القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

وأمّا على القول الآخر (١) ، فالاستحباب الغيريّ معناه أنّه يستحب أن يكون هذا الفعل في حال كون المكلّف مغتسلا ، لا انّه يستحبّ الغسل له ، إلّا أن يقال : استحباب الفعل في حال الغسل لا يتمّ إلّا بالغسل ، وما لا يتمّ المستحبّ إلّا به فهو مستحبّ ، فيستحبّ الغسل.

فالمناص هو اعتبار تعدّد الجهة وإلّا فلا يصحّ التكليف ، لأنّ المكلّف به على مذهب المجيب هو الفرد ، وهو شيء واحد شخصيّ لا تعدّد فيه أصلا.

ومن المواضع التي ذكرناها هو الصّلاة في المسجد ، فإنّ المستحبّ والواجب أيضا متضادّان ، وكذلك أفضل أفراد الواجب التخييري ، فإنّه واجب من حيث كونه فردا من الكلّي ، ومستحبّ من حيث الشّخص.

وما أدري ما يقول المجيب هنا قبالا لما ذكره في الفرد المرجوح ، اللهمّ إلّا أن يقول : الفرد الأفضل راجح بالنّسبة الى الفرد الآخر وإن كان فاقدا لذلك الرّجحان ، والمزيّة الموجودة في الأفضل بالنّظر الى أنّه أحد فردي المخيّر لا بالنسبة الى ذاته ، فحينئذ يخرج عن المقابلة.

ومنها : ما ورد في الأخبار الكثيرة وأفتى به الفقهاء من تداخل الأغسال الواجبة والمستحبّة ، وكذلك الوضوءات ونحو ذلك. واضطرب فيه كلام الأصحاب في توجيه هذا المقام ، وذهب كلّ منهم الى صوب ، والكلّ بعيد عن الصواب.

وأمّا على ما اخترناه فلا إشكال ، وقد بيّنّا ذلك في كتاب «مناهج الأحكام» (٢).

__________________

(١) بكون غسل الجنابة واجبا لنفسه ومستحبا لغيره.

(٢) وهو كتاب للمصنّف في الفقه.

٣٤١

الثالث : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فإنّا نقطع أنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنّهي عن الكون(١).

وأجيب عنه : بأنّ الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب بأيّ وجه اتّفق سلّمنا ، لكنّ المتعلّق فيه مختلف ، فإنّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة بخلاف الصلاة سلّمنا ، لكن نمنع كونه مطيعا والحال هذه ، ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا نعلم إرادة الخياطة كيفما اتّفقت (٢).

وفيه (٣) : أنّ هذا الكلام بظاهره مناقض لمطلب المجيب (٤) من تعلّق الحكم بخصوصيّة الفرد ، فإنّ إرادة الخياطة بأيّ وجه اتّفق ، هو معنى كون المطلوب هو الطبيعة.

وأيضا فإنّما الكلام في جواز اجتماع الأمر والنّهي في نفس الأمر عقلا وعدمه ، والظهور من اللّفظ لا يوجب جوازه إذا كان مستحيلا عقلا ، اللهمّ إلّا أن يقال : مراد المجيب ، أنّ وجوب الخياطة توصّليّ ، ولا مانع من اجتماعه مع الحرام ، وهذا معنى قوله : بأيّ وجه اتّفق.

وفيه : ما أشرنا من أنّ المحال وارد على مذهب المجيب في صورة الاجتماع ، توصّليّا كان الواجب أو غيره. نعم يصير الحرام مسقطا عن الواجب ، لا انّ الواحد يصير واجبا وحراما ، وليس مناط الاستدلال نفس الصحّة بأن يتمسّك بها في

__________________

(١) الوجه الأوّل فيما احتجّ فيه المخالف نقله في «المعالم» : ص ٢٤٧.

(٢) وهذا الجواب في «المعالم» : ص ٢٤٨.

(٣) جواب عن الايراد الأوّل.

(٤) وهو صاحب «المعالم».

٣٤٢

جواز الاجتماع حتّى يجاب بالانفكاك في التوصّلي ، ويقال بأنّه صحيح من أجل إسقاط الحرام ، ذلك لا لجواز الاجتماع ، فلا يدلّ مطلق الصّحة على جواز الاجتماع مطلقا ، بل مناطه أنّ الامتثال العرفيّ للأمر بنفسه شاهد على جواز الاجتماع.

وكلام المستدلّ من قوله : مطيع عاص من جهتي الأمر والنّهي ، صريح في أنّ حصول الإطاعة من جهة موافقة الأمر ، لا لأنّ الحرام مسقط عن الواجب. فلا فائدة في هذا الجواب (١).

وبالجملة ، فالقول باجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام على مذهب المجيب إنّما يصحّ إذا أريد به سقوط الواجب عنه بفعل الحرام.

وأمّا على المذهب المنصور ، فيصحّ بإرادة ذلك وإرادة حصول الإطاعة من جهة كونه من أفراد المأمور به في بعض الأحيان أيضا.

هذا كلّه مع ما ذكرنا من أنّ وجوب الفرد من باب المقدّمة ، فيكون هو أيضا توصّليّا ، سيّما ومحلّ البحث الذي هو الكون الذي هو جزء الصلاة ، وجوبه بالنسبة الى أصل الصلاة توصّليّ كما ذكرنا في مقدّمة الواجب.

نعم ، قد يحصل للجزء وجوب غيريّ أيضا كما أشرنا في ذلك المبحث ، وبسببه يختلف الحكم.

قوله (٢) : فإنّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة (٣).

فيه : أنّ إنكار كون تحريك الأصبع وإدخال الإبرة في الثّوب وإخراجه عنه ،

__________________

(١) وهو الجواب الذي قد ذكره بقوله : اللهم إلّا أن يقال ... الخ.

(٢) جواب عن الايراد الثاني.

(٣) وهذا الكلام لصاحب «المعالم» فيه ص ٢٤٨.

٣٤٣

جزء للخياطة ، والفرق بينه وبين حركات القيام والركوع والسجود مكابرة ، ولعلّه حمل الكون في كلام المستدلّ على خصوص الكون الذي هو من لوازم الجسم ، فإنّه هو الذي يمكن منع جزئيّته ، كما يمكن منع ذلك في الصلاة أيضا.

ولا ريب أنّ مراد المستدلّ المنع من جميع صور الكون في هذا المكان ، أو ما يشتمل عليه الخياطة لينطبق على مدّعاه.

قوله (١) : حيث لا نعلم إرادة الخياطة كيفما اتّفقت (٢).

فيه : أنّ أهل العرف قاطعون بأنّه ممتثل حينئذ ، ولو عاقبة المولى على عدم الامتثال من جهة الخياطة ، لذمّه العقلاء أشدّ الذّم ، ولكن لو عاقبه على الجلوس في المكان ، لم يتوجّه عليه ذمّ.

نعم ، لو علم أنّ مراده الخياطة في غير هذا المكان ، وأنّ الخياطة في هذا المكان ليست مطلوبة ، لكان لما ذكره وجه (٣).

وأمّا بمجرّد عدم العلم بإرادة الخياطة كيفما اتّفقت ، فمنع الامتثال بعد ملاحظة فهم العرف ، مكابرة ، ومع ذلك كلّه فذلك مناقشة في المثال. فلنمثّل بما ذكره بعض المدقّقين (٤) بأمر المولى عبده بمشي خمسين خطوة في كلّ يوم ، ونهاه عن الدّخول في الحرم ، فإذا مشى المقدار المذكور الى داخل الحرم ، يكون عاصيا مطيعا من الجهتين.

__________________

(١) جواب عن الايراد الثالث.

(٢) وهو لصاحب «المعالم» أيضا ص ٢٤٨.

(٣) قال في «التوضيح» : لا يخفى انّ هذا إنّما هو بملاحظة فهم العرف وإلّا فلا استحالة عقلا في كون المكلّف مطيعا وعاصيا هنا أيضا لجهتي الأمر والنهي. كذا أفاد سلمه الله في الدرس كما قال ، انتهى.

(٤) قيل إنه أراد به المدقّق الشيرواني.

٣٤٤

احتجّوا (١) : بأنّ الأمر طلب لإيجاد الفعل ، والنّهي طلب لعدمه ، فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع ، وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق ، إذ الامتناع إنّما نشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شيء واحد ، وذلك لا يندفع إلّا بتعدّد المتعلّق ، بحيث يعدّ في الواقع أمرين ، هذا مأمور به ، وذلك منهيّ عنه ، ومن البيّن أنّ التعدّد في الجهة لا يقتضي ذلك (٢) ، والكون الحاصل في الصّلاة في الدّار المغصوبة شيء واحد ويمتنع أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، فتعيّن بطلانها.

وأيضا ، كيف يجوز على الله تعالى أن يقول للمصلّي إذا أراد الصلاة في الدّار المغصوبة : لا تركع فإذا ركعت لعاقبتك ، ويقول أيضا : اركع هذا أو غيره وإلّا لعاقبتك.

أقول : ويظهر الجواب عن ذلك بالتأمّل فيما مرّ (٣) ، ونقول هاهنا أيضا.

قوله : فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع إن أراد انّ الأمر بالصلاة من حيث إنّه هو هذا الفرد الذي بعينه هو الغصب ، والنهي عن الغصب الذي بعينه هو الكون الحاصل في الصلاة ممتنع الاجتماع ، فهو كما ذكره ، لكن الأمر والنّهي لم يردا إلّا مطلقين.

والحاصل ، أنّ جهتي الأمر والنّهي هنا تقييديّتان لا تعليليّتان (٤) كما أشار إليه

__________________

(١) القائلون بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ومنهم صاحب «المعالم».

(٢) وهذا الكلام إلى هنا في «المعالم» ص ٢٤٧ وما بعده أيضا له ولكن بتصرّف من المصنّف.

(٣) وهو تعلّق الأمر والنهي في الطبيعة لا بالفرد فلا قبح من طرف الأمر.

(٤) قال في الحاشية : قيل : انّ المراد من التقييديّة ما كان مكثّرا للموضوع ومنوّعا لمتعلّق الحكم بجعل الجهة قيدا فيه ، مثل أكرم العالم فلا تكرم الفاسق ، فإذا اجتمع العنوانان في محل واحد مثل زيد العالم الفاسق كانت الجهة تقييديّة. والمراد من التعليليّة ما كان علّة للحكم في موضوعه الواحد الشخصي ، مثل أكرم زيدا لأنّه عالم ولا تكرمه لأنّه ـ

٣٤٥

بعض المحقّقين (١) ، وما ذكره من عدم إجداء تعدّد الجهة ، ممنوع.

قوله (٢) : بحيث يعدّ في الواقع أمرين.

إن أراد بذلك لزوم تعدّدهما في الحسّ ، ففيه منع ظاهر.

وإن أراد مطلق التعدّد ، فلا ريب أنّهما متعدّدان ، ولم ينتف إحدى الحقيقيتين في الخارج بسبب اتّحاد الفرد ، ولم يصيرا شيئا ثالثا أيضا ، بل هما متغايران في الحقيقة متّحدان في نظر الحسّ في الخارج ، وذلك كاف في اختلاف المورد ، وقد عرفت ورودها في الشّرع في غاية الكثرة ، فإنّ الجنب الذي يغتسل يوم الجمعة غسلا واحدا عن الجنابة والجمعة ، يجوز ترك هذا الغسل له من حيث إنّه جمعة ، ولا يجوز تركه من حيث إنّه جنابة ، ولا تعدّد في الخارج في نظر الحسّ مطلقا.

وكذلك المكروهات وغيرها ممّا مرّ.

__________________

ـ فاسق. والحاصل ، أنّ مرجع كون الأمر والنهي تقييديّتين الى تعلّق الأحكام بالطبائع ، ومرجع كونها تعليليّتين الى تعلّقها بالأفراد ، ففي الأخير يمتنع اجتماع الأمر والنهي لأنّه أمريّ دون الأوّل لأنّه أمر مأموريّ.

(١) وهو سلطان العلماء في حاشيّته على «المعالم» ص ٢٩٢ ولربما من المناسب ذكره ما أفاده المحقق الداماد حيث قال في كتابه «السّبع والشداد» ص ٦٨ : إنّ الوجوب والحرمة من الأمور المتضادّة والحيثيّات المتقابلة بالذّات ، فلا يصحّ اجتماعهما في ذات فعل واحد بالشخص كهذا الكون في هذا المكان بحيثيّتين تعليليّتين لكونه جزءا من الصلاة المأمور بها ، وكونه تصرّفا عدوانيّا في الدار المغصوبة ، بل لا بدّ من اختلاف حيثيّتين تقييديّتين يجعل أوّلا نفس ذلك الكون الشخصي الموصوف بالوجوب والحرمة كونين ثمّ يعرض الوجوب الحرمة لهما من تلقاء الاستناد إلى تينك الحيثيّتين التقييديّتين. انتهى.

(٢) في «المعالم» : ص ٢٤٧.

٣٤٦

قوله : وأيضا كيف يجوز ... الخ.

قد عرفت أنّ الشارع لا يقول له : لا تركع ، ولا : اركع هذا ، أو غيره ، بل يقول : لا تغصب. ويقول : اركع ، ولا يقول : اركع هذا الرّكوع ، لما مرّ أنّ التخيير اللّازم باعتبار وجوب المقدّمة إنّما هو بالنسبة الى الأفراد المباحة.

نعم ذلك مسقط عن المباح كما أشرنا. والتكليف (١) الباقي في حال الفعل على تسليم تعلّقه حال الفعل إنّما هو بإتمام مطلق المكلّف به لا مع اعتبار الخصوصيّة وبشرطها ، فلا يرد أنّه يستلزم مطلوبية الفرد الخاص.

فإن قلت : إنّ الحكيم العالم بعواقب الامور ، المحيط بجميع أفراد المأمور به ، كيف يخفى عليه هذا الفرد ، فإذا كان عالما به فمقتضى الحكمة أنّه لا يريده ، فلا يكون من أفراد المأمور به ، فيكون باطلا.

قلت : لعلّ هذا البحث استدراك من أجل ما ذكرنا (٢) من كون دلالة الواجب على مقدّماته تبعيّا ومن باب الإشارة ، وإنّ محاورات الشّارع على طبق محاورات العرف ، والمعتبر في الدّلالة هو المقصود من اللّفظ ، وهو استدراك حسن.

__________________

(١) جواب عن سؤال مقدّر ، تقديره انّ التكليف الباقي بالفعل بعد الشروع فيه على القول ببقائه بعد الشروع الى الفراغ عنه ، وعدم سقوطه بمجرّد الشروع يستلزم مطلوبية هذه الصلاة بخصوصها المنهي عنها ، فعاد المحذور. وملخص الجواب انّ التكليف الباقي بعد الشّروع في هذه الصلاة إنّما هو باتمام مطلق الصلاة المأمور بها لا إنّه ينقلب التكليف بهذه الصلاة بقيد الخصوصية ، هذا كما في الحاشية.

(٢) ذكرناه في بحث المقدمة من أنّ دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدماته تبعيّة من باب الاشارة ، ومعناه انّ وجوب المقدّمات ليس مرادا من الخطاب ، والدلالة عليه ليست مقصودة ، بل هو لازم للمراد منه باللّزوم العقلي الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب وشيء آخر من القضايا العقلية.

٣٤٧

لكنّا نجيب عنه : بأنّ المأمور به إيجاب الطبيعة لا الفرد.

ولا نقول نحن : إنّ هذا الفرد ممّا أمر به الشارع ، وإيجاد الطبيعة لا يستلزم خصوصيّة هذا الفرد.

فإن قلت : نعم ، لكن لمّا رخّص الشارع في إيجاد الطبيعة مطلقا وأمرنا بإيجادها في ضمن الأفراد من باب المقدّمة ، فلا بدّ أن يكون إيجادها في ضمن هذا الفرد مستثنى من الإيجادات.

قلت كاشفا للحجاب عن وجه المطلوب ورافعا للنّقاب عن السرّ المحجوب : إنّه لا استحالة في أن يقول الحكيم : هذه الطبيعة مطلوبي ولا أرضى بإيجادها في ضمن هذا الفرد أيضا ، ولكن لو عصيتني وأوجدتها فيه ؛ لعاقبتك لما خالفتني في كيفيّة الإيجاد لا لأنّك لم توجد مطلوبي ، لأنّ ذلك الأمر المنهيّ عنه شيء خارج عن العبادة.

فهذا معنى مطلوبيّة الطبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد ، لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد ، فقد أسفر الصّبح وارتفع الظلام ، فإلى كم قلت وقلت.

ومن ذلك يظهر الجواب عن الإشكال في نيّة التقرّب ، لأنّ قصد التقرّب إنّما هو في الإتيان بالطبيعة لا بشرط ، الحاصلة في ضمن هذا الفرد ، لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد الخاصّ المنهيّ عنه (١).

ثم إنّ هاهنا تنبيهين :

الأوّل : أنّ مقتضى عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، عدم إمكان كون الشيء الواحد مطلوبا ومبغوضا.

__________________

(١) وقد ردّ على هذه المقالة بعد أن أظهر التعجّب من ذكرها المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ٣ / ٧٦.

٣٤٨

وأمّا اقتضاء ذلك تخصيص الأمر بالنّهي والحكم بالبطلان دون العكس ، فكلّا (١) ، فإنّ قول الشّارع : صلّ ، مطلق ، والأمر يقتضي الإجزاء في ضمن كلّ ما صدق عليه المأمور به كما مرّ.

وقوله : لا تغصب ، أيضا مطلق يقتضي حرمة كلّ ما صدق عليه أنّه غصب ، والقاعدة المبحوث عنها (٢) بعد استقرارها على عدم الجواز ، لا يقتضي إلّا لزوم إرجاع أحد العامّين الى الآخر ، فما وجه تخصيص الأمر والقول بالبطلان كما اختاروه ، بل لنا أن نقول : الغصب حرام ، إلّا إذا كان كونا من أكوان الصلاة ، كما تقول : الصلاة واجبة ، إلّا إذا كانت محصّلة للغصب.

ولذلك ذهب بعض المتأخرين (٣) الى الصحّة مع القول بعدم جواز الاجتماع في أصل المسألة ، ويؤيّده (٤) بعض الأخبار الدالّة على أنّ للناس من الأرض حقّا في الصلاة (٥) ، فلا بدّ من الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة.

وقد ذكروا في وجه ترجيح النّهي وجوها.

__________________

(١) هذا الردع إشارة الى أنّه ليس كذلك.

(٢) وهي قاعدة قبح اجتماع الأمر والنهي.

(٣) لأجل كون الأمر مخصّصا لعموم النهي ، ذهب بعض المتأخرين الى القول بصحة الصلاة مثلا إذا أوقعها المكلّف في الدّار الغصبي مع قوله جواز اجتماع الأمر والنهي.

وقيل : انّ هذا البعض هو الملا محمد هادي بن محمد صالح المازندراني وقيل : هو صاحب «الوافية» على ما في بعض الحواشي. راجع «الوافية» : ص ٩٧.

(٤) أي ويؤيد قول بعض المتأخرين.

(٥) ومثل قوله تعالى : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) الأعراف ١٢٨ ، وما ورد من أنّ الأرض مهر لفاطمة الزهراء عليها صلوات الله وسلامه. «كشف الغمّة» : ١ / ٤٧٢ ، «المختصر» : ص ١٣٣.

٣٤٩

منها : أنّ دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة.

وهو مطلقا ممنوع ، إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعيّن.

ومنها : أنّ النهي أقوى دلالة لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد ، بخلاف الأمر ، وقد مرّ ما يضعّفه في مبحث تكرار النّهي (١).

ومنها : ما يقال إنّ الاستقراء يقتضي ترجيح محتمل الحرمة على محتمل الوجوب ، كحرمة العبادة في أيّام الاستظهار والتجنّب عن الإناءين المشتبهين ، ونحو ذلك.

وفيه : أنّه لم يظهر أنّ هذا الحكم في أمثال ذلك لأجل ترجيح الحرمة على الوجوب ، بل لعلّه كان لدليل آخر ، مع أنّ الحرمة في الإناءين مقطوع بها بخلافه هنا ، بل يمكن القلب بأنّ الاجتناب عن النجاسة واجب ، وترك الوضوء حرام ، مع أنّ ذلك الاستقراء على فرض ثبوته ، لم يثبت حجّيته مع معارضته بأصل البراءة.

وكذلك ما دلّ من الأخبار على تغليب الحرام على الحلال معارض بما دلّ على أصل الإباحة (٢) فيما تعارض فيه النصّان.

__________________

(١) وهو المنع عن دلالة التكرار وترك جميع الأفراد في جميع الأوقات ، بل القدر المسلّم هو استلزامه انتفاء جميع الأفراد في الجملة وفي زمان يمكن فعله فيه ، وأما استلزامه لترك الجميع في الأوقات والأزمان فلا.

(٢) قال في الحاشية : الأنسب بما نحن فيه أن يقول تغليب الحرام على الواجب ، إذ الكلام في محتمل الحرمة مع الوجوب لا في محتمل الحرمة مع الاباحة. واعلم أنّ ما دلّ على تغليب الحرام على الإباحة أمور أحدها : الكتاب منه قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). نظرا الى انّ المشتبه بالحرام معرض للتهلكة. ثانيها : السنة منها قوله : لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. ثالثها : العقل لحكمه بوجوب دفع الضرر ـ

٣٥٠

وبالجملة ، فلا بدّ من مرجّح يطمئنّ إليه النفس ، ثمّ الحكم على مقتضاه بالصحّة أو البطلان.

الثاني : أنّ ما عنون به القانون ، هو الكلام في شيء ذي جهتين يمكن انفكاك كلّ منهما عن الآخر.

وأمّا ما يمكن الانفكاك عن أحدهما دون الآخر ، كقوله : صلّ ولا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فقد مرّت الإشارة الى جواز الاجتماع فيه عقلا ولغة وإن فهم العرف خلافه ، وسيجيء الكلام فيه.

وأمّا ما لا يمكن الانفكاك عن أحد الطرفين مثل من دخل دار غيره غصبا ففيه أقوال:

الأوّل : إنّه مأمور بالخروج وليس منهيّا عنه ولا معصية في الخروج.

والثاني : إنّه عاص لكن لم يتعلّق به النّهي عن الخروج.

والثالث : إنّه مأمور به ومنهيّ عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم (١) وأكثر أفاضل متأخّرينا (٢) ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو

__________________

ـ المحتمل. ألا ترى أنّ العقلاء يحترزون فيما لو أخبرهم صبيّ بوجود السّبع على طريقهم. وما دلّ على الاباحة أيضا أمور الأوّل : الكتاب منه قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها). والثاني : السّنة منها قوله عليه‌السلام : أيّما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. وقوله عليه‌السلام : كل شيء فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. الثالث : الاجماع المنقول في كلمات جماعة. الرابع : العقل لأنّه حاكم بقبح العقاب بلا بيان حكما قطعيا.

(١) راجع «مفتاح الكرامة» كتاب الصلاة ٣ / ٣٤٥.

(٢) في «الفصول» حكي عن القاضي وعزي ذلك أيضا إلى جماعة من أصحابنا.

٣٥١

وهو الأقرب (١) ، فإنّهما دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للجمع والتقييد ، إذ الموجب إمّا فهم العرف كما في العامّ والخاص المطلقين على ما أشرنا اليه وسنبيّنه ، أو العقل كما لو دخل في دار الغير سهوا ، فإنّ الأمر بالخروج والنّهي عنه موجب لتكليف ما لا يطاق ، فهو مأمور بالخروج لا غير.

وأمّا فيما نحن فيه ، فإنّه وإن كان يلزم تكليف ما لا يطاق أيضا ولكن لا دليل على استحالته إن كان الموجب هو سوء اختيار المكلّف ، كما يظهر من الفقهاء في كون المستطيع مكلّفا بالحجّ إذا أخّره اختيارا وإن فات استطاعته.

لا يقال : إنّ الخروج أخصّ من الغصب مطلقا (٢) ، وفهم العرف يقتضي الجمع بين العامّ والخاصّ إذا كانا مطلقين.

لإنّا نقول : إنّ الخروج ليس مورد الأمر من حيث هو خروج ، بل لأنّه تخلّص عن الغصب ، كما أنّ الكون في الدّار المغصوبة ليس حراما إلّا من جهة أنّه غصب ، والنسبة بين الخروج والغصب عموم من وجه.

والظاهر أنّ ذلك الأمر إنّما استفيد من جهة كونه من مقدمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ من الخروج. وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ، فإنّ الظاهر أنّ العامّ الذي أفراده الموجودة في الخارج منحصرة في الفرد

__________________

(١) أي القول الثالث الذي هو مذهب أبي هاشم وغيره هو الأقرب الى الصواب من القولين الأوّلين.

(٢) إذ لا يخفى عليك أنّ هذا خلاف العام والخاص المطلقين في مثل صلّ ولا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فإنّ المنهي عنه هنا أخصّ من المأمور به مطلقا ، ومقتضاه تقديم النّهي على الأمر وتخصيص الأمر به ، والأمر فيما نحن فيه على العكس ، فظهر أنّ هذا لو تمّ فإنّه لا يتم به القول الأوّل من الأقوال الثلاثة.

٣٥٢

بحسب العادة ، بل في نفس الأمر أيضا لا يخرج عن كونه عامّا في باب التعارض. فلو فرض ورود الأمر بالخروج أيضا بالخصوص ، فالظّاهر أنّه من جهة أنّه الفرد الغالب الوجود لإمكان التخلّص بوجه آخر ، إمّا بأن يحمله غيره على ظهره ويخرجه من دون اختياره ، أو غير ذلك.

فليضبط ذلك فإنّه فائدة جليلة لم أقف على تصريح بها في كلامهم.

وأمّا القول الأوّل ، فاختاره ابن الحاجب وموافقوه (١) ، مستدلّين بأنّه إذا تعيّن الخروج ، للأمر دون النّهي بدليل يدلّ عليه ، فالقطع بنفي المعصية عنه إذا خرج بما هو شرطه من السّرعة ، وسلوك أقرب الطرق وأقلّها ضررا ، إذ لا معصية بإيقاع المأمور به الذي لا نهي عنه.

وفيه : ما عرفت أنّه لا وجه لتخصيص النّهي بذلك الأمر ، فالنّهي باق بحاله ويلزمه حصول المعصية أيضا.

وأمّا القول الثاني (٢) ، فاختاره فخر الدّين الرّازي (٣) وقال : إنّ حكم المعصية

__________________

(١) القول الأوّل هو القول بأنّه مأمور بالخروج وليس منهيّا عنه ولا معصية في الخروج.

والمراد من موافقيه هو العضدي وغيره.

(٢) والقول الثاني هو القول بأنّه عاص لم يتعلّق به النهي عن الخروج ، ودليله استصحاب حكم المعصية عليه مع إيجابه الخروج.

(٣) محمّد بن عمر ابو عبد الله فخر الدين الرازي (٥٤٤ ـ ٦٠٦ ه‍) من كبار أئمة المتكلّمين الاشاعرة من الشافعية ومع غزارة علمه في الكلام كان يقول : من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز. له مصنفات كثيرة في علوم مختلفة منها : «المحصول في علم الاصول» وهو من عيون مراجع أصول الفقه ، وهو مختصر مستمد من كتابين لا يكاد مؤلفه يخرج عنهما غالبا احدهما «المستصفى» للغزالي والآخر «المعتمد» ـ

٣٥٣

عليه مستصحب مع إيجابه الخروج (١).

وفيه : أنّه لا معنى للمعصية إلّا في ترك المأمور به أو فعل المنهيّ عنه ، فإذ لا نهي ، فلا معصية ، مع أنّ النّهي أيضا مستصحب ، ولا وجه لتخصيصه كما مرّ.

ثم يمكن أن يقال على أصولنا (٢) : أنّ النزاع بين هذا القول وبين ما اخترناه لفظيّ ، إذ مبنى ما اخترناه من اجتماع الأمر والنّهي جعل التكليف من قبيل التكليف الابتلائي والتنبيه على استحقاق العقاب ، لا طلبا للتّرك في نفس الأمر ، مع علم الأمر بأنّه لا يمكن حصوله مع امتثال الأمر.

ومراد المنكر هو طلب حصول الترك في الخارج.

وقد يوجّه كلامه بوجه آخر بعيد.

__________________

ـ لأبي الحسين البصري. وقد اعتنى جماعة من دارسي كتاب «المحصول» هذا فاختصره البيضاوي في كتابه «منهاج الوصول الى علم الاصول» وقيل انّ الصحيح هو انّ البيضاوي لم يأخذ كتابه «المنهاج» هذا من «المحصول» مباشرة وإنّما اخذه من كتاب «الحاصل» لتاج الدين الأرموي الذي هو مختصر من «المحصول». ومن مصنفاته أيضا «المعالم في أصول الفقه» وعليه بعض الشروح.

(١) وعزاه في «الفصول» : ص ١٣٨ إليه أيضا.

(٢) معاشر العدلية من كون التكاليف الشرعية تابعة للمصالح الخفيّة كاشفة عنها كما في أوامر الطبيب للمريض ، لا خالية عنها بالمرّة وكانت جعليّة صرفة.

٣٥٤

قانون

اختلف الأصوليّون في دلالة النّهي على الفساد في العبادات والمعاملات على أقوال.

وتحقيق المقام يستدعي رسم مقدّمات :

الأولى :

المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحّتها الى النيّة.

وبعبارة أخرى ؛ ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، سواء لم يعلم المصلحة فيها أصلا ، أو علمت في الجملة ، واحتياجها الى النيّة وهو قصد الامتثال والتقرّب ، من جهة ذلك. فإنّ امتثال الأمر لا يحصل إلّا بقصد إطاعته في العرف والعادة ، والموافقة الاتفاقيّة لا تكفي.

نعم ، لو علم انحصار المصلحة في شيء خاصّ ، فبعد حصوله لا يبقى وجوب الامتثال لكونه لغوا فيسقط الموافقة الاتفاقيّة الإتيان بالفعل ثانيا ، لا انّ ذلك هو نفس الامتثال.

والمراد بالمعاملات هنا ما قابل ذلك ، أي ما لا يحتاج صحّتها الى النيّة ، سواء كان من الوجبات كغسل الثياب والأواني ، أو من العقود أو الإيقاعات ، فإنّ المصالح فيها واضحة لا يتوقّف حصولها على قصد الامتثال ، وإن لم يحصل الثواب في الواجبات وحصل العقاب في إتيانها وإتيان المعاملات على الطريق المحرّم ، ولذلك لا يكلّف من غسل ثوبه بماء مغصوب ، أو بإجبار غيره عليه أو بحصوله من مسلم دون اطّلاعه بإعادة الغسل ، وكذلك ترتّب الآثار على الأفعال

٣٥٥

المحرّمة في المعاملات كترتّب المهر والإرث والولد لمن دخل بزوجته في حال الحيض ، وغير ذلك.

الثانية :

الأصل (١) في العبادات والمعاملات هو الفساد ، لأنّ الأحكام الشرعية كلّها توقيفية ، ومنها الصحّة ، والأصل عدمها ، وعدمها يكفي في ثبوت الفساد ، وإن كان هو أيضا من الأحكام الشرعيّة ، لأنّ عدم الدليل دليل على العدم.

وأمّا استدلال بعض الفقهاء بأصالة الصحّة (٢) وأصالة الجواز في المعاملات ،

__________________

(١) والمراد من الأصل هنا هو الاستصحاب الذي هو أحد معانيه الأربعة المتداولة على ألسنتهم ، والمعنى انّ مطلق الأحكام طلبيّة كانت أو وضعيّة كلها توقيفية لا بد أن تتلقى من الشارع ، فما لم يدلّ دليل على ثبوتها ، الأصل عدمها ، لأنّ العدم السّابق الأزلي مستصحب الى ان يتلقى من الشارع ما يثبت به تلك الحوادث ، بل كلّما كان من موضوعات الأحكام وكان من قبيل العبادات كالصلاة والغسل ونحوهما فهو أيضا كنفس الأحكام ، فإنّها حقائق محدثة من الشارع لا يعلمها إلّا هو ، فلا بد أن يكون تعيينها من الشارع. نعم مما كان من قبيل المعاملات فيرجع فيه الى العرف واللّغة وأهل الخبرة كالبيع والأرش ونحوهما. فإذا عرفت حال مطلق الأحكام ظهر لك الحال في الصحة والفساد لكونها أيضا من الأحكام الوضعية ، وتحقيق معناهما في المقدمة الرابعة.

(٢) هذا دفع لما يمكن أن يقال إنّ القول بأنّ الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد ، منقوض باستدلال بعض الفقهاء بأصالة الصحة وأصالة الجواز في المعاملات. ويمكن لك مراجعة الفائدة الخامسة عشرة «في النهي عن المعاملات» من «الفوائد الحائريّة» : ص ١٧٣.

٣٥٦

فالظاهر أنّ مراده من الأصل العموم أو مطلق القاعدة (١) ، وإن كان مراده غير ذلك فهو سهو ، إلّا أن يراد به أصالة جواز إعطاء ماله بغيره وأخذ مال غيره مثلا لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم (٢) ، ولكنّ ذلك لا يفيد الصحة الشرعية بمعنى اللّزوم وترتّب الآثار.

وما يقال : إنّ الأصل في معاملات المسلمين الصحة (٣) فهو معنى آخر.

والمراد به إنّ ما تحقّق صحيحه عن فاسده في نفس الأمر ولم يعلم أنّ ما حصل في الخارج هل هو من الصحيح أو الفاسد ، فيحمل على الصحيح إذا صدر من مسلم ، لا بمعنى أنّ صحة أصل المعاملة تثبت بمجرّد فعل المسلم. فالمذبوح المحتمل كونه على الوجه المحرّم والمحلّل ، يحمل على المحلّل إذا صدر عن مسلم ، لا أنّ الأصل في الذّبح أن يكون صحيحا ، بل الأصل عدم التذكية والحرمة حتّى تثبت التذكية الصحيحة ، وصدوره عن المسلم قائم مقام ثبوت التذكية الصحيحة في نفس الأمر ، وهذا الأصل إجماعي مدلول عليه بالأدلّة المتينة القويمة ، مصرّح به في الأخبار الكثيرة.

الثالثة :

محلّ النزاع في هذا الأصل ، ما تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد عن الشارع له جهة صحة ثمّ ورد النّهي عن بعض أفراده أو خوطب به عامّة المكلّفين ثمّ استثنى عنه

__________________

(١) أي القاعدة المستنبطة من العقل أو النقل كما قالوا إنّ قاعدة ولاية الحاكم على الصغير تقتضي جواز نكاحه وطلاقه للحاكم.

(٢) «البحار» : ٢ / ٢٧٢ باب ٣٣ من أبواب العلم ح ٧.

(٣) وهذا دفع على قوله : الأصل من العبادات والمعاملات هو الفساد.

٣٥٧

بعضهم ، فمثل الإمساك ثلاثة أيام ، والقمار ونحو ذلك ليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ الكلام والنزاع في دلالة النّهي على الفساد وعدمه ، وما ذكر فاسد بالأصل ، لأنّ الأصل عدم الصحّة ، وأمّا الفساد فيدلّ عليه عدم الدّليل.

وممّا ذكرنا ، يظهر أنّ ما تقدّم من اجتماع الأمر والنّهي فيما كان بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه ، سواء اتّحدا في الوجود أم لا (١) ، أيضا خارج عن هذا الأصل ، ولذا أفرده القوم وأفردناه بالذّكر.

وبالجملة ، النزاع في هذا الأصل فيما كان بين المأمور به والمنهيّ عنه ، أو المأمور والمنهيّ عموم وخصوص مطلقا.

ثمّ اعلم أنّ النّهي المتعلّق بكلّ واحد من العبادات والمعاملات إمّا يتعلّق به لنفسه أو لجزئه أو لشرطه أو لوصفه الدّاخل أو لوصفه الخارج أو لشيء مفارق له متّحد معه في الوجود أو لشيء مفارق غير متّحد في الوجود.

والمراد بالمتعلّق به لنفسه ، أن يكون المنهيّ عنه طبيعة تلك العبادة أو المعاملة ، مع قطع النظر عن الأفراد والعوارض والأوصاف كالزّمان والمكان وغير ذلك.

مثاله النّهي عن صلاة الحائض وصومها ونحو ذلك.

لا يقال (٢) : أنّ النّهي هنا تعلّق بالصلاة باعتبار وقوعها حال الحيض ، فالمنهيّ

__________________

(١) اتحدا في الوجود أم لا ، فالأوّل : نحو صلّ ولا تغصب إذا وقعت الصلاة في الدار المغصوبة ، لأنّ الكون فيها عين الغصب والصلاة فيتحدان. والثاني : نحو صلّ ولا تنظر الى الأجنبيّة إذا وقعت الصلاة في حالة النظر الى الأجنبيّة ، لأنّ النظر إليها غير الصلاة فلا يتحدان.

(٢) رد على الفاضل الخوانساري في تعليقات «شرح العضدي» ويؤيده ما قيل ، ومن الشيرواني في بحث إفادة النهي للتكرار بعنوان قول المصنّف أي صاحب «المعالم».

٣٥٨

عنه هو الصلاة الكائنة في حال الحيض ، فالنهي إنّما تعلّق بها لوصفها.

ويؤيّده (١) ما قيل : إنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على المادة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها. فقولنا : زيد أعلم من عمرو في الهيئة ، و : عمرو أعلم من زيد في الطبّ ، معناه أنّ علم الهيئة في زيد أكثر من عمرو ، وعلم الطبّ في عمرو أكثر من زيد.

وبذلك يندفع ما أورد على قولهم : إنّ صيغة التفضيل تقتضي الزّيادة في أصل الفعل ، مع قطع النظر عن الأفراد من أنّه يلزم أن يرجع العقل عمّا فهمه أوّلا في مثل ذلك المثال (٢) ، فيكون معنى قولنا : لا تصلّ الحائض ، انّ الصلاة الحاصلة في حال الحيض منهيّ عنها ، فيكون المنهيّ عنه لنفسه منحصرا في مثل المثالين المتقدّمين (٣). لأنّا نقول : إنّ الحيض من مشخّصات الموضوع لا المحمول (٤) ، وما ذكر في التأييد من جعل القيود من متعلّقات المادة ، ممنوع.

سلّمنا عدم كونه قيدا للموضوع لم لا يكون من قيود الحكم والنسبة الحكميّة (٥).

فإن سلّمنا كون القضية عرفيّة عامّة (٦) بأن يكون المراد : الحائض منهيّة عن الصلاة ما دامت حائضا ، فليس معناها أنّها منهيّة عن الصلاة الكائنة في حال

__________________

(١) ويؤيد الإيراد المذكور بقوله : لا يقال ... الخ.

(٢) أي مثال زيد أعلم من عمرو في الهيئة وعمرو أعلم من زيد في الطب.

(٣) الامساك ثلاثة أيام والقمار.

(٤) والمراد من الموضوع هو المنهي ، والمحمول هو المنهي عنه ، والمعنى انّ الحائض حال كونها حائض منهيّة عن نفس الصلاة ، لا إنّ الصلاة الحاصلة في حال الحيض منهيّة عنها.

(٥) لا يخفى انّ المعنى بأنّ حكم حرمة الصلاة على الحائض إنّما هو في حال الحيض.

(٦) كون قضية النهي أعني لا تصلّ الحائض عرفيّة عامة وهي ما حكم فيها بدوام النسبة ما دام الوصف العنواني ثابتا لذات الموضوع.

٣٥٩

الحيض ، بل المراد أنّها منهيّة في حال الحيض عن الصلاة.

والحاصل ، أنّ المنهيّ عنه لنفسه إنّما هو بعد ملاحظة حال المكلّف لا مطلقا ، فالطاهر مكلّف بالصلاة ، والحائض منهيّة عنها.

وأمّا ما وقع النّهي عنه مع قطع النظر عن ملاحظة حال المكلّف أيضا كالإمساك ثلاثة أيّام فيما هو في صورة العبادة ، والزّنا والقمار فيما هو في صورة المعاملة ، فهو خارج عن محلّ النزاع كما ذكرنا.

وأمّا المعاملة المنهيّ عنها لنفسها ، فمثل نكاح الخامسة لمن عنده أربع ، وبيع العبد والسفيه ، ونحو ذلك ، ويظهر وجهه ممّا تقدم في صلاة الحائض.

وأمّا المنهيّ عنه لجزئه فكالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة ، وكبيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع هو نفس الإيجاب والقبول الناقلين للملك.

وأمّا على القول الآخر فالأمثلة كثيرة (١) واضحة.

والنّهي عن الجزء أيضا يحتمل أن يكون لنفسه أو لجزئه أو لشرطه ، الى آخر الاحتمالات ، ويظهر حكمها بملاحظة أحكام أصل الأقسام ، وكذلك الشّرط.

وأمّا المنهيّ عنه لشرطه ، فإمّا بأن يكون لفقدان الشرط كالصلاة بلا طهارة وبيع الملاقيح (٢) ، فإنّ القدرة على التسليم حال البيع شرطه ، وهو مفقود فيه.

__________________

(١) ولعلّ المراد من القول الآخر هو كون البيع عبارة عن نقل الملك من مالك الى آخر بعوض معلوم ، ومن الأمثلة على هذا القول ما إذا كان المبيع الذي هو جزء البيع خمرا أو خنزيرا أو دما أو أبوال ما لا يؤكل لحمه وأمثال ذلك.

(٢) جمع الملقحة أو الملقوح عبارة عما في بطون الامهات من الأولاد ، فإذا قيل لا تبع الملاقيح يكون البيع منهيّا عنه لشرطه إذ من شرائطه القدرة على تسليمه وقت البيع وهو هنا مفقود ، وكذلك إذا قيل لا تبع المضامين أي ما في أصلاب الفحول.

٣٦٠