القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

وجوابه (١) : أنّ السّالبة هنا بانتفاء الموضوع.

وما يقال (٢) : أنّ الواسطة ممكن ، فلا يستلزم نفي إرادة التحصّن إرادة البغاء حتّى لا يمكن الإكراه ، فقد يحصل الذّهول عنهما.

فهو مدفوع : بأنّها تنتفي عند التنبيه.

وقد يجاب (٣) أيضا : بأنّ مفهوم الشرط إنّما يكون حجّة إذا لم يظهر له فائدة سواه وهو متحقّق هنا ، مثل تنبيه الموالي على أنّهنّ إن أردن التحصّن مع ما بهنّ من الضعف والقصور فأنتم أولى بذلك.

ويظهر لك ما في هذا الجواب ممّا أسلفنا لك سابقا (٤).

ويمكن أن يقال : إنّ الشرط هنا ورد مورد الغالب ، إذ الغالب في تحقّق الإكراه هو مع إرادة التحصّن ، فلا حجّة فيه كما سيأتي.

والأولى أن يقال : إنّ مطلق الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة ، وبعد ثبوت الحقيقة فهذا استعمال مجازيّ لكون المجاز خيرا من الاشتراك.

أو يقال : إنّ اللّفظ يقتضي ذلك ، ولكنّ القرينة الخارجية مانعة ، ولو لا القرينة على عدم إرادة المفهوم من الإجماع القاطع لعملنا على مفهومه ، فالإجماع هو

__________________

(١) ذكر في ردّه مثله التفتازاني في «المطوّل» : ص ٣٢٩ وصاحب «المعالم» : ص ٢١٥ والعلّامة في «التهذيب» : ص ١٠١ والعضدي بقد يجاب.

(٢) قيل : انّ هذا الكلام ردا على العميدي.

(٣) ذكر مثله التفتازاني في «المطوّل» : ص ٣٢٩ و «صاحب المعالم» : ٢١٦.

(٤) من أنّ الانتفاء عند الانتفاء من حيث هو أظهر الفوائد فلا بد من كون الغير أظهر ، هذا كما في بعض الحواشي ، وفي اخرى مما اسلفنا لك سابقا أي من الجواب عن احتجاجهم على الحجّية بلزوم اللّغوية في كلام الحكيم لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط.

٤٠١

القرينة على عدم إرادة ذلك ، وأولى المعاني التي يمكن حمل الآية عليها حينئذ (١) هو التنبيه على علّة الحكم ، فإنّ القيد الوارد بعد النّهي (٢) على ما ذكره بعض المحقّقين ، إمّا أن يكون للفعل مثل : لا تصلّ إذا كنت محدثا ، أو للترك مثل : لا تبالغ في الاختصار إن حاولت سهولة الفهم ، أو للعلّة مثل : لا تشرب الخمر إن كنت مؤمنا ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

أقول : ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ)(٣) الآية.

__________________

(١) أي حين ورود الشرط في الآية مورد الغالب. كذا افاده في الدرس كما في الحاشية.

(٢) يعني الشرط الوارد بعد النهي حيث لم يرد منه حقيقة التعليق ، وهو تعليق الجزاء على الشرط بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

٤٠٢

قانون

اختلفوا في أنّ تعليق الحكم على وصف يدلّ على انتفائه عند انتفاء الوصف أم لا

، سواء كان الوصف صريحا مثل : أكرم كلّ رجل عالم ، أو : في السّائمة زكاة ، و : «ليّ الواجد يحلّ عقوبته» (١) أو مقدّرا كقوله عليه‌السلام : «لئن يمتلى بطن الرّجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» (٢) ، فامتلاء البطن من الشّعر كناية عن الشّعر الكثير ، فمفهومه أنّه لا يضرّ الشّعر القليل.

احتجّ المثبتون (٣) : بمثل ما تقدّم في مفهوم الشرط من لزوم اللّغو في كلام الحكيم ، فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعري الوصف حينئذ عن الفائدة ، ولعدّه العقلاء مستهجنا ، مثل قولك : الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب ، وبأنّ أبا عبيدة الكوفي (٤) فهم من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليّ الواجد يحلّ عقوبته

__________________

(١) الليّ بالتشديد هو المماطل والواجد الغني ، وحلّ عرضه جواز مطالبته أو عقوبته وجواز حبسه.

(٢) الليّ بالتشديد هو المماطل والواجد الغني ، وحلّ عرضه جواز مطالبته أو عقوبته وجواز حبسه.

(٣) قال في الحاشية : اعلم إنّ القول بثبوت المفهوم للوصف لقليل من أصحابنا منهم الشيخ في «العدة» لكن لا في باب المفاهيم فإنّه اقتصر في هذا الباب على نقل كلام المرتضى ، ولم يذكر شيئا ، ولأجل ذلك زعم جمع من الفضلاء عدم صحة نسبة هذا القول الى الشيخ ، فقال بعضهم : عدّ الشيخ من المتوقفين أولى.

(٤) لقد نسبه المصنّف وجماعة الى أبي عبيدة بالتاء ، ونسبه العضدي وغيره الى أبي عبيد بدون التاء وتردّد بعضهم. وعن «شرح المجمع» نسبه إليهما معا. والظّاهر هو الأوّل لأنّ ـ

٤٠٣

وعرضه» (١) ، أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عرضه. وقال : إنّه يدلّ على ذلك ، وهو من أهل اللّسان.

والجواب عن الأوّل : يظهر ممّا سبق ، فإنّه يلزم اللّغو لو لم يحتمل فائدة اخرى ، والفوائد المحتملة كثيرة ، مثل الاهتمام بحال المذكور مثل : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٢) ، او احتياج السّامع إليه أو سبق بيان غيره ، أو ليستدلّ السّامع على المسكوت عنه فيحصل له رتبة الاجتهاد ، أو غير ذلك ممّا ذكروه (٣).

فإن قيل : نقول بذلك (٤) إذا كان ذلك أظهر الفوائد.

فيجاب عنه : بما تقدّم في مفهوم الشرط (٥).

__________________

ـ إمام الحرمين نسبه الى معمر بن المتنبي وهو اسم أبي عبيدة بالتاء ، والامام معتمد في نقله وكثير الاطّلاع. وأمّا أبي عبيد فقاسم بن سلّام بالتشديد وهو تلميذ معمّر ، وكيف كان وقوع السّهو لنسّاخ «النهاية» ، فإنّه وقع فيها بالتاء مع التصريح باسمه قاسم بن سلّام وكذا في «المنية». ثم إنّ أبا عبيدة معمّر بن المتنبي المذكور بصري لا كوفي فنسبة المصنّف له الى الكوفي ليس في محلّه.

(١) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٧٢ ح ٤٤.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

(٣) منها : أن يكون السّؤال عن محلّ الوصف دون غيره. ومنها : أن يكون غرض المتكلّم إعلام حكم محلّ الوصف بالنص وحكم غيره بالفحص. ومنها : حصول رتبة الاجتهاد للمخاطب وغير ذلك.

(٤) يعني بمفهوم الوصف وحجيته.

(٥) من أنّ المسألة حينئذ لا تصير أصوليّة ، بل تكون فقهيّة. بمعنى انّه لو ثبت كونه أظهر الفوائد في موضع فهو حجّة في ذلك الموضع لا غير ، ولا ريب أنّ ذلك خلاف مقتضى القاعدة الأصوليّة من كون قواعدهم كليّة ، فهنا لا يثبت القاعدة الكلية اللفظية.

٤٠٤

وبالجملة ، التعليل بلزوم العراء عن الفائدة وإخراج الكلام عن اللّغويّة لا يقتضي إلّا ثبوت فائدة ما ، فإذا ثبت من القرينة الخارجية أظهريّة هذه الفائدة المتنازع فيها ، فلا أظنّ المنكر متحاشيا عن القول بمقتضاه أيضا.

وما يظهر إنكاره من بعضهم (١) لاحتمال إرادة الغير ؛ كما يظهر نظيره من السيّد رحمه‌الله في مفهوم الشّرط ، حيث اكتفى في نفي الاستدلال بمجرّد احتمال تعدّد السّبب ، فهو ضعيف لما بيّنّا. ومن هذا القبيل (٢) ، قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة الفضيل قال : قلت له عليه‌السلام : ما الشرط في الحيوان. قال عليه‌السلام : «ثلاثة أيّام للمشتري». قلت : وما الشرط في غير الحيوان. قال عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٣).

وأمّا الاستهجان فممنوع ، وما يتراءى هجنته في المثال المذكور (٤) ، فإنّما هو لكون أصل الحكم في هذا المثال من باب توضيح الواضحات ، وكذلك ذكر الوصف هنا ، وإلّا فقد يكون فائدة الوصف مجرّد التوضيح ، بل نقل عن الأخفش وجماعة من أئمة العرب أنّ وضع الصّفة للتوضيح فقط لا للتقييد ، وأنّ مجيئها للتقييد خلاف الوضع ، غاية الأمر تعارض ذلك مع ما نقل من فهم أبي عبيدة وظهور خلافه في أفهامنا أيضا ، فيتساقطان ، فيبقى عدم الدّلالة على المدّعى.

__________________

(١) كالعلّامة في «التهذيب» : ص ١٠٢ ، والمحقّق في «المعارج» : ص ٧٠ ، والمرتضى في «الذريعة» : ١ / ٣٩٢ و ٤٠٦ و ٤٠٧.

(٢) أي من قبيل ما ثبت من القرينة الخارجية أظهريّة هذه الفائدة المتنازع فيها قول أبي عبد الله عليه‌السلام.

(٣) «الكافي» : ٥ / ١٧٠ ح ٦ ، «الوسائل» : ١٨ / ١١ ح ٢٣٠٢٧.

(٤) وهو قوله : الانسان الأبيض لا يعلم الغيب.

٤٠٥

وأمّا الجواب عن الثاني (١) : فيظهر ممّا ذكرنا من المعارضة (٢) ، مع أنّ فهمه لعلّه كان عن اجتهاده في اللّغة وكلام اللّغويين.

واحتجّ النافون (٣) : بأنّه لو دلّ لدلّ بإحدى الثلاث (٤) ، وكلّها منتفية. أمّا المطابقة والتضمّن فظاهر ، وإلّا لكان منطوقا ، وأمّا الالتزام فلعدم اللّزوم الذّهني لا عقلا ولا عرفا.

ولي في المسألة التوقّف ،وإن كان الظّاهر في النظر أنّه لا يخلو عن إشعار كما هو المشهور ، إذ التعليق بالوصف مشعر بالعليّة ، لكن لا بحيث يعتمد عليه في الاحتجاج إلّا أن ينضمّ إليه قرينة ، كما في صحيحة الفضيل المتقدّمة. ومن هذا القبيل القيود الاحترازية في الحدود والرسوم. وأمّا مثل قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(٥) ، فدلالته على عدم كفاية عتق الكافر ، ليس من جهة مفهوم الوصف كما توهّم ، ولا من جهة مجرّد الإجماع عليه كما نقله العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» ، بل لأنّ اتّحاد الموجب المطلق والمقيّد مع كون التكليف شيئا واحدا

__________________

(١) وهو قوله : وانّ أبا عبيدة فهم من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... الخ.

(٢) أي مما نقل عن الأخفش وجماعة من أئمة العرب.

(٣) ومن النافين السيد والمحقق والعلّامة كما عرفت ، وفي «الزبدة» : ص ١٥١ : ونفاه الأكثر ، وفي «المعالم» : ص ٢١٦ : ونفاه كثير من الناس وهو الأقرب.

(٤) يعني أنّ اثبات الزّكاة في السّائمة مثلا لا يدلّ على نفيها عن غير السائمة أعني المعلوفة بشيء من الدّلالات. أما المطابقة والتضمن فلأنّ نفيها في المعلوفة ليس عين اثباتها للسائمة ولا جزءه وإلّا لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم ، والخصم معترف بفساده.

وأما الالتزام فلأنّه لا ملازمة في العقل ولا في العرف بين ثبوت الحكم في السّائمة ونفيه في المعلوفة ، هذا كما في الحاشية.

(٥) النساء : ٩٢.

٤٠٦

يوجب العمل على المقيّد ، لأنّ العمل على المطلق ترك للمقيّد ، بخلاف العكس.

وبالجملة ، القيد مطلوب ، فمع تركه لا يحصل الامتثال ، فعدم الامتثال بعتق الكافرة إنّما هو لعدم صدق الامتثال بالمؤمنة التي ورد الخطاب بها مع كون المطلوب رقبة واحدة.

ثمّ إنّ هاهنا فوائد :

الأولى : أنّهم ذكروا (١) أنّ حجّيّة مفهوم الشرط والوصف ونحوهما إنّما هو إذا لم يكن على طبق الغالب مثل : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٢). ولا يحضرني منهم كلام في بيان ذلك.

وعندي أنّ وجهه ، أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه الى التنبيه ، والأفراد الشّائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللّفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللّفظ فإنّما يحصل في النادر. فالنكتة في الذكر لا بدّ أن يكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب ، وهو فيما نحن فيه التشبيه بالولد.

وممّا بيّنا ، ظهر السّرّ في عدم اطّراد الحكم فيما إذا ورد مورد الغالب في غير باب المفاهيم أيضا.

ألا ترى انّا لا نجوّز التيمّم لواجد الماء لمن منعه زحام الجمعة عن الخروج ، مع أنّ الشّارع أطلق الحكم بالتيمّم لمن منعه زحام الجمعة عن الخروج.

وأيضا قالوا باشتراط عدم كون المخالف أولى بالحكم مثل : (وَلا تَقْتُلُوا

__________________

(١) على ما نصّ عليه الحاجبي والعلّامة ، بل ادعي عليه الاتفاق في بعض شروح «المبادئ».

(٢) النساء : ٢٣.

٤٠٧

أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(١). والنكتة فيه التنبيه على خطائهم في العلّة والحجّة ، ويمكن إرجاعه الى القسم الأوّل.

وبالجملة ، المعتبر في دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي هو عدم القرينة الظّاهرة على إرادة الخلاف ، فكلّما ظهر قرينة على إرادة غيره فنحملها عليه. لا لأنّ الحجّيّة إنّما هو إذا لم يظهر للقيد فائدة اخرى كما هو مقتضى الدّلالة العقليّة ، بل لثبوت القرينة على الخلاف كما هو مقتضى الدّلالة اللّفظيّة.

الثانية : قد توهّم بعضهم (٢) : أنّ فائدة المفهوم وثمرة الخلاف إنّما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للأصل ، مثل : ليس في الغنم المعلوفة زكاة ، أو : ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة ، أو : الى أن تسوم.

وأمّا إذا كان موافقا للأصل ، كما في قوله : «في الغنم السّائمة زكاة» (٣). فلا ، لأنّ نفي الزّكاة هو مقتضى الأصل.

وقال (٤) : إنّ دعوى الحجّيّة إنّما نشأ من الغفلة عن ذلك لكون المفهوم مركوزا في العقول من جهة الأصل ، واستشهد على ذلك بكون الأمثلة المذكورة في استدلالاتهم من هذا القبيل.

وأنت خبير بما فيه ، لكمال وضوح الثمرة (٥) والفائدة في الموافق للأصل

__________________

(١) الاسراء : ٣٠.

(٢) هذا الكلام ردّ على ما في «الوافية» : ص ٢٣٥ وقد ذكر في «الحاشية» أنّه ذكره جماعة منهم السيدان السندان بحر العلوم في «فوائده» وصهره في «مفاتيحه».

(٣) «الأقطاب الفقهية» لابن أبي جمهور : ٦٦ ، «تهذيب الأحكام» : ١ / ٣٢٤ ح ٦٤٣.

(٤) المتوهم المذكور في «الوافية» : ص ٢٣٥.

(٥) وهذا يبدو ردّ على القول بأن لا ثمرة في الموافق للأصل.

٤٠٨

أيضا ، لأنّ المدّعي للحجّيّة يقول بأنّ هاهنا حكمين من الشّارع ، فلا يحتاج الى الاجتهاد في طلب حكم المعلوفة ، كما انّ المنكر يحتاج ، وكونه موافقا للأصل لا يكفي إلّا بعد استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بعدم الدّليل ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه.

وأيضا الأصل لا يعارض الدّليل ، ولكنّ الدّليلين يتعارضان ، ويحتاج المقام الى الترجيح ، فإذا اتّفق ورود دليل آخر على خلاف المفهوم ، فيعمل عليه من دون تأمّل على القول بعدم الحجّيّة ، ويقع التعارض بينه وبين المفهوم على القول بالحجّيّة.

وربّما يترجّح المفهوم على المناطيق (١) إذا كان أقوى ، فضلا عن منطوق واحد. وما جعله منشأ للغفلة ، هو غفلة عن المتوهّم ، إذ كلماتهم مشحونة بالحكم في المخالف للأصل والموافق ، والأمثلة واردة على القسمين كما لا يخفى على المتتبّع.

الثالثة : مقتضى المفهوم المخالف أنّما هو رفع الحكم الثابت للمذكور على الطريقة الثابتة للمذكور ، وقد وقع هنا توهّمان :

أحدهما (٢) : ما أشرنا سابقا إليه من أنّ مفهوم قولنا : أعط زيدا ان أكرمك ، لا تعطه إن لم يكرمك ، وهو باطل ، لأنّ رفع الإيجاب هو عدم الوجوب ، وهو أعمّ من الحرمة التي هي مقتضى النّهي.

نعم إذا كان الحكم الموافق هو الجواز بالمعنى الأعمّ ، يكون مفهومه الحرمة ،

__________________

(١) المتعدّدة.

(٢) ولعلّه صدر من صاحب «المعالم» : ص ٢١٣ في مقام الاحتجاج على مفهوم الشرط.

وقيل : لصاحب «المطوّل» أيضا.

٤٠٩

كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب» (١). فإنّ مفهومه ، أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ من سؤره ولا يشرب. فإنّه وإن كان مفهومه الصّريح نفي الجواز ، لكنّه ملزوم للحرمة.

وثانيهما : ما صدر عن جماعة من الفحول (٢) ، قال بعضهم (٣) : إنّ مفهوم قولنا : كلّ غنم سائمة فيه الزّكاة ، ليس كلّ غنم معلوفة فيه الزّكاة. وإنّ هذا يصدق على تقدير أن يجب في بعض المعلوفة الزّكاة ، وعلى تقدير أن لا يجب في شيء منها. ومفهوم قولنا : بعض السّائمة كذلك ، هو عدم صدق قولنا : بعض المعلوفة كذلك.

ويلزمه أن يصدق قولنا : لا شيء من المعلوفة كذلك ، ويلزمه أن يقول : إنّ مفهوم قولنا : لا شيء من المعلوفة كذلك ، هو بعض السّائمة كذلك.

وردّ بعضهم (٤) على صاحب «المعالم» حيث ادّعى أنّ مفهوم قولنا : كلّ حيوان مأكول اللّحم ، يتوضّأ من سؤره ويشرب منه ، هو أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب ، بأنّ هذه دعوى لا شاهد له عليها من العقل والعرف ، والعلّامة رحمه‌الله على الشيخ رحمه‌الله كذلك (٥).

وأنت خبير بأنّ ذلك التوهّم يشبه بأن يكون إنّما نشأ من بعضهم من جعل

__________________

(١) «تهذيب الاحكام» : ١ / ٣٢٤ ح ٦٤٢ و ٣٢٨ ح ٦٦٠.

(٢) كالعلّامة والشيرواني في بحث مفهوم الشرط والفاضل الاصبهاني في «حواشي الرّوضة» في باب المياه وكما عن المقدس في بحث الماء القليل وكذا عن الفاضل الخوانساري.

(٣) وهو السيد صدر الدّين في حاشيته على «شرح الوافية» كما أفاده في «الحاشية».

(٤) الرادّ هو المحقّق الخوانساري في «شرح الدّروس» كما أفاده في «الحاشية».

(٥) أي وردّ العلّامة على الشيخ مثل ما ردّ المحقّق الخوانساري على صاحب «المعالم».

٤١٠

المفهوم نقيضا منطقيّا للمنطوق ، وإن كان صدور مثل ذلك في غاية البعد من مثلهم ، بل ممّن دونهم بمراتب ، لاختلاف الموضوع ، ولذلك يتصادقان أيضا (١).

والظّاهر أنّ مراد من أطلق النقيض على المفهوم كفخر الدّين الرّازي ، إنّما هو أنّ المفهوم رافع لحكم المنطوق ، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه.

والمراد رفع ذلك الحكم عن غير الموضوع.

والحقّ هو ما فهمه الشيخ وصاحب «المعالم». فإنّ الحكم المخالف في جانب المفهوم إنّما يستفاد من جهة القيد في المنطوق ، فكلّ قدر يثبت فيه القيد (٢) وتعلّق به من أفراد الموضوع فيفهم انتفاء الحكم بالنسبة الى ذلك القدر ، وإلّا لبقي التعليق بالنسبة إليه بلا فائدة.

وما يقال : من أنّ الفائدة تحصل في الجملة ، بثبوت المخالفة في الجملة ، فهو بمعزل عن التحقيق ، إذ يبقى التصريح بتعلّقه بالجميع بلا فائدة.

فمفهوم قولنا : كلّ غنم سائمة فيه الزّكاة ، لا شيء من المعلوفة كذلك. فإنّ وجوب الزّكاة معلّق على سوم كلّ غنم ، فيرتفع بمعلوفيّة كلّ غنم.

وما قيل : أنّ ذلك (٣) لعلّه لعدم وجود أمر مشهور مشترك بين أفراد المنطوق وبعض أفراد المسكوت عنه ، يعني أنّ جميع أفراد ما يؤكل لحمه مثلا يجوز الشرب والتوضّؤ من سؤره فنطق به في الكلام ، وإنّما لم يشرك بعض الأفراد الغير المأكول أيضا مع كونه شريكا للمنطوق ، لأجل عدم لفظ مشهور جامع لهما ، فيبقى

__________________

(١) أي يصدق كلّ منهما مع صدق الآخر وليس ذلك إلّا لتعدّد موضوعيهما كما يكشف عنه اعتبار كونه في المنطوق مذكورا وفي المفهوم غير مذكور.

(٢) وهو السّوم هنا.

(٣) اي التعليق.

٤١١

بيانه الى وقت الحاجة.

ففيه : أنّه لا ينحصر الإفادة في وجود اللّفظ المشهور المشترك ، فقد يصحّ أن يقال مثلا : كلّ حيوان يجوز التوضّؤ من سؤره إلّا الكلب مثلا. وكذلك في قوله : كلّ غنم سائمة فيه الزّكاة ، مع ثبوت الحكم لبعض المعلوفة أيضا ، يمكن أن يقال : كلّ غنم فيه الزكاة إلّا النوع الفلاني ، فلا ينقطع المناص حتى يلتزم تأخير البيان وغيره من الحزازات ، فلا بدّ للقيد من فائدة ، والمفروض أنّه ليس إلّا نفي الحكم عن غير محلّ النطق ، مع أنّ القول (١) بكون استعمال القيد هنا لذلك (٢) ، لا لإخراج غير المقيّد عن الحكم ، خروج عن مقتضى القول بحجّيّة المفهوم ، إذ هو إمّا مبنيّ على التبادر من اللّفظ ، أو على لزوم خلوّ كلام الحكيم عن الفائدة لولاه ، كما تقدّم ، وهو (٣) إنّما يصحّ لو لم يكن هناك فائدة أخرى.

وأمّا ما ذكره بعضهم : انّ مفهوم قولنا : بعض الغنم السّائمة فيه الزّكاة ... الخ.

إن أراد به أن تكون السّائمة صفة لبعض الغنم وبيانا له لا للغنم فقط كما هو المناسب لطريقة أهل الشرع ، فمفهومه أن ليس في البعض الآخر الذي هو المعلوفة زكاة ، لا ما ذكره.

وإن أراد البعض الغير المعيّن ، بل يكون السّائمة صفة للغنم لا للبعض كما هو الظاهر من كلامه وهو الموافق لطريقة أهل الميزان ، فحينئذ يتوجّه الحكم نفيا وإثباتا الى البعض ، فإنّه القيد الأخير لا السّوم ، والنفي والإثبات إنّما يرجعان الى

__________________

(١) بعد القول بحجية المفهوم كما هو المفروض هنا.

(٢) للفائدة المذكورة.

(٣) أي كل منهما او البناء المذكور.

٤١٢

القيد الأخير على التحقيق ، فمفهومه حينئذ أنّ البعض الآخر من السّائمة ليس يجب فيه الزكاة ، وهذا ممّا يعزّ ويقلّ وروده في كلام الشارع ، فإنّه تكليف بمبهم مجهول.

وبالجملة ، فالمستفاد من العقل والعرف هو ما فهمه الشيخ وصاحب «المعالم» رحمه‌الله لا ما فهموه.

فالتحقيق (١) أن يقال : إن جعلنا السّؤر (٢) من جملة الحكم ، وجعلنا الموضوع نفس الطبيعة المقيّدة ، فالأقرب ما ذكره هؤلاء. وإن جعلناه جزء الموضوع ، بأن يرجع القيد الى كلّ واحد ممّا يشمله السّؤر ، فالأقرب ما اخترناه (٣).

مثلا إمّا نقول : الحيوان المأكول اللّحم حكمه أنّه يجوز استعمال سؤر كلّ واحد من أفراده ، أو نقول لكلّ واحد من أفراد الحيوان المأكول اللّحم : حكمه جواز استعمال سؤره ، فلا بدّ أن يتأمّل في أنّ معنى قولنا : كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ، موافق لأيّهما ، وأيّهما يتبادر منه في العرف.

والأظهر الثاني ، للتبادر ، فيكون الوصف قيدا لكلّ واحد من الأفراد ، فالمفهوم يقتضي نفي الحكم حيث انتفى ذلك القيد

الرابعة : لا دلالة في قولنا : في الغنم السّائمة زكاة ، على نفي الزّكاة من معلوفة الإبل بإحدى من الدّلالات.

واستدلّ فخر الدّين على ذلك ، بأنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق فلمّا تناول

__________________

(١) في كلام صاحب «المعالم» وغيره.

(٢) وهو لفظ بعض وكل وما شاكلهما.

(٣) من كون المفهوم من الايجاب الكلي هو السّلب الكلي.

٤١٣

المنطوق سائمة الغنم كان نقيضه مقتضيا لمعلوفة الغنم دون غيرها.

وهذا الاستدلال ضعيف لما أشرنا إليه (١) ، والأولى ما ذكرنا.

احتجّ بعض الشافعيّة على الدلالة : بأنّ السّوم يجري مجرى العلّة فيثبت الحكم بثبوتها وينتفي بانتفائها ، وفهم العليّة العامة ممنوع وإلّا لكان وجها وجيها.

__________________

(١) من ان المفهوم غير النقيض.

٤١٤

قانون

الحقّ ، أنّ مفهوم الغاية حجّة وفاقا لأكثر المحقّقين (١).

والظاهر أنّه أقوى من مفهوم الشرط ، ولذلك قال به كل من قال بحجّية مفهوم الشرط وبعض من لم يقل بها.

والمراد بالغاية هنا النهاية لا المسافة كما هو عند النحاة ، بخلافها في قولهم الى لانتهاء الغاية. فالمراد أنّ تعليق الحكم بغاية (٢) يدلّ على مخالفة حكم ما بعد النهاية لما قبلها ، وأمّا نفس النهاية ففيها خلاف آخر ذكروها في مبحث بيان أنّ الى لانتهاء الغاية ، فلنقدّم الكلام فيه لتقدّمه على ما بعده.

فنقول : اختلفوا فيه على أقوال ثالثها : دخولها في المغيّا إن كانتا من جنس واحد كقولك : بعتك هذا الثوب من هذا الطرف الى هذا الطرف ، وإلّا فلا (٣) ، كقول القائل : صوموا الى اللّيل.

والظاهر أنّ دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في الغسل ، بخلاف ما لو اختلفا في الماهيّة وتميّزا في الخارج ، فلا يظهر حينئذ ثمرة بين هذا القول وبين القول بالعدم مطلقا.

ورابعها : التوقّف لتعارض الاستعمالات وعدم الترجيح.

__________________

(١) إلّا المرتضى من أصحابنا وبعض العامّة ، وبذلك صرّح في «الزبدة» : ص ١٥٢ ، وفي «المعالم» : ص ٢٢١ ، وعزاه الآمدي إلى أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلّمين كالقاضي عبد الجبّار والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري.

(٢) هنا أراد بالغاية النهاية.

(٣) أي وإلّا فلا نحكم بالدخول ، لا إنّا نحكم بالخروج ، فهو مسكوت عنه.

٤١٥

والحق عدم الدّخول لأنّه الأصل ، بمعنى انّ اللّفظ لا يدلّ على الدّخول والأصل عدم إرادة المتكلّم ذلك ، وإلّا فقد يكون الدخول موافقا للأصل ، بل المتبادر من اللّفظ عدم الدخول فيكون ذلك أيضا مفهوما من التعليق بكلمة الى.

وأمّا دخول المرفق في آية الوضوء فإنّما هو من دليل خارج ، لا لأنّ الى بمعنى مع ، لأنّ الحق انّه لانتهاء الغاية ، وكونه بمعنى مع مجاز ، وإنّما يصار إليه من جهة الدليل الخارجي.

ثم إنّ التوقّف لا يستلزم القول بالاشتراك كما توهمه (١) فخر الدّين وأبطله بأنّه لا يمكن القول بالاشتراك لعدم جواز وضع الشيء لوجود الشيء وعدمه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة (٢) ، والإجمال أعمّ من الاشتراك ولا ينحصر التوقّف في صورة الاشتراك.

وأمّا ثانيا : فلجواز الاشتراك بين الوجود والعدم كما في القرء. وأمّا ما قاله فخر الدّين : من أنّه لغو لخلوّ الكلام عن الفائدة حين التردّد بين الوجود والعدم ، لأنّ التردّد بين النفي والإثبات حاصل لكلّ واحد قبل إطلاق اللّفظ أيضا (٣).

ففيه : أنّه قد يحصل الفائدة بمثل قول القائل : اعتدّي بقرء.

فتأمّل في ذلك فإنّه يمكن إرجاع الطهر الى الوجودي (٤) أيضا.

__________________

(١) أي توهم انّ القائل بالتوقف مذهبه الاشتراك.

(٢) هذا ناظر الى إبطال ما قاله فخر الدّين من أنّ القول بالتوقف يستلزم الاشتراك. راجع «الفصول» : ص ١٥٣.

(٣) حكاه عن بعضهم عن الفخر في «الفصول» : ص ١٥٣.

(٤) فلا يكون المثال مما نحن فيه ، كما يمكن ارجاع عدم الدخول الى الوجودي فتأمل كما في الحاشية.

٤١٦

إذا عرفت هذا فلنرجع الى أصل المسألة ، والحقّ ما قلناه (١) ، لأنّ المتبادر من قول القائل : صوموا الى اللّيل ، انّ آخر وجوب الصّوم اللّيل ولا يجب بعده.

ومن قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢) عدم حرمة المقاربة بعد حصول الطهر ، فلو ثبت الصيام بعد اللّيل أيضا أو حرمة المقاربة بعد حصول الطّهر أيضا لما كان الغاية غاية ، وهو خلاف المنطوق (٣).

فإن قلت : إنّه لو كان خلاف المنطوق فيكون الكلام مع التصريح بعدم إرادة المفهوم مجازا ، ولم يقل به أحد.

وأيضا فإن كان المراد من قولك : آخر وجوب الصوم اللّيل ما ينقطع عنده الصوم فقد صار هذا المفهوم من جملة المنطوق ، وإن كان المراد ما ينتهى عنده الصوم سواء انقطع أو لم ينقطع فلا خلاف المنطوق في المسكوت ، أعني ما بعد الغاية.

قلت : إن أردت من التصريح بعدم إرادة المفهوم مثل ان يقول المولى لعبده : سر الى البصرة ولا أريد منك عدم السّير بعنوان الوجوب بعده ، فهو مجاز وهو لازم كل من يقول بحجيّة مفهوم الغاية ، فكيف تقول بأنّه لم يقل به أحد. وإن علم من المتكلّم إرادة الحقيقة ، فلا بدّ أن يحمل ذلك على النسخ إن قلنا بجواز النسخ فيما كان آخره معلوما خصوصا إذا كان قبل حضور وقت العمل ، وإلّا فيقبح صدوره عن الحكيم.

__________________

(١) من أنّ التعليق بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) فإنّ عدم كون الغاية غاية على فرض ثبوت الوجوب بعد مجيء اللّيل أيضا والحرمة بعد حصول الطهر أيضا ، خلاف المنطوق ، لأنّ مقتضى المنطوق هو كون مجيء اللّيل آخر وقت وجوب الصوم ، وحصول الطهر آخر وقت حرمة المقاربة.

٤١٧

وإن أردت من ذلك مثل أن يقول : سر الى البصرة ومنها الى الكوفة ومنها الى بغداد.

ففيه : أنّ أمثال ذلك يقال في العرف لتحديد المنازل أو لإعلام المعالم (١) فيتجدّد [فيتحدد] المسافة من كلّ علم ومنزل فلكلّ مسافة مبدأ ونهاية يلاحظان بالنسبة إليها ويعتبران بخصوصها ، فلا يرد تجوّز ولا يحصل منه نقض على القاعدة.

وكذلك لا يتمّ النّقض بمثل قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(٢) ، مع ثبوت إسرائه الى السماء.

وكذلك قول الفقهاء إذا صام المسافر الى نصف النهار ثم سافر لا يجوز له الإفطار كما صدر من بعض الفضلاء ، فإنّ القرينة قائمة على إرادة الخلاف ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب خروج اللّفظ عن كونه حقيقة في غيره.

والنكتة في الأوّل انّ المحسوس المعاين في نظر الكفّار المتعنّتين إنّما كان ذلك الذي ذكر في الآية ، وكان يمكن إثبات هذه الدّعوى بما يحصل لهم المشاهدة كإخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن غيرهم وعمّا وقع فيهم في أثناء الطريق ، وكان تحصل المعجزة بمجرّد ذلك أيضا. فالمذكور ما بعد إلى ، إنّما هو المنتهى فيما هو مقصود البيان لهم الممكن التسليم عندهم.

وكذلك المراد من قولهم : إذا صام المسافر الى نصف النهار هو الإمساك المخصوص (٣) المشروط بالشروط لا نفس الصوم وإلّا فلا معنى للصوم الحقيقي

__________________

(١) أي الآثار التي يستدلّ بها على الطريق.

(٢) الإسراء : ١.

(٣) وليس هو المعنى الشرعي ، الّذي هو امساك مخصوص والى الليل وإنّما المقصود المعنى اللغوي.

٤١٨

الى نصف النهار.

ففي الحقيقة مفهوم الغاية هنا حجّة بمعنى انّ المعتبر فيما له مدخليّة في عدم جواز الإفطار هو الإمساك الى نصف النّهار ، فالإمساك ما بعد نصف النّهار لا مدخلية له في ذلك ، فكأنّه قال الموجب لعدم الإفطار إنّما هو الإمساك الى نصف النهار ، وهكذا الكلام فيما يرد عليك من نظائر هذه.

وأمّا قولك : وأيضا الى آخره.

فنقول : هناك شقّ ثالث ، وهو انّ المراد هو الآخر والمنتهى لا بشرط شيء مطلقا (١) ، لا خصوص ملاحظة انّ ما بعد الآخر ونفسه مخالف لما قبله وينقطع الحكم عنده ، ولا عموم ذلك (٢) ، بمعنى أن يلاحظ انّ اللّيل آخر مثلا سواء كان ما بعد الدّخول مخالفا أو موافقا منقطعا عنده الصوم أم لا ، ثم ندّعي استلزام ذلك المطلق كون حكم ما بعده مخالفا لما قبله.

احتجّ المنكرون : بعدم دلالة اللّفظ على ذلك بإحدى من الدلالات.

أمّا الأوّلان فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم اللّزوم ، وبالاستعمال فيهما معا ، فيكون للقدر المشترك لكون المجاز والاشتراك خلاف الأصل.

ويظهر الجواب عنهما بالتأمّل فيما ذكرناه.

__________________

(١) يعني الآخر بخصوص التخصيص.

(٢) يعنى ولا الآخر بالتعميم.

٤١٩

قانون

مفهوم الحصر (١) حجّة.

والمراد به على ما ذكره جماعة من المحقّقين هو أن يقدّم الوصف على الموصوف الخاص خبرا له مثل : الأمير زيد والشّجاع عمرو ، فيستفاد منه الحصر لأنّ الترتيب الطبيعي خلافه والعدول عنه (٢) إنّما هو لذلك. وقد يقال (٣) : إنّ الأولى تعميم المبحث في كل ما قدّم وكان حقّه التأخير (٤) على ما ذكره علماء المعاني.

وفيه إشكال لتعدّد الفائدة (٥) مثل : الاهتمام بالذكر أو التلذّذ أو غير ذلك (٦) ،

__________________

(١) الحصر في اللّغة بمعنى الحبس وهو مرادف للقصر. وفي الاصطلاح تخصيص الشيء على الشيء بحيث لا يتجاوز الى الغير سواء كان الشيء الأوّل صفة والثاني موصوفا ويسمى قصر الصّفة على الموصوف وبالعكس ، ويسمى قصر الموصوف على الصّفة.

والبحث هنا من قبيل القسم الأوّل.

(٢) انّ الترتيب الطبيعي هو تقديم الموصوف الخاص على الوصف نحو زيد الأمير وعمرو الشجاع ، والعدول عنه بصيرورة الوصف مقدما عليه وجعله مبتداء والموصوف مؤخرا وجعله خبرا ، إنّما هو لنكتة وهي إفادة الحصر هنا ، وسيأتي انّ الترتيب الطبيعي أيضا يفيد الحصر وإن كانت الافادة من جهة اخرى. هذا كما في الحاشية.

(٣) القائل هو المحقق الشيرازي على ما صرّح به في الحاشية.

(٤) وذلك مثل تقديم متعلّقات الفعل كالحال والمفعول والتمني ومثل تقدّم الفاعل المعنوي نحو : أنا عرفت ، ورجل عرف.

(٥) في التقديم مطلقا.

(٦) للاهتمام نحو : عليه من الرحمن ما يستحقه ، وللتلذّذ نحو : حنيّي زيد وغير ذلك ، ـ

٤٢٠