القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

معك فأدخل تحت قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).

ولمّا رغب السّلطان وقرّر تزويج ابنته من ابن الميرزا القمي وهو الولد الذّكر الوحيد له ، حاول الميرزا أن يكون حائلا من تحقّق هذا الزّواج خوفا منه على دين ابنه أن يستدرج الى البلاط الملكي فيورطونه في مظالمهم ، ولمّا كانت محاولاته تلك لم تفلح لأجل عزم السّلطان وإصراره على ذلك ، مما جعل الميرزا يتضرّع الى الله سبحانه وتعالى والطلب منه تعالى أن يقبض روح ابنه قبل التورّط معهم ، وبعد اتمام الدّعاء مات ابن الميرزا غريقا.

وفيما يحدّث عن جدّه واجتهاده في تحصيله للعلم ، انّه كان يضع على السّراج طاسة أمامه ، فإذا غلبه النوم ووضع يده على الطاسة نام فقط بمقدار ما تسخّن الطاسة ، بعد ذلك لا يطيق وضع يده عليها فينتبه.

ويظهر لي من خلال تتبعي لكلماته في «قوانينه» ونقله لكلمات الآخرين ، أنّه كان حافظا لكثير من الأقوال استظهارا ، وفي أثناء تصنيفه للكتاب المذكور كان يذكرها فيقولها او يكتبها من دون أن يعود الى كتاب.

في تصانيفه :

وهي هامة وكثيرة وفي علوم شتى وفنون متعدّدة بالعربية والفارسية.

منها : «القوانين المحكمة في الأصول» وفرغ منه في سنة ١٢٠٥ كما في «الذريعة».

«حاشية في الأصول شرح على شرح المختصر» ، لأنّ الحاجب العضدي شرح تهذيب العلّامة في الأصول.

«غنائم الأيّام فيما يتعلّق بالحلال والحرام» في الفقه الاستدلالي في قسم العبادات.

٢١

«مناهج الأحكام» فقهي في الطهارة والصلاة وكثير من أبواب المعاملات.

«جامع الشتات في أجوبة المسائل» ويعبرون عنه بكتاب سؤال وجواب ، مرتب على أبواب الفقه ، وهو كتاب مهم ونفيس ومفيد لكل فقيه وأكثره (بالفارسية).

«معين الخواص» في فقه العبادات مختصر (بالعربية).

«مرشد العوام [العوالم] لتقليد أولي الأفهام» مختصر (بالفارسية).

«رسالة في الأصول الخمسة الاعتقادية والعقائد الحقة الاسلامية» (بالفارسية).

«رسالة في قاعدة التسامح في أدلّة السّنن والكراهة».

«رسالة في جواز القضاء والتحليف بتقليد المجتهد».

«رسالة في عموم حرمة الرّبا لسائر عقود المعاوضات».

«رسالة في الفرائض والمواريث» (مبسوط).

«رسالة في حكم الغناء»

«رسالة في القضاء والشهادات» (مبسوط).

«رسالة في الطلاق».

«رسالة في الوقف».

«منظومة في المعاني والبيان».

«تعليقة على شرح جد والد صاحب «روضات الجنّات» لعبارة شرح «اللمعة» في صلاة الجماعة».

«رسالة في الرّد على الصوفية الغلاة».

«رسالة في الشروط الفاسدة في البيع».

٢٢

كتابة مفصلة ذات فوائد أرسلها من النجف الاشرف.

«مجموعة نصائح ومواعظ» (رسالة مفصّلة الى فتحعلي شاه).

«حاشية على قوانين الأصول».

«ديوان شعر» بالفارسية والعربية يقارب خمسة آلاف بيت.

وقيل وجد بخطه ما يدل على أنّه كتب أكثر من ألف رسالة في مسائل شتى من العلوم. وهناك رسائل كثيرة وقد طبعت بعضها أخيرا في خراسان بعد أن جمعت في مجلّدات.

وبعد عمر طواه وأمضاه بالعبادة بالطّاعة رحل الى رحمة الله تعالى في مدينة قم المقدسة عام ١٢٣١ ه‍. ق ، وأرّخ في مادة تاريخية : (از اين جهان به جنان صاحب قوانين رفت) ودفن في مقبرة تعرف ب : (شيخان) قريب الحرم المطهّر للسيدة فاطمة المعصومة عليها‌السلام وعلى آبائها الطاهرين.

٢٣

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي هدانا الى اصول الفروع وفروع الاصول (١) ، وأرشدنا الى شرائع (٢) الأحكام بمتابعة الكتاب وسنّة الرّسول ، وقفّاهما (٣) ببيان أهل الذّكر

__________________

(١) ويسمى هذا الأسلوب في الابتداء ببراعة الاستهلال. والظاهر انّ قصده بأصول الفروع علم أصول الفقه ، وبفروع الأصول فروع الدين كالصلاة والصيام والحج والزكاة وبقية الفروع وأحكامها التي تستفاد وتبنى من الأصول الاجتهادية كالكتاب والسنة والعقل والاجماع أو الاصول العملية كالبراءة والاستصحاب والاحتياط والتخيير.

(٢) جمع شريعة ، والشّرع مصدر جعل اسما لنهج الطريق الواضح فقيل له : شرع وشرع وشريعة. قال بعضهم : سمّيت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إنّ من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة روي وتطهّر. قال : وأعني بالريّ ما قال بعض الحكماء : كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب. وبالتطهر ما قاله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.) وكان الأولى له أن يستشهد بغيرها لأنّ هذه الآية نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم وتفيد عصمتهم من الذنوب ، ففي هذه الآية دلالة على ثبوت العصمة لهم ، وليس المراد بالتطهير إزالة النجاسة المحسوسة بالماء ونحوه. فلو استشهد القائل بقوله تعالى :(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ). لكان أولى وأظهر. هذا والمقصود من شرائع الأحكام ما جاء في شريعة النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غيره من الأنبياء ، من الأحكام التكليفية كالواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح وكل ذلك بمتابعة الكتاب والسنة ، والباء في كلمة بمتابعة هي إمّا للسببيّة أو للاستعانة.

(٣) وقفّاهما أي أتبعهما بإظهار وإيضاح أهل الذّكر ، لأنهم تراجمة الوحي ، ففي ـ

٢٤

ومعادن التنزيل ، الّذين هم الخلفاء من آل الرسول صلّى الله عليهم ، صلاة كثيرة متتالية مقترنة بالكرامة ، متلقاة بالقبول ما دامت عقد المشكلات منحلّة بأنامل (١) الدّلائل وظلم الشبهات ، منجلية بأنوار العقول.

أما بعد ، فهذه نبذة من المسائل الأصولية (٢) ، وجملة من مباني المسائل

__________________

ـ «الكافي» و «تفسير القمي» و «العياشي» و «الصافي» عنهم عليهم‌السلام في أخبار كثيرة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذّكر وأهل بيته المسئولون وهم أهل الذّكر. وفي «العيون» عن الرضا عليه‌السلام : قال الله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ،) فالذّكر رسول الله ونحن أهله.

وفي «البصائر» عن الباقر عليه‌السلام ، وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : الذّكر القرآن وأهله آل محمّد صلوات الله عليهم. قال تعالى : وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم.

(١) جمع الأنملة من الأصابع العقدة ، وبعضهم يقول الأنامل رءوس الأصابع وعليه قول الأزهري. والأنملة المفصل الذي فيه الظّفر وهي بفتح الهمزة وفتح الميم أكثر من ضمّها ، وابن قتيبة يجعل الضّمّ من لحن العوام وبعض المتأخّرين من النحاة حكى بتثليث الهمزة مع تثليث الميم فيصير تسع لغات. هذا وفي جملة ما دامت عقد المشكلات منحلّة بأنامل الدلائل استعارة تحقيقية حيث شبّهت إبهام المشكلات بالعقد ، ثم ذكر المشبه به وأريد المشبّه.

(٢) النبذة والنبذة جمع نبذ ، الناحية يقال جلس نبذة أي ناحية ، وقد تستعمل للقطعة من الشيء على حدة كالنّبذة من الكتاب والأخير هو المقصود ، ويقال النّبذ الشيء القليل ونبذة أي شيء يسير وقد يكون هذا المراد. وقوله : ومن المسائل الأصولية ، حجّية الخبر والشهرة والإجماع وحجّية أحد الخبرين في باب التعارض ويمكن القول حجّية القطع بقسميه التفصيلي والإجمالي وغيرها كثير. وبالجملة ؛ فكل مسألة تكون حيثيّة البحث فيها حجّية أمر من الأمور التي تصلح للحجّية أو تتوهّم حجّيتها فهي ـ

٢٥

الفقهية (١) ، جعلتها تذكرة لنفسي وللطالبين ، وتبصرة (٢) لمن استرشد في سلوك نهج الحقّ المبين ، وذخيرة مرجوّة لأجل فقري وفاقتي يوم الدّين ، حداني (٣) الى رسمها مذاكرة جمع من فضلاء الأصحاب ، ومباحثة جملة من أزكياء الأحباب ، وكان ذلك عند قراءتهم عليّا اصول كتاب «معالم الدّين» للفاضل المحقّق المدقّق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدّين (٤) ، حشرهما الله مع الأئمّة الطّاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

__________________

ـ مسألة أصولية. نعم بعض المباحث التي لم يكن المبحوث عنه فيها حيثيّة الحجّية تدخل في سلك المبادئ كمسألة مقدمة الواجب ومبحث الضدّ وأمثالهما فتدبّر.

(١) بعد أن يصل الفقيه من خلال هذا العلم مثلا الى أنّ صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وأنّ ظاهر القرآن حجّة ، وبعد أن علم بقوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ، ربما يصح له أن يقول بوجوب الصلاة والزكاة والاطاعة ، وهكذا كان من مباني هذه المسألة الفقهية بعض هذه المباحث الاصولية ، ومن هنا عرّف بعضهم هذا العلم : بأنّه يبحث عن قواعد تقع نتيجتها في طرق استنباط الحكم الشرعي.

(٢) يقال بصّره الأمر تبصيرا وتبصرة أي فهّمه إيّاه.

(٣) بمعنى ساقني ، يقال : حدا بالإبل حدوا وحداء إذا زجرها وغنّى لها ليحثّها على السير. وفي الدعاء وتحدوني عليها خلّة واحدة أي تبعثني وتسوقني عليها خصلة واحدة وهو من حدو الإبل على ما قيل.

(٤) الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين ، هو الشيخ جمال الدين أبو منصور حسن صاحب «المعالم» ابن الشيخ زين الدين الشهيد الثاني ، ولد «بجبع» جباع في ٢٧ شهر رمضان ٩٥٩ ه‍ ق وتوفي مفتتح المحرّم سنة ١٠١١ ه‍ ق في جبع. وله مؤلّفات كثيرة منها «معالم الدين وملاذ المجتهدين» برز منه جزء في أصول الفقه عرف ب : «معالم الأصول» الذي أصبح عليه المعوّل في التدريس من عصره والى اليوم (عند بعض) ، بعد ما كان التدريس في الشرح العميدي على تهذيب العلّامة والحاجبي والعضدي.

٢٦

فافتلذت (١) ثمار تحقيقات عند التنزّه في بساتين عوائده (٢) ووضعت هذه الوريقات على ترتيبه ، وأضفت مسائل الى مسائله ، وفوائد الى فوائده ، ونبّهت على ما في بعض إفاداته ، وأعرضت عن كثير من زوائده ، وإذا وجدت وضع شيء منها على خلاف المعهود من مصنّفات القوم ، فعذره الحرص على تكثير الفائدة مع عدم اقتضاء المقام إلّا لذلك ، فاقتصرت بأدنى مناسبة في الإقحام (٣) ، بجعل الزّوائد إمّا مقدّمة لأصل أو خاتمة أو غير ذلك. وربّما أضفت أصلا عليه حسب ما ساعدني الوقت والمجال ، وأفردت قانونا في هذه القاعدة التي لم تذكر فيه على وفق مقتضى الحال ، وسمّيته ب : «القوانين (٤)

__________________

راجع «أعيان الشيعة» ، المجلد الخامس ص ٩٦. وقد فرغ منه ليلة الأحد الثاني من ربيع الثاني سنة ٩٩٤ ه‍ طبع عدة مرات وعليه حواشي وشروح وتعليقات كثيرة : منها حاشية لولده الشيخ محمد ، وحاشية لسلطان العلماء وحاشية لملا صالح المازندراني وحاشية لملا ميرزا محمد المعروف بالمدقّق الشيرواني. وهذه الحواشي مطبوعة على هامش الأصل ، وحاشية وشرح كبير للشيخ محمد تقي الاصفهاني ويسمى «بهداية المسترشدين» وحاشية للشيخ محمد طه نجف. وللمصنّف جزء آخر من الكتاب في الفقه ويعرف «بمعالم الفقه» ، مطبوع وصل فيه الى المطلب الثالث في الطهارة من الأحداث. هذا وكتاب «المعالم» لم يؤسّس «للقوانين» فقط وإنّما أيضا «للفصول» و «الوافية» و «الكفاية» ولكثير من الكتب في هذا الخصوص.

(١) الفلذة جمع فلذ وفلذ وأفلاذ ، القطعة من الكبد واللّحم والذهب وغير ذلك ، يقال فلذ له من المال أي أعطاه منه دفعة ، وافتلذت له قطعة من المال افتلاذا إذا اقتطعته.

(٢) جمع العائدة وهي اسم ما عاد به عليك المفضل من صلة أو فضل. قال ابن سيده : والعائدة المعروف والصّلة يعاد به على الانسان والعطف والمنفعة.

(٣) الإقحام هو الإرسال في عجلة.

(٤) القوانين : يعني الأصول ، الواحد منها قانون وليس بعربي كما في «لسان العرب» وكذا ـ

٢٧

المحكمة (١)» ورتّبته على مقدّمة وأبواب وخاتمة (٢).

وهذا الكتاب ، مع أنّ مؤلّفه قصير الباع وقاصر الذراع (٣) وليس محسوبا

__________________

ـ قال الجوهري كما في «مجمع البحرين». يقال إنّها روميّة وإنّها مولّدة من كانون اليونانيّة ، وقيل إنها فارسية. ومهما يكن فإنّ المقصود منها القاعدة والدستور والمقياس ، يقال قانون كل شيء مقياسه ، وهي تقال لمجموعة الشرائع والنظم التي تنظّم علاقات المجتمع سواء كان من جهة الأشخاص أو من جهة الأموال وغير ذلك من الجهات. والقوانين كثيرة أساسية ودستوريّة وتجارية وجزائية وعرفية ومدنية ... الخ ، وهي أيضا اسم آلة من آلات الطرب ذات أوتار تتحرّك بالكشتبان ، وفي علم الجبر قاعدة رياضية ملخّصة بعبارة جبريّة.

(١) المحكمة أي المضبوطة المتقنة ، يقال آية محكمة ، وهي ما اتّضح معناها وما هي محفوظة من النسخ أو التخصيص أو منهما معا ، وما كانت نظمها مستقيمة خالية من الخلل وما لا يحتمل فيها التأويل إلّا وجها واحدا ويقابله بكل من هذه المتشابه.

(٢) أما المقدمة ففي بيان رسم هذا العلم وموضوعه ونبذ من القواعد اللّغوية. وأما الأبواب فهي سبعة : الباب الأوّل في الأوامر والنواهي ، والباب الثاني في المحكم والمتشابه والمنطوق والمفهوم ، والباب الثالث في العموم والخصوص ، والباب الرابع في المطلق والمقيّد ، والباب الخامس في المجمل والمبيّن ، والباب السادس في الأدلّة الشرعية. وفيه مقاصد : المقصد الأوّل في الإجماع ، والثاني في الكتاب ، والثالث في السّنة. وبهذه الأبحاث ينتهي المجلد الأوّل من الكتاب ليأتي المجلّد الثاني فيه تتمة الباب السادس ، وفيه المقصد الرابع في الأدلّة العقلية ، ثم المقصد الخامس في النسخ. وأما الباب السابع ففي الاجتهاد والتقليد. وأمّا الخاتمة في التعارض والتعادل والتراجيح.

(٣) قصير الباع وقاصر الذراع : الباع جمع أبواع وباعات وبيعان ، قدر مدّ اليدين ، يقال طويل الباع ورحب الباع أي كريم مقتدر ، وقصير الباع وضيّق الباع أي بخيل عاجز. وأما الذراع فهو من المرفق الى أطراف الأصابع. والذرع : الوسع والطاقة فيقال ضيّق ـ

٢٨

من جملة من يرتكب هذا الشأن ويؤسّس هذا البنيان ، وليس في مضمار الاستباق (١) إلّا كراكب القصب (٢) أو كراجل التفّت ساقه بالسّاق (٣) ، فهو من فضل الله ، مشتمل على ما لم يشتمل عليه زبر (٤) السّابقين ، ومخرج لجواهره ما اختفى من الحقائق في كنوز كلمات الفائقين ، فإن وجدتها بعد استيفاء الفكر واستقصاء النظر حقيقا بالقبول ، فلله الحمد على ذلك ، وإلّا فالملتمس منك الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

أمّا المقدّمة (٥) :

__________________

ـ الذرع والذراع قصرها ، كما أنّ معنى سعتها وبسطها طولها. ووجه التمثيل انّ القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع ولا يطيق طاقته ، فضرب به المثل للذي سقطت قوّته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه.

(١) في مضمار الاستباق أي في ميدان المراهنة على قطع المسافة ، فشبّه معرض التعهد لطيّ المطالب العلمية بميدان الاستباق ، ثم ذكر الرّاكب والرّاجل وهذا كلّه استعارة تحقيقية.

(٢) والقصب هو نبات مائي يبلغ طول أحد أكبر أنواعه حوالي أربعة أمتار منتشر على ضفاف المستنقعات والغدران. ويقال : أحرز قصب السّبق أي كان الغالب. وأصله انّهم كانوا ينصبون في حلبة السّباق قصبة فمن سبق اقتلعها وأخذها ليعرف أنه السّابق.

(٣) والسّاق هي ما بين الكعب والركبة في الرجل ، وفي قوله تعالى : (الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ،) قيل فيه التفت الدّنيا بالآخرة ، وهو مروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٤) الزّبر : الكتاب والجمع زبور ومنه قراء بعضهم : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً). والزّبور الكتاب المزبور ، والجمع زبر ك : رسول ورسل.

(٥) المقدّمة : بكسر الدّال المشدّدة وفتحها تطلق لغة على معان كثيرة ، منها : الناصية والجبهة ، وما استقبلك من الجبهة والجبين وما تقدم في الجيش ، وما تقدم في الكتاب ـ

٢٩

__________________

ـ والخطاب ومن كلّ شيء أوّله. وتطلق أيضا على ما يتوقف عليه الشيء سواء كان التوقف عقليا أو عاديا أو جعليا ، كما لو قلت : كل مركّب فاسد ، وكل جسم مركب ؛ فكل جسم فاسد ، وهذه المقدمة تعرف بمقدمة القياس وهي ما تترتب عليه النتيجة من القضايا ، فكل مركب فاسد قضية كبرى ، وكل جسم مركب قضية صغرى ، وكل جسم فاسد نتيجة. ومنها : ما يتوقف عليه الفعل وهو بحث مختص بأرباب الأصول. ومنها : ما يتوقف عليه صحة الدليل أي بلا واسطة كما هو المتبادر ، فلا يرد الموضوعات والمحمولات. وأما المقدمات البعيدة للدليل فإنّما هي مقدمات لدليل مقدمة الدليل.

ومنها : قضية جعلت جزء قياس أو حجة ، كما في شروح «الشمسية» ص ٢٩ ، ٣٠ وهذان المعنيان مختصّان بأرباب المنطق ومستعملان في مباحث القياس. ومنها : قضية من شأنها أن تجعل جزء قياس. صرّح بذلك المولوي عبد الحكيم في حاشية «شرح الشمسية» ص ٩٣ في تقسيم العلم الى النظري والبديهي ، وهي على قسمين : قطعية تستعمل في الأدلّة القطعية وظنية تستعمل في الامارة. فالمقدمات القطعية سبع : الأوّليات والفطريّات والمشاهدات والمجرّبات والمتواترات والحدسيات والوهميات في المحسوسات. والظنية أربع : المسلّمات والمشهورات والمقبولات والمقرونة بالقرائن كنزول المطر بوجود السحاب الرطب ، كذا يستفاد من «شرح المواقف» في المقصد السّادس في المقدمات.

ومنها : ما يتوقّف عليه المباحث الآتية ، فإن كانت المباحث الآتية العلم برمته تسمى مقدمة العلم ، وإن كانت بقية الباب أو الفصل تسمى مقدمة الباب أو الفصل ، وبالجملة تضاف الى الشيء الموقوف كما في «الأطول».

ثم اعلم أنّه قد اشتهر بينهم أنّ مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع في ذلك العلم.

والشروع في العلم لا يتوقف على ما هو جزء منه وإلّا لدار ، بل على ما يكون خارجا عنه. ثم الضروري في الشروع الذي هو فعل اختياري توقّفه على تصوّر العلم بوجه ـ

٣٠

__________________

ـ ما ، وعلى التصديق بفائدة تترتّب عليه سواء كان جازما أو غير جازم ، مطابقا أو لا ، لكن يذكر من جملة مقدّمة العلم أمور لا يتوقف الشروع عليها كرسم العلم وبيان موضوعه والتصديق بالفائدة المترتّبة المعتدّ بها بالنسبة الى المشقّة التي لا بدّ منها في تحصيل العلم وبيان مرتبته وشرفه ووجه تسميته باسمه الى غير ذلك.

فقد أشكل ذلك على بعض المتأخّرين واستصعبوه ، فمنهم من غيّر تعريف المقدمة الى ما يتوقف عليه الشروع مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه زيادة البصيرة. ومنهم من قال : الأولى أن يفسّر مقدمة العلم بما يستعان به في الشروع ، وهو راجع الى ما سبق ، لأنّ الاستعانة في الشروع إنّما تكون على أحد الوجوه المذكورة. ومنهم من قال : لا يذكر في مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع وإنّما يذكر في مقدمة الكتاب. وفرّق بينهما بأنّ مقدمة العلم ما يتوقف عليه مسائله ومقدمة الكتاب طائفة من الألفاظ قدّمت أمام المقصود لدلالتها على ما ينفع في تحصيل المقصود ، سواء كان مما يتوقّف المقصود عليه فيكون مقدمة العلم أو لا ، فيكون من معاني مقدّمة الكتاب من غير أن يكون مقدمة العلم ، وأيّد ذلك القول ، بأنّه يغنيك معرفة مقدمة الكتاب عن مظنّة أنّ قولهم المقدّمة في بيان حدّ العلم والغرض منه ، وموضوعه من قبيل جعل الشيء ظرفا لنفسه وعن تكلّفات في دفعه ، فالنسبة بين المقدمتين هي المباينة الكلّية ، والنسبة بين ألفاظ مقدمة العلم ونفس مقدمة الكتاب عموم من وجه ، لأنّه اعتبر في مقدمة الكتاب التقدّم ولم يعتبر التوقف ، واعتبر في مقدّمة العلم التوقف ولم يعتبر التقدم ، وكذا بين مقدمة العلم ومعاني مقدّمة الكتاب عموم من وجه. ويرد عليه : أنّ ما لم يقدّم أمام المقصود كيف يصحّ اطلاق مقدمة العلم عليه لأنّ المقدّمة إما منقولة من مقدمة الجيش لمناسبة ظاهرة بينهما أو مستعارة أو حقيقة لغوية ، وعلى الوجوه الثلاثة لا بدّ من صفة التقدّم لما يطلق عليه لفظ المقدمة ، فعلى هذا النسبة هي العموم مطلقا ، ولذا قد يقال : مقدّمة الكتاب أعم ، بمعنى أنّ مقدمة الكتاب تصدق على العبارات الدالة على مقدمة العلم من غير عكس. انتهى.

٣١

ففي بيان رسم (١) هذا العلم وموضوعه ، ونبذ من القواعد اللّغويّة (٢).

__________________

ـ والجواب : بأنّ التقدم الرتبي يكفي في المناسبة ، ففيه نظر ، إذ في تصدير الأشياء المذكورة في آخر الكتاب بالمقدمة وإن كانت مما يتوقف عليه الشروع خفاء. وأيضا قد علمت انّ منشأ الاختلاف هو بيان وجه تصدير الكتب بأمور لا يتوقف الشروع عليها وتسميتها بالمقدمة لا غير ، فلا بد من اعتبار التقدم المكاني وإن كان تعريف المقدمة بما يتوقف عليه الشروع ، مقتضيا لاعتبار التقدم مطلقا ، سواء كان مكانيا أو رتبيّا. والجواب : بأنّ التقدم ولو على أكثر المقاصد أو بعضها يكفي لصحة الاطلاق. ففيه : انّ المقدمة حينئذ لا تكون مقدمة العلم ، بل مقدمة الباب أو الفصل مثلا وليس الكلام فيه.

هذا وقال صاحب «الأطول» : والحق أنّه لا حاجة الى التغيير ، فإنّ كلا مما يذكر في المقدمة مما يتوقف عليه شروع في العلم هو إما أصل الشروع أو شروع على وجه البصيرة أو شروع زيادة البصيرة فيصدق على الكلّ ما يتوقف عليه شروع ، ولحمل الشروع على ما هو في معنى المنكر مساغ أيضا كما في ادخل السّوق انتهى. وهاهنا أبحاث تركناها بعد الذي مضى من الاطناب ، فمن أراد فعليه بالرجوع الى شروح «التلخيص».

(١) الرّسم بالفتح وسكون السّين المهملة في اللّغة العلامة ، وعند المنطقيين قسم من المعرّف مقابل للحدّ. ومنه تام وناقص ، فالرّسم التام ما يتألف من الجنس القريب والخاصة كتعريف الانسان بالحيوان الضاحك ، والرّسم الناقص ما يكون بالخاصة وحدها أو بها وبالجنس البعيد كتعريف الانسان بالضاحك أو بالجسم الضاحك أو بعرضيات تختص جملتها بحقيقة واحدة كقولنا في تعريف الانسان : إنّه ماشي على قدميه عريض الأظفار بادي البشرة مستقيم القامة ضحّاك بالطبع ، هكذا عند الجرجاني وغيره ، وعند الأصوليين أخص من الحدّ لأنّه قسم منه.

(٢) اللغوية : النسبة الى اللّغة لغويّ. وعلم اللغة هو علم معرفة أوضاع المفردات ، وقد يطلق على جميع أقسام العلوم العربية كما في «الدقائق المحكمة» «والمطوّل» ـ

٣٢

واعلم أنّ قولنا : «أصول الفقه» علم (١) لهذا العلم ، وله اعتباران (٢) من جهة الإضافة ومن جهة العلميّة.

فأمّا رسمه باعتبار العلميّة فهو : «العلم بالقواعد (٣) الممهّدة (٤) لاستنباط (٥)

__________________

ـ «والأطول». ونتوصل بالقواعد اللّغوية الى معرفة الألفاظ وكيفية دلالتها على المعاني الوضعية ، إذ يمكن أن نقتدر منها على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة. والمراد بالقواعد اللّغوية هنا ما ذكره المصنّف من القانون الأوّل الى مبحث الأوامر من المسائل المتعلّقة بالحقيقة والمجاز ، والحقيقة الشرعيّة والصحيح والأعم ، والاشتراك والمشتق. ولا يخفى عليك أنّ تعداد هذه الأمور كلها على أنّها من القواعد اللّغوية تغليبا ، فإنّ بعضها قواعد مبادية للفقه والأصول ولا دخل لها باللّغة كمسألتي الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم مثلا.

(١) علم : بفتح العين واللّام عند النحاة قسم من المعرفة وهو ما وضع لشيء بعينه غير متناول غيره بوضع واحد. والظاهر أنّه يريد بالعلميّة هنا نحو ما في كلام النحاة من أنّ الرفع علم الفاعلية أي علامة الفاعلية ، بناء على أنّ كل اسم علامة لمسمّاه لا ما هو من قبيل علم الشخص.

(٢) وله اعتباران : مثنى الاعتبار وهو الغرض والتقدير ، فلأصول الفقه تعريفان : أحدهما باعتبار الاضافة ، وثانيهما : باعتبار العلمية. وله معنى بكل من الاعتبارين ، وجرى رسمهم على ذكر كلا المعنيين وإن كان المقصود هو المعنى العلمي.

(٣) القواعد : جمع قاعدة تطلق على معان مرادف الأصل والقانون ، وهي أمر كلّي أي قضية كلية منطبق أي مشتمل بالقوّة على جميع جزئياته ، أي جزئيات موضوعة عند تعرّف أحكامها ، أي يستعمل عند طلب معرفة أحكامها.

(٤) الممهّدة : المبسّطة والموطّأة.

(٥) لاستنباط : لاستخراج وإظهار الشيء بعد خفائه ، وحرف اللّام يفيد كون تمهيد القواعد المذكورة مغيّا بهذه الغاية.

٣٣

الأحكام الشرعيّة الفرعية (١)».

فخرج ب : «القواعد» العلم بالجزئيّات.

وبقولنا : «الممهّدة» المنطق والعربية وغيرهما (٢) مما يستنبط منه الأحكام ، ولكن لم يمهّد لذلك.

وب : «الأحكام» ما يستنبط منها الماهيّات (٣) وغيرها.

__________________

(١) وقد ذكر مثل هذا التعريف أكثر المتأخرين منهم البهائي رحمه‌الله في «زبدة الاصول» : ص ٤١.

(٢) وغيرهما : مما هو مقدمة للاجتهاد لا ممهدة له ، وسيأتي بيانها في أواخر الكتاب وعدّها من الفنون.

(٣) الماهيات وغيرها : قال القمي في حاشيته : المراد بالماهيات الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والنكاح والطلاق ، وبغيرها مثل صفاتها كصلاة الظهر والنكاح الدائم والطلاق الرجعي ونحو ذلك ، فإنّ معرفتها ليست من المسائل الفقهية حتى يكون قواعد الأصول ممهدة لاستنباطها ، وإن كان يذكر في طيّ المسائل الفقهيّة ، بل هي من مباديه كما سنشير إليه ، فمثل مباحث الحقيقة الشرعية وما له مدخليّة في إثبات الماهيّات من القواعد ، مثل جواز إجراء الأصل في إثبات الماهيات ونحو ذلك وإن يبحث عنها في علم الأصول ، ولكنّها لم تمهّد لمعرفة الماهيّات من حيث إنّها معرفة الماهيات ، بل لأصل تعيينها وتشخيصها وتمييزها ليترتّب عليها أحكامها. ولو لم يعتبر قيد الحيثية لانتقض الحد بكثير من مسائلها. مثلا من جملة مسائل الأصول انّ عدم الدّليل دليل العدم ، وانّ وجود المقتضي وعدم المانع يوجب ثبوت الحكم ، ونحو ذلك ، مع أنّه يستنبط منها غير الأحكام الشرعية أيضا ، وإنّما فسّرنا الماهيات بذلك لا كما فعله صاحب «المعالم» في تعريف الفقه ، حيث جعل الأحكام احترازا عن الذّوات كزيد والصفات كشجاعته والأفعال كخياطته ، ولا كما فعله غيره من جعله احترازا عن القواعد الممهّدة لاستنباط الصنائع ، لأنّ قيد الاحتراز هو في الحدّ لا بد أن ـ

٣٤

وب : «الشرعيّة» العقليّة.

وب : «الفرعيّة» الأصوليّة.

وأمّا «رسمه» باعتبار الإضافة ، ف : «الأصول» جمع أصل وهو في اللّغة ما يبتنى عليه شيء ، وفي العرف يطلق على معان كثيرة ، منها الأربعة المتداولة في ألسنة الأصوليين وهي : الظّاهر ، والدليل ، والقاعدة ، والاستصحاب (١) ، والأولى هنا إرادة اللّغوي ليشتمل (٢) أدلّة الفقه إجمالا ، وغيرها من عوارضها (٣) ، ومباحث الاجتهاد والتقليد وغيرهما (٤).

__________________

ـ يكون محتاجا إليه بحيث لو لم يكن لدخل ما احترز عنه ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ قيد الشرعية الفرعية مخرجة لأمثال ذلك فلا اختصاص للأحكام بذلك ، فلا بد أن يجعل المحترز عنه من الأمور الشرعية الفرعية التي لم تكن من جملة الأحكام.

(١) الظاهر والدليل والقاعدة والاستصحاب : المراد من الظاهر الأصل في الاستعمال الحقيقة أي ظاهر استعمال اللّفظ مجردا عن القرينة في مقام التفهيم إرادة الحقيقة. ومن الدليل قول الفقيه بعد بيان حكم المسألة آية كذا أو رواية كذا هي الدليل إليه. ومن القاعدة الأصل في فعل المسلم الصحة ، القاعدة المستنبطة من الأدلّة الشرعية حمله على الصحة. ومن الاستصحاب الأصل في المتطهر الشاك في الحدث الطهارة أي الاستصحاب يقتضي البناء عليها.

(٢) ارادة اللّغوي ليشتمل : ظاهر سياق العبارة كون اللّام للتعليل مرادا به بيان وجه الأولويّة ، غير أنّه وجه الأولويّة في الحاشية بقوله : لئلّا يلزم النقل المرجوح عليه كانت اللّازم للغاية المفيدة لفائدة الشيء ، يعني انّ في الفوائد المترتبة على إرادة اللّغوي أنّه يشمل الأمور المذكورة.

(٣) وغيرها من عوارضها : وغير الأدلّة من عوارضها كمبحث التعارض.

(٤) وغيرهما : أي غير الاجتهاد والتقليد مثل البحث عن عدالة الرّواة وأقسام الرّواية ونحوهما. وفي بعض النسخ إفراد الضمير أي غير المذكورات.

٣٥

و «الفقه» في اللّغة : الفهم (١).

وفي العرف : هو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

والمراد ب : «الأحكام» هي النسب الجزئيّة (٢) ، وب : «الشرعيّة» ما من شأنه أن يؤخذ من الشّارع وإن استقلّ بإثبات بعضها العقل أيضا.

فخرج ب : «الشرعيّة» العقلية المحضة التي ليس من شأنها ذلك ، كبيان أنّ الكلّ أعظم من الجزء والنقيضان لا يجتمعان.

وب : «الفرعيّة» ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة (٣) ، فخرج بها الأصولية وهو ما لا

__________________

(١) والفقه في اللّغة الفهم كقوله تعالى : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ). أي ما نفهم. والمراد بالفهم الادراك. وهذا الذي فسّره بأنّه هيئة للنفس بها يتحقّق معنى ما تحسّ. وقيل هو جودة الذّهن من حيث استعداده واكتساب المطالب والآراء ، وكان هذا مراد من فسّره بسرعة الانتقال من المبادئ الى المطالب.

(٢) والمراد بالأحكام هي النّسب الجزئية : هذا على ما في بعض النسخ ، وما في بعض آخر التعبير بالنسب الخبرية وهو الأصح بالنظر الى الاصطلاح وإن صحت النسبة الجزئية أيضا ، لأنّ كل نسبة خبرية جزئية. ووجه الأصحيّة انّ الأحكام المأخوذة في الحدّ عبارة عن مسائل الفقه المدوّنة في كتبه المستنبطة من الأدلّة التفصيلية ، ومسألة كل علم عبارة عن النسبة الخبرية التي يستدلّ عليها في الفنّ ، هذا مع انّ الحكم على ما ضبطه علماء المنطق النسبة الخبرية ، والفرق بينها وبين النسبة الجزئية بالعموم والخصوص ، إذ أنّ النسبة الجزئية إنشائية ، ومن هنا قد يرجّح نسخة النسبة الجزئية باستلزام إرادة الخبرية انتقاض عكس التعريف بالنسبة الانشائية كما في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ*). ونظائرهما.

(٣) وبالفرعيّة ما يتعلّق بلا واسطة : مفاده أنّ الحكم الفرعي يعتبر فيه كون تعلّقه بعمل المكلّف بلا واسطة. والمراد بالواسطة المنفية منها : الواسطة في العروض بأنّ لا يكون ـ

٣٦

يتعلّق بالعمل بلا واسطة (١) ، وإن كان لها تعلّق بعيد (٢).

__________________

ـ بحيث تعلّق بغيره أوّلا وبالذات وعلى وجه الحقيقة. وبعمل المكلّف ثانيا وبالعرض وعلى وجه المجاز لا الواسطة في الثبوت كالعلّة بالقياس الى معلولها ، ولا الواسطة في الاثبات أعني ما يكون علّة للعلم بالشيء كالدليل بالقياس الى مدلوله ، وإلّا لم يبق مصداقا للحدّ لوجود الوسائط في الثبوت لجميع الأحكام الشرعية ، بناء على ما عليه العدلية من أنّها تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، ولوجود الوسائط في الاثبات لها لأنّها بأسرها ما عدا الضروريات مداليل للأدلّة. هذا كما في حاشية القزويني.

(١) ما لا يتعلّق بالعمل بلا واسطة : اعتبر رجوع النفي منها تارة الى المقيّد وهو المتعلّق ، وأخرى الى قيده وهو عدم الواسطة ، فاعتبار رجوعه الى الأوّل ينفي أصل التعلّق ، وباعتبار رجوعه الى الثاني ينفي عدم الواسطة فيوجب ثبوت التعلّق بضابطة انّ النّفي في النّفي اثبات. فمفهوم تعريف الأصولية ينحلّ الى قسمين : أحدهما : ما لا تعلّق له بالعمل أصلا كمسائل أصول الفقه التي تتعلّق بالأدلّة باعتبار كونها من عوارضها ولا ربط لها بالعمل. وثانيها : ما لا يتعلّق به إلّا بواسطة وهو الأصولية الاعتقادية كوجوب الاعتقاد بوجود الواجب ووحدانيته وعدله ونبوّة الأنبياء عليهم‌السلام ونحو ذلك من المعارف المعتبرة في الايمان ، فإنّ هذا الحكم بملاحظة كون الاعتقاد بالأمور المذكورة من شروط صحة العبادات مما يصح اعتبار تعلّقه بالعبادات. ثانيا : وبالعرض وعلى سبيل المجاز بأن يقال يجب الصلاة مع الاعتقاد بالوحدانية وغيرها مثلا بعد تعلّقه بنفس الاعتقاد أوّلا وبالذّات وعلى سبيل الحقيقة ، فهو بهذا الاعتبار لا يسمى حكما فرعيا ، بل الحكم الفرعي هو الذي يعرض للصلاة أوّلا وبالذّات وعلى سبيل الحقيقة كالوجوب العارض لها المستفاد من قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ونظائره. ذلك كله كما في حاشية السيد القزويني رحمه‌الله.

(٢) وإن كان لها تعلّق بعيد : أي وإن كان للأصولية تعلّق بعيد أي مع الواسطة كالوجوب المتعلّق أوّلا ، وبلا واسطة بمعرفة الله سبحانه وتعالى وهي أمر قلبي. وثانيا بالصلاة حيث إنّ المعرفة شرط لصحتها فالوجوب المتعلّق أوّلا بالصلاة من الفرعيّة ، والوجوب المتعلّق أوّلا بالمعرفة والواسطة بالصلاة من أصول الدّين.

٣٧

وهاهنا إشكال مشهور بناء على تعريف الحكم الشرعي بأنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين ، مع كون الكتاب من أدلّة الأحكام ، وهو أيضا خطاب الله ، فيلزم اتّحاد الدليل والمدلول (١).

واستراح الأشاعرة عن ذلك بجعل الحكم هو الكلام النفسي ، والدليل هو اللّفظي(٢).

وفيه : مع أنّ الكلام النفسي فاسد في أصله ، انّ الكتاب مثلا حينئذ كاشف عن المدّعى ، لا أنّه مثبت الدعوى ، فلا يكون دليلا في الاصطلاح.

__________________

(١) ولزوم اتحاد الدليل والمدلول في الأحكام المستفادة من الكتاب حيث إنّ الدليل والمدلول كلاهما خطاب الله تعالى المتعلّق بفعل المكلّف ؛ فيصير مفاد الحد حينئذ أنّ الفقه هو العلم بخطابات الله عن خطاباته تعالى. وحاصل رفع اشكال اتحاد الدليل والمدلول انّ كلا من الكتاب والحكم المستفاد منه وإن كان عبارة عن خطاب الله إلّا أنّ الأوّل خطاب بمعنى الكلام اللّفظي ، والثاني خطاب بمعنى الكلام النفسي ، فالدليل والمدلول متغايران.

(٢) لقد خالف الأشاعرة غيرهم في أنّ الخطاب الذي هو الكلام يطلق على اللّفظي والنفسي على سبيل الاشتراك اللّفظي ، وبعضهم أفرط في جعله حقيقي في الثاني مجازا في الأوّل كقول الشاعر : إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ، ولكن غير الأشاعرة جعلوه حقيقة متحدة في اللّفظي ، فيكون مجازا في النفسي. والكلام اللّفظي هو المؤلّف من الأصوات والحروف المفهم للمراد سواء كان من الجارحة المخصوصة أم غيرها كالشجرة ، فإنّه يقال عرفا انّ الله تعالى تكلّم مع نبيه موسى عليه‌السلام مع أنّه سبحانه أوجد الصوت في الشجرة. والكلام النفسي هو المعنى القائم في نفس المتكلّم لا من حيث حصوله في ذهن السّامع وهو مدلول الكلام اللّفظي. وقد زعمت الأشاعرة كون كلامه تعالى هو النفسي وهذا فاسد في أصله كما صرّح المصنّف.

٣٨

والذي يخالجني (١) في حلّه ، هو جعل الأحكام عبارة عمّا علم ثبوته من الدّين بديهة بالإجمال ، والأدلّة عبارة عن الخطابات المفصّلة. فإنّا نعلم أوّلا بالبديهة أنّ لأكل الميتة وأكل الرّبا أو غيرهما حكما من الأحكام ، ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلّا من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(٢) ، (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٣) ونحو ذلك.

وهاهنا إشكال آخر ، وهو : إنّ الأحكام كما ذكرت هي النسب الجزئية (٤) ، فموضوعاتها خارجة ، وقد تكون نفس العبادة ، ولا ريب أنّ معرفة ماهيّة العبادة وظيفة الفقه ، فلا ينعكس الحدّ (٥).

ويمكن دفعه : بالتزام الخروج ، لأنّ تلك الموضوعات من جزئيّات موضوع العلم (٦) ، وتصوّر الموضوع وجزئيّاته من مبادئ العلم ، والمبادئ قد تبين في ذلك العلم وقد تبين في غيره. وتصوّر الموضوع وأجزائه وجزئياته (٧) يحصل

__________________

(١) أي الذي خامرني ونازعني فيه فكر.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) النسب الجزئية كقولنا الصلاة واجبة والزكاة واجب وشرب الخمر حرام ، وكذا الزنا ونحو ذلك.

(٥) أي لا يكون جامعا لأفراد محدوده بأن يصدق كلّما صدق المحدود حتى لا يكون شيء من أفراده خارجا عن الحدّ. سمي به لأنّه عكس الاطّراد وهو المنع من دخول غير الأفراد ، بأن يصدق المحدود كلما صدق الحدّ حتى لا يدخل في الحدّ ما لا يصدق عليه المحدود.

(٦) أي من جزئيات موضوع علم الفقه لا من موضوع علم الاصول ، لأنّ نفس ماهيّة العبادة من أفعال المكلّفين الذي هو موضوع علم الفقه.

(٧) تصوّر الموضوع في الفقه كتصوّر الصلاة مثلا ، وأجزائه كتصوّر الركوع والسجود ، وجزئياته كتصوّر الصلوات اليومية والآيات وغيرها.

٣٩

غالبا في أصل العلم ، ولا منافاة بين خروجه عن تعريف العلم ودخوله في طيّ مسائله.

وقولنا : «عن أدلّتها» من متعلّقات العلم لا الأحكام ، فخرج علم الله وعلم الملائكة والأنبياء ، ويمكن إخراج الضّروريّات أيضا عن ذلك ، فإنّها من جملة القضايا التي قياساتها معها (١) ، ولا يسمّى ذلك في العرف استدلالا ، ولا العلم الحاصل معها علما محصّلا من الدّليل وإن كان تلك الضّرورة علّة لتلك العلوم في نفس الأمر.

وأمّا إخراج مطلق القطعيّات عن الفقه ـ كما يظهر من بعضهم (٢) ـ فلا وجه له ، إذ الاستدلال قد يفيد القطع ، وقبله لم يكن قطع بالحكم.

وخرج ب : «التفصيلية» علم المقلّد في المسائل ، فإنّه ناشئ عن دليل إجمالي

__________________

(١) والمراد من الضروريات هو ما سلّم ثبوتها في الدين ، فلا يفتقر العلم بها الى دليل ، فإنّها من جملة القضايا التي لا تحتاج الى قياس واستدلال ، بل قياساتها معها ، أي انّ العقل لا يصدّق بها بمجرد تصوّر طرفيها كالأوّليات ، بل لا بد لها من وسط ، إلّا أنّ هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذّهن حتى يحتاج الى طلب فكر ، ويقال لها : الفطريّات كقولنا : الاثنين خمس العشرة ، والزنا حرام. والمراد بالقياس هنا الصغرى والكبرى.

مثلا الزنا حرام قضية ضرورية قياسها معها ، فإنّ العقل بعد تصوّر الطرفين يجزم بأنّ الزّنا مما سلّم حرمته في الدين بحيث يعلمه عموم الناس ، وكلما سلّم حرمته كذلك فهو حرام ، فالنتيجة انّ الزّنا حرام.

(٢) الظاهر انّ ذلك البعض هو الشيخ البهائي حيث قال في «زبدته» ص ٤٠ : والقطعيات ليست فقها ومن ثم لا اجتهاد فيها ، إذ الظاهر في كلامه رحمه‌الله الاطلاق ، كما لا يخفى. ولكن الانصاف انّ قوله : ومن ثم لا اجتهاد فيها يدل على انّ المراد بالقطعيّات التي تكون قبل الاجتهاد قطعيّا لا مطلقا ، إذ القطعيّات الحاصلة في ضمن الاجتهاد من الفقه.

٤٠