القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

قانون

اختلف العلماء في جواز اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد.

وموضع النّزاع ما إذا كان الوحدة بالشّخص لكن مع تعدّد الجهة.

وأمّا الواحد بالشّخص الذي لم يتعدّد الجهة فيه ، بأن يكون موردا لهما من جهة واحدة ، فهو ممّا لا نزاع في عدم جوازه إلّا عند بعض من يجوّز التكليف بالمحال (١) ، وربّما منعه بعضهم تمسّكا بأنّ هذا التكليف محال ، لا انّه تكليف بالمحال (٢). ولعلّه نظر الى كون الأمر والطلب مسبوقا بالإرادة واجتماع إرادة الفعل والترك محال.

وأمّا الواحد بالجنس فهو أيضا ممّا لا نزاع في جواز الاجتماع فيه بالنسبة الى أنواعه وأفراده ، كالسّجود لله تعالى ، وللشّمس والقمر ، وإن منعه بعض المعتزلة أيضا نظرا الى جعل الحسن والقبح من مقتضيات الماهيّة الجنسيّة (٣) وهو في

__________________

(١) كالأشاعرة الذين جوّزوا التكليف بالمحال.

(٢) راجع «المعالم» : ص ٢٤٦.

(٣) إنّ المتكلّمين اختلفوا في حسن الأشياء وقبحها على قولين : أحدهما أنّهما شرعيّان ، بمعنى أنّ حسن الشيء بسبب حكم الشارع بكونه حسنا ، وقبحه بحكمه بكونه قبيحا فهو عليه‌السلام لو نهى عن الصوم مثلا لقبح ، ولو أمر بالحرام لحسن. نسب هذا القول الى الأشاعرة. وثانيهما أنّهما غير شرعيين بمعنى انّ للأشياء في حدّ أنفسها مصالح ومفاسد واقعيين مع قطع النظر عن جعل الشارع ، وإنّما الشارع كاشف عنها لا جاعل لها ، فيكون الشارع كاشفا لا غير. واختار هذا القول العدليّة والمعتزلة. ثم إنّهم اختلفوا على أربعة أقوال : أحدها : أنّ هذه المصالح والمفاسد ثابتة للأشياء من حيث ذواتها ـ

٣٢١

غاية الضّعف. وكما أنّ المخالف الأوّل أفرط ، فهذا قد فرّط (١).

ثمّ إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة ، والفضل بن شاذان رحمه‌الله (٢) من قدمائنا ، وهو الظاهر من كلام السيّد رحمه‌الله في

__________________

ـ وماهيّتها الجنسية ، واختاره فرقة من المعتزلة. وثانيها : أنّها ثابتة لها من جهة الصّفات اللّازمة للّذات لا تنفك عنها ، واختاره فرقة اخرى منهم. وثالثها : أنّ المصالح ثابتة للأشياء من حيث ذواتها ، والمفاسد ثابتة لها لا من جهة صفاتها اللّازمة. ورابعها : أنّها ثابتة لها لا من جهة ذواتها ولا صفاتها الذاتيّة ، بل من جهة صفاتها الاعتبارية الاعتوارية المتبدّلة ، ونسب هذا القول الى العدلية والجبائي من المعتزلة ، ولكن التحقيق تبعا للسيّد المرتضى هو انّ بعض الأشياء لذاته علّة تامة للمفسدة والقبح كالظّلم ، وبعضها علّة تامة للمصلحة والحسن كالانقياد ، وبعضها علّة ناقصة للقبح كالكذب ، وبعضها بالوجوه والاعتبار كالقول الرّابع. ويستفاد هذا من المصنف في آخر بحث تقرير المعصوم. فعلى هذا قد يكون ضرب اليتيم الذي واحد جنسي قبيحا باعتبار كونه ظلما ، وقد يكون حسنا باعتبار كونه تاديبا. إذا اتّضح ذلك فاعلم انّه يجوز اجتماع الأمر والنهي في الواحد الجنسي باعتبار الفردين على قول العدليّة والأشاعرة. وأما على الأقوال الثلاثة الباقية فلا يجوز لعدم إمكان تبدّل ما هو مقتضى لأحدهما بالذّات أو بالصّفات اللّازمة أو في أحدها ذاك وفي الآخر ذلك. ومن جميع ذلك ظهر لك معنى المتن المذكور ، هذا كما في الحاشية.

(١) والفرق بين الافراط والتفريط انّ الأوّل يمكن القول بأنّه هو للإسراف والتجاوز عن الحدود بينما الثاني خلافه ، وهو التقصير وعدم وصوله الى الحدود.

(٢) قال الميرزا محمّد على چهاردهي في الحاشية : إنّ نسبته القول بالجواز في المسألة الى ابن شاذان ليست على ما ينبغى لأنّه ليس مخالفا في المسألة إذ غايته ما التزمه بصحة الصلاة في الدار الغصبي. وصحة الصلاة في الدّار الغصبى وجوها : إمّا انّ الصلاة ليست هي الأفعال ، بل الهيئة الحاصلة لم يتعلّق بها النهي ، وإمّا لأجل إذن الفحوى ، وإمّا لأجل ما قال به جمع من الأخباريين من ان الصلاة حقا في كل أرض ، فالصلاة ـ

٣٢٢

«الذريعة» (١) ، وذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا كمولانا المحقّق الأردبيلي ، وسلطان العلماء (٢) ، والمحقّق الخوانساري ، وولده المحقّق ، والفاضل المدقّق الشيرواني ، والفاضل الكاشاني ، والسيّد الفاضل صدر الدّين وأمثالهم رحمهم‌الله تعالى ، بل ويظهر من الكليني (٣) حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتاب الطلاق (٤) ولم يطعن عليه ، رضاه بذلك ، بل ويظهر من كلام الفضل أنّ ذلك كان من مسلّمات الشيعة ، وإنّما المخالف فيه كان من العامّة ، كما أشار إلى ذلك العلّامة

__________________

ـ في كل أرض تقع فقد وقعت في محلّها ، وإمّا أن نقول أنّ الكون ليس جزء الصلاة كما نسب الى جمع ، وإمّا أن نقول أنّ متعلّق الأمر الطبيعة والفرد مقدمة لها ومقدمة الواجب ليست بواجب ، ولو سلّمنا وجوبها فوجوبها توصلي والواجب التوصلي يجتمع مع الحرام. ومع هذه الاحتمالات كيف ينسب إليه القول المذكور.

(١) حيث نقل عنه انّه ذهب هاهنا الى صحة الصلاة في الدّار المغصوبة ، ونقل عنه أيضا بأنّه حكم ، فصحة الصلاة التي وقعت رياء بمعنى سقوط الفرض بها وإن لم يترتب عليها الثواب ، وهذا يدلّ على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد باعتبار جهتين. هذا كما في الحاشية ولكنّك بالرجوع الى «الذريعة» تجد أن السيّد في الظاهر له فروع في هذه المسألة ، فقد ذكر أيضا أنّه لا يرى إجزاء الصلاة في الدار المغضوبة لأنّ من شرط الصلاة أن تكون طاعة وقربة وكونها واقعة في الدار المغصوبة يمنع من ذلك وقال : وفي الفقهاء من يظن انّ الصلاة في الدار المغصوبة ينفصل من الغصب وذلك ظنّ بعيد. لأن الصلاة كون في الدار وتصرّف فيها وذلك نفس الغصب. هذا وقد عقد في هذه المسألة السيد مبحثا يحسن الرجوع اليه في آخر فصل النهي من «الذريعة» : ص ١٩٠ ـ ١٩٥ وفي مسألة الرياء راجع «الانتصار» : ص ١٧ ، «القواعد والفوائد» للشهيد : ١ / ٧٩ الفائدة الثالثة.

(٢) في حاشيته على «المعالم» : ص ٢٩٢.

(٣) ويظهر من الكليني رضاه بجواز الاجتماع.

(٤) «فروع الكافي» كتاب الطلاق باب ٦٧ ح ١.

٣٢٣

المجلسي رحمه‌الله في كتاب «بحار الأنوار» (١) أيضا ، وانتصر لهذا المذهب جماعة من أفاضل المعاصرين.

والقول بعدم الجواز هو المنقول عن أكثر أصحابنا والمعتزلة ، وهذه المسألة وإن كانت من المسائل الكلاميّة (٢) ، ولكنّها لمّا كانت يتفرّع عليها كثير من المسائل الفرعية ، ذكرها الاصوليّون في كتبهم ، فنحن نقتفي آثارهم في ذلك.

والذي يقوى في نفسي ويترجّح في نظري هو جواز الاجتماع ، وقد جرى ديدنهم في هذا المقام بالتّمثيل بالصلاة في الدّار المغصوبة ، فإنّ المفروض أنّها شيء واحد شخصيّ ، ومحطّ البحث فيها هو الكون الذي هو جزء الصّلاة ، فهذا الكون هو شيء واحد ، فإنّه هو الذي يحصل به الغصب ويحصل به جزء الصلاة ، فهذا الكون شيء واحد له جهتان ، فمن حيث إنّه من أجزاء الصلاة مأمور به ، ومن حيث إنّه تصرّف في مال الغير وغصب ، منهيّ عنه.

لنا على الجواز وجوه :

الأوّل : أنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه ، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ، ومتعلّق النّهي طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد ، ولا يرد من ذلك قبح على الأمر ، لتغاير متعلّق المتضادّين (٣) فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ، ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة.

فإن قلت : الكلّيّ لا وجود له إلّا بالفرد ، فالمراد بالتكليف بالكلّي هو إيجاد

__________________

(١) «البحار» : ٨٠ / ٢٧٨ كتاب الصلاة.

(٢) إنّ البحث في المسألة المذكورة هو في اجتماع الوجوب والحرمة وهما من قبيل المدلول لا الدّليل ، وفي الأصول يبحث عن أحوال الدّليل لا المدلول.

(٣) أي الوجوب والحرمة المتضادّين.

٣٢٤

الفرد (١) وإن كان متعلّقا بالكلّيّ على الظاهر ، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بإيجاده في الخارج.

قلت : إن أردت عدم إمكان الوجود في الخارج بشرط لا ، فهو مسلّم ولا كلام لنا فيه.

وإن أردت استحالة وجوده لا بشرط ، فهو باطل جزما ، لأنّ وجود الكلّيّ لا بشرط ، لا ينافي وجوده مع ألف شرط ، فإذا تمكّن من إتيانه في ضمن فرد فقد تمكّن من إتيانه لا بشرط ، غاية الأمر توقّف حصوله في الخارج على وجود الفرد ، والممكن بالواسطة لا يخرج عن الإمكان وإن كان ممتنعا بدون الواسطة ، وهذا كلام (٢) سار في جميع الواجبات بالنسبة الى المقدّمات ، فالفرد هنا مقدّمة لتحقّق الكلّيّ في الخارج ، فلا غائلة (٣) في التكليف به مع التمكّن عن المقدّمات.

فإن قلت : سلّمنا ذلك ، لكن نقول : إنّ الأمر بالمقدّمة ، اللّازم من الأمر بالكلّيّ على ما بنيت عليه الأمر (٤) ؛ يكفينا ، فإنّ الأمر بالصّلاة أمر بالكون ، والأمر بالكون أمر بهذا الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة الكون الذي هو جزء الصلاة ، فهذا الكون الخاصّ مأمور به ، وهو بعينه منهيّ عنه ، لأنّه فرد من الغصب (٥) ، والنّهي عن الطبيعة يستلزم النّهي عن جميع أفراده ولو كان ذلك أيضا من باب مقدّمة الامتثال

__________________

(١) كما ذهب إليه الحاجبي من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الشخصي فيلزم المحذور.

(٢) أي القول بأنّ الكلي لا بشرط يمكن التكليف به ، لأنّ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط والممتنع بشرط لا.

(٣) كالتكليف بالاحراق بعد كون إلقاء الحشيش مقدورا للمكلّف.

(٤) أي الرأي او الاستدلال والبحث.

(٥) وللمحقّق الداماد كلام في هذا المقام في كتاب «السّبع الشداد» : ص ٦٨ راجعه.

٣٢٥

بمقتضى النّهي ، فإنّ مقدّمة الحرام حرام أيضا ، فعاد المحذور ، وهو اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد شخصيّ.

قلت : نمنع أوّلا وجوب المقدّمة ، ثمّ نسلّم وجوبه التبعيّ الذي بيّنّاه في موضعه ، ولكن غاية الأمر حينئذ توقّف الصّلاة على فرد ما من الكون ، لا الكون الخاصّ الجزئيّ ، وإنّما اختار المكلّف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرّم.

فإن قلت : نعم ، لكن ما ذكرت من كون الأمر بالكلّيّ مقتضيا للأمر بالفرد يقتضي كون كلّ واحد ممّا يصدق عليه فرد ما مأمورا به من باب المقدّمة أيضا ، والأمر وإن لم يتعيّن تعلّقه بالكون الخاصّ عينا ، لكنّه تعلّق به تخييرا ، فعاد المحذور ، لأنّ الوجوب التخييري أيضا يقبح اجتماعه مع الحرام.

قلت : أمّا أوّلا ، فهذا ليس بواجب تخييري كما حقّقنا لك في مبحث الواجب التخييري ، وإلّا لم يبق فرق بين الواجبات العينيّة والتخييريّة.

وحاصله ، أنّ التخيير في أفراد الواجب العيني بحكم العقل ، ووجوب الأفراد فيه تابع لوجوب الكلّي ، والأمر في التخييري بالعكس (١) ، فوجوب الأفراد في العيني توصّلي ، ولا مانع من اجتماعه مع الحرام ، كما يعترف به الخصم (٢).

وثانيا : إنّا نمنع التخيير بين كلّ ما يصدق عليه الفرد ، بل نقول : إذا أمر الشّارع بالكلّي فإن انحصر في فرد أو انحصر الفرد المباح في فرد ، فيصير الفرد والشخص أيضا عينيّا كأصل الكلّي ، وإلّا فإن كان الكلّ مباحا ، فالتخيير بين الجميع ، وإلّا ففي

__________________

(١) أي التخيير في أفراد الواجب التخييري بالشرع ووجوب الكلي فيه تابع لوجود الأفراد وقد مرّ بعض الفروق الأخر وذلك في قانون الواجب التخييري فلاحظه هناك.

(٢) كصاحب «المعالم».

٣٢٦

الأفراد المباحة ، فليس ذلك الفرد الغير المباح مطلوبا ، ولكنّه لا يلزم منه بطلان الطبيعة الحاصلة في ضمنه ، لأنّ الحرام قد يصير مسقطا عن الواجب في التوصّليّات ، بل التحقيق أنّ قولهم أنّ الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام على مذاق الخصم (١) ، لا بدّ أن يكون معناه أنّه مسقط عن الواجب ، لا انّه واجب وحرام ، كما لا يخفى.

وقد حقّقنا لك في مقدّمة الواجب أنّ المقدّمة التي هي موضع النزاع في الوجوب وعدمه ، هي المقدورات المباحة التي كانت من أفعال المكلّف ، وإلّا فقد يصير مقدّمة الواجب شيئا غير مقدور ، بل من غير فعل المكلّف ، مثل غسل الثوب الذي حصل من الغير من دون اطّلاعه ، وقد يكون شيئا حراما ويتمّ الواجب به. فغاية الأمر سقوط التكليف هنا بسبب حصول الطبيعة في الخارج ، وذلك لا يستلزم كون المقدّمة مطلقا مطلوبا للأمر ، وكلّ واحد ممّا يمكن أن يتحقّق به الواجب ، واجبا تخييريا.

نعم ، لو فرض انحصار تحقّق الصلاة مثلا في الدّار المغصوبة ، فنحن أيضا نقول بامتناع الاجتماع ، فلا بدّ إمّا من الوجوب ، أو التحريم.

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ على القول بوجود الكلّي الطبيعي ، وهو ممنوع (٢).

قلت : مع أنّ الثابت في موضعه عند المحقّقين (٣) هو الوجود.

__________________

(١) القائل بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

(٢) فوجود الكلي الطبيعي ممنوع بناء على القول بعدم وجوده ، وقد اختار هذا المنع جماعة منهم التفتازاني وشارح «المطالع» وعن السيد الشريف والآمدي.

(٣) ومنهم العلّامة الطوسي في «التجريد» : ص ٦٠ و «الشمسية» في الفصل الثالث ٢ / ٢٩٠ وصاحب «المطالع» وشارح «المقاصد» وعن الشيخ في «الشفاء».

٣٢٧

قد بيّنا لك في مسألة تعلّق الأمر بالكلّي المناص عن ذلك على القول بعدمه أيضا.

فان قلت : القدر المشترك الانتزاعي من الأفراد التي من جملتها المحرّم ، كيف يجوز طلبه ، وكيف يمتاز عن الحرام ويتخلّص عنه؟

قلت : إنّ ماهيّة الصلاة المنتزعة من الأفراد ، هي منتزعة عنها باعتبار أنّها أفراد للصلاة لا باعتبار أنّها غصب ، والمنتزع عنها من هذا الاعتبار هو ماهيّة الغصب.

الثاني : أنّه لو لم يجز ذلك ، لما وقع في الشرع وقد وقع كثيرا ، منها العبادات المكروهة ، فإنّ الاستحالة المتصوّرة إنّما هي من جهة اجتماع الضدّين ، والأحكام الخمسة كلّها متضادّة بالبديهة ، فلو لم يكن تعدّد الجهة في الواحد الشخصي مجديا ، للزم القبح والمحال ، وهو محال على الشّارع الحكيم ، مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى ، إذ النهي في المكروهات تعلّق بالعبادات دون ما نحن فيه. وبعبارة اخرى : المنهيّ عنه بالنّهي التنزيهيّ أخصّ من المأمور به مطلقا ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ النسبة بينهما فيما نحن فيه ، عموم من وجه.

ومن كلّ ذلك ظهر ، أنّ العقل لا يدلّ على امتناع الاجتماع في المنهيّ عنه تحريما أيضا ، لو كان أخصّ من المأمور به مطلقا أيضا ، وإن أمكن إثباته من جهة فهم العرف كما سنحقّقه إن شاء الله تعالى. ولذلك أفرد الاصوليّون الكلام في المسألتين ، وما نحن فيه أشبه بالمقاصد الكلامية ، وإن كان لإدراجه (١) في المسائل الاصولية أيضا وجه ، ولكنّ المسألة الآتية (٢) أنسب بالمسائل الاصولية لابتنائه على

__________________

(١) الإدراج هو ترتب الفروع الكثيرة من المسائل الفقهيّة على ما نحن فيه.

(٢) المسألة الآتية أي ما كان المنهيّ عنه أخصّ مطلقا من المأمور به نحو : صلّ ولا تصلّ في الدّار الغصبي.

٣٢٨

دلالة الألفاظ ، وإن كانت راجعة الى الاصول الكلامية أيضا على بعض الوجوه (١).

فلنرجع الى تحرير الدّليل ونقول : معنى قول الشارع : لا تصلّ في الحمّام ، و : لا تتطوّع وقت طلوع الشمس ، انّ ترك هذه الصلاة أرجح من فعلها ، كما هو معنى المكروه ، مع أنّها واجبة أو مستحبّة. ومعنى الوجوب والاستحباب هو رجحان الفعل إمّا مع المنع من الترك ، أو عدمه ، ورجحان الترك ورجحان الفعل متضادّان لا يجوز اجتماعهما في محلّ واحد.

وقد أجيب عن ذلك (٢) بوجوه :

الأوّل : أنّ المناهي التنزيهيّة راجعة الى شيء خارج من العبادة بخلاف التحريمية بحكم الاستقراء. فالنّهي عن الصلاة في الحمّام إنّما هو عن التعرّض للرشاش ، وفي معاطن (٣) الإبل عن إنفار البعير ، وفي البطائح (٤) عن تعرّض السّيل ، ونحو ذلك ، فلم يجتمع الكراهة والوجوب.

وفيه أوّلا : منع هذا الاستقراء وحجّيته.

وثانيا : أنّ معنى كراهة تعرّض الرّشاش ، أنّ الكون في معرض الرّشاش مكروه ، وهذا الكون هو بعينه الكون الحاصل في الصّلاة ، فلا مناص عن اجتماع الكونين

__________________

(١) وبعض الوجوه كالنزاع في دلالة العقل على امتناع الاجتماع في تلك المسألة وعدمه.

(٢) قد أتى صاحب «المدارك» الى هذه المسألة في مبحث كراهة الوضوء بالماء المشمّس على سبيل الاجمال فيه ١ / ١١٧. وقوله : عن ذلك أي عن العبادات المكروهة.

(٣) مفردها المعطن والمعطن وهي مبرك الإبل ومربض الغنم حول الماء.

(٤) مفردها البطيحة وهو مسيل واسع فيه رمل ودقاق الحصى.

٣٢٩

في كون واحد.

وإن قلت : إنّ مطلق الكون في معرض الرّشاش لا كراهة فيه ، إنّما المكروه هو التعرّض له حال الصلاة.

قلت : إنّ المعنى حينئذ أنّ الصلاة في الحمّام منهيّ عنها لكونها معرض الرّشاش ، فالنهي أيضا تعلّق بالصلاة ، وعاد المحذور.

وإن قلت : إنّ مطلق التعرّض للرشاش مكروه والنّهي عن الصلاة في الحمّام لأنّه من مقدّماته وعلله ، فيعود المحذور أيضا.

وثالثا : أنّ الفرق بين قولنا : لا تصلّ في الحمّام و : لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، تحكّم بحت.

قلنا : إن نقول أنّ حرمة الصّلاة في الدّار المغصوبة إنّما هو لأجل التعرّض للغصب وهو خارج عن حقيقة الصلاة ، واتّحاد كون الغصب مع كون الصّلاة ليس بأوضح من اتّحاد كون التعرّض للرشاش مع كون الصلاة.

ورابعا : أنّ هذا لا يتمّ في كثير من الحمّامات ، وفي كثير من الأوقات ، وتخصيص ما دلّ على كراهة الصلاة بما لو كان في معرض الرّشاش ، والحكم بعدم الكراهة في غيرها أيضا في غاية البعد ، وكون العلّة والنكتة هو ذلك في أصل الحكم ، كرفع أرياح الآباط في غسل الجمعة لا يستلزم كون الكراهة دائما لذلك ، كما نشاهد في غسل الجمعة.

هذا كلّه فيما ورد من الشّارع النّهي عنه.

وأمّا في مثل الصلاة في مواضع التهمة (١) ممّا يكون من جزئيّات عنوان هذا

__________________

(١) كما في قولهم عليهم الصلاة والسلام : اتقوا من مواضع التّهم ، وهو من أمثلة هذا القانون.

٣٣٠

القانون ، فلا يجري فيه هذا الكلام ، فلا بدّ للخصم أن يقول ببطلانها جزما ، ولم يعهد ذلك منه ، ولا مناص له عن ذلك بوجه ، فهذا أيضا يدلّ على بطلان مذهبه.

الثاني : أنّ المراد بالكراهة هو كونه أقلّ ثوابا. ، يعني انّ الصّلاة في الحمّام مثلا أقلّ ثوابا منها في غيره ، ومرادهم أنّ لمطلق الصلاة مع قطع النظر من الخصوصيّات. ثوابا. ، وقد يزيد عن ذلك من جهة بعض الخصوصيّات كالصلاة في المسجد. ، وقد ينقص كالصلاة في الحمّام. ، وقد يبقى بحاله كالصلاة في البيت. ، فلا يرد ما يقال إنّه يلزم من ذلك كون جلّ العبادات مكروهة. لكون بعضها دون بعض في الثواب ، فيلزم كراهة الصلاة في مسجد الكوفة مثلا لأنّها أقلّ ثوابا منها في المسجد الحرام ..

وحاصل هذا الجواب (١) : أنّ مراد الشارع من النّهي. أنّ ترك هذه الصلاة واختيار ما هو أرجح منها ، أحسن. ، فاترك الصلاة في الحمّام واختر الصلاة في المسجد أو البيت ، وأنت خبير بأنّ ذلك. أيضا ممّا لا يسمن ولا يغني ، فإنّ الترك المطلوب المتعلّق بهذا الشخص من الصلاة من جهة هذا النهي. لا يجتمع مع الفعل المطلوب من جهة مطلق الأمر بالصلاة. ، مع أنّك. اعترفت بأنّ الخصوصيّة. أوجبت نقصا لهذا الفرد الموجود. عن أصل العبادة ، فمع هذه المنقصة إمّا أن يطلب فعلها بدون تركها ، أو تركها بدون فعلها ، أو كلاهما ، فعلى الأوّل يلزم عدم الكراهة ، وعلى الثاني عدم الوجوب ، وعلى الثالث يلزم المحذور.

وإن قلت : إنّ المراد بالنّهي ليس هو الطلب الحقيقي ، بل هو كناية عن بيان حال الفعل بأنّه أقلّ ثوابا عن غيره ، فلا طلب حتّى يلزم اجتماع الأمر والنّهي.

__________________

(١) أي الجواب الثاني الذي ذكره بقوله : الثاني أنّ المراد بالكراهة ... الخ.

٣٣١

قلت : مع أنّ هذا تعسّف بحت لا يجدي بالنسبة إلى نفس الأمر (١).

فنقول : مع قطع النظر عن دلالة هذا النّهي عن طلب الترك ، فهل هذا الفعل في نفس الأمر مطلوب الفعل ، أو مطلوب الترك ، أو مجتمعهما ، الى آخر ما ذكرنا ، على أنّا نقول : ترك الفرد لكونه أقلّ ثوابا واختيار ما هو أعلى منه إنّما يصحّ فيما له بدل من العبادات ، وأمّا فيما لا بدل له كالتطوّع في الأوقات المكروهة على القول بها ، والتطوّع بالصيام في السّفر أو الأيام المكروهة ، فلا يصحّ ما ذكرت بوجه ، لأنّ كلّ آن يسع لصلاة ركعتين يستحبّ فيه ركعتان ، وكذلك كلّ يوم من الأيام يستحبّ فيه الصيام.

وما يقال (٢) : إنّ الأحكام واردة على طبق المعتاد وعادة أغلب الناس ، بل كاد أن يكون كلّهم ، عدم استغراق أوقاتهم بالنوافل.

فإن كان المراد منه أنّه لم يكلّف في هذا الوقت الذي يصلّي فيه بدلا عن الصلاة المكروهة بنافلة ، وهذا الذي يوقعها فيه هو الصلاة التي كانت وظيفة الوقت المرجوح ، فهذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ هذا هو الصلاة التي هي وظيفة هذا الوقت ، ولم يكلّف في الوقت المكروه بصلاة.

وإن كان المراد أنّه لمّا علم الشّارع أنّه لا يستغرق أوقاته بالنوافل فقال له : لا تصلّ وظيفة هذا الوقت المكروه وصلّ وظيفة الوقت الآخر ، فهذا اعتراف منك

__________________

(١) وهذا وما بعده من القول قد أتى على ذكره والجواب عليه في «الفصول» : ص ١٣١.

(٢) قيل : إنّ هذا التوجيه من الوحيد البهبهاني ، وهو في مقام توجيه كلام المجيب لدفع الايراد المذكور بقوله : إلّا ما لا بدل له ... الى قوله : فلا يصح ما ذكرت بوجه. هذا كما ذكر في الحاشية ، وقد أجاب عنه في «الفصول» : ص ١٣١ بعد أن نسبه إلى بعض المعاصرين.

٣٣٢

بأنّ الراجح ترك الصلاة المكروهة من دون بدل ، مع أنّ هذا الكلام (١) في مثل صوم يوم الغدير وأوّل رجب وأيّام البيض والأيّام المخصوصة من شعبان وغيرها كما ترى ، فإنّ صوم مثل الغدير الذي يتّفق مرّة في عرض السّنة ليس ممّا يخالف العادة ويترقّبه المؤمنون ، بل يتبرّك به الفسّاق ، ومع ذلك ينهى عنه الشارع في السّفر ، ولا يريد منه بدله الذي لا وجود له أصلا ، بل لا معنى له مطلقا كما عرفت.

فإن قلت : فما تقولون أنتم في العبادات المكروهة ، فهل يترجّح فعلها على تركها أو بالعكس؟

قلت : المناهي التي وردت عن العبادات تنزيها كلّها ، إنّما تعلّقت بها باعتبار وصفها ، وليس فيها ما تعلّقت بذاتها ، وإن فرضت تعلّقها بذاتها مثل أن تقول : إنّ قراءة القرآن مكروهة للحائض ، على التقريب الذي سنبيّنه في جعل صلاة الحائض من جملة ما نهي عنه لذاتها ، فلا إشكال عندنا في رجحان تركها ومرجوحيّة فعلها ، ولا حاجة فيه إلى تكلّف أصلا ، وإنّما لم نحكم صريحا بكونها كالصّلاة ، لاحتمال أن يقال : أنّ المنهي عنه هو قراءة ما زاد على سبع أو سبعين ، فيرجع الى النّهي باعتبار الوصف أيضا.

والحاصل ، أنّ المفروض إن كان المتعلّق بالذّات فقد عرفت ، وإلّا فلنا أن نقول برجحان الفعل على الترك ، وبالمرجوحيّة ، ولا إشكال في أحد منهما ، فإنّ العقل لا يستبعد من أن يكون لأصل العبادة مع قطع النظر عن الخصوصيّات رجحان ، وللخصوصيّة التي تحصل معها في فرد خاصّ مرجوحيّة من جهة تلك

__________________

(١) أي الكلام الذي في توجيه كلام المجيب لا يجري في مثل صوم يوم الغدير. هذا كما في الحاشية.

٣٣٣

الخصوصيّة ، وهذه المرجوحيّة قد توازي الرّجحان الثابت لأصل العبادة وتساويه أو تزيد عليه أو تنقص عنه.

فعلى الأوّل يصير متساوي الطرفين ، وعلى الثاني يصير تركه راجحا على فعله ، وعلى الثالث بالعكس ، ففيما له بدل من العبادات كالصلاة في الحمّام ، فلا إشكال ، لأنّ النّهي عن الخصوصيّة لا يستلزم طلب ترك الماهيّة ، فنختار غير هذه الخصوصيّة سواء فيه الأقسام الثلاثة المتقدّمة (١).

وأمّا فيما لا بدل له كالصيام في الأيام المكروهة والنافلة في الأوقات المكروهة ، فنقول : هي إمّا مباحة أو مكروهة على ما هو المصطلح ، فيكون تركه راجحا على فعله ، بل الثاني هو المتعيّن هناك لئلّا يخلو النّهي عن الفائدة على ظاهر اللّفظ ، فيغلب المرجوحيّة الحاصلة بسبب الخصوصيّة على الرّجحان الحاصل لأصل العبادة ويرفعه ، ولذلك كان المعصومون عليهم‌السلام يتركون تلك العبادات وينهون عنها ، وإلّا فلا معنى لتفويتهم عليهم‌السلام تلك الرّجحان والمثوبة على أنفسهم وعلى شيعتهم بمحض كونها أقلّ ثوابا من سائر العبادات ، سيّما إذا لم يتداركه بدل كما عرفت في دفع التوجيه المتقدّم (٢).

فإن قلت : فكيف يمكن بها نيّة التقرّب ، وكيف يصير ذلك عبادة (٣) ، مع أنّ العبادة لا بدّ فيها من رجحان جزما؟

__________________

(١) أعني المرجوحيّة المتساوية والزّائدة والناقصة كلها متساوية في عدم الاشكال من جهة توجّه النهي الى البدل وتوجّه الأمر الى الطبيعة المحقّقة في ضمن البدل.

(٢) في قوله : وما يقال إنّ الاحكام واردة على طبق المعتاد ... الخ إذ إنّه ذكر هناك عدم البدل وعدم التدارك في مثل صوم يوم الغدير.

(٣) وكأنّه للبهبهاني في «فوائده» : ص ١٦٨.

٣٣٤

قلت : إنّ القدر المسلّم في اشتراط الرّجحان إنّما هو في أصل العبادات وماهيّتها ، وأمّا لزوم ذلك في جميع الخصوصيّات ، فلم يثبت.

وأمّا قصد التقرّب ، فهو أيضا يمكن بالنسبة الى أصل العبادة وإن كان لم يحصل القرب لعدم استلزام قصد التقرّب حصول القرب ، وإلّا فلا يصحّ أكثر عباداتنا التي لا ثواب فيها أصلا لو لم نقل بأنّ فيها عقابا من جهة عدم حضور القلب ووقوع الحزازات (١) الغير المبطلة على ظاهر الشرع فيها ، مع أنّ قصد التقرّب لا ينحصر معناه في طلب القرب والزّلفى والوصول الى الرّحمة ، فإنّ من معانيه موافقة أمر الآمر ، فهذه العبادة من حيث إنّها موافقة لأمر الآمر يمكن قصد التقرّب بها وإن لم يحصل القرب بها من جهة مزاحمة منقصة الخصوصية ، ألا ترى أنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما الصلاة والسّلام كان يترك النّوافل إذا اهتمّ أو اغتمّ (٢) كما ورد في الرّوايات (٣) ، وأفتى بمضمونه في «الذكرى» (٤) ، فترك التكلّم والمخاطبة مع الله سبحانه متكاسلا ومتشاغلا أولى من فعله ، ولذلك ارتكبه الإمام عليه‌السلام ، ولو كان مع ذلك فيه رجحان ، لكان تركه بعيدا عن مثله ، سيّما متكرّرا وسيّما في مثل الرّواتب المتأكّدة غاية التأكيد المتمّمة للفرائض ، ومع ذلك فلا ريب في صحّتها لو فعل بهذه الحالة ، وجواز قصد التقرّب بها.

__________________

(١) جمع الحزازة وهي لغة الوجع في القلب من غيظ ونحوه ، ويبدو أنّ المراد به هنا الخيالات الجارية في القلب.

(٢) قيل انّ الغمّ هو الحزن لما مضى ، والهم هو الحزن لما سيأتي وقيل هما بمعنى واحد ، وقيل هما كالفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.

(٣) ويمكن الردّ بأنّه يمكن انّه كان يشتغل بما هو أهم من ذلك المندوب.

(٤) فقال فيه ٢ / ٣١٣ : قد تترك النافلة لعذر ، منه : الهم والغم.

٣٣٥

وأمّا الفرائض ، فعدم جواز تركها مع ذلك فإنّما هو لحماية الحمى ، ولئلّا يفتح سبيل تسويل النّفس ومكيدة الشيطان فيما هو بمنزلة العمود لفسطاط (١) الدّين ، فإنّ أكثر أحكام الشّرع من هذا الباب ، كتشريع العدّة مطلقا ، وإن كان العلّة فيها عدم اختلاط الأنساب. فلعلّ صورة العبادة تكفي في صحّة قصد التقرّب ما لم يثبت له مبطل من الخارج ، وإن لم يكن ممّا يحصل له ثواب في الخارج ، فحينئذ فإن ورد في أمثال هذه العبادات المكروهة معارض ، فلا بدّ من طرحها كما ورد في بعض الأخبار الضّعيفة أنّ الإمام عليه‌السلام صام في السّفر في شعبان ، مع أنّه ليس بصريح في كونه مندوبا ، بل ربّما كان منذورا بقيد السّفر أو غير ذلك من الاحتمالات ، فأمّا لا بدّ من نفي الكراهة فيما لا بدل له ، أو من القول برجحان تركه مطلقا. والأظهر في صوم السّفر الكراهة ، وفي التطوّع في الأوقات المكروهة العدم ، ففيما يثبت الكراهة ، فالكلام فيه ما مرّ ، وفيما لم يثبت ، فلا إشكال.

الثالث (٢) : أنّ المراد بكراهة العبادات مرجوحيّتها بالنسبة الى غيرها من الأفراد ، وسمّاه بعضهم بخلاف الأولى (٣) ، فرجحانها ذاتيّة والمرجوحيّة إضافيّة ولا منافاة بينهما كالقصر في المواطن الأربعة ، فهو مرجوح بالنّسبة الى التمام مع كونه أحد فردي الواجب المخيّر.

وكما أنّه يجتمع الوجوب النفسي مع الاستحباب للغير كاستحباب غسل الجنابة

__________________

(١) الفسطاط اسم للخيمة ، وفي «مجمع البحرين» هو البيت من الشّعر فوق الخباء.

(٢) وهذا هو الجواب الثالث وقد نسب الى المحقق البهبهاني. راجع «فوائده» : ص ١٧٠.

(٣) الأولى عبارة عن الشيء الذي إتيانه يوجب القرب والزّلفى وزيادة الدّرجة ولا يوجب تركه المنقصة في الدّين ، ولذا قيل أو قالوا بأنّ المعصوم يرتكب خلاف الأولى.

٣٣٦

للصلاة المندوبة على القول بوجوبه لنفسه ، وكذلك الوجوب الغيريّ مع الاستحباب النفسيّ على القول الآخر ، فكذا يجتمع الرّجحان الذّاتي مع الكراهة للغير ، كصلاة الصّائم مع انتظار الرفقة. والمكروهات للغير كثيرة ، مثل الاتّزار فوق القميص للصلاة ومصاحبة الحديد البارز لها ونحوهما.

وفيه : أنّ المراد بالمرجوحيّة الإضافية إن كان مع حصول منقصة في ذاتها أيضا يستحقّ الترك بالنسبة الى ذاتها أيضا ، فيعود المحذور ، وإلّا فيصير معناه كون الغير أفضل منه وأرجح.

وحينئذ فنقول : ذلك الغير ربّما يكون ممّا يوازي أصل الطبيعة في الثواب فيصير ما نحن فيه مرجوحا بالنسبة الى أصل الطبيعة أيضا ، فيحصل بذلك لهذا الفرد أيضا منقصة ذاتية.

لا يقال : أنّ هذه المنقصة إنّما هي من جهة الخصوصيّة لا من جهة أصل العبادة ، لأنّ ذلك خلاف أصل المجيب (١) ، فإنّ مبناه عدم اعتبار تعدّد الجهة.

ثمّ إنّ الكلام لا يتمّ في غير هذه الصّورة أيضا ، أعني ما كان مرجوحا بالنسبة الى سائر الأفراد التي لها مزيّة على أصل الطبيعة ، ولا يجدي ما ذكره المجيب ، إذ نقول حينئذ بعد تسليم كونه راجحا بالذّات ومرجوحا بالنسبة الى الغير ، فإمّا أن يكون فعل ذلك مطلوبا ، أو تركه أو كلاهما ، الى آخر ما ذكرنا في ردّ الجواب الثاني (٢).

__________________

(١) وهو جواب لقوله : لا يقال حاصله انّ المرجوحيّة في صلاة الحمّام مثلا للفرد من حيث هو بالنسبة الى الصلاة. والقول بأنّ الطبيعة الموجودة فيه راجحة وإن كان في خصوصيّة الفرد مرجوحة ، خروج عن مقتضى مذهب المجيب من عدم اعتبار تعدّد الجهة ، ورجوع الى مختار المصنف ، هذا كما في الحاشية.

(٢) وهو حمل المكروه على أنّ المراد منه هو كونه أقلّ ثوابا.

٣٣٧

فإن قلت : مطلوب فعله لذاته ومطلوب تركه من جهة أنّه مفوّت للمصلحة الزّائدة الحاصلة في الغير ، فقد كررت على ما فررت عنه ، فإنّ المطلوب شيء واحد ولا يعتبر عندك تعدّد الجهة.

فإن قلت : لمّا جاز الفعل والترك معا فلا يلزم التكليف بالمحال.

قلت : إنّا نتكلّم فيما لو أراد الفعل واختار الفرد المرجوح ، وجواز الفعل والترك لا يجوّز اجتماع المتضادّين في صورة اختياره ، وهو واضح ، مع أنّه لا فارق بين قولنا : لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، و : لا تصلّ في الحمّام ، فاعتبر فيه الرّجحان الذّاتي والمرجوحيّة الإضافية أيضا.

وما يقال : إنّ الفارق أنّ الصّلاة ثمّة عين الغصب ، وهاهنا (١) غير الكون في الحمّام ، مع ما فيه من التكليف الواضح ، وإنّ ذلك إنّما هو بعد تسليم أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي يوجب ارتفاع الاثنينيّة في الحقيقة.

يرد عليه : أنّ ذلك مبنيّ على الخلط بين ما عنون به القانون وبين ما سيجيء فيما بعد ، فالنهي ثمّة تعلّق بالصلاة في الدّار المغصوبة لا بالصلاة لأنّها غصب بعينها والغصب منهيّ عنه ، والذي ذكرناه من النقض إنّما كان من باب الأولويّة والاكتفاء بلزوم اجتماع المتنافيين مطلقا ، وليس مثالنا في العبادة المكروهة مطابقا للمبحث في النّوع.

ولزم ممّا ذكرنا ، القول بذلك فيما لو كان المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به أيضا ، وإن شئت تطبيق المثال على المقامين فطابق بين قولنا : صلّ ولا تغصب ، وبين قولنا : صلّ ولا تكن في مواضع التّهمة ، وطابق بين قولنا : لا تصلّ في الحمّام ، و :

__________________

(١) أي في صلّ ولا تصلّ في الحمّام.

٣٣٨

لا تصلّ في الدّار المغصوبة ، فإن كنت تقدر على أن تقول : إنّ المرجوحيّة في الصلاة في مواضع التّهم إضافيّة بالنسبة إلى غيرها في المثال الأوّل ، فنحن أقدر بأن نقول : مرجوحيّة الصلاة في الدّار الغصبيّة إضافيّة بالنسبة الى الصلاة في غيرها في المثال الثاني.

والنّقض الأوّل الذي أوردناه (١) في الاستدلال إنّما هو بالفقرة الأولى من المثال الثاني (٢) على الفقرة (٣) الأولى من المثال الأوّل.

والمعارضة التي ذكرناها في دفع جوابك إنّما هو بالفقرة الثانية من المثال الثاني بالنّسبة الى ما ذكرته في الفقرة الأولى منه.

وما دفعت به المعارضة (٤) يناسب لو أردنا بالمعارضة ، المعارضة بالفقرة

__________________

(١) وهو ما ذكره سابقا بقوله : الثاني انّه لو لم يجز ذلك لما وقع في الشرع ، وقد وقع كثيرا ، منها العبادات المكروهة.

(٢) قال في الحاشية : لا يخفى أنّ المثال الثاني مجموع قوله : لا تصلّ في الحمّام ولا تصلّ في الدّار المغصوبة ، ولكن لفظ صلّ في الموضعين مطويّ فيكون الفقرة الأولى منه عبارة عن قوله : لا تصلّ في الحمّام ، والفقرة الثانية منه عبارة عن قوله : لا تصلّ في الدار المغصوبة.

(٣) لفظ على متعلّق على النقض المراد من المثال الأوّل هو مجموع قوله : صلّ ولا تغصب ، وصلّ ولا تكن في مواضع التّهم.

(٤) في الحاشية : انّ ما ذكره من جانب المجيب بقوله : ما يقال انّ الصلاة ثمة عين الغصب ... الخ. محصّل المقام هو انّ ما ذكرت في دفع المعارضة إنّما يناسب ويتّجه لو أريد بالمعارضة المذكورة من المثال الأوّل ، أعني قوله : صلّ ولا تغصب على الفقرة الأولى من المثال الثاني ، أعني صلّ ولا تصلّ في الحمّام ، فحينئذ يصح أن يقال انّ الصلاة عين الغصب بخلاف الكون في الحمّام ، وليس كذلك ، لأنّ المعارضة إنّما هي ـ

٣٣٩

الأولى من المثال الأوّل بالنّسبة الى الفقرة الأولى من المثال الثّاني.

قوله : وكما أنّه يجتمع ... الخ (١).

فيه : أنّه رجوع عن أوّل الكلام (٢) ، فإنّ المرجوحيّة بالنسبة الى الغير غير المرجوحيّة للغير (٣) ، وكذلك الوجوب والاستحباب ، وقد اختلطا في هذا المقام ، ويشهد به التشبيه بالغسل والتمثيل بالاتّزار ، مع أنّ الكلام في الواجب النفسيّ والغيريّ أيضا هو الكلام فيما نحن فيه ، وهو أيضا من المواضع التي أشرنا الى ورودها في الشّرع بملاحظة اعتبار الجهة ، ولا يصحّ ذلك إلّا بهذه الملاحظة ، مع أنّ الاستحباب النفسي على القول بالوجوب لغيره إنّما هو إذا لم يدخل وقت مشروط بالطهارة ، وبعد دخوله فيجب للغير ، فيختلف الزّمان.

__________________

ـ بين الفقرتين من المثال الثاني أعني لا تصلّ في الحمّام ولا تصلّ في الدار المغصوبة. حاصل الكلام انّ ما عارضناك إنّما هو فيما لو كان المنهي عنه بنهي التحريمي أخص مطلقا من المأمور به ، والّذي ذكرته في دفع المعارضة لو تمّ إنّما يناسب فيما لو كان المنهيّ عنه أعمّ من وجه من المأمور به ، هذا هو الخلط بين المقامين.

(١) وهو من قوله في إجابة الوجه الثالث المذكور آنفا ص ٣١٤.

(٢) أوّل كلام المجيب هو أن يكون الرّجحان بالذّات والمرجوحيّة بالنسبة الى الغير مثل الصلاة في الحمام بالنسبة الى الصلاة في البيت.

(٣) اي المرجوحية بالنسبة الى الغير والمرجوحية للغير كما اختلط الغيري مع ما للغير في كلام المصنّف حيث عبر بلفظ المرجوحية للغير وشبّه بها الوجوب والاستحباب في الغسل ، وظاهر التشبيه كونهما من باب واحد وان العطف تفسيري ، هذا كما في حاشية. وفي أخرى ذكر انّ هذا تعليل لقوله انّه رجوع عن أوّل الكلام. وحاصله انّ كلام المجيب أوّلا في المرجوحية بالنسبة الى الغير وقد رجع عنه وقال بالمرجوحية للغير ولا ريب انّ الثاني غير الأوّل.

٣٤٠