________________

(١) العصر : ٢.

(٢) إنّهم قالوا : اطلق الكلّي على الفرد ، وما قالوا : استعمل الكلي في الفرد ، والفرق بين الاستعمال والاطلاق واضح ، فلا اعتراض لقولهم بالحقيقة.

(٣) القصص : ٢٠.

٤٧٨

أحدهما أو كليهما لزم المجاز والاشتراك (١) فهو للقدر المشترك.

وما أجيب (٢) عن ذلك : بأنّه يلزم على هذا تعدّد المجاز لو استعمل في كل منهما ، لأنّ استعمال ما هو موضوع للكلّي في الفرد مجاز.

وما ردّ به : من أنّ ذلك إذا أريد الفرد مع قيد الخصوصيّة لا مطلقا (٣).

فإنّه لا يخلو عن إشكال وإغلاق ، وذلك لأنّ صيغة افعل مشتملة على مادّة وهيئة ، ووضعها بالنسبة إلى المادة عامّ ، والموضوع له عامّ ، وأمّا بالنسبة الى الهيئة فهي متضمّنة لإسنادين : أحدهما إسناد الفعل إلى المتكلّم من حيث الطلب.

والثاني إسناده الى المخاطب من حيث قيام الفعل به وصدوره عنه ، ووضعها بالنسبة إليهما وضع حرفي ، والمتّصف بالوجوب والنّدب والرّجحان هو النسبة الطّلبية الصادرة عن المتكلّم.

فعلى هذا ، فالموضوع له (٤) كل واحد من الجزئيّات على التحقيق في وضع الحروف ، فإذا استعمل الصّيغة في الموارد الخاصّة فهي مستعملة بنفسها فيما وضع

__________________

(١) يعني لزم المجاز على تقدير كون الصيغة حقيقة في أحدهما ، أعني الوجوب والندب ، والاشتراك على تقدير كونها حقيقة في كليهما. ولمّا كان كلاهما مخالفا للأصل فلا بد أن يكون حقيقة في القدر المشترك ، الذي هو الطلب الرّاجح.

(٢) المجيب هو صاحب «المعالم». راجعه ص ١٢٩.

(٣) وهو كلام لسلطان العلماء في «حاشيته» : ص ٢٧٥.

(٤) يعني فعلى تقدير كون وضع الصّيغة بالنسبة الى كلّ من الإسنادين وضعا حرفيا ، فالموضوع له هو كلّ واحد من الجزئيّات على التحقيق في وضع الحروف من كون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا ، لا كون الوضع والموضوع له فيها عامين ولكن بشرط الاستعمال في الجزئيّات كما هو أحد القولين في وضع الحروف حتى يكون الاستعمال في الجزئيّات مجازا بلا حقيقة ، هذا كما أفاده في «الحاشية».

٤٧٩

له ، لا انّها من قبيل استعمال العامّ في فرده ، بل هو استعمال اللّفظ الموضوع باعتبار معنى عام للجزئيّات الخاصّة في تلك الجزئيّات. فكما انّ كل طلب خاصّ من كل متكلّم خاصّ وانتساب الفعل الى كلّ مخاطب خاصّ نفس الموضوع له للصيغة ، واستعمال الصيغة فيها حقيقة مثل : إنّ زيدا إذا قال لعمرو : اضرب أو بكرا [بكر] ، قال لخالد : اضرب وهكذا ، فكلّ منهما مستعمل فيما وضع له. فكذلك الكيفيّة الطارئة للنسبة في هذه المواضع من الوجوب والنّدب أو الطلب الرّاجح أيضا راجعة إلى نفس ما وضع له ، فلا يصحّ القول : بأنّ ذلك استعمال للعام في الخاصّ حتّى يتفرّع عليه الجواب المذكور أيضا.

فعلى هذا القول (١) ، إن قلنا : بأنّ الصيغة موضوعة لجزئيّات الطلب الحتمي الإيجابي بعد تصوّر ذلك المفهوم الكليّ حين الوضع وجعله آلة لملاحظة الموضوع له ، فإذا استعمل في مورد خاصّ لإفادة الإيجاب مثل : أن يقول زيد لعبده : افعل كذا ، فهو مستعمل في نفس ما وضع له ، وهكذا في النّدب وكذا الطّلب الرّاجح ولا فرق.

فالمستدلّ في هذا المقام ، إن أراد انّ الملحوظ حين الوضع هو الطلب الرّاجح ، بمعنى عدم ملاحظة الوجوب والاستحباب والغفلة عن وجه الرّجحان وكيفيّته ، فيكون أفراده حينئذ أيضا الطّلبات [الطلبيات] الرّاجحة الصادرة عن خصوصيّات المتكلّمين بدون قصد ندب وإيجاب ، فإنّ هذا ممكن بالنظر إلى الطلب ، وإن كان المطلوب لا يخلو في نفس الأمر عن أحدهما ، فلا يخفى أنّ

__________________

(١) على القول بأنّ الوضع فيما نحن فيه من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص كوضع الحروف.

٤٨٠