القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

لأنّه يخمر العقل ، فكأنّه جوّز تسمية كل ما فيه هذه العلّة خمرا (١) ، فيكون ترخيصا منه بالعموم كترخيصه في سائر الكلّيات كما أشرنا إليه في أوائل الكتاب ، وهو باطل لعدم ثبوت حجّية القياس ، مع أنّ جماعة ممّن جوّز العمل بالقياس لم يجوّزه في اللّغة.

وقد يقلّب الدّوران على المستدلّ ، بأنّ التسمية دارت مع المعنى والمحل وهو ماء العنب أيضا ، فإنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية ، فإذا انتفى انتفت ، فالعلّة مركّبة.

ثم لا يذهب عليك أنّ رفع كل فاعل لم يسمع رفعه من العرب ونصب كل مفعول لم يسمع نصبه ونحو ذلك ، وكذلك إطلاق الرّجل على من لم يطلقه العرب وكذلك أقسام المجازات وأنواع العلائق ليس من باب القياس ، بل هو المستفاد من استقراء كلام العرب وتتبّع تراكيبهم بحيث حصل الجزم بتجويزهم ذلك ، وهذا ممّا لا خلاف في جواز الاعتماد عليه.

وأمّا الاعتماد على التبادر وعدم صحّة السّلب ورجحان المجاز على الاشتراك ونحو ذلك ، فليس من باب إثبات الوضع بالعقل ، بل إنّما هو للتمييز والتفرقة بين الحقائق والمجازات.

والحاصل ، أنّ الأجنبي باصطلاح قوم ، الجاهل بأوضاع كلماتهم إذا رأى انّهم يستعملون لفظا في معان متعدّدة ولا يعرف أيّها حقيقة وأيّها مجاز ، فلا ريب انّه

__________________

(١) وقد توجد هذه العلّة أيضا أي التخمير في النبيذ وفي بقيّة المسكرات ، فالنبيذ مثلا ويسمى حينئذ خمرا وكذا الفقّاع فيجري عليهما أحكام الخمر ، وكذا يسمى النبّاش بالسّارق بالخفية ، واللّائط بالزّاني لإيلاجه المحرّم وليس كل ذلك حقيقة كذلك.

٤٤١

يعرف انّ في ذلك الاصطلاح ألفاظا مفردة موضوعة للمعاني الشخصيّة أو النوعيّة ، وألفاظا مركّبة موضوعة للمعاني النّوعيّة ، وألفاظا مستعملة في غير الموضوعات لها بعلاقة مجوز نوعها من الواضع ونحو ذلك كما هو الدأب والدّيدن في جميع اللّغات والاصطلاحات.

ويعلم أنّ ما يتكلّمون به قد بلغ إليهم من واضع اصطلاحهم حقيقة كان أو مجازا ، ولكنّه يريد أن يميّز بين الحقيقة والمجاز ، ويعرف انّ المعاني المتعدّدة التي يستعملون فيها لفظا واحدا على التناوب أيّها حقيقة وأيها مجاز فيتفحّص عن أحوالهم ، فإمّا يصرّحون له بنقل الوضع أو يظهر عليه من مزاولة محاوراتهم خواصّ الحقيقة في البعض وخواصّ المجاز في الآخر ، فمن خواصّ الحقيقة التبادر وعدم صحّة السّلب ، ومن خواصّ المجاز تبادر الغير وصحّة السّلب ، ومن العلم بالعرض الخاصّ يحصل العلم بالمعروض ، ومعرفة خاصّة الشيء من خارج لا يحتاج الى النقل من الواضع ، فالمقصود بالذّات من استعلام هذه الخواص تحصيل العلم بالوضع بعنوان الحقيقة لا تحصيل العلم بمطلق الوضع وإن حصل العلم بالوضع في ضمنه (١) أيضا ، فإنّ القدر المشترك بين الوضع الحقيقي والمجازي حاصل لذلك الجاهل ، إنّما إشكاله في تعيين الخصوصيّة ، فطلب تحصيل العلم بالقدر المشترك تحصيل الحاصل.

فإن قلت : نعم ، ولكن ذلك لا ينفي القول بإثبات اللّغة بالعقل ، فإنّ اللّغة هو اللّفظ الذي وضع لمعنى سواء كان بالوضع الشّخصي أو النّوعي الحقيقي أو

__________________

(١) أي وإن حصل العلم بالوضع المطلق في ضمن العلم بالوضع بعنوان الحقيقة.

٤٤٢

المجازي فأيّها (١) ثبت بالعقل فيلزم ثبوت اللّغة بالعقل ، والمفروض هنا إثبات المعنى الحقيقي مثلا بالتبادر وهو دليل عقلي مع أنّ إثبات الوضع للخصوص على ما ذكره المستدلّ هنا أيضا إثبات للحقيقة لا لمطلق اللّغة.

قلت : المراد من عدم ثبوت اللّغة بالعقل عدم إمكان الاستدلال عليه من طريق اللّمّ ، من دون الاستناد الى وضع الواضع من حيث هو وضع الواضع.

وأمّا طريق الإنّ والاستناد الى وضع الواضع من حيث هو فلا مانع منه ، فإنّ التبادر وعدم صحّة السّلب والنقل المتواتر والآحاد كلّها معلولات للوضع ودلالتها إنيّة ، غاية الأمر كون بعضها قطعيّا وبعضها ظنيّا ، فلا بدّ أن يوجّه ما ذكروه من أنّ طريق إثبات اللّغة إمّا تواتر أو أحاد ، بأنّ مرادهم انّ طريقه إما قطعيّ أو ظنّي. فخبر الواحد والتبادر والتواتر وعدم صحّة السّلب (٢) والاستقراء (٣) يعني كون هذه الهيئة الخاصة مثلا مستعملا في معنى خاصّ في أكثر الموارد ، وأمثال ذلك كلّها من الظنّيات وكلّها معلول للوضع.

وأمّا خامريّة العقل وكون الأقل متيقّن المراد وأمثالهما ، فهي على فرض تسليمها من العلل الموجدة للوضع (٤) التي يستدلّ بوجودها على العلم بوجود الوضع أيضا ، وهذا هو الممنوع.

ومثل التبادر وأخواته في أدلّة الوضع من جملة التوقيفيّات قبالا للنقل

__________________

(١) أيّ هذه الاعتبارات.

(٢) وهذه في السّماعيات.

(٣) والاستقراء في القياسيات.

(٤) لا من معلولات الوضع أي من اللّميات لا الإنيّات.

٤٤٣

المتواتر ، والآحاد مثل اتفاق العلماء (١) الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، وتقرير الكاشف عنه قبالا للأخبار المتواترة والآحاد في الشرعيّات ، فافهم ذلك واضبطه.

فلنرجع الى ما كنّا فيه فنقول وقد يعارض الدّليل على فرض التسليم : بأنّ العمل على العموم أحوط وهو باطل ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ في الواجب ، فقد يكون التكليف بالإباحة هكذا قيل.

وأورد عليه (٢) : بالمنع في الواجب مطلقا أيضا كما في : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فإنّ قتل النفس المحترمة أشدّ من مخالفة الأمر.

الثاني (٣) : أنّه اشتهر في الألسن حتّى صار مثلا أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ منه ، وهو وارد على سبيل المبالغة وإلحاق القليل بالعدم ، والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقل تقليلا للمجاز.

وأجيب (٤) : بأنّ احتياج خروج البعض عنها الى التخصيص بمخصّص ظاهر في أنّها للعموم ، ويوهن التمسّك بمثل هذه الشهرة.

أقول : فيه نظر (٥). أمّا في الأوّل ، فلأنّ احتياج الخروج الى مخصّص عند المستدلّ ليس لظهور العامّ في العموم ، بل لأنّ اللّفظ عنده موضوع لبعض ما صدق

__________________

(١) وهو الاجماع باصطلاح المتأخرين ، وأما الاجماع باصطلاح القدماء فهو متروك بين المتأخرين.

(٢) على الدليل المذكور ، والمورد هو سلطان العلماء. راجع حاشيته على «المعالم» : ص ٢٩٤.

(٣) أي الثاني من أدلّة القائلين بأنّ الألفاظ المعهودة موضوعة للخصوص ، وانّ استعمالها في العموم خلاف موضوعها وذكرها في «المعالم» : ص ٢٦٠.

(٤) والمجيب هو صاحب «المعالم» : ص ٢٦١.

(٥) أي فى كلّ واحد من الجوابين نظر.

٤٤٤

عليه مفهوم الصيغة من غير تعيين ، ولمّا كان ذلك البعض محتملا لكل واحد من الأبعاض فالتخصيص إنّما يحتاج إليه لبيان المراد من لفظ العامّ ، لأنّ العامّ ظاهر في الجميع حتى يحتاج إرادة البعض الى المخصّص. ولعلّ هذا التوهّم نشاء من لفظ وقد خصّ منه ، وتعبير المستدلّ بذلك إنّما هو ذهاب على ممشى الخصم وتكلّم باصطلاحه ، وإلّا فحاصل مراد المستدلّ انّ غالب استعمال الألفاظ التي يدّعي عمومها في بعض ما يصلح له اللّفظ ، والغلبة علامة الحقيقة ، فالتحقيق في الجواب منع كون غلبة الاستعمال دليلا للحقيقة.

سلّمنا ، لكنّه يصير دليلا إذا لم يثبت الدليل على كونها حقيقة في الأقلّ وقد بيّنا الأدلّة.

وأمّا في الثاني (١) ، فلأنّ متمسّك المستدلّ ليس هو نفس الاشتهار ، بل لأنّ ذلك المطلوب حقيقة له والمثل مطابق للواقع ، حتى أنّ ذلك المثل أيضا مخصّص في نفس الأمر بأنّ الله بكلّ شيء عليم ، وإنّما قال وارد على سبيل المبالغة ، لأنّه لو كان المراد ظاهره لكان كاذبا للزوم التخصيص في نفس المثل.

واحتجّ القائل بالاشتراك (٢) : بالاستعمال فيهما ، وظاهر الاستعمال الحقيقة (٣).

وفيه : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز كما مرّ مرارا.

وبأنّه لو كانت حقيقة في العموم لعلم إمّا بالعقل أو بالنقل ، ولا مجال للعقل ،

__________________

(١) أي وأمّا النظر في الجواب الثاني وهو وهن التمسّك بمثل هذه الشهرة.

(٢) راجع «الذريعة» : ص ٢٠٢.

(٣) السيد المرتضى يقول في كل مقام انّ الأصل في الاستعمال الحقيقة.

٤٤٥

والنّقل إما تواتر أو آحاد ، والآحاد لا يفيد اليقين ولو كان متواترا لاستوى الكلّ.

وفيه : أنّ التمييز بين الحقيقة والمجاز لا ينحصر في نصّ الواضع أو النقل عنه صريحا ، بل قد يعلم بوجود الخواصّ كما أشرنا. والخاصّة موجودة فيها وهو التبادر كما بيّنا ، مع أنّه لا دليل على وجوب تحصيل اليقين ، ولا يلزم استواء الكلّ في المتواتر لاختلاف الدّواعي والموانع.

وحجّة التوقّف (١) : عدم ظهور المأخذ ، وقد عرفته.

__________________

(١) ذكر الغزالي شبه أرباب الوقف في «المستصفى» : ٢ / ٢٨ بعد أن قال : قد ذهب القاضي والأشعري وجماعة من المتكلّمين إلى الوقف ، ولهم شبه ثلاث.

٤٤٦

قانون

صيغ العموم على القول بوضع اللّفظ له كثيرة.

منها : لفظ «كلّ» ، والأظهر انّه حقيقة في العموم (١) وإرادة الهيئة الاجتماعيّة (٢) منه مجاز ، لتبادر خلافه وهو العموم الافرادي.

وكذلك لفظ «الجميع» وما تصرّف منه ك : «أجمع» و «جمع» و «جمعاء» و «أجمعين» وتوابعه المشهورة (٣).

ومنها : لفظ سائر على إطلاقيه ، وإن كان أظهر في إرادة الباقي ، فإنّه ظاهر في تمام الباقي.

ومنها : «كافّة» و «قاطبة» (٤).

و «من» و «ما» الشرطيتان والاستفهاميتان ، وأمّا الموصولتان فلا عموم فيهما إلّا أن يتضمّن معنى الشرطيّة ، ويفهم ذلك (٥) من الخارج ، وإلّا فالأظهر الحمل على الموصولة ، ولا عموم إلّا أن يجعل من باب إطلاق الجنس كما سيجيء في المفرد المحلّى باللّام.

والأظهر الأقوى أنّ «ما» حقيقة في غير أولي العلم (٦). ودعوى أنّه حقيقة في

__________________

(١) العموم الأفرادي.

(٢) أي العموم المجموعي.

(٣) مثل اكتع ابتع واخواتهما.

(٤) ومعشر ومعاشر وعامة.

(٥) أي الشرطيّة.

(٦) وإلى هذا ذهب في «التمهيد» : ص ١٥٣.

٤٤٧

الأعمّ منه كما ذهب إليه جماعة ممنوعة (١).

وكذلك النّكرتان الموصوفتان لا عموم فيهما نحو : مررت بمن أو بما معجب لك. وعن بعضهم (٢) إلحاق ما الزّمانية (٣) مثل : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)(٤) ، والمصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل مثل : يعجبني ما تصنع.

ومنها : «أي» في الشّرط والاستفهام. وعن جمهور الأصوليّين : انّها عامّة في أولي العلم وغيرهم إلّا أنّها ليست للتكرار (٥) بخلاف «كلّ» ، فلو قال لوكيله : أي رجل دخل المسجد فأعطه درهما ، اقتصر على إعطاء واحد ، بخلاف ما لو قال : كلّ رجل ، فإنّه يعطي الجميع ، فعلى هذا يكون عموم «أيّ» عموما بدليّا كما في المطلق (٦) بخلاف «كلّ».

__________________

(١) في «التمهيد» ص ١٥٣ : ولسيبويه نص يوهم أنّ «ما» لأولي العلم وغيرهم ، وقال به جماعة.

(٢) وعزاه في «التمهيد» : ص ١٤٨ إلى بعضهم أيضا.

(٣) أي الحاقها بالعموم وهي ما المصدريّة الزمانيّة بألفاظ العموم.

(٤) آل عمران : ٧٥.

(٥) فتفيد العموم الشمولي. قال في الحاشية : كما في «العدة» وعن صريح الفيومي ، ولكن الظاهر دلالة أي في الشرط والاستفهام على التكرار مثل من كما في قوله عليه‌السلام : أيّما امرئ ركب أمرا بجهالة ، أي كل امرئ. وأما الاستفهاميّة فقد عرفت وجه العموم فيها أيضا وانّها للترديد لا العموم البدلي ومنه يظهر ما في قوله يكون عموم أي بدليّا كما في المطلق ، وما ذكرناه من عموم أيّ هو المنقول عن الأكثر بل عن الشهيد الثاني وغيره نسبته الى جمهور الاصوليين وعن الفخري انّه بعد استقراء اللّغات من الضروريّات. راجع «التمهيد» : ص ١٥٥ ، و «العدة» : ١ / ٢٧٤.

(٦) ظاهره أنّ المطلق أيضا من ألفاظ العموم ، لكن عمومه بدليّ لا شمولي وهذا خلاف الاصطلاح لتقابل المطلق والعام ، إلّا أن يقال اسم الجنس إذا أريد به الجنس فهو مطلق وإذا أريد به تقييده بأحد الأفراد كان عاما بدليّا راجع الحاشية.

٤٤٨

ومنها : «مهما» و «إذما» و «أيّان» و «أنّى» (١).

ومنها : «متى» و «حيث» و «أين» و «كيف» و «إذا الشرطية» (٢) إذا اتّصلت بواحد منها ما. وأمّا إذا كانت منفردة فقد يحمل على العموم إذا اقتضاه الحكمة مثل «إن».

وهناك ألفاظ أخر مذكورة في «تمهيد القواعد» وغيره (٣) والمعيار في الكلّ التبادر ، فإن فهم التبادر فيثبت الحقيقة وإلّا فإن اقتضاه الحكمة أيضا فكما عرفت ، وإلّا فلا عموم.

وسنفرد الكلام في بعضها للإشكال والخلاف فيه بالخصوص.

__________________

(١) أيّان للزمان وأنّى للمكان.

(٢) لا الزمانية.

(٣) راجع من قاعدة «٤٦» إلى «٥٦» من «تمهيد القواعد» ، ومن غيره ك : «الوافية» : ص ١١٢ ، و «المعارج» : ص ٨٣ ، و «العدة» : ١ / ٢٧٤ ، و «المستصفى» : ٢ / ٢٢.

٤٤٩

قانون

اختلف أصحابنا بعد اتّفاقهم ظاهرا في إفادة الجمع المحلّى باللّام للعموم في دلالة المفرد المحلّى عليه.

وتنقيح المطلب يستدعي رسم مقدّمات.

الأولى

المراد بالمفرد هنا اسم الجنس ، ولا بدّ من بيان المراد من الجنس واسم الجنس والفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس والنّكرة والمعرّف بلام الجنس والجمع واسم الجمع.

فاعلم ، أنّ المراد من الجنس هو الطبيعة الكليّة المقرّرة في نفس الأمر مع قطع النظر عن وضع لفظ له ، فمفهوم الرّجل بمعنى ذات ثبت له الرّجوليّة الذي هو مقابل مفهوم المرأة هو الجنس ، ولا يعتبر في تحقّق مفهومه وحدة ولا كثرة ، بل ويتحقّق مع الواحد وما فوقه والقليل والكثير. ولفظ رجل اسم يدلّ على ذلك الجنس ، لكنّهم اختلفوا في أنّ المراد باسم الجنس هو الماهيّة المطلقة لا بشرط شيء فيكون مطابقا للمسمّى أو الماهيّة مع وحدة لا بعينها ويسمّى فردا منتشرا.

والأقوى الأوّل.

وذلك لأنّ الأسماء التي يتعاور (١) عليها المعاني المختلفة بسبب تعاور

__________________

(١) أي يتوارد ويتعاقب.

٤٥٠

الألفاظ الغير المستقلّة عليها كاللّام والتنوين والألف والنّون وغيرها (١) من التغييرات والمتمّمات ، لا بدّ أن يكون لها مع قطع النظر عنها معنى شخصي وضع اللّفظ له ، كما أنّه يحصل لها بسبب لحوق هذه اللّواحق أوضاع نوعيّة مستفادة من استقراء كلامهم (٢). والقول بثبوت الوضع (٣) الشخصي بالنسبة الى كل واحد من المعاني بملاحظة كلّ واحد من اللّواحق في كل واحد من الأسماء لعلّه جزاف ، فيستفاد من ملاحظة تعاور المعاني المختلفة على اللّفظ بسبب تعاور الملحقات بحسب المقامات ، أنّ هناك مفهوما مشتركا بينها مع قطع النّظر عن اللّواحق يوجد منه شيء في الكلّ ويتفاوت بحسب المقامات ، وليس ذلك في مثل رجل إلّا معنى الماهيّة لا بشرط (٤).

لا يقال : الإسم لا يخلو عن شيء من اللّواحق ولا يجوز استعماله بدون شيء منها ، فلم لا تقول : بأنّ رجلا منوّنا مثلا موضوع لكذا ، ومعرّفا باللّام موضوع لكذا ، وملحقا به الألف والنّون لكذا ، وهكذا. فلا يجب فرض الرّجل خاليا عن تلك اللّواحق حتّى يلزم له إثبات معنى ، ويقال : إنّه موضوع للجنس والماهيّة لا بشرط ، لأنّا نقول أوّلا : إنّ مفهوم الرّجل لا بشرط مع قطع النّظر عن التعيين في الذّهن مفهوم مستقلّ يحتاج الى لفظ في التفهيم.

__________________

(١) كالواو والنون والنفي والاضافة ونحو ذلك.

(٢) قال في الحاشية : أي انّ لهذه اللّواحق أوضاعا نوعيّة بلحاظ الملحوقات فيطرأ الوضع للملحوقات من جهة وضع اللّواحق كذلك.

(٣) أي واحد شخصي من دون حاجة الى وضعين أحدهما شخصي والآخر نوعي.

(٤) هذا دليل الخصم بأن يقول رجل مع اللّواحق مستعمل دون الخالي ، وكلّما كان كذلك فالأوّل موضوع دون الثاني.

٤٥١

وثانيا : أنّه أيضا مستعمل في الأسماء المعدودة ولا ريب انّه ليس بمهمل ، بل موضوع وليس له معنى إلّا ما ذكرناه (١).

وثالثا : أنّ كلّ اللّواحق ليس ممّا يفيد معنى جديدا ولا يجب أن يؤثّر في المعنى تأثيرا.

فمنشأ التوهّم في هذه الاعتراض (٢) ، لزوم إتمام الإسم بأحد المذكورات.

ويدفعه : أنّ تنوين التمكّن أيضا ممّا يتمّ به الإسم ، ولكنّه ليس الغرض منه إلّا أمرا متعلّقا بالإعراب كما في جاءني زيد. فقولك : رجل جاءني لا امرأة ، إنّما يراد به بيان الماهيّة ، وكذلك : أسد عليّ وفي الحروب نعامة (٣).

وكيف كان ، فالظاهر انّ لفظ رجل إذا خلا عن اللّام والتنوين موضوع للماهيّة لا بشرط ، ويؤيّده ما نقلنا سابقا عن السّكاكي اتفاقهم على كون المصادر الخالية عن اللّام والتنوين حقيقة في الماهيّة لا بشرط.

وعلى هذا فأصل مادّة الرّجل مع قطع النّظر عن اللّواحق اسم جنس وموضوع للماهيّة لا بشرط شيء ، وإذا دخل التنوين فيصير ظاهرا في فرد من تلك الطبيعة ، فالمراد به الطبيعة الموجودة في ضمن فرد غير معيّن. ومن هنا غلط من أخذ الوحدة الغير المعيّنة في تعريف اسم الجنس وأدخلها في معناه ، نظرا الى أنّ المقصود من الوضع التركيب لا تفهيم المعنى ، والإسم لا يستعمل بدون التنوين

__________________

(١) أي الماهيّة لا بشرط.

(٢) أي الاعتراض بأنّ الاسم لا يخلو عن شيء من اللّواحق.

(٣) أسد عليّ وفي الحروف نعامة فتخاء تفزع من صفير الصافر. وهو لعمران بن حطان.

قاله في الحجّاج بن يوسف كما في كتاب «المتوارين» لعبد الغني بن سعيد الأزدي المتوفى سنة ٤٠٩ ه‍.

٤٥٢

واللّام وغيرهما من المتمّمات ، وأنت خبير بأنّ الخاصّ لا يدلّ على العامّ وكونه كذلك في بعض الأحيان لا يستلزمه مطلقا ، فإنّ ذلك لا يتمّ في مثل الرّجل خير من المرأة.

فإن قلت : إنّما أخذ هذه (١) في تعريف المنكر منه (٢).

قلت : مع أنّه ينافي إطلاق القائل لا يتمّ في مثل المثالين المتقدّمين (٣) ، وفي مثل قولك لمن يسأل عن شبح يتردّد في كونه رجلا أو امرأة : انّه رجل. فإنّ المراد من التنوين هاهنا ليس الإشارة الى الفرد الغير المعيّن ، بل المراد إنّه هذه الماهيّة لا غيرها ، والى هذا ينظر من قال : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المطلقة. فقولنا : رجل في جاءني رجل ، نكرة لا اسم جنس ، ولذا جعلوا النّكرة قسيما لاسم الجنس ، وإلّا فالنّكارة قد تلاحظ بالنسبة الى الطبيعة ، أيضا بحسب ملاحظة حضورها في الذّهن وعدمه. فرجل في المثال المتقدّم (٤) نكرة باعتبار عدم ملاحظة تعيّن الطبيعة. وفي المثال المتأخّر (٥) باعتبار ملاحظة عدم تعيّن الفرد.

وبالجملة ، فهنا أربعة أمثلة : رجل إذا خلا عن اللّام والتنوين ، وهذا رجل يعني لا امرأة ، وجاءني رجل أو جئني برجل ، والرّجل خير من المرأة.

__________________

(١) أي الوحدة الغير المعيّنة ، ومراده دفع الغلط عن الأحد ، وأنّه لعلّه أراد تعريف هذا القسم من اسم الجنس.

(٢) أي المنكر من الجنس وهو ما عري عن أداة التعريف مثل : جاءني رجل ، ولا ريب انّ ما يورد علينا من النقض بمثل : الرجل خير من المرأة ليس مما نحن فيه.

(٣) وهما : جاءني رجل لا امرأة ، وأسد عليّ وفي الحروب نعامة.

(٤) وهو رجل جاءني لا امرأة ، ويمكن أن يكون المراد قوله : هذا رجل ، في قولك لمن يسأل عن شبح تردّد في كونه رجلا أو امرأة.

(٥) وهو قوله : جاءني رجل.

٤٥٣

أمّا الأوّل : فالمراد به الطبيعة لا بشرط بلا ريب. ولعلّ القائل بدخول الوحدة الغير المعيّنة غفل عن هذا لأنّ نظره الى المركّبات لا الى مثل الأسماء المعدودة لندرة استعمالها في المحاورات ، وإلّا فلا بدّ أن يقول بدخول الوحدة فيه أيضا.

وأمّا الثاني : فهو اسم جنس منكّر بمعنى التنكير في أصل الطبيعة مقابل تعيينها في الذّهن.

وأمّا الثالث : فهو نكرة بمعنى أنّ المراد منه فرد من ذلك الجنس إمّا غير معيّن أصلا كما في جئني برجل أو عند السّامع كما في جاءني رجل ، وعلى قول من يقول بدخول الوحدة الغير المعيّنة في الجنس فيكون اسم جنس ، فلا يبقى فرق عند هذا القائل بين اسم الجنس والنّكرة ، ولا يصحّ له جعل النّكرة قسيما لاسم الجنس إذا كان المراد اسم الجنس الغير المعرّف.

وأمّا الرابع : فهو تعيين للطبيعة وإشارة الى حضورها في الذّهن على المختار ، ومعنى مجازي لاسم الجنس على القول الثاني (١) لعدم إرادة الوحدة والكثرة جزما ، فقد استعمل في جزء ما وضع له ، وسيجيء الكلام في باقي أقسام المعرّف باللّام.

وحاصل الكلام وتتميم المرام ، أنّ رجلا مثلا مع قطع النظر عن اللّام والتنوين له وضع ، والقول بأنّه لا بدّ أن يكون الوضع إمّا مع التنوين أو اللّام أو غيرهما يحتاج الى دليل. فإنّ لحوق تلك الملحقات في أحاد جميع الألفاظ ليس مسموعا من العرب ، بل المرخّص فيه من العرب إنّما هو نوعها ، ولا ريب أنّ هذه اللّواحق تتعاور على لفظ واحد على مقتضى المقام.

والقول بثبوت تقديم رخصة بعضها على بعض بأن يقال مثلا رخّص العرب أوّلا

__________________

(١) وهو قول من أخذ بالوحدة الغير المعيّنة في تعريف اسم الجنس.

٤٥٤

في استعمال اللّفظ مع التنوين لإفادة الوحدة ثم مع اللّام لسلب ذلك وإرادة الماهيّة ، ثم مع الألف والنون لسلب ذلك وإرادة التثنية وهكذا ، جزاف واعتساف.

فالقول : بأنّ الجنس المعرّف باللّام كان أصله منوّنا ثم عرّف باللّام أو بالعكس وهكذا ، قول بلا دليل وترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من إثبات شيء خال عن جميع تلك العوارض يتساوى نسبته الى الجميع. فلا بدّ من القول بأنّ اللّفظ مع قطع النّظر عن اللّواحق له معنى وإنّما يتفاوت المعنى بسبب إلحاق الملحقات بمقتضى حاجة المتكلّمين بحسب المقامات ، ولا ريب إنّهم اتّفقوا في مثل رجل انّ هذه الحروف الثلاثة بهذا الترتيب موضوعة للماهيّة المعهودة ، وإنّما وقع الخلاف في اعتبار حصولها في ضمن فرد غير معيّن وعدمه (١) ، والمانع مستظهر (٢) والوضع توقيفيّ ، مع أنّ السّكاكي نقل إجماع أهل العربيّة على أنّ المصادر الخالية عن اللّام والتنوين موضوعة للماهيّة لا بشرط شيء ، ويبعد الفرق بينها وبين غيرها (٣) ، فحينئذ نقول : اسم الجنس عبارة عمّا دلّ على الماهيّة الكليّة لا بشرط شيء ، وهو الإسم الخالي من الملحقات وقد يلحقه تنوين التمكّن كما في مثل : هذا رجل لا امرأة ، ومنه قول الشاعر : أسد عليّ وفي الحروب نعامة. وقد يلحقه الألف واللّام للإشارة الى نفس الطبيعة وتعيينه في مثل : الرّجل خير من المرأة ، وفي هذه الأمثلة التفات الى جانب الفرد لا واحدا ولا أكثر.

__________________

(١) أي عدم حصول الماهيّة في ضمن فرد معيّن.

(٢) يعني مطلقا سواء كان في رجل جاءني لا امرأة أو نظائره مثل : جاءني رجل ، وجئني برجل ، فإنّ المقام إنّما يقبل المنع لو أريد به الأعم ، هذا كما في «الحاشية».

(٣) أي بين المصادر الخالية عن الملحقات وغيرها. ولعلّ وجه البعد هو عدم القول بالفصل ، ومن خالف في غير المصادر لعلّه غفلة عن الاجماع المنقول عن السكاكي.

٤٥٥

وأمّا إذا لحقه التنوين المفيد للوحدة ، فحينئذ يصير نكرة ولا يقال له حينئذ اسم الجنس ، فالمراد به فرد من ذلك الجنس. وإذا لحقه الألف والنّون فيصير تثنية ، فالمراد به فردان من ذلك الجنس ، وهكذا الجمع. وإذا لحقه الألف واللّام فإن أريد بها الإشارة الى فرد خاصّ باعتبار العهد في الخارج فهو المعهود الخارجي ، وهو إمّا باعتبار ذكره (١) سابقا كقوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٢) ، و : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ)(٣) ، فيقال له العهد الذكري أو باعتبار حضوره كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(٤) ، ومنه : يا أيّها الرّجل : وهذا الرّجل.

وكما يشار بهذه اللّام الى الفرد المعيّن المعهود ، فقد يشار بها الى الصنف المعيّن من الجنس ، كما يستفاد ذلك من إرجاع المفرد المحلّى باللّام الى الأفراد المتعارفة وسنشير إليه(٥).

وكما يمكن إرادة الفرد المعيّن من الطبيعة الداخلة عليها اللّام بلام العهد هذه ، فيمكن إرادة أحد معنيي المشترك اللّفظي أيضا كما هو أحد الاحتمالين في الإرجاع الى الأفراد الغالبة كما سنبيّنه (٦) إن شاء الله تعالى. وإن أشير بها الى تعيين الماهيّة فهي لتعريف الجنس وتعيينه من غير نظر الى الفرد كما في قولك : الرّجل خير من المرأة ، وهو قسمان :

__________________

(١) أي ذكر المتكلّم إيّاه أي الفرد الخاص.

(٢) المزمل : ١٦.

(٣) النور : ٣٥.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) في أواخر هذا القانون وكذا في بحث المطلق والمقيّد.

(٦) وكذا كما مرّ في «الحاشية السّابقة».

٤٥٦

قسم يصحّ إرادة الأفراد منه لكنّه لم يرد كما في المثال المذكور وكما في المعرّفات مثل : الإنسان حيوان ناطق.

وقسم لا يمكن إرادة الأفراد منه كقولك : الحيوان جنس والإنسان نوع ، ثمّ قد يراد بذلك (١) الماهيّة باعتبار الوجود ، يعني يطلق (٢) المعرّف بلام الجنس ويراد منه فرد ما موجود في الخارج من دون تعيين لمعهوديّته في الذّهن. وكونه جزئيا من جزئيّاتها مطابقا لها ، يصحّ إطلاقها عليه كما في قولك : ادخل السّوق واشتر اللّحم. وذلك إنّما يكون إذا قامت [قام] القرينة على عدم جواز إرادة الماهيّة من حيث هي ولا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد كالدّخول فيما نحن فيه ، وهو في معنى النّكرة وإن كان يجري عليه أحكام المعارف.

وقد يراد بها الماهيّة باعتبار وجودها في ضمن جميع الأفراد كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٣) وجعل المعهود الخارجي خارجا عن المعرّف بلام الجنس هو المذكور في كلام القوم.

ووجهه (٤) : أنّ معرفة الجنس لا يكفي في تعيين شيء من أفراده ، بل يحتاج الى معرفة اخرى.

وفيه : أنّ الاستغراق وإرادة فرد ما أيضا لا يكفي فيهما معرفة الجنس ، بل يحتاجان الى أمر خارج وهو ما يدلّ على عدم إمكان إرادة الماهيّة من حيث هي

__________________

(١) أي بالمعرّف بلام الجنس الماهيّة باعتبار الوصف.

(٢) أي يستعمل المعرّف بلام الجنس في تعيّن الماهيّة لكن المراد هو الفرد ، فيكون بين المستعمل فيه والمراد فرق.

(٣) العصر : ٢.

(٤) هذا الوجه قد وجّهه السيّد الشريف كما عن الحاشية.

٤٥٧

فيهما وعدم إمكان إرادة البعض الغير المعيّن أيضا في الاستغراق ، فالأولى أن يجعل المقسم اسم الجنس إذا عرّف باللّام ، ويقال إمّا يقصد باللّام محض تعيين الطبيعة والإشارة إليها كما هو أصل موضوع الألف واللّام ولم يقصد أزيد منه بأصل العدم فيما يحتمل غيره فهو تعريف الجنس ، وإما أن يقصد به الطبيعة باعتبار الوجود ، فإمّا أن يثبت قرينة على إرادة فرد خاصّ فهو العهد الخارجي ، وإلّا فإن ثبت قرينة على عدم جواز إرادة جميع الأفراد فهو للعهد الذّهني ، وإلّا فللاستغراق.

ويبقى الكلام في أمور :

الأوّل : أنّه هل يكفي مجرّد المعهوديّة في الخارج في حمل اللّفظ عليه أو يحتاج الى شيء آخر (١).

والثاني : أنّ الحمل على العهد الذّهني كيف صار بعد عدم إمكان الحمل على الاستغراق.

والثالث : ما وجه (٢) الحمل على الاستغراق إذا لم يعهد شيء في الخارج ، وهل هو من باب دلالة العقل أو اللّفظ ، وسيجيء الكلام فيها.

ثمّ إنّ الفرق بين العهد الذّهني والنّكرة ليس إلّا من جهة أنّ الدلالة على الفرد في العهد بالقرينة وفي النّكرة بالوضع. والظاهر انّه أيضا يستعمل في كلا معنيي النّكرة ، أعني ما كان من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٣) ، ومن باب : جئني برجل.

__________________

(١) من سبق الذّكر أو العلم أو الحضور.

(٢) فما هو وجه تقديم العهد الخارجي على الاستغراق أو تقويم الاستغراق على الذهني عند عدم العهد.

(٣) القصص : ٢٠.

٤٥٨

وأمّا الفرق بين علم الجنس واسم الجنس ، فهو انّ علم الجنس قد وضع للماهيّة المتّحدة مع ملاحظة تعيينها وحضورها في الذّهن كأسامة ، فقد تراهم يعاملون معها معاملة المعارف بخلاف اسم الجنس ، فإنّ التعيين والتعريف إنّما يحصل فيه بالآلة مثل الألف واللّام ، فالعلم يدلّ عليه بجوهره واسم الجنس بالآلة.

وأمّا الكليّ الطبيعي فلا مناسبة بينه وبين اسم الجنس ، والمناسب له إنّما هو نفس الجنس وليس كلّ جنس يكون كليّا طبيعيّا فالجنس أعمّ ، فإنّ الكلّي الطبيعيّ معروض لمفهوم الكليّ ونفس الكليّ جنس ، فالجنس أعمّ مطلقا.

وأمّا الفرق بين اسم الجمع واسم الجنس فهو أنّ اسم الجنس يقع على الواحد والاثنين بالوضع بخلاف اسم الجمع.

الثانية (١)

لا اختصاص للجنسيّة بالمفردات ، بل قد يحصل في الجمع أيضا لا بمعنى انّ المراد من الجمع هو الجنس الموجود في ضمن جماعة كما يقال في النّكرة انّه الجنس والطبيعة مع قيد وحدة غير معيّنة ، بل بمعنى انّ الجماعة أيضا مفهوم كلّي ، حتّى أنّ جماعة الرّجال أيضا مفهوم كلّي. فلك تصوير جميع الصّور المتقدّمة فيه ، فيقال لفظ رجال مع قطع النظر عن اللّام والتنوين موضوع لما فوق الاثنين ، وهو يشمل الثلاثة والأربعة وجميع رجال العالم ، فقد ينوّن ويراد به الوحدة ـ أعني جماعة واحدة ـ مثل النّكرة الأفراديّة في المفرد ، وقد ينوّن لمحض التمكّن ويراد

__________________

(١) وهي المقدمة الثانية على ما مرّ ولما سيأتي.

٤٥٩

به الماهيّة بدون ملاحظة التعيين كما في قول الشاعر : أقوم آل حصن أم نساء؟! (١) وقد يعرّف ويراد به الجنس والماهيّة مثل : والله لا أتزوّج الثيّبات ، بل الأبكار ، إذا أراد جنس الجمع. وقد يراد به الجمع المعهود إذا كان هناك عهد خارجي ، وقد يراد به العهد الذهني كقوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)(٢) ، إن قلنا بكون الجملة صفة للمستضعفين ، بل وقد يثنّى ويقال رجالان وقد يجمع كرجاجيل [كرياجيل] وجمالات الى غير ذلك.

وأمّا التّثنية فلا يجري جميع ما ذكر فيه ، فإنّ القدر المشترك بين كل واحد من الجموع ومجموعها موجود وهو مفهوم جماعة الرّجال ، بخلاف رجلان ، فإنّ مفهوم اثنان من الرّجال مشترك بين كلّ واحد من الاثنينيات بخلاف المجموع ، فإنّه ليس من أفراد اثنين من الرّجال ، ولكن التثنية أيضا قد يراد به النّكرة وقد يراد به العهد الخارجيّ ، بل العهد الذهني أيضا ، وقد يراد به الاستغراق ، فالجنسيّة تعرض الجمع كما انّ الجمعية تعرض الجنس.

ثم إنّ الجمع المعرّف باللّام قد يراد به الجنس ، بمعنى أنّ الجمع يعرّف بلام الجنس فيسقط عنه اعتبار الجمعيّة ويبقى إرادة الجنس ، فحينئذ يجوز إرادة الواحد أيضا عنه ، وإلى هذا ينظر قولهم في تعريف الحكم : بأنّه خطاب الله المتعلّق

__________________

(١) وبه يمكن أن يستدلّ على انّ القوم لا يطلق إلّا على الرجال. هذا وصدر البيت هو : فما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء ، وهو لزهير بن سلمة كما في كتاب «العين» للفراهيدي ج ٥ ص ٢٣١ و «الصحاح للجوهري» ج ٥ ص ٢٠١٦ و «لسان العرب» ج ١٢ ص ٥٠٥ وج ١٣ ص ١٢١.

(٢) النساء : ٩٨.

٤٦٠