القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

أو لكون الشّرط منهيّا عنه لوصفه اللّازم أو المفارق أو غير ذلك من الاحتمالات مثل كون السّاتر غصبا في الصلاة ، والوضوء بالماء المتغيّر للصلاة ، وكالنهي عن الذّبح بغير الحديد في غير الضّرورة.

وأمّا المنهيّ عنه لوصفه الدّاخل ـ ويقال له الوصف اللّازم ـ كالجهر والإخفات للقراءة ، فإنّها لا تنفكّ عن أحدهما ، فالنّهي عن كلّ منهما نهي عن الوصف اللّازم ، والنّهي عن صوم يوم النّحر ، فكون الصوم في يوم النّحر من أوصافه اللّازمة ، وكبيع الحصاة (١) وهو أن يقول : بعتك ثوبا من هذه الأثواب ، والمبيع ما وقع عليه هذه الحصاة إذا رميت ، فإنّ النّهي عن ذلك البيع ، لوصفه الذي هو كون تعيين المبيع فيه بهذا النّهج ، وكالنّهي عن ذبح الذمّي (٢) ، وكالبيع المشتمل على الرّبا (٣).

وأمّا المنهيّ عنه لوصفه الخارج ؛ فهو مثل قوله : لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فإنّ كون الصلاة في الدّار الغصبيّة وصف خارج عن حقيقة الصلاة وليس من مقوّماتها ومميّزاتها.

نعم ، كونها في هذه الدّار من أحد مقوّماتها كالدّار الأخرى والمكان الآخر ، لكن اعتبار وصف كونها دار الغير وكونها غصبا ، لا مدخليّة له في ذلك.

والظاهر أنّ قوله : لا تصلّ متكتّفا ، أيضا مثل ذلك إذا لم يعلم قبل النّهي اعتبار هذا النوع من الوصف في الصلاة من الشارع وجودا ولا عدما ، فهو نهي عن وصف خارج

__________________

(١) كأن يقول بعتك من السّلع ما تقع حصاتك عليه إذا رميت بها ، وهو بيع كان في الجاهليّة.

(٢) كقوله عليه‌السلام : لا يذبح ضحاياك اليهود والنصارى ولا يذبحها إلّا المسلم. «الوسائل» : ٢٤ / ٥٨. وكقوله عليه‌السلام : لا تأكل ذبيحته ولا تشتر منه. «الوسائل» : ٢٤ / ٥٢.

(٣) كقوله عليه‌السلام : لا يكون الربا إلّا فيما يكال أو يوزن. «الوسائل» : ١٨ / ١٣٣.

٣٦١

أيضا ، وكالنّهي عن ذبح مال الغير ، وبيع العنب ليعمل خمرا ، وبيع تلقّي الرّكبان (١).

وأمّا المنهيّ عنه لشيء مفارق اتّحد معه في الوجود ، فكقول الشّارع : صلّ ولا تغصب ، والنّهي عن المكالمة مع الأجنبية وإجراء صيغة البيع معها على القول بكون المعاطاة بيعا ، وكالبيع وقت النداء إن قلنا بأنّ النّهي إنّما هو عن تفويت الجمعة وإلّا فهو من القسم الأوّل.

وأما المنهيّ عنه لشيء مفارق غير متّحد معه في الوجود فكالنهي عن النظر الى الأجنبيّة حال الصلاة أو البيع ، وهذان القسمان خارجان عن محلّ النزاع في هذه المسألة ، وذكرناهما تطفّلا ، وقد تقدّم الكلام في الأوّل منهما مستقصى ، وكلام القوم في تفصيل الأقسام والأمثلة مغشوشة مختلطة أعرضنا عن ذكره والكلام فيه ، وإنّما استوفيناها لذلك ، وإلّا فلا يتفاوت الحال بين تلك الأقسام في أكثر الأقوال الآتية (٢).

الرابعة :

اختلف الفقهاء والمتكلّمون في معنى الصحّة والفساد في العبادات ، فعند المتكلّمين هو موافقة الامتثال للشريعة ، وعند الفقهاء إسقاط القضاء ، وذكروا في ثمرة النزاع ما لو نذر أن يعطي من صلّى صلاة صحيحة درهما ، فهل يبرّ بأن أعطى من صلّى بظنّ الطهارة إذا ظهر له كونه فاقدا لها في نفس الأمر؟

فعلى الأوّل : نعم ، لأنّه موافق للشريعة ومطابق للامتثال بما أمر به الشارع في هذا الحال.

__________________

(١) يأتي في الشرح بعد صفحات خمس إن شاء الله.

(٢) كما في القول بعدم دلالة النهي على الفساد مطلقا أو في غير المنهي عنه لذاته ونحو ذلك لعدم القول بالتفصيل بينها.

٣٦٢

وعلى الثاني : لا ، لأنّه غير مسقط للقضاء ، فلو علم به بعد الصلاة يجب عليه القضاء.

وما يقال (١) : إنّه مسقط للقضاء بالنسبة الى هذا الأمر ـ أعني الأمر بالصلاة المظنون الطهارة ، وأنّ الذي لا يسقط قضاؤه هو الصلاة مع يقين الطهارة ـ فيمكن دفعه : بأنّ المراد إسقاط القضاء بالنسبة الى كلّيّ التكليف المحتمل وقوعه على وجوه متعدّدة ، بعضها مقدّم على بعض بحسب التمكّن والعجز ، وظنّ الطهارة ويقينها لا يؤثّران في وحدة صلاة الظهر بحسب النوع.

وقد يجاب (٢) : إنّ ذلك الاعتراض مبنيّ على كون القضاء تابعا للأداء ، وهو باطل.

وفيه ما لا يخفى ، إذ لا يمكن ثبوت القضاء لهذه الصلاة الواقعة بظنّ الطهارة بالفرض الجديد أيضا على المعنى المصطلح ، إلّا مع فوت هذه الصلاة أيضا ، فهي مسقطة للقضاء على القولين (٣).

والظاهر أنّ مراد الفقهاء إسقاط القضاء يقينا وفي نفس الأمر ، وإلّا فالصلاة بظنّ الطهارة أيضا مسقطة للقضاء ظنّا ، فلا بدّ على مذهبهم إمّا القول باختلاف وصف الفعل بالصحّة ، وبالفساد باعتبار زمان ظهور الخلاف وعدمه ، فيصحّ في آن دون آن يجعله مراعى ، فلا يوصف بالصحّة فيما لو ظنّ الطهارة ، إلّا إذا حصل اليقين ، أو بكونه

__________________

(١) قال في الحاشية : هنا اعتراض على القول في بيان الثمرة وعلى الثاني لا لأنّه غير مسقط للقضاء ، أي كيف تقول أنّه غير مسقط للقضاء ، فلا يصدق الصحيح على مذهب الفقهاء ، والحال أنّه مسقط للقضاء بالنسبة الى هذا الأمر الظاهري مع اشتباه الحال لحصول الامتثال به ، واتيان المأمور به بذلك الأمر. ودفع الاعتراض المذكور بما ذكره المصنف بعد قوله : ويمكن دفعه.

(٢) وهو للفاضل الجواد.

(٣) أي على القول بتبعيّة القضاء للأداء والقول بكونه بفرض جديد ، فلا يختصّ اسقاطها القضاء على القول الأوّل فقط كما ادّعاه المجيب.

٣٦٣

صحيحا ويحكم عليه بالصحّة الى أن ينكشف الفساد فيحكم بالفساد ، من أوّل الأمر.

وكلامهم في ذلك غير محرّر ، ولعلّ مرادهم هو الاحتمال الأخير (١).

ومراد المتكلّمين من موافقة الشريعة هو الموافقة ولو ظنّا ، وإلّا فالتكليف في نفس الأمر إنّما هو بالصلاة مع الوضوء الثابت في نفس الأمر ، وإنّما قام الظنّ بكون هذه الصلاة هي الصلاة مع الطهارة الثابتة في نفس الأمر مقام اليقين به بتجويز الشارع ، فلا منافاة بين موافقة الشريعة وثبوت القضاء مع كون القضاء إنّما يتحقّق بفوات الأداء ، لأنّ المكلّف يجوز له التعبّد بالظنّ ما دام غير متمكّن عن اليقين.

وعلى هذا ، فلا بدّ أن يكون مراد الفقهاء من القضاء هو الأعمّ من الإعادة ، فإنّ الإعادة واجبة على من حصل له العلم بعدم الوضوء بعد الصلاة في الوقت أيضا ، بل بطريق أولى. فما أسقط القضاء في تعريفهم ، كناية عن عدم اختلال المأمور به بحيث يوجب فعله ثانيا لو ثبت في الشريعة وجوب فعله ثانيا ، إمّا من جهة عدم حصول الامتثال ، فيجب إعادته مطلقا إن قلنا بكون القضاء تابعا للأداء أو ثبت بأمر جديد بالفعل خارج الوقت أيضا ، وفي الوقت فقط إن لم يكن كذلك.

وإمّا من جهة أمر جديد وإن حصل الامتثال ظاهرا. أو المراد من قولهم : ما أسقط القضاء ، هو ما أسقط القضاء إن فرض له قضاء ، فلا يرد النقض في عكس التعريف بصلاة العيد الصحيحة إن أريد بما أسقط القضاء في الحدّ هو ما ثبت له قضاء في الشريعة ، ولا في طرده بفاسدته إن أريد بما أسقط القضاء ما ثبت معه القضاء وإن كان من جهة عدم مشروعيّته القضاء.

وأمّا في العقود والإيقاعات ، فهي عبارة عن ترتّب الأثر الشرعي عليها ، كتملّك

__________________

(١) الاحتمال الثالث.

٣٦٤

العين في البيع وجواز التزويج بآخر في الطلاق ، ونحو ذلك ، وقد يعرف مطلق الصحّة بذلك (١) ولا بأس به ، وحينئذ فلا بدّ من بيان المراد من الأثر في العبادات عند الفقهاء وعند المتكلّمين بأنّه حصول الامتثال أو سقوط القضاء.

وأمّا البطلان ، فهو مقابل الصحّة ويعلم تعريفه بالمقايسة ، وهو مرادف للفساد ، خلافا للحنفيّة حيث يجعلون الفساد عبارة عمّا كان مشروعا بأصله دون وصفه ؛ كالبيع الرّبوي ، فيصحّحونه مع إسقاط الزيادة.

والبطلان عبارة عمّا لم يكن مشروعا بأصله ووصفه كبيع الملاقيح ، ومثّلوا للباطل بالصلاة في الدّار المغصوبة ، وللفاسد بصوم العيد ، ووجهه غير معلوم إلّا أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح وإن كان بناؤهم على تغيير الاصطلاح.

إذا تمهّد ذلك ، فنقول : الأقوال في المسألة خمسة

الأوّل : الدلالة على الفساد مطلقا (٢).

والثاني : عدمها مطلقا ، نقله فخر الدّين عن أكثر أصحابه ، [والأوّل عن بعضهم](٣) وهو مذهب جمهور الشافعيّة والحنابلة (٤).

__________________

(١) أي يعرف الصحة والفساد مطلقا سواء كانت من العبادات أو المعاملات بترتب الأمر الشرعي.

(٢) أي في العبادات والمعاملات شرعا ولغة «العدة» : ١ / ٢٦٠. ويلاحظ ان هذا القول في مقابل القول الثاني والتعميم الأوّل يمتاز عن القول الثالث وبالثاني عن الرابع وبكلا التعميمين عن الخامس.

(٣) أي نقل فخر الرازي القول الأوّل عن بعضهم انه يفسد الفساد والأكثر أنّه لا يفيده كما في «المحصول» : ٢ / ٤٤٥.

(٤) الدلالة على الفساد مطلقا هو مذهبهم كما نسبه الفاضل الخوانساري في تعليقات ـ

٣٦٥

والثالث : الدلالة في العبادات لا في المعاملات مطلقا ، وهو مذهب أكثر أصحابنا (١) وبعض العامّة (٢).

الرابع : الدلالة فيها شرعا لا لغة ، وهو مذهب السيّد رحمه‌الله (٣) وابن الحاجب.

والخامس : الدلالة في العبادات شرعا لا لغة ، وقد نسبه بعض الأصحاب (٤) الى أكثرهم ، والأقرب القول الثالث.

لنا على دلالته على الفساد في العبادات : أنّ المنهيّ عنه ليس بمأمور به فيكون فاسدا ، إذ الصحّة في العبادات هو موافقة الأمر ، ولا يمكن ذلك إلّا مع الامتثال ، وإذ لا أمر فلا امتثال.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يكن أمر أصلا ، ولكنّ الأمر موجود وهو الأمر بالعامّ فيكفي موافقة العمومات ، فالصلاة في الدّار المغصوبة وإن لم يكن مأمورا بها بالخصوص لكنّها مأمور بها بالعموم ، فثبت الصحة وهو موافقة الأمر ، بل وإسقاط القضاء أيضا ، لأنّ القضاء المصطلح لا يتحقّق إلّا مع فوات المأمور به كما مرّ الإشارة في مبحث دلالة الأمر على الإجزاء ، فلا مانع من كونها مأمورا بها ومنهيّا عنها من جهتين كما أشرنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

__________________

ـ شرح العضدي. وكذا الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ١٢٥ وزاد عليهم مالك وأبي حنيفة وأهل الظاهر كافة وجماعة من المتكلّمين.

(١) كالفاضلين والعميدي والسلطان وغيرهم. وفي «المعالم : ص ٢٥٠ : وهو مختار جماعة منهم المحقق والعلّامة وهو كذلك كما في «التهذيب» : ص ١٢١ ، و «المعارج» : ص ٧٧.

(٢) كأبي الحسين البصري وهو اختيار الفخر الرازي كما في «المحصول» : ٢ / ٤٤٩.

(٣) كما نقل في «المعالم» : ص ٢٥٠.

(٤) قيل الكاظمي.

٣٦٦

قلت : نعم ، لا يستحيل العقل ذلك ولا مانع أن يقول الشارع : صلّ ، و : لا تصل في الدّار المغصوبة ، ولكن لو صلّيت فيها لعاقبتك على إيقاعها فيها ، ولكنّك أتيت بمطلوبي ، ولا يدلّ اللّغة أيضا على خلافه ، ولم يثبت اصطلاح من الشارع فيه أيضا ، ولكنّ المتبادر في العرف من مثل ذلك التخصيص ، بمعنى أنّ هذا الفرد من العامّ خارج عن المطلوب ، والعرف إنّما هو المحكم لا إنّ المنهيّ عنه محض الصّفة دون الموصوف كما يقول الحنفيّة.

هذا في غير المنهيّ عنه لنفسه (١) ، وأمّا هو فالتخصيص فيه أظهر وأوضح ، لأنّ التخصيص فيه بالنسبة الى المكلّفين لا التكليف ، كما أشرنا (٢).

وأمّا النقض بالمعاملات (٣) ، بأنّ التجارة أيضا قد تكون واجبة وقد تكون مستحبّة ، ولا أقلّ من الإباحة ، ولا ريب في تضادّ الأحكام ، فلا بدّ فيه من التخصيص أيضا.

ففيه : أنّ منافاة الوجوب والاستحباب للتحريم لا تنافي صحّة المعاملات بمعنى ترتّب الأثر ، فالتجارة بالنسبة الى الوجوب والاستحباب من العبادات أو بطلانها من هذه الحيثيّة ، بمعنى عدم الثواب (٤) أو حصول العقاب لا ينافي صحّتها من جهة ترتّب الأثر ، وكذلك الكلام في الإباحة ، فإنّ منافاة التحريم معها لا تنافي ترتّب

__________________

(١) مثل صلاة الحائض والذي جعله المصنف من المنهي عنه لنفسه على ما مرّ وغيره مثل ، لا تصل في الدار المغصوبة ، فإنّ النهي فيه إنّما هو للنهي عن الوصف الخارج كما مرّ سابقا.

(٢) في أقسام المنهي عنه على ما مرّ.

(٣) هذا النقض من المدقّق الشيرواني وقيل من الشيرازي كما في الحاشية.

(٤) كما في النّهي التنزيهي.

٣٦٧

الأثر عليها ، وسيجيء تمام الكلام.

وأمّا عدم الدلالة على الفساد في المعاملات فلأنّ مدلول النّهي إنّما هو التحريم ، وهو لا ينافي الصحّة بمعنى ترتّب الأثر كما لا يخفى ، فيصحّ أن يقال : لا تبع بيع التلقّي (١) ، ولا بيع الملاقيح ، ونحو ذلك ، ولكنّك لو بعت لعصيت ، ولكن يصير الثّمن ملكا لك والمثمن ملكا للمشتري.

وما يقال : من أنّ التصريح بذلك قرينة للمجاز ، وأنّ الظاهر عن النّهي ليس بمراد.

ففيه : أنّ القرينة دافعة للمعنى الظاهر من اللّفظ ومناقضة له كما في (يرمي) بالنّسبة الى الأسد ، ولا مناقضة هنا ولا مدافعة كما لا يخفى ، فلم يدلّ على الفساد عقلا ولم يثبت دلالته من جانب الشرع أيضا كما سيجيء.

وأمّا اللّغة والعرف فكذلك أيضا ، لعدم دلالته على الفساد بأحد من الدلالات.أمّا الأوّلان فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم اللّزوم.

وقد يفصّل (٢) : بأنّ ما كان مقتضى الصحّة فيه من المعاملات منحصرا فيما

__________________

(١) الظاهر ان يقول لا تشتر بالتلقي إلّا أن يسري النهي الى القافلة الواردة أيضا من جهة الإعانة على المحرّم. والحاصل انّ أصل النهى هنا إنّما هو عن تلقي الركبان ، وظاهره الاشتراء منهم لا البيع لهم فالأولى أن يقال في المثال لا تشتر الآن بفرض تعلّق النهي على الركبان أيضا من جهة كون بيعهم حين التلقي إعانة على الإثم وهو شراء التلقي.

وهذا إذا لوحظ مطابقة ما ورد في الشرع لو جعل من باب المثال المطلق كما يظهر من قوله : فيصح أن يقال الخ. فلا إشكال حينئذ. أو المراد من البيع المبايعة أو انّه مصدر من المجهول او انّ البيع من الاضداد يطلق على الشراء أيضا كما نقل في كتب اللّغة هذا كما في الحاشية.

(٢) أي في الحكم على الفساد في المعاملات ، وقيل هذا التفصيل من الوحيد البهبهاني ـ

٣٦٨

يناقض التحريم ، فيدلّ على الفساد فيه دون غيره.

وتوضيحه : أنّ المعاملات ممّا لم يخترعه الشارع ، بل كانت ثابتة قبل الشرع ، فما جوّزه الشارع وقرّره وأمضاه فيترتّب عليه الآثار الشرعية ، سواء كان ذلك الأثر أيضا ثابتا قبل الشّرع أو وضعه الشّارع ، وما لم يجوّزه ، فلا يترتّب عليه الآثار الشرعية ، فإن كان تجويزه بلفظ يناقض التحريم ، مثل الحليّة والإباحة والوجوب ونحو ذلك كما في : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، و : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) ، المستثنى عن النّهي عن أكل المال بالباطل و : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٣) ونحوها. فالنّهي في أمثال ذلك يدلّ على الفساد ، لأنّ النّهي يدلّ على الحرمة ، فإذا كان بيع مخصوص حراما ، أو عقد مخصوص كذلك ، فلا يكون ذلك من جملة ما أحلّ الله ولا ممّا يجب الوفاء به لامتناع اجتماع الحرمة والحلّيّة ، والحرمة والوجوب ، فيخصّص عموم : أحلّ ، وأوفوا مثلا بذلك ، فيخرج عمّا يثبت له مقتضى الصحّة ، فيصير فاسدا من جهة رجوعه الى الأصل وهو عدم الدّليل على الصحّة ، وقد مرّ في المقدّمات أنّ عدم الدّليل على الصحّة هو الدليل على الفساد ، وما كان من جهة اخرى لا تناقض التحريم فلا يدلّ كما في قوله عليه‌السلام : «إذا التقى الختانان

__________________

ـ ولزيادة المعرفة راجع «الفوائد الحائرية» : ص ١٧٤ الفائدة الخامسة عشرة ، ويظهر من كلام صاحب «المدارك».

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) النساء : ٢٩.

(٣) المائدة : ١. (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مثال للحليّة ، ومثال الاباحة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) ومثال الوجوب قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

٣٦٩

وجب المهر» (١). فلا ينافي وجوب المهر للحرمة في حال الحيض ونحو ذلك.

وهذا إنّما يتمّ بناء على ما سلّمناه وحقّقناه من التنافي عرفا وانفهام التخصيص وإلّا فلا منافاة ولا استحالة في اعتبار الجهتين في غير ما كان المنهيّ عنه نفس المعاملة بعين ما مرّ.

ويشكل بأنّ انحصار المقتضي في البيع في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ) ونحوه ، ممنوع ، لم لا يكون المقتضي فيه مثل قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٢). وكذلك سائر العقود ، ولا يمكن التمسّك بأصالة تأخّر ذلك إذ الأصل في كلّ حادث التأخّر.

فإن قلت : لمّا كان الأصل في المعاملات الفساد ، كما مرّ في المقدّمات ، فهو يعاضد كون المقتضي ممّا يوجب الفساد ، لأنّ غاية الأمر تعارض الاحتمالين (٣) وتساقطهما.

قلت : لا تعارض بينهما ولا تناقض حتّى يوجب الترجيح ، والأصل إعمال الدليلين مع الإمكان ، فيخصّص النّهي عموم : (وَأَحَلَ) ، ويبقى مدلول قوله : «البيّعان بالخيار» بحاله مستلزما للّزوم بعد الافتراق وإن كان حراما ، وقلّما كان عقد من العقود يخلو عن مثل ذلك.

ثمّ إنّ ذلك المفصّل جعل ذلك عذرا للفقهاء ، حيث يستدلّون بالنّهي على الفساد في البيوع والأنكحة ردّا على من ادّعى إجماع العلماء على دلالة النهي على

__________________

(١) «الكافي» : ٦ / ١٠٩ ح ١ و ٢ ، «تهذيب الأحكام» : ٧ / ٤٦٤ ح ١٨٦١ ، «الوسائل» : ٢١ / ٣١٩ الحديث ٢٧١٨٣ و ٢٧٨٤.

(٢) «الكافي» : ٥ / ١٧٠ الحديث ٤ ، «تهذيب الأحكام» : ٧ / ٢٠ ح ٨٥ ، «الوسائل» : ١٨ / ٦ ح ٢٣٠١٣.

(٣) أي احتمال صدور قوله : البيّعان ... الخ بعد قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مع احتمال العكس.

٣٧٠

الفساد ، حيث يستدلّون في جميع الأعصار والأمصار بالنهي على الفساد (١).

وقال : إنّ ذلك الاستدلال إنّما هو في الموضع المذكور ، لا في كلّ موضع ، وأنت خبير بأنّ أكثر تلك الاستدلالات في البيع والنكاح ونحوهما ، وقد عرفت الحال. والتحقيق أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد فيها مطلقا ، ويحتاج ثبوت الفساد الى دليل من خارج ، من إجماع أو نصّ أو غير ذلك من القرائن الخارجيّة.

حجّة القول بالدلالة مطلقا في العبادات والمعاملات : أنّ العلماء كانوا يستدلّون به على الفساد في جميع الأعصار والأمصار (٢) من غير نكير.

وردّ : بأنّه إنّما يدلّ على الفساد شرعا.

والحقّ في الجواب : إنّ عمل العلماء ليس بحجّة إلّا أن يكون إجماعا (٣) وهو غير معلوم ، وإنّ الأمر يقتضي الصحّة والإجزاء ، والنّهي نقيضه ، والنّقيضان مقتضاهما نقيضان ، فالنّهي يقتضي الفساد الذي هو نقيض الصحّة.

وفيه مع عدم جريانه فيما ليس مقتضاها الأمر (٤) ، وأنّ أصل المقايسة باطلة (٥) ، لأنّ الأمر يقتضي الصحّة لأجل موافقته والامتثال به ، والفساد المستفاد

__________________

(١) وهو في «الوافية» : ص ١٠٣.

(٢) كما ذكر في «المعالم» : ص ٢٥١.

(٣) كذا في «المعالم» : ص ٢٥٢ ، وفي حاشية المازندراني على «المعالم» : ظاهره انّ هذا إجماع حقيقي ويمكن حمله على السّكوتي.

(٤) قال في الحاشية : هذا هو الوجه الأوّل من الأجوبة الأربعة حاصله أنّ الاستدلال المذكور مبنيّ على كون الصحّة هو مقتضى الأمر ، وهذا يتمّ في مقام كان الأمر موجودا فيه ، وأما إذا لم يكن هناك أمرا أصلا واثبت مقتضى الصحّة في نحو «البيّعان بالخيار» فلا يتمّ هذا الاستدلال.

(٥) عطف على قوله : من عدم جريانه ، وهذا هو الوجه الثاني من الأجوبة الأربعة.

٣٧١

من النّهي لو سلّم ، فإنّما هو لأجل مخالفته ، وتسليم التناقض أو حمل التناقض (١) في الاستدلال على مطلق التقابل ، إنّما تمنع (٢) كون مقتضى المتناقضين متناقضين أو متقابلين إذ قد يشتركان في لازم واحد (٣).

سلّمنا ، لكن نقيض قولنا : يقتضي الصحّة ، لا يقتضي الصحّة (٤) ، لا انّه يقتضي عدم الصحّة ، والذي يستلزم الفساد هو الثاني ومقتضى الدّليل هو الأوّل (٥).

حجّة القول بالدلالة مطلقا شرعا فقط (٦) : استدلال العلماء كما مرّ ، ومرّ جوابه (٧) ، مع أنّ ذلك لا يستلزم كونه من جهة الشرع ، فلا وجه للتخصيص ، وإدّعاء الحقيقة الشرعية في الفساد كما يظهر من بعضهم أيضا في معرض المنع.

__________________

(١) عطف على قوله : من عدم جريانه وهذا هو الوجه الثالث من الأربعة.

(٢) وهو الوجه الرابع من الأجوبة الأربعة.

(٣) كالطهر والحيض بالنظر الى العدة مثلا.

(٤) قال السيد علي القزويني في حاشيته قوله : لكن نقيض قولنا يقتضي الصحة لا يقتضي الصحّة : هذه مغالطة واضحة لأنّ اقتضاء المقتضى ليس جزء في مقتضاه حتى يعتبر التناقض بين الاقتضاء وعدم الاقتضاء ، والمذكور في عبارة الدليل كون نفس الصحة يقتضي الأمر ونفس الفساد يقتضي النهي لا اقتضاء الصحة واقتضاء الفساد ، فكما أنّ الدلالة ليست جزء في في المدلول فكذلك الاقتضاء ليس جزء في المقتضي ، فالأمر والنهي يتشاركان في الاقتضاء ويتفارقان في المقتضي الذي هو الصحة في الأوّل وعدم الصحة في الثاني.

(٥) قال في الحاشية : ومقتضى الدليل هو الأوّل ... الخ أي لا يقتضي الصحة ولا ريب أنّه لا يلزم منه الفساد لكونه أعم منه ، والعام لا يدل على الخاص وحينئذ فالنهي لا يدل على صحة المنهي عنه ولا على فساده ويتوقف فهم أحدهما على دليل آخر.

(٦) لا لغة كما يأتي.

(٧) حيث قال : إنّ عمل العلماء ليس بحجّة إلّا أن يكون إجماعا وهو غير معلوم.

٣٧٢

احتجّوا أيضا : بأنّه لو لم يفسد ، لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النّهي ، ومن ثبوته حكمة يدلّ عليها الصحّة ، واللّازم باطل لأنّ الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا ، وكان الفعل وعدمه متساويين فيمتنع النّهي عنه لخلوّه عن الحكمة ، وإن كانت حكمة النّهي مرجوحة فهو أولى بالامتناع ، لأنّه مفوّت للزائد من مصلحة الصحّة ، وهو مصلحة خالصة إذ لا معارض لها من جانب الفساد كما هو المفروض ، وإن كانت راجحة ، فالصحّة ممتنعة لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات قدر الرّجحان من مصلحة النّهي ، وهو مصلحة خالصة لا يعارضها شيء من مصلحة الصحّة.

وجوابه : أنّ كون مصلحة أصل النّهي راجحة لا يقتضي مرجوحيّة ترتّب الأثر بالنسبة الى عدمه ، فترك الفعل أوّلا راجح على فعله ، أمّا لو فعل وعصى ، فترتّب الأثر عليه راجح على عدمه ، ولا منافاة بينهما أصلا ، إذ رجحان النّهي إنّما هو على الفعل ، ورجحان الترتّب إنّما هو على عدم الترتّب ، وهاتان المصلحتان (١) ثابتتان للنهي ، وترتّب الأثر بالذّات لا انّه يعرض مصلحة الترتّب بعد اختيار الفعل كما توهّم المدقّق الشيرازي.

وقد يستدلّ (٢) : بما ورد في بعض الأخبار (٣) ، من صحّة عقد المملوك إذا كان بغير إذن مولاه ثمّ رضي به ، معلّلا بأنّه لم يعص الله تعالى ، بل عصى سيّده ، فإنّه يدلّ على أنّه إذا كان فيه معصية بالنسبة إليه تعالى وكان منهيّا عنه ، فيكون فاسدا.

__________________

(١) أي مصلحة رجحان الترك على الفعل ورجحان ترتّب الأثر على عدمه.

(٢) القائل بالدلالة مطلقا شرعا فقط.

(٣) وهو ما رواه زرارة في الحسن قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ... إلخ. من لا يحضره الفقيه ـ باب المملوك يتزوّج بغير إذن سيده الحديث الأوّل.

٣٧٣

وفيه : أنّه على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد من المعصية في الرّواية لا بدّ أن يكون هو مجرّد عدم الإذن والرّخصة من الشّارع ، وإلّا فمخالفة السيّد أيضا معصية.

والحاصل ، أنّه لمّا كان في مثل هذا العقد إذن من الله تعالى من جهة العمومات وغيرها ممّا يدلّ على صحّة الفضولي بعد الإجازة ، فيصحّ ، وعدم إذن السيّد غير مضرّ.

وبالجملة ، المراد أن ليس العقد خاليا عن مقتضى الصحّة وإن كان معلّقا على إذن المولى أيضا.

واحتجّوا (١) على عدم الدّلالة لغة : بأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، ولا دلالة للنّهي على ذلك بوجه ، وهو مسلّم في المعاملات على ما حقّقناه ، وأمّا في العبادات فقد بيّناه ، ويشكل الجمع بين هذا الاحتجاج والاحتجاج السّابق (٢) ، لأنّ مقتضاه كون الفساد من مقتضيات التحريم ، وهو مدلول النّهي اللّغوي ، فكيف ينكر دلالته عليه لغة ، إلّا أن يكون مراد المستدلّ نفي الدّلالة اللّفظية ، والذي اقتضاه التحريم إنّما هو من باب الاستلزام العقليّ ، أو أنّه مبنيّ على القول بكون دلالة النّهي على التحريم أيضا شرعيّا فقط.

حجّة القول بعدم الدّلالة مطلقا : هو عدم استحالة النّهي ، ثمّ التصريح بالصحة كما مرّ. ويظهر الجواب ممّا مرّ.

وأمّا القول الخامس فلم نقف له على حجّة يعتدّ بها ، ويمكن استنباط دليله والجواب عنه ممّا تقدّم (٣).

__________________

(١) القائلون بالدلالة مطلقا شرعا.

(٢) والاحتجاج السّابق هو قوله : بأنّه لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي.

هذا في حاشية قال فيها : كما أفاد في الدرس.

(٣) وهناك قول سادس وهو نعم لغة في العبادات وشرعا في المعاملات ، ذكره في الحاشية.

٣٧٤

تذنيبات

الأوّل :

أنّهم اختلفوا في المنهيّ عنه لوصفه ، فذهب أبو حنيفة الى أنّه يرجع الى الوصف لا الموصوف ، فصوم يوم النّحر حسن لأنّه صوم ، وقبيح لأنّه في يوم النّحر.

ويلزمه القول بحلّيّة البيع الرّبوي والمبيع به بعد إسقاط الزّيادة.

والشافعيّ وأكثر المحقّقين على أنّه يرجع الى الموصوف أيضا ، وهو الحقّ بناء على ما حقّقناه من فهم العرف في التخصيص ، وإن كان العقل لا يحكم به.

ومناط من أرجع الكراهة الى الوصف في المناهي التنزيهية دون التحريميّة ، لعلّه هو ادّعاء الاستقراء ، وقد عرفت بطلانه (١).

الثاني :

المنهيّ عنه لشرطه إن كان من جهة فقدان الشرط ، فليس الفساد فيه من جهة النّهي ، بل إنّما هو لأنّ فقدان الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

وإن كان باعتبار حزازة في الشرط ، بأن يكون منهيّا عنه لوصفه أو لجزئه أو نحو ذلك ، فلا يتمّ الحكم بالفساد أيضا مطلقا.

وإن قلنا : بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ويكون النهي دالّا على الفساد في الجملة أيضا ، إذ قد يكون الشّرط من قبيل المعاملات ويكون وجوبه توصّليا ، كغسل الثوب والبدن ونحو ذلك ، ولا يضرّه كونه منهيّا عنه.

__________________

(١) وقد عرفت بطلان إدّعاء الاستقراء في القانون السّابق في مقابل من إدّعاه في العبادات المكروهة.

٣٧٥

نعم إنّما يصحّ فيما كان من قبيل العبادات كالوضوء.

وممّا ذكرنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي يظهر أنّ هذا الإشكال يجري في المنهيّ عنه لجزئه أيضا في الجملة ، فراجع وتأمّل.

الثالث :

أفرط أبو حنيفة وصاحباه (١) فقالا : بدلالة النّهي على الصحة ، وهو في غاية الظهور من البطلان ، لأنّ النّهي حقيقة في التحريم ، وليس ذلك عين الصّحة ولا مستلزما لها بوجه من الوجوه. والظاهر أنّهم أيضا لم يريدوا أنّ النهي يدلّ على الصحّة ، بل مرادهم أنّ النهي يستلزم إطلاق الإسم.

فقول الشارع : لا تصم يوم النّحر ، وللحائض : تصلّي ، يستلزم إطلاق الصوم على ذلك الصوم ، وكذلك الصلاة. والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وذلك مبنيّ على كون العبادات وما في معناها من المعاملات التي ثبت لها حدود وشرائط من الشارع أسامي للصحيحة منها ، فلو لم يكن مورد النّهي صحيحا لم يصدق تعلّق النّهي على أمر شرعي ، فيكون المنهيّ عنه مثل الإمساك والدعاء ونحو ذلك ، وهو باطل ، إذ نحن نجزم بأنّ المنهيّ عنه أمر شرعي.

وفيه : أوّلا منع كونها أسامي للصحيحة.

سلّمنا ، لكن المنهيّ عنه ليس الصلاة المقيّدة بكونها صلاة الحائض مثلا ، بل

__________________

(١) أراد بهما تلميذيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومعنى إفراطهم أي رغم أنّهم من القائلين بعدم دلالة النهي على الفساد فإنّهم تعدوا حتى أفرطوا فقالوا بدلالته على الصحة.

٣٧٦

المراد أنّ الحائض منهيّ عن مطلق الصلاة الصحيحة.

فإن قالوا : إنّ الحائض إمّا تتمكّن من الصلاة الجامعة للشرائط أو لا. والثاني باطل لاستلزامه طلب غير المقدور ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، واستمرار العدم مع عدم القدرة على الإيجاد لا يجدي في مقدوريّتها (١) فتعيّن الأوّل ، والنّهي لا يدلّ على الفساد ، فهي باقية على صحّتها.

قلنا : نختار الأوّل ونقول : إنّها متمكّنة عن الصلاة الصحيحة الشرعية في الجملة وإن لم تكن صحيحة بالنسبة الى خصوص الحائض ، ولا ريب أنّ الصلاة الجامعة للشرائط غير عدم كونها فى أيام الحيض ، صحيحة بالنظر الى سائر المكلّفين ، وبالنظر إليها قبل تلك الأيّام وعدم تمكّنها من الصلاة الصحيحة بالنسبة الى نفسها ، وامتناعها عنها إنّما هو بهذا المنع ، والنهي وطلب ترك الممتنع بهذا المنع لا مانع منه ، مع أنّ قاعدتهم (٢) منقوضة بصلاة الحائض ونكاح المحارم اتّفاقا ، وتخصيص الدّليل القطعي ممّا لا يجوز ، وحمل المناهي (٣) الواردة عن صلاة الحائض على المنع اللّغويّ غلط لاستحباب الدّعاء لها بالاتّفاق ، وكذلك حمل النكاح على مجرّد الدخول ، ارتكاب خلاف ظاهر لا دليل عليه ، والله الهادي.

__________________

(١) أي مقدوريّة الأعدام.

(٢) أي قاعدة أبي حنيفة وصاحبيه.

(٣) يعني لو قال الخصم : بأنّ النهي في صلاة الحائض لم يتعلّق على معناها الشرعي وهو الأركان المخصوصة ، بل تعلّق بمعناه اللّغوي وهو الدعاء ، فلذا لا ينقض بها قاعدتنا من دلالة النهي على الصحّة عنه في صلاة الحائض فيما إذا دخل النهي على المعنى الشرعي لا اللّغوي. قلنا في جوابه : هذا غلط إذ كون المنهي عنه في صلاة الحائض هو الدعاء ينافي استحبابه لها اتفاقا ، هذا كما في الحاشية.

٣٧٧

الباب الثاني

في المحكم والمتشابه والمنطوق والمفهوم

وفيه مقصدان :

الأوّل :

في المحكم والمتشابه

قال العلّامة رحمه‌الله في «التهذيب» (١) : اللّفظ المفيد إن لم يحتمل غير معناه فهو : النصّ ، وهو الرّاجح المانع عن النقيض.

وإن احتمل وكان راجحا فهو : الظّاهر.

والمشترك بينهما (٢) وهو مطلق الرّجحان : المحكم.

وإن تساويا فهو : المجمل.

ومرجوح الظّاهر : المأوّل.

والمشترك بينه وبين المجمل وهو نفي الرّجحان : المتشابه.

وفسّر الشارح العميدي المفيد بالدّال على المعنى بالوضع ، وزاد قيدا آخر وهو أن الاحتمال وعدم الاحتمال إنّما هو بالنظر الى اللّغة التي وقع بها التخاطب ، قال : وإنّما قيّدنا بذلك لأنّ اللّفظ قد يكون نصّا بالنظر الى لغة لعدم احتمال إرادة غير معناه بحسب تلك اللّغة ، ومجملا بالقياس الى لغة أخرى. ومثّل للظاهر بلفظ الأسد

__________________

(١) في الفصل الثالث في تقسيم الألفاظ : ص ٦٥.

(٢) أي بين النص والظاهر وهو مطلق الرّجحان سواء كان مانعا عن النقيض أم لا.

٣٧٨

وللمجمل بلفظ القرء ، ولم يمثّل للنصّ.

وقال شيخنا البهائي رحمه‌الله في «زبدته» (١) : اللّفظ إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فهو نصّ ، وإلّا فالرّاجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل ، والمساوي مجمل ، والمشترك بين الأوّلين محكم ، وبين الأخيرين متشابه.

ومثّل الشارح الجواد رحمه‌الله للنصّ بالسّماء والأرض ، وللظّاهر في أواخر الكتاب بالأسد والغائط ، والصلاة بالنسبة الى اللّغة والعرف والشرع على الترتيب.

وقال شيخنا البهائي في «الحاشية» (٢) على قوله : لغة : أي بحسب متفاهم اللّغة ، نحو : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٣).

فقوله : لغة ، قيد لقوله : لم يحتمل ، ويجوز أن يكون قيدا للفعلين معا (٤). أمّا جعله قيدا للأخير ـ أعني ـ يفهم دون الأوّل فلا ، لقيام الاحتمال العقلي في أكثر النصوص ، انتهى.

ثم مثّل في الحاشية (٥) أيضا للظاهر والمأوّل بقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(٦). فحملها على المسح ظاهر ، وعلى الغسل الخفيف ، كما فعله في

__________________

(١) ص ٥٥.

(٢) على «زبدته» : ص ٥٥.

(٣) البقرة : ٢٥٥ ، النساء : ١٧١ ، يونس : ٦٨ ، ابراهيم : ٢ ، طه : ٦.

(٤) قال في الحاشية : أحدهما لم يحتمل ، والثاني يفهم. ووجه كون لغة قيدا للفعلين ، إما من جهة كونها معمولا لأحدهما ومعمول الآخر محذوف من جهة القرينة أو من باب إعمال المتنازعين في معمول واحد بناء على قول الفرّاء.

(٥) على «زبدته» أيضا ص ٥٥.

(٦) المائدة : ٦.

٣٧٩

الكشّاف (١) مأوّل.

وظاهر كلام العميدي تخصيص هذا التقسيم بالدّال بالوضع لغة ، فلا يشمل المجازات ، وكلام غيره أعمّ ، وهو أقرب ، لأنّ المجازات أيضا تنقسم الى هذه الأقسام ، فإنّ القرائن قد تفيد القطع بالمراد وقد لا تفيد إلّا الظنّ ، وقد يكون مجملا.

ثمّ إنّ كلام القوم هنا لا يخلو عن إجمال ، فإنّ الفرق بين السماء والأرض والأسد بجعل الأوّلين نصا والثالث ظاهرا ، تحكّم بحت ، إذ احتمال التجوّز هو الدّاعي الى ظنّيّة الدّلالة وكون اللّفظ ظاهرا ، وهو قائم في السماء والأرض كما لا يخفى ، إذ ليس هذا التقسيم بالنظر الى الوضع الأفرادي (٢) ، فإنّ القطع فيه وعدم القطع ، إنّما هو من جهة ثبوت اللّغة بالتواتر والآحاد ، وبعد الثّبوت ، فالتقسيم إنّما هو بالنظر الى الوضع التركيبي وفي إفادة المراد من اللّفظ في الكلام المؤلّف كما لا يخفى ، فكما يجوز احتمال المجاز في إطلاق الأسد في قولك : رأيت أسدا بإرادة الرّجل الشجاع وينفى بأصالة الحقيقة ، فكذلك يجوز في قولك : انظر الى السماء وانظر الى الأرض ، بإرادة مطلق الفوق والتّحت كما لا يخفى. فالتمثيل بالسّماء والأرض كما وقع من الشارح الجواد ليس في محلّه ، ولعلّه غفل عن مراد شيخنا البهائي بتمثيله بقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٣) والفرق واضح (٤).

__________________

(١) ١ / ٦١١.

(٢) إذ إنّ لتقسيم اللّفظ الى القطعي وعدمه بالنظر الى الوضع الأفرادي مقام ، ولتقسيمه الى النص وغيره بالنظر الى الوضع التركيبي مقام آخر ، وكلامه إنّما هو في الثاني.

(٣) البقرة : ٢٥٥ ، النساء : ١٧١ ، يونس : ٦٨ ، ابراهيم : ٢ ، طه : ٦ ، الحج : ٦٤ ، سبأ : ١.

(٤) يعني الفرق بين التمثيل بالسماء والأرض كما هو للفاضل الجواد ، والتمثيل بقوله ـ

٣٨٠