القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

وتحقيق المقام : أنّ هذا التقسيم لا بدّ أن يعتبر بالنسبة الى دلالة اللّفظ مطلقا. حقيقة كان أو مجازا ، ولا بدّ أن يناط القطع في الإرادة والظنّ بها بالقرائن الخارجية ، فإنّ دلالة اللّفظ على ما وضع له حقيقة موقوفة على عدم القرينة على إرادة المجاز ، فإن ثبت القرينة على عدم إرادة المجاز ، فنقطع بإرادة المعنى الحقيقي ، وإذا لم يكن هناك قرينة على نفي التجوّز ، فبأصالة العدم وأصالة الحقيقة يحصل الظنّ بإرادة الحقيقة ، فإرادة المعنى الحقيقي من اللّفظ قد يكون قطعيّا وقد يكون ظنيّا.

ولعلّ مراد شيخنا البهائي رحمه‌الله أنّ السموات والأرض في هذا التأليف نصّ في المخلوقين المعلومين بسبب قرينة المقام ، وهو أيضا محلّ تأمّل (١) ، لاحتمال إرادة العالم العلويّ والسّفليّ وإن اشتمل على هذين المخلوقين أيضا من باب عموم المجاز ، وإن أراد جميع الكلام ، فالتأمّل فيه أظهر (٢).

__________________

ـ تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كما هو للمحقّق البهائي واضح ، لأنّ كلام هذا المحقق إنّما هو في إفادة المراد من اللّفظ من الكلام المؤلّف ، فكأنّه ادعى انّ السّماوات والأرض في هذا التأليف نص في المخلوقين المعلومين بسبب قرينة المقام بخلاف كلام ذلك الفاضل ، فإنّه كما تقدم إنّما يناسب بالنظر الى الوضع الأفرادي الذي ليس كلامنا هنا فيه ، مع أنّ ما وقع من المحقق البهائي فيه أيضا تأمل كما سيجيء ، هذا كما في الحاشية.

(١) أي إنّ كلام الشارح الجواد محلّ تأمل حيث مثّل للنصّ بالأرض والسماء من دون قرينة في المقام.

(٢) يعني إن أراد الشيخ البهائي في تمثيله للنصّ بقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، انّ مجموع كلمات هذه الآية نصّ في معانيها يكون التأمل فيه أظهر ، لأنّ ـ

٣٨١

ثم إنّ مراده من التقييد بقوله : لغة ، لا بدّ أن يكون هو ما قابل العقليّ لا اللّغة فقط.

ثم إن أراد بهذا التقييد جواز الاحتمال العقلي ، بمعنى أنّ العقل يجوّز أن يراد من ذلك اللّفظ غير المعنى الموضوع له ، مع قطع النظر عن هذا الاستعمال الخاصّ ، فهو صحيح ، ولكنّه لا دخل له فيما نحن فيه ، إذ الكلام في الاستعمال الخاصّ.

وإن أراد تجويز العقل بالنظر الى هذا الاستعمال الخاص مع صحّته (١) ، فهو ليس بقطعيّ بالنظر إليه بملاحظة تلك اللّغة أيضا ، ومع كونه غلطا فهو خارج عن مورد كلامهم أيضا ، إذ الغلط في الكلام لا يصدر عن الحكيم الذي كلام الأصوليين على كلامه.

وإن أراد بذلك تفاوت الظّهور ، فلا ريب أنّ مراتب الظّواهر مختلفة ، وذلك لا يجعل الأظهر نصّا بالنسبة الى الظّاهر ، وهكذا ، ولا يحصل التغاير. فالنصّ هو ما لا يحتمل غير المعنى عقلا أيضا بالنظر الى هذه اللّغة والاستعمال ، وهذا القطع يحصل بحسب القرائن الخارجيّة ويتفاوت بتفاوتها.

واعلم أنّ النصوصيّة والظهوريّة أمور إضافيّة ، فقد ترى الفقهاء يسمّون الخاصّ نصّا والعامّ ظاهرا ، وقد يطلقون القطعيّ على الخاصّ والظنّيّ على العامّ ، مع أنّ الخاصّ أيضا عامّ بالنسبة الى ما تحته ، مع احتمال إرادة المجاز من الخاصّ أيضا من جهة اخرى غير التخصيص ، وكونه ظاهرا بالنسبة الى المعنى المجازي ، فلاحظ : اكرم العلماء ولا تكرم الاشتقاقيّين ، لاحتمال إرادة البصريين من

__________________

ـ من جملتها اللّام في له وهو بمقتضى اللّغة يحتمل أن تكون للملك أو الاختصاص ، وعلى فرض التساوي يكون مجملا لا نصا ، وبمقتضى العرف ظاهر في الاختصاص فلا يكون نصا.

(١) مع صحة الاستعمال الخاص.

٣٨٢

الاشتقاقيين دون الكوفيين ، واحتمال إرادة الصرفيين منهم لمشابهتهم في العلم.

فالمراد بالنصوصيّة هو بالنسبة الى العام ـ يعني ـ إنّ دلالة الاشتقاقيّين عليهم قطعيّ من حيث تصوّرهم في الجملة وإن كان بعنوان المجاز ، بخلاف دلالة العلماء عليهم ، فإنّ دلالته عليهم إنّما هي بضميمة أصالة الحقيقة وأصالة عدم التخصيص ، وهما لا يفيدان إلّا الظنّ.

٣٨٣

المقصد الثاني :

في المنطوق والمفهوم

وهما وصفان للمدلول. ويظهر من بعضهم (١) أنّهما من صفات الدّلالة.

والأوّل أظهر ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

فالمنطوق : هو ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق.

والمفهوم : هو ما دلّ عليه اللّفظ لا في محلّ النطق.

هكذا عرّفوهما ، وفيه مسامحة ، فإنّ المعيار في الفرق بينهما هو كون ما له المدلول أي الموضوع في محلّ النطق وعدمه. والمقصود من المدلول هو الحكم أو الوصف ، فلا يتمّ جعل قوله : (في محل النطق) حالا من الموصول إلّا بارتكاب نوع من الاستخدام.

ولو جعل الموصول كناية عن الموضوع يلزم خروجه عن المصطلح وارتكاب نوع استخدام في الضمير المجرور ، وكيف كان ، فالأمر في ذلك سهل ، فالمهمّ بيان الفرق.

فنقول : إنّ المنطوق هو مدلول يكون حكما من أحكام شيء مذكور أو حالا من أحواله.

والمفهوم مدلول يكون حكما من أحكام شيء غير مذكور أو حالا من أحواله.

وأمّا نفس ذلك المدلول فقد لا يكون مذكورا في المنطوق أيضا ، كما ستعرف والله الهادي.

__________________

(١) كالحاجبي في «المختصر».

٣٨٤

قانون

المنطوق : إمّا صريح أو غير صريح.

فالأوّل : هو المعنى المطابقيّ أو التضمّني ، ولي في كون التضمّني صريحا إشكال ، بل هو من الدلالة العقلية التبعية ، كما مرّت الإشارة إليه في مقدّمة الواجب ، فالأولى جعله من باب الغير الصريح.

وأمّا الغير الصريح فهو المدلول الالتزاميّ وهو على ثلاثة أقسام :

المدلول عليه بدلالة الاقتضاء ، والمدلول عليه بدلالة التنبيه والإيماء ، والمدلول عليه بدلالة الإشارة ، لأنّه إمّا أن يكون الدلالة مقصودة للمتكلّم أو لا.

فأمّا الأوّل فهو على قسمين :

الأوّل : ما يتوقّف صدق الكلام عليه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان» (١). فإنّ المراد رفع المؤاخذة عنها وإلّا لكذب ، أو صحّته عقلا كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢). فلو لم يقدّر الأهل لما صحّ الكلام عقلا أو شرعا ، كقول القائل : أعتق عبدك عنّي على ألف ، أي مملّكا لي على ألف ، إذ لا يصحّ العتق شرعا إلّا في ملك ، وهذا يسمّى مدلولا بدلالة الاقتضاء.

واعلم أنّ الذي يظهر من تمثيلهم بالأمثلة المذكورة ، أنّ دلالة الاقتضاء مختصّة بالمجاز في الأعراب ، أو ما يكون قرينته العقل ولم يكن لفظيا.

فعلى هذا ، فدلالة قولنا : رأيت أسدا يرمي ؛ على الشّجاع ونحو ذلك ، يكون من

__________________

(١) «مستدرك الوسائل» : ١٢ / ٢٥ ح ١٣٤٠٨.

(٢) يوسف : ٨٢.

٣٨٥

باب المنطوق الصّريح ، أو لا بدّ من ذكر قسم آخر ليشمل سائر المجازات.

والثاني : ما لا يتوقّف صدق الكلام ولا صحّته عليه ، ولكنّه كان مقترنا بشيء لو لم يكن ذلك الشيء علّة له لبعد الاقتران فيفهم منه التعليل ، فالمدلول هو علّيّة ذلك الشيء لحكم الشارع ، مثل قوله عليه‌السلام : «كفّر» (١) بعد قول الأعرابي : هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في نهار رمضان ، فيعلم من ذلك أنّ الوقاع علّة لوجوب الكفّارة عليه.

وهذا يسمّى مدلولا بدلالة التنبيه والإيماء ، وهذا في مقابل المنصوص العلّة (٢) ، فيصير الكلام في قوّة أن يقال : إذا واقعت فكفّر.

وأمّا التعدية الى غير الأعرابي وغير الأهل ، فإنّما يحصل بتنقيح المناط (٣) وحذف الإضافات مثل الأعرابيّة وكون المحلّ أهلا وغير ذلك.

وربّما يفرّط في القول فيحذف الوقاعيّة ويعتبر محض إفساد الصيام ، وتمام

__________________

(١) وهذا المبحث كما هو في «هداية المسترشدين» : ص ٢٧٩. للشيخ محمد تقي الاصفهاني.

(٢) لأنّ العلّة فيما نحن فيه ظاهر وفي المنصوص العلّة نص وتقابل النص والظاهر مما لا يخفى. وقد يطلق المنصوص العلّة في مقابل المستنبطة العلّة ، يعني القياس الذي يستنبط العلّة فيه وهو مما يعمل فيه أكثر العامة بحيث يشمل الظاهر أيضا ، وما نحن فيه قسم منه.

(٣) قال في الحاشية : تنقيح المناط هو إلحاق حكم الفرع بالأصل بإلقاء الفارق بينهما ، فهو لبيان الجامع بإلقاء الفارق. وأما تخريج المناط فهو بالنظر في إثبات الحكم الذي دلّ عليه النصّ والاجماع دون علّة كالاجتهاد في معرفة كون الإسكار علّة لحرمة الخمر حتى يقاس مشاركه في ذلك كالنبيذ. وأما تحقيق المناط فهو عبارة عن النظر في وجود العلّية المعلومة علّيتها بالنص أو الاستنباط في الفرع.

٣٨٦

الكلام في ذلك سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر الكتاب.

وأمّا الثاني : فهو ما يلزم من الكلام بدون قصد المتكلّم على ظاهر المتعارف في المحاورات ، مثل دلالة قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(١) مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٢) على كون أقلّ الحمل ستة أشهر ، فإنّه غير مقصود في الآيتين ، والمقصود في الأولى بيان تعب الأمّ في الحمل والفصال ، وفي الثانية بيان أكثر مدّة الفصال.

هذه أقسام المنطوق.

وأمّا المفهوم ؛ فإمّا أن يكون الحكم المدلول عليه بالالتزام موافقا للحكم المذكور في النفي والاثبات ، فهو مفهوم الموافقة ، كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضّرب ، ويسمّى بلحن الخطاب (٣) وفحوى الخطاب (٤).

وسيجيء الكلام في بيانه في أواخر الكتاب ، وإلّا فهو

مفهوم المخالفة (٥) ويسمّى بدليل الخطاب ، وهو أقسام :

مفهوم الشّرط والغاية والصّفة والحصر واللّقب وغير ذلك ، وسيجيء تفصيلاتها (٦).

__________________

(١) الاحقاف : ١٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) اللّحن هو المعنى ، ومفهوم الموافقة لما كان مما سبق فهمه الى الذّهن سمي به إشعارا بأنّه معناه.

(٤) وفحوى الخطاب هو ما يفهم منه على سبيل القطع ومفهوم الموافقة كذلك.

(٥) أي وإن لم يكن حكم غير المذكور موافقا لحكم المذكور اثباتا ونفيا فهو مفهوم المخالفة.

(٦) قد ذكر في التفصيل أقساما عشرة هي : الشرط والوصف والغاية والحصر واللّقب والعدد والمقدار والمسافة والزّمان والمكان.

٣٨٧

ثمّ إنّ تقسيم المنطوق والمفهوم كما ذكرنا ، هو المشهور.

وربّما يتأمّل في الفرق بين المفهوم والمنطوق الغير الصريح فيجعل ما سوى الصريح مفهوما ، ولعلّ وجهه كون ما له المدلول غير مذكور في بعض الأمثلة التي ذكروها للمنطوق الغير الصريح ، فإنّ أقلّ الحمل مثلا غير مذكور في الآيتين ، فإنّه هو الموضوع لا مطلق الحمل.

وكذلك حرمة الضرب حكم من أحكام الوالدين ، وهما مذكوران صريحا في الآية (١).

وقد يذبّ عن ذلك باعتبار الحيثيّات والاعتبارات ، فإن جعل المفهوم في آية التأفيف هو الحرمة وموضوعه هو الضرب ، فهو غير مذكور ، وإن جعل المفهوم هو حرمة الضرب والموضوع هو الوالدين ، فهو مذكور ، وكذلك الحمل وأقلّ الحمل.

__________________

(١) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) الاسراء : ٢٣.

٣٨٨

قانون

اختلف الأصوليّون في حجّية مفهوم الشرط ، ولا بدّ في تحقيق هذا الأصل من رسم مقدمات :

الأولى :

أنّ لفظ الشرط يستعمل في معان.

قال في «الصّحاح» (١) : الشرط معروف ، وكذلك الشريطة ، والجمع شروط وشرائط ، وقد شرط عليه كذا بشرط ويشرط واشترط عليه.

ويفهم من ذلك أنّه أراد (٢) به مجرّد الإلزام والالتزام ولو بمثل النذر واليمين.

وعن «القاموس» (٣) : إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه.

واستعمله النّحاة فيما تلا حرف الشّرط مطلقا أو ما علّق عليه جملة وجودا ، يعني حكم بحصول مضمونها عند حصوله ، وقد يستعمل في العلّة.

وفي مصطلح الأصوليّين : ما يستلزم انتفاؤه انتفاء المشروط به ولا يستلزم وجوده وجود المشروط ، فمن مصاديق الاستعمال الأوّل النذر والعهد ونحوهما ، والشرط في ضمن العقد ، مثاله : أنكحتك ابنتي ، وشرطت عليك أن لا تخرجها عن البلد.

__________________

(١) «الصحاح» : ٣ / ١١٣٦ أو راجع «مختار الصحاح» : ص ٢٩٩.

(٢) صاحب «الصحاح».

(٣) ص ٦٢٠ فصل الشين.

٣٨٩

ومن مصاديق الثاني : ما عملت من خير تجزى به ، وإن كان مثقال ذرّة ، وقد تسمّيه النّحاة إن الوصليّة ، ومثل : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) ، ومثل : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا.

ومن مصاديق الثالث : (٢)(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٣).

ومن مصاديق الرّابع (٤) : الوضوء شرط الصّلاة ، والقبض في المجلس شرط صحّة الصّرف ، وحلول الحول شرط لوجوب الزّكاة.

وأمّا العلامة فقد جعله بعضهم (٥) من جملة إطلاقاته ، ولكنّه خلاف ما صرّح به أهل اللّغة ، فإنّ أشراط السّاعة (٦) هي جمع شرط بالتحريك وهو العلامة ، وكذلك بعض الاستعمالات الأخر مثل : شرط الحجّام إذا شقّ الجلد بمبضعته ولم يدم مأخوذ من المتحرّك.

الثانية :

الجملة الشرطية أيضا تستعمل في معان كثيرة.

أحدها : ما يفيد تعليق وجود الجزاء على وجود الشّرط فقط ، مثل قولهم : إن

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) أي الاستعمال بمعنى العلّة.

(٣) المائدة : ٦.

(٤) أي اصطلاح الأصوليين.

(٥) المراد من ذلك البعض هو الشارح عميد الدّين في شرح «التهذيب».

(٦) إشارة الى ما هو في قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٨.

٣٩٠

كان هذا إنسانا كان حيوانا ، وليس عدمه معلّقا على عدمه ، ومنه قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

وهذا الاستعمال مبنيّ على قاعدة أهل الميزان حيث يجعلون هذا التركيب لبيان الدّليل على العلم بانتفاء المقدّم بسبب انتفاء التالي ، ويقولون : إنّ استثناء نقيض التالي ينتج رفع المقدّم بخلاف العكس (٢) ، يعني يعلم من انتفاء الحيوانيّة انتفاء الإنسانيّة ، ومن انتفاء الفساد انتفاء تعدّد الآلهة.

والثاني : ما يفيد تعليق عدم الجزاء على عدم الشرط أيضا مثل : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٣). فعدم التنجيس وجوده معلّق على وجود الكرّيّة وانتفاؤه معلّق على انتفائه ، وهذا هو مصطلح أهل العربيّة ومتعارف لسان أهل العرب ، فظاهر هذا الاستعمال كون الأوّل سببا للثاني ، والنظر إنّما هو الى ظاهر الحال مع قطع النظر عن نفس الأمر.

وما قيل (٤) : من أنّ الأوّل إذا كان سببا فلا يفيد انتفاؤه انتفاء المسبّب لجواز

__________________

(١) الانبياء : ٢٣.

(٢) يعني إنّ استثناء نقيض المقدم لا ينتج رفع التالي لجواز تحقق التالي بدون تحقق المقدم إذا كان التالي أعمّ ، فرفع المقدّم حينئذ ليس دليلا على العلم بانتفاء التالي ، نعم استثناء عين المقدم ينتج عين التالي ولا يمكن هنا أيضا. والحاصل كما هو في الحاشية مذكور انّ الاحتمالات المصوّرة في أمثال هذه التراكيب على قاعدة أصل الميزان أربعة : وضع كل ورفع كل ولكن المنتج منهما في كل قسم شيء واحد. وتفصيله إنّ وضع المقدم ينتج وضع التالي ورفع التالي ينتج رفع المقدم ، وأما وضع التالي فلا ينتج وضع المقدم ، ولا رفع المقدم رفع التالي.

(٣) «الاستبصار» : ١ / ٦ ح ١ ـ ٣ ، «الوسائل» : ١ / ١٥٨ ح ٣٩١ و ٣٩٢.

(٤) القائل هو ابن الحاجب وكلامه من الجمهور ، والجواب عنه مشهور فمن أراد الاطّلاع أو النظر فيه ، فعليه ببحث (لو) في «المطوّل» : ص ٣٣٣.

٣٩١

تعدّد الأسباب ، بل العكس أولى بالإذعان كما يشهد به قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ)(١).

ففيه أوّلا : أنّه ناشئ من الخلط بين الاصطلاحين.

وقوله : بل العكس أولى.

فيه : أنّ العكس هو كون انتفاء الثاني علّة لانتفاء الأوّل ، ولم يقل به أحد (٢) ، بل هو علّة للعلم بانتفاء الأوّل ، فلا وجه لهذا الكلام بظاهره.

وثانيا : أنّ المراد انحصار السّبب في الظّاهر.

وثالثا : أنّ الأصل عدم سبب آخر ، وإذا علم له سبب آخر فالسّبب هو أحدهما لا بعينه لا معيّنا.

ومن هذا الباب : «لو لا عليّ لهلك عمر» (٣) ، وقول الحماسي :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنّه لم يطر (٤)

فإنّ رفع المقدّم لا ينتج رفع التالي على قاعدة أهل الميزان ، وحينئذ يبقى

__________________

(١) الانبياء : ٢٣.

(٢) قال في الحاشية : يعني لا في مصطلح أهل العربية ومتعارف لسان العرب ولا في قاعدة أهل الميزان ، أما الأوّل فظاهر ، وأما الثاني فلما تقدم من أنّهم يقولون إنّ انتفاء الثاني دليل على العلم بانتفاء الأوّل ، فإنّ انتفاءه علّة لانتفاء الأوّل ، اللهم إلّا أن يكون مراد الحاجبي أيضا ذلك وأنّ كلامه على تقدير الحذف والاضمار ولهذا قال : فلا وجه لهذا الكلام بظاهره.

(٣) «ذخائر العقبى» : ٨٠ ، «مناقب الخوارزمي» : ٨١ ح ٦٥ ، «شرح نهج البلاغة» : ١ / ١٨ و ١٤١ ، «الرياض النضرة» : ٢ / ١٦٣.

(٤) فإنّ معناه عدم طيران تلك الفرس بسبب انّه لم يطر. وحافر قبلها دليل على عدم طيران تلك الفرس ، فإنّ رفع المقدم لا ينتج رفع التالي على قاعدة أهل الميزان قطعا.

٣٩٢

الإشكال في إطلاق الشرط على السّبب (١).

والظاهر أنّه (٢) لأنّ قولنا : مفهوم الشّرط حجّة ، معناه مفهوم الجملة الشرطيّة أي ما يقول له النحاة شرطا ، وهو الواقع بعد إن وأخواته معلّقا عليه حصول مضمون الجملة التي بعده كما هو محلّ نزاع الأصوليين ، كما يشهد به قولهم : الأمر المعلّق بكلمة إن عدم عند عدم شرطه ، ونحو ذلك ، لا إذا كان ذلك الواقع بعد إن وأخواته شرطا اصوليّا أيضا. فإنّ الواقع بعد هذه الحروف قد يكون شرطا وقد يكون سببا ، فكما يجوز أن يقال : إن قبضت في المجلس يصحّ الصّرف ، يجوز أن يقال : إذا غسلت ثوبك من البول فيطهر ، مع انّه إذا كان ذلك الواقع شرطا اصوليّا فلا معنى لكون انتفاء الحكم بانتفائه مفهوما له ، بل هو معنى الشرط نفسه.

فالحاصل ، أنّ حدوث تلك الهيئة (٣) يغيّره عن معناه ويصيّره سببا على الظاهر.

فقولهم : مفهوم الشّرط حجّة ، معناه أنّ ما يفهم من تلك الجملة الشرطيّة التي يسمّونها النحاة شرطا في محل السّكوت ، حجّة.

وبعبارة اخرى ، تعليق الحكم على شيء بكلمة إن وأخواتها ، يفيد انتفاء الحكم بانتفاء ذلك القيد بدلالة التزاميّة لفظية بيّنة ؛ فيكون حجّة ، سواء فهم منه الشرطيّة المصطلحة للأصوليّين أو السّببيّة ، فلا منافاة إذن بين الشرطيّة والسّببيّة لتغاير الموضوعين بالنظر الى الاصطلاح.

__________________

(١) للمنافاة بين الشرط والسبب ، إذ الشرط في مصطلحهم كما مرّ هو ما يستلزم انتفاؤه انتفاء المشروط به ولا يستلزم وجوده وجود المشروط ، والسبب هو ما يستلزم وجوده الوجود أيضا.

(٢) هذا دفع للإشكال ، والضمير في أنّه راجع الى قوله : اطلاق الشرط على السّبب.

(٣) وهي الهيئة الشرطية.

٣٩٣

فما يقال (١) : من أنّ قولنا : إن قبضت في المجلس يصحّ الصّرف. هو عبارة أخرى عن قولنا : شرط صحّة الصرف القبض في المجلس. والفرق هو الاسميّة والحرفيّة كالفرق بين من وإلى والابتداء والانتهاء إن أريد به الشرط الأصولي كما هو الظاهر ، فلا يتمّ ، إذ قد بيّنا أنّ الظّاهر من الجملة الشرطية على تقدير الحجّية ، وفهم انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، هو السببيّة كائنا ما كان ، فكيف يصير مساوقا للشرط الأصولي.

فحاصل قولنا : مفهوم الشرط حجّة ، أنّ مفهوم الجملة الشرطية سببيّته الأولى للثانية وإلّا لزم التناقض.

وإن أريد به معنى آخر مثل أن يقال : المراد بالشّرط هو ما علّق على انتفائه انتفاء شيء آخر وتوقّف وجود الآخر عليه ليشمل السّبب أيضا ، وإنّ الجملة الشرطية أيضا تفيد هذا المعنى ، فهذا وإن كان أوجه من سابقه ، لكنّه أيضا لا يتمّ ، لأنّ الجملة الشرطيّة أخصّ من هذا ، إذ لا تفيد إلّا السّببيّة.

الثالث : ما يكون شرطا لصدور الحكم عن القائل لا لثبوته في نفس الأمر مثل : إن نزل الثلج فالزّمان شتاء ، فإنّه قد لا ينزل الثّلج في الشتاء.

الثالثة :

قد أشرنا أنّ محل النزاع هو الجملة الواقعة عقيب ان وأخواتها ، فالظاهر أنّه لا فرق بين أدوات الشّرط وما دلّ على التعليق ، صريحا أو تضمّنا ، فالأسماء

__________________

(١) قيل انّ القائل بهذا هو صاحب «الفوائد» حيث جعل ذلك دليلا على حجّية مفهوم الشرط. على ما صرّح به الاستاذ في الدرس كما ذكر في الحاشية وبالتفحص مني لم أجد ذلك بلفظه في بحث مفهوم الشرط من «الفوائد» راجعه ص ١٨٣.

٣٩٤

المتضمّنة معنى الشّرط كالحروف ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(١). وموثّقة ابن بكير (٢) ناطقة بحجيّة مفهومها بالخصوص.

إذا تمهّد ذلك فنقول : ذهب الأكثرون (٣) الى أنّ تعليق الحكم على شيء بكلمة إن وأخواتها يدلّ على انتفاء ، الحكم عند انتفائه.

وذهب جماعة الى العدم (٤) ، والأوّل أقرب.

__________________

(١) النساء : ٢٥.

(٢) في «الكافي» برواية محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضّال عن ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا ينبغي أن يتزوّج الرّجل الحرّ المملوك اليوم إنّما كان ذلك حيث قال الله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ، والطّول المهر ، ومهر الحرّة اليوم مثل مهر الأمة وأقلّ». قال الشيخ : وهذه الأخبار كلها دالّة على انّ نكاح الأمة إنّما يكون شائعا مباحا مع فقد الطّول ، وأنّ مع وجوده يكون مكروها وإن كان ذلك غير مبطل للعقد لأنّ الخبر الأخير دلّ على ذلك من قوله : لا ينبغي. راجع «التهذيب» : ٧ / ٣٨٨ الباب ٩ العقود على الإماء ، و «الكافي» باب الحرّ يتزوّج الأمة.

(٣) وهو مختار أكثر المحقّقين كما في «المعالم» : ص ٢١٢ ، منهم الشيخين والفاضلين العلّامة وابنه فخر المحققين والسيدين بحر العلوم وصاحب «الرياض» والمدقق الشيرواني والشهيد الأوّل والبهائي وحكاه الشهيد الثاني على التفصيل في «التمهيد» : ص ١١٠ وحكاه البيضاوي وأبو الحسين البصري كما عن جماعة من الشافعية وابن شريح وأبو الحسين الكرخي وفخر الدّين الرّازي وأتباعه والحاجبي.

(٤) في «المعالم» : ص ٢١٢ : وذهب السيّد المرتضى الى أنّه لا يدل عليه إلّا بدليل منفصل ، وتبعه ابن زهرة ، وهو قول جماعة من العامّة ، وفي «هداية المسترشدين» : ٢ / ٤٢٤ وحكى القول به عن مالك وأبي حنيفة وأتباعه وأكثر المعتزلة وأبي عبد الله ـ

٣٩٥

لنا : إنّ المتبادر من قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، ان لم يجئك فلا يجب عليك إكرامه. لا ، لا تكرمه ، كما توهّم ، وهو علامة الحقيقة ، فإذا ثبت التبادر في العرف ثبت في الشرع واللّغة لأصالة عدم النقل.

وأمّا ما قيل (١) : معناه في العرف الشرط في : إكرامك إيّاه مجيئه إيّاك ، فليس على ما ينبغي.

وكذا ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في «التهذيب» (٢) حيث قال : الأمر المعلّق بكلمة ان ، يعدم عند عدم الشرط لأنّه ليس علّة لوجوده ولا مستلزما له ، فلو لم يستلزم العدم ، العدم خرج عن كونه شرطا ، ويؤدّي مؤدّاه (٣) كلام غيره أيضا.

وهذان الكلامان مبنيّان على الخلط بين اصطلاح النّحاة واصطلاح الأصوليّين في الشرط ، وقد عرفت أنّ المتبادر هو السّببيّة ظاهرا وإن كان مدخول إن بالذّات شرطا مع قطع النظر عن دخول إن ، فهذان الكلامان ناظران الى اعتبار لفظ الشرط ، والغفلة عن أنّ الشرط معناه في الأصول هو ما ذكره لا مطلقا ، ونحن لمّا أثبتنا التبادر لهذه الهيئة التركيبيّة فنقول : سائر الاستعمالات التي ذكرت كلّها مجازات ، لتبادر غيرها ولأنّه خير من الاشتراك.

فما يقال : من أنّها مستعملة في جميع هذه المعاني والاشتراك والمجاز كلاهما

__________________

ـ البصري والقاضيين أبي بكر وعبد الجبّار والآمدي واختاره من متأخري أصحابنا الشيخ الحرّ وغيره.

(١) الظاهر انّ هذا القائل هو صاحب «المعالم» : ص ٢١٣.

(٢) ص ١٠٠.

(٣) قال محمد بن عبد الصمد الأصفهاني في حاشيته : لم أظفر على غير العلّامة استند بما يؤدي هذا المؤدى.

٣٩٦

خلاف الأصل ، فلا بدّ أن يكون حقيقة في القدر المشترك ، وهو ما علّق عليه وجود المشروط ، لا وجه له بعد وضوح الدّليل.

هذا الكلام في الجملة الشرطيّة ، وأمّا لفظ الشرط فهو وإن كان خارجا عن محلّ النزاع ، لكن لمّا حصل الغفلة لبعض الفحول (١) هنا ، فخلط الاصطلاحات.

فتحقيق القول فيه ، أنّ المتبادر منه في العرف أحد من المعنيين.

أمّا ما يتوقّف عليه (٢) وجود شيء وينتفي بعدمه أعمّ من أن يكون وجوده علّة أم لا.

وأمّا معنى الإلزام والالتزام فلا وجه لحمله على المعنى الأصولي ، حيث ما ورد هذا.

واحتجّوا (٣) على حجّية مفهوم الشّرط أيضا : بأنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشّرط لكان التعليق لغوا يجب تنزيه كلام الحكيم عنه.

وفيه أوّلا : أنّ الخروج عن اللّغويّة لا ينحصر في اعتبار هذه الفائدة ، بل يكفي مطلقها ، وأصالة عدم الفائدة الأخرى لا تنفي احتمالها ، مع أنّ الغالب وجود الفوائد.

وثانيا : أنّ هذا لا يناسب القول بالحجّيّة ولا يوافق القول بالدلالة اللّفظية كما هو المعهود في هذا المقام (٤) في ألسنة القائلين بالحجّيّة ، فإنّ المعيار في أمثال هذه المقامات إثبات الحقيقة والتشبّث بأصالة الحقيقة ، ليكون قاعدة في اللّفظ

__________________

(١) كالعلّامة في «التهذيب» وصاحب «المعالم» ، وغيرهما حيث جعلوا الشّرط في اصطلاح العربية الذي هو عبارة عن الجملة الشرطية التي ظاهرها السببيّة بمعنى الشرط الأصولي ، وتصوروا أنّ اطلاق الشّرط على الجملة الشّرطية مبني على اصطلاح الأصولي ، والحال انّه مبني على اصطلاح العربية ، فخلطوا بين الاصطلاحين.

(٢) أي التلازم في الوجود والعدم.

(٣) والعمدة في هذا الاحتجاج المدقق الشيرواني عند قوله : الحق عندي في دلالة المفهوم انّه ليس من قبيل الدلالة الوضعية ، بل هو بالدلالة العقلية أشبه.

(٤) أي مقام المباحث اللّفظيّة دون المباحث العقلية وذكر أدلّتها.

٣٩٧

المخصوص ولا يخرج عن مقتضاه إلّا فيما دلّ دليل على خلافه من الخارج ، ولذلك يتمسّكون بالتبادر وفهم أهل اللّسان ، كما يستفاد من استدلالهم ببعض الأخبار (١) المذكورة في كتب الأصول.

وأمّا إثبات الكليّة اللّفظيّة من جهة الدلالة العقلية ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ موضع لم يظهر للشرط فائدة أخرى سوى ما ذكر ، فلا بدّ من حمله على إرادة ذلك ، فمع أنّ ذلك لا اختصاص له بحجّيّة المفاهيم فضلا عن خصوص مفهوم الشرط ، ولا يقتضي تأصيل أصل على حدة ، لحكم مفهوم الشرط أو مطلق المفهوم ، بل هو يجري في جميع المواضع ، وإنّه إنّما يتمّ لو وجد مقام لم يحتمل فائدة اخرى توجب الخروج عن اللغوية ، وهو ممنوع.

يرد عليه : أنّه يؤول النزاع حينئذ بين المثبت والمنكر الى تجويز اللّغو في كلام الحكيم وعدمه لو وجد مثل هذا الفرض ، ولا أظنّ أحدا من المنكرين يرضى بذلك ، بل الظاهر منهم أنّهم إنّما ينكرون وجود موضع لا يحتمل فائدة أخرى وانّ ذلك (٢) إثبات اللّغة بالعقل.

__________________

(١) كما روي أن يعلى بن أميّة سأل عمر بن الخطاب. فقال : ما بالنا نقصّر وقد أمنا وقد قال الله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ). فقال عمر : قد عجبت مما عجبت. فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تلك صدقة تصدق الله عليكم بها فاقبلوها. «سنن الدارمي» : ١ / ٣٥٤. وما روي انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه لما نزل قوله تعالى :(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأزيدنّ على السّبعين.«تفسير الكشّاف» : ٢ / ٢٩٤. وفي قوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) حكاية عن ابراهيم عليه‌السلام والله ما فعله كبيرهم وما كذب ابراهيم عليه‌السلام «تفسير القمي» : ٤٦ : إنّما قال فعله كبيرهم هذا إن نطق وإن لم ينطق فلم يفعل كبيرهم هذا شيئا.

(٢) عطف على قول : انّه يؤول النزاع ... الخ.

٣٩٨

وما يقال : من أنّ الاستقراء يحكم بأنّ كلّما وجد لفظ لا يتصوّر له فائدة سوى فائدة معيّنة ، فهو موضوع له ، فهو بمعزل عن التحقيق ، غاية الأمر استفادة كون المعنى مرادا من اللّفظ ، وأمّا كونه مدلولا بالدلالة اللّفظيّة ، فكلّا.

فإن قيل : إنّما نحن نقول بأنّ مفهوم الشرط حجّة ، إذا لم يظهر فائدة سوى انتفاء الحكم عند انتفائه ظهورا مساويا لها أو أزيد منها.

وبالجملة ، إذا كان هذه أظهر الفوائد ، لا إذا لم يحتمل فائدة اخرى أيضا.

قلنا : هذا أيضا لا يثبت الدلالة اللّفظية.

وأمّا العقليّة الحاصلة بسبب القرائن الخارجيّة ، فالظاهر أنّ المنكر أيضا يعترف بحجّيته ، ولكنّه لا يصير قاعدة كليّة بخصوص المقام كما هو مقتضى القواعد الأصوليّة (١). فالّذي يليق بقواعد الفنّ إثبات أظهريّتها من بين الفوائد مطلقا ، لا أنّه إذا كان أظهر الفوائد في موضع يكون حجّة في ذلك الموضع.

واحتجّ النافون : بأنّ تأثير الشرط هو تعليق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر ، ولا يخرج من أن يكون شرطا ، ألا ترى أنّ انضمام أحد الرجلين الى الآخر ، شرط في قبول شهادة الآخر وقد ينوب عنه انضمام امرأتين أو اليمين ، فلا يفيد تعليق الحكم بشرط انتفاء الحكم عند انتفائه لجواز ثبوت بدل له.

وظاهر هذا الاستدلال تسليم فهم السببيّة كما ذكرنا (٢) ، لكن المستدلّ به يتمسّك في نفي الحجّيّة باحتمال النائب ، فلا يكفي مجرّد تعليق الحكم بالشرط في

__________________

(١) من أنّ مجرّد الاستعمال لا يكشف عن الحقيقة الكليّة اللّفظية.

(٢) إنّ مجرّد إفادة الهيئة السببيّة لا يفيد كون انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما علّق عليه ، لإمكان أن يكون له بدل يقوم مقامه.

٣٩٩

نفي الحكم عند انتفائه ، وأنت خبير بأنّ الاحتمال لا يضرّ بالاستدلال بالظواهر ، وإلّا لانسدّ باب الاستدلال في الآيات والأخبار.

فنقول : فيما لم يثبت شرط آخر ولم يعلم تحقّق سبب آخر ، الأصل عدمه.

لا يقال : هذا ينافي ما ذكرت سابقا ، أنّ معنى حجّيّة المفهوم هو كون ذلك المعنى مدلولا للّفظ في محلّ السكوت ، وهذا ليس من قبيل دلالة اللّفظ ، اذ لا يتمّ ذلك إلّا بانضمام أصالة عدم تعدّد السّبب.

لأنّا نقول : التبادر يقتضي انحصار المدلول ، ويفيد تعيّن السببيّة في الظّاهر ، وذلك الاحتمال هو احتمال التجوّز في الكلام الذي يجري في جميع الألفاظ المستعملة في معانيها الحقيقية ، ولا يعتنى به أبدا ، وإلّا لما كان للتمسّك بأصل الحقيقة معنى ، وهو خلاف الإجماع ، وإن ثبت من دليل آخر وجود سبب آخر كالمثال المذكور ، فحينئذ نقول : الشرط أو السبب أحد المذكورات (١) كما أنّ الظّاهر من الأمر الوجوب العيني ، فإذا ورد أمران متضادّان في محلّ واحد ، نحملهما على التخيير ، وذلك لا يوجب خروج صيغة الأمر عن كونها حقيقة في العيني.

واحتجّوا أيضا : بقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(٢) ، فإنّه لا يجوز الإكراه مطلقا ، فلا يصحّ التعليق لو أريد به انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط.

__________________

(١) أي حين ان ثبت من دليل آخر وجود سبب آخر فالشرط والسبب هو أحد المذكورات ، فحينئذ كما انّ تحقق المسبب أو المشروط يتوقف على وجود أحد الشروط أو الأسباب ، فكذا انتفاؤه يتوقف على انتفاء جميعها ، لأنّ مفهوم أحدها لا يعدم إلا بعدم الجميع ، هذا كما في الحاشية.

(٢) النور : ٣٣.

٤٠٠