القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

قانون

اختلفوا في أنّ الأمر إذا كان مقيّدا بوقت إذا فات فيه ، فهل يجب بعده بذلك الأمر أم لا؟

وهذا هو الخلاف المشهور بينهم من أنّ القضاء تابع للأداء أو بفرض جديد.

والحقّ أنّ الأمر لا يقتضي إلّا الإتيان في الوقت (١) ، ووجوب القضاء يحتاج الى أمر جديد ، وبنى العضدي (٢) المسألة على أنّ قولنا : صم يوم الخميس ، المركّب في اللّفظ والذّهن من شيئين ، هل المأمور به فيه شيئان ، فيبقى أحدهما بعد انتفاء الآخر ، أو شيء واحد؟

وقال : إنّ هذا الخلاف ـ أعني كون المطلق والمقيّد شيئين في الوجود الخارجي أو شيئا واحدا ـ مبنيّ على الخلاف في أنّ الجنس والفصل متمايزان في الوجود الخارجي أم لا.

والظاهر أنّ مراده التنظير ، وإلّا فالقيد ـ أعني الزّمان ـ خارج عن الماهيّة.

__________________

(١) وإلى هذا يذهب السيّد والشيخ والعلّامة كما في «الذريعة» : ١ / ١١٦ ، و «العدة» : ١ / ٢١٠ ، و «المبادي» : ص ١١٢ ، وكذا ابن الحاجب والغزالي والآمدي وكثير منهم كما في «التبصرة» : ص ٦٤ ، و «المستصفى» : ٢ / ١٠ ، و «الإحكام» : ٢ / ١٦٦.

(٢) عبد الرحمن بن احمد بن الغفار ابو الفضل عضد الدين الإيجي (نسبة الى ايج بكسر الهمزة واهل فارس يسمونه ايك بلدة بنواحي شيراز (... ـ ٧٥٦ ه‍) كان ضالعا في الأصول والمعاني والبيان والعربية له مصنفات مشهورة منها : «شرح مختصر المنتهى» ـ في اصول الفقه ـ لابن الحاجب. ويعد هذا الشرح من عيون المراجع الأصولية فانتشر انتشارا واسعا ووضعت عليه حواشى كثيرة أهمها حاشية سعد الدين التفتازاني وحاشية الشريف الجرجاني وحاشية حسن الهروي.

٣٠١

وردّه بعض المحقّقين (١) : بأنّ كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض الأوّل ، ولا ينافي كونه بفرض جديد لاحتمال أن يكون غرض الأمر إتيانهما مجتمعا ، فمع انتفاء أحدهما ، ينتفي الاجتماع ، وكذا لا يجدي كونهما شيئا واحدا في نفي كون القضاء بالفرض الأوّل وإثبات كونه بفرض جديد ، لاحتمال كون المراد المطلق لا بشرط الخصوصيّة ، وذكر الخاصّ لكونه محصّلا للمطلق بلا نظر الى خصوصيّة الشيء المذكور ، فلا ينتفي المطلق بانتفاء هذا القيد ، فالنافي كون القضاء بالفرض الأوّل مستظهر لثبوت الاحتمال الغير المستلزم للقضاء ، وعلى المثبت (٢) نفي ذلك الاحتمال.

وفيه (٣) : أنّ احتمال اعتبار الاجتماع وإن كان يعضده أصالة البراءة عن القضاء ، ولكن يعضد الاحتمال الآخر أصالة عدم اعتبار الاجتماع واستصحاب البقاء ، فاشتغال الذمّة بمجمل التكليف مستصحب ، لا يحصل البراءة منه إلّا بالقضاء ولا يكفي فيه البراءة الاحتمالية.

واحتمال إرادة المطلق من المقيّد (٤) لا يكفي في نفي البراءة الأصلية ، مع أنّ الظاهر من المقيّد هو الفرد الخاصّ بشرط الخصوصيّة ، والحجّة إنّما هو الظاهر.

هذا ، ولكن يرد على العضدي أيضا ، أنّ مجرّد (٥) تمايز الجنس والفصل في

__________________

(١) وهو المحقق سلطان العلماء في حاشية العضدي كما ذكروا.

(٢) مثبت القضاء بالفرض الأوّل.

(٣) أي في رد بعض المحققين.

(٤) وهذا ناظر الى الثاني.

(٥) قال في التوضيح : انه رحمه‌الله قال في الدرس يعني كما يرد على العضدي ما أورده بعض المحققين يرد عليه أنّ مجرّد تمايز الجنس والفصل ... الخ.

٣٠٢

الخارج لا يجدي في كون القضاء بالفرض الأوّل إلّا إذا ثبت جواز انفكاك أحدهما عن الآخر ، ومجرّد التمايز في الوجود الخارجي لا يوجب الانفكاك ، سيّما على القول بكون الفصل علّة للجنس.

وأمّا على القول بعدمه (١) ، فنقول : إنّ المفروض عدم تحقّق الجنس في الخارج إلّا في ضمن أحد الفصول ، فمع انتفاء أحدها ، ينتفي الجنس ، ونيابة الفصل الآخر عنه ؛ الأصل عدمه كما مرّ تحقيقه في مسألة نسخ الوجوب.

ونظير الجنس والفصل فيما نحن فيه هو الصّوم وإيقاعه في يوم الخميس أو في يوم آخر ، ونيابة يوم آخر عن الخميس يحتاج الى جعل الشّارع.

وما يتوهّم ، أنّ يوما ما مأخوذ في الصوم (٢) فلا ينفع في المقام في شيء ، إذ الصوم الذي هو عبارة عن إمساك يوم ما ، يعتبر تقييده بالخميس ، أو يوم ما غير الخميس ، لا يوم ما مطلقا الذي كان مأخوذا في مفهوم الصوم ، فإذا انتفى الخميس ، فلا يبقى إلّا إمساك يوم ما مطلقا ، ولا وجود له في الخارج.

فإن شئت توضيح ذلك فاجعل قولك : صم يوم الخميس ، بمعنى أمسك في يوم الخميس ، متلبّسا بالشرائط المقرّرة.

والتحقيق : أنّ الفرق بين ما نحن فيه وبين الجنس والفصل واضح ، ولا يصحّ التنظير ولا التفريع (٣) ، لإمكان تحقق المقيّد بدون القيد ، بخلاف الجنس بدون

__________________

(١) أي بعدم جواز انفكاك كلّ من الفصل والجنس عن الآخر او على القول بعدم تمايزهما في الخارج فليتأمل.

(٢) وانّ غرض المتوهّم هو أنّ الصوم في يوم الخميس عبارة عن إمساك يوم ما في يوم الخميس وبعد انتفاء القيد أعني يوم الخميس بقي إمساك يوم ما.

(٣) فلا يصح التنظير منّا ولا التفريع من العضدي.

٣٠٣

الفصل ، فيمكن الامتثال بمطلق الإمساك في المثال المذكور ، وكذلك بمطلق صلاة ركعتين في قولنا : صلّ ركعتين يوم الجمعة ، بخلاف مثل : نسخت الوجوب ، كما مرّ.

فالحقّ والتحقيق ، أمّا في حكاية الجنس والفصل ، فما مرّ من عدم التمايز ، وإلّا لما جاز الحمل ب : هو هو ، وانّه لا يبقى الجنس بدون الفصل ، وانّ الأصل عدم لحوق فصل آخر.

وأمّا فيما نحن فيه ، فإنّ المتبادر من المقيّد هو شيء واحد ، والتبادر هو الحجّة ، فلا نفهم من قول الشّارع : صم الخميس إلّا تكليفا واحدا والزّائد منفيّ بالأصل ، فإذا انتفى الخميس ، فينتفي المأمور به ، بل يستفاد منه ـ على القول بحجّية مفهوم الزّمان ومفهوم اللّقب وغيرهما ـ الدّلالة على العدم أيضا.

ومن ذلك يظهر أنّه لا يمكن إجراء الاستصحاب فيه أيضا لانتفاء الموضوع ، ولا قولهم عليهم‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١) و : «الميسور» (٢) الخ ، ونحو ذلك (٣).

وكذلك الكلام في غير الوقت من القيود ، فلا فرق بين المفعول فيه كما نحن فيه والمفعول به والحال وغيرهما ، فلا يصحّ تفريع بعضهم على ذلك وجوب الغسلات الثلاث بالقراح لو فقد السّدر والكافور ، إلّا أن يثبت بدليل من خارج.

وقد استدلّ على المختار أيضا : بأنّ الأمر قد يستتبع القضاء كاليوميّة ، وقد لا يستتبع كالجمعة والعيد ، فهو أعمّ ، والعامّ لا يدلّ على الخاص.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ ذلك إنّما يصحّ لو كان الاستتباع من جهة الأمر الأوّل ، وهو ممنوع.

وقد يوجّه : بأنّ المراد أن مقتضى الشيء لا يتخلّف عنه ، فالتخلّف شاهد على

__________________

(١) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨.

(٢) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨. «الميسور لا يترك بالمعسور».

(٣) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨.

٣٠٤

عدم الاقتضاء.

وفيه : أيضا ما لا يخفى ، إذ التخلّف لعلّه من جهة دليل آخر ، فهو مقتض إلّا أن يمنع مانع.

وقد يستدلّ أيضا : بلزوم كون القضاء أداء ومساويا للأوّل لو كان بالأمر الأوّل ؛ فلا يعصى بالتأخير.

وفيه : أنّ الخصم يدّعي الترتيب لا التخيير والتسوية.

احتجّوا بوجوه :

الأوّل : أنّ الزمان ظرف من ظروف المأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه ، ويعلم جوابه ممّا سبق ، مع أنّه لو لم يكن له مدخليّة لجاز تقديمه عليه أيضا ، فتأمّل.

الثاني : أنّ الوقت كأجل الدّين ، فكما يجب أداءه بعد انقضاء الأجل ، فكذا المأمور به إذا لم يؤدّ في الوقت.

وفيه : أنّه قياس مع الفارق ، إذ وجوب أداء الدّين توصّلي ، والمصلحة المطلوبة باقية وهي براءة الذّمة وإيصال الحق الى صاحبه ، بخلاف العبادات ، فإنّ المصالح فيها مخفيّة ، ولعلّ للوقت مدخليّة في حصول مصلحتها.

وبالجملة ، العبادات توقيفيّة لا يجوز التجاوز فيها عن التوظيف ، بخلاف المعاملات ، وسيجيء تحقيقه.

الثالث : لو وجب بأمر جديد لكان أداء ، لأنّه أمر بالفعل لا بعد الوقت ، فيكون مأتيّا به في وقته.

وجوابه : أنّ الأداء ما لا يكون استدراكا لمصلحة فائتة ، وما نحن فيه استدراك للمصلحة الفائتة.

٣٠٥

قانون

الأظهر أنّ الأمر بالأمر ، أمر (١).

فإذا قال القائل لغيره : مر فلانا أن يفعل كذا ، أو قل له أن يفعل كذا ، فهذا أمر بالثالث ، مثل أن يقول : ليفعل فلان كذا ، لفهم العرف والتبادر.

واحتمال أن يكون المراد أوجب عليه من قبل نفسك ، بعيد مرجوح ، وإن كان ما ذكرنا مستلزما للإضمار وهو من قبلي.

ويؤيّده ، إنّا مأمورون بأوامر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله تعالى ، بل إذا اطّلع الثالث على الأمر قبل أن يبلّغه الثاني ولم يفعل ، واطّلع الآمر على ذلك ، فيصحّ أن يعاقبه على الترك وأن يذمّه العقلاء على ذلك.

احتجّوا (٢) بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع» (٣).

فإنّه لا وجوب على الصّبيان إجماعا.

و : بأنّ القائل لو قال لغيره : مر عبدك بأن يتّجر ، لم يتعدّ.

ولو قال لذلك العبد : لا تتّجر ، لم يناقض كلامه الأوّل.

والجواب عن الأوّل : أنّ الإجماع أوجب الخروج عن الظّاهر.

__________________

(١) خلافا للعلّامة في «المبادئ» : ص ١١٣ ، و «التهذيب» : ص ١١٦ ، والرازي في «المحصول» : ٢ / ٤١٨ ، والغزالي في «المستصفى» : ٢ / ١٠ ، والشهيد في «التمهيد» : ص ١٢٦ ، والّذي قال فيه أيضا : وذهب بعضهم إلى أنّه أمر لهما.

(٢) أي القائلون بأنّ الثالث لم يكن مأمورا بالفعل في الصورة المذكورة.

(٣) «سنن الترمذي» : ٢ / ٢٥٩ الحديث ٤٠٧ ، «سنن ابي داود» : ١ / ١٣٣ الحديث ٤٩٤ ، «تذكرة الفقهاء» : ٢ / ٣٣١ ، «بحار الأنوار» : ٨٥ / ١٣٣ الحديث ٤.

٣٠٦

وعن الثاني : أنّ القرينة دالّة على أنّه للإرشاد ، ولذلك نقول باستحباب عبادة الصبيّ ، ونضعّف كونها محض التمرين.

ومن فروع المسألة ما لو قال زيد لعمرو : مر بكرا بأن يبيع هذا الفرس.

فهل لبكر قبل أن يأمره عمرو أن يتصرّف فيه أم لا؟

وهل يصحّ بيعه أم لا؟

وأمّا الأمر بالعلم بالشيء ، فهل يستلزم حصول ذلك الشيء في تلك الحالة أم لا؟

الأظهر : لا.

فإنّ الأمر طلب ماهيّة في المستقبل ، فقد يوجد وقد لا يوجد.

فقول القائل : اعلم أنّي طلّقت زوجتي ، لا يوجب الإقرار بالطلاق ، بالنّظر الى القاعدة ، ولكنّ المتفاهم في العرف في مثله الإقرار وإن لم يتمّ على تلك القاعدة ، فافهم.

٣٠٧

المقصد الثاني

في النّواهي

قانون النّهي هو طلب ترك الفعل بقول من العالي على سبيل الاستعلاء.

ويدخل فيه (١) التحريم على ما هو المتبادر من هذه المادّة في العرف أيضا.

وأمّا مثل : اكفف عن الزّنا فيدخل في الأمر من حيث ملاحظة الكفّ بالذّات وانّه فعل من الأفعال ، ونهي من حيث إنّه آلة لملاحظة فعل آخر وهو الزّنا ، وحال من الأحوال.

وربّما قيل بكونه مشتركا بين التحريم والكراهة أو قدر مشترك بينهما.

والأقرب الأوّل. ويظهر وجهها (٢) ممّا تقدّم في الأمر (٣).

وأمّا صيغة : لا تفعل (٤) وما في معناها ، فالأشهر الأظهر أنّها أيضا حقيقة في الحرمة.

__________________

(١) أي في هذا التعريف.

(٢) أي وجه هذه الأقوال أو وجه القولين بناء على ما في نسخة وجههما.

(٣) وجه أقربيّة كون النهي حقيقة في الحرمة وغير أقربيّة كونه مشتركا لفظيّا بينها وبين الكراهة أو معنويّا بينهما يظهر مما تقدم في الأمر ، بأن يقال : إنّ التحريم هو المتبادر منه عند الاطلاق والمجاز خير من الاشتراك والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، وتقسيمه الى الحرمة والكراهة لا يستلزم كونه حقيقة فيهما لأنّ إرادة تقسيم النهي الحقيقي غير مسلّم وإرادة الأعمّ لا ينفع ، مع أنّه قد ينقسم الى ما ليس بحقيقة فيه اتفاقا كالإرشاد ونحوه. كما في الحاشية.

(٤) وهذه الصيغة ترد لتسعة معان هي التحريم نحو : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ، والكراهة نحو : ـ

٣٠٨

وقيل : بأنّها حقيقة في الكراهة.

وقيل : بالاشتراك لفظا (١).

وقيل : معنى ، وقيل : بالوقف (٢).

لنا : التبادر عرفا ، وكذلك لغة وشرعا ، لأصالة عدم النقل والاحتمالات المتقدّمة (٣) في صيغة الأمر آتية هنا ، فعليك بالتأمّل وتطبيقها على ما نحن فيه.

وكذلك يظهر أدلّة سائر الأقوال وأجوبتها ممّا تقدّم (٤).

وربّما يستدلّ على المشهور بقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٥). أنّ صيغة افعل للوجوب ، ووجوب الانتهاء عن الشيء ليس إلّا تحريم فعله ، فدلّ على تحريم المنهيّ عنه.

__________________

ـ (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا). والمراد من النصيب هو الموت ، وبيان العاقبة نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) والتسلية نحو : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ،) والشفقة نحو : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ،) والدعاء نحو : (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ، واليأس نحو : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) ، والإرشاد نحو : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، والتحقير نحو : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.)

(١) قيل إنّ القائل به الشهيد الثاني ، وصاحب «الذريعة» السيّد المرتضى ، راجع : ١ / ١٧٤ و ٢٨ منه.

(٢) راجع «العدة» : ١ / ٢٥٦ ـ ١٧٠.

(٣) في تحرير محلّ النزاع ، انّ النزاع في صيغته الصادرة من العالي أو الصيغة من حيث هي الصيغة تدلّ على أنّ قائلها عال أو تدلّ مع ذلك على الحتم والإلزام ، وقيل : انّ المراد بالاحتمالات هو الشبهات الواردة في الأمر ، نظير تلك الشبهات آت في النهي أيضا. هذا كما في الحاشية.

(٤) في مبحث الأمر.

(٥) الحشر : ٧.

٣٠٩

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ (١) لو قلنا : كل صيغة لا تفعل ، نهي ، وهو مسلّم إن لم نقل بكون النّهي بلفظه مأخوذا في معناه التحريم ، وهو خلاف التحقيق كما عرفت.

فحينئذ ، فلا يصدق النّهي على صيغة لا تفعل إلّا ما علم إرادة الحرمة منه.

والنزاع في صيغة لا تفعل ، مجرّدة عن القرائن لا فيما علم كونه للحرمة ، فحينئذ يكفي صدق النّهي عليها في إفادة الحرمة ، ولا حاجة الى دليل آخر ، كما مرّ نظيره في الأمر (٢) ، وإن لم يجعل لفظ نهى ينهى مأخوذا في معناه الحرمة كما هو مبنى الاستدلال ظاهرا.

ففيه ، أوّلا : ما بيّناه من أنّ الحقّ خلاف ذلك.

وثانيا : أنّ هذا الاستدلال يدلّ على عدم الدلالة لغة وإلّا لما احتاج الى الاستدلال.

وأمّا في خصوص نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصيرورته بذلك مدلولا حقيقيّا له أيضا ، محلّ الكلام ، بل يصير ذلك من باب الأسباب والعلامات ، ولا يفيد أنّ مدلول لا تفعل ، في كلامه يصير كذلك حقيقة ، بلّ إنما يدلّ على أنّ كلّ ما منعه بقوله : لا تفعل ، يجب الانتهاء عنه.

__________________

(١) وفي بعض النسخ ان لو قلنا وحينئذ يقرأ بكسر الهمزة بجعل ان شرطية ولو زائدة للتأكيد ، او بفتح الهمزة بجعل ان مصدرية ولو أيضا زائدة للتأكيد بجعل لو أيضا مصدرية أي فيما لو قلنا ، ويجوز جعل ان زائدة ولو شرطية بعكس الاوّل فتأمل. هذا ما في الحاشية.

(٢) في القانون الثاني من الأوامر في مقام الاستدلال بقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ). حيث قال هناك في جواب ما قيل : انّ الأمر حقيقة في الصيغة المخصوصة ... الخ. ففيه ، ما لا يخفى إذ الأمر إنّما يسلّم صدقه على الصيغة إذا كان؟؟؟ بها على سبيل الوجوب ، وأمّا إذا أريد منها غيره فلا يصدق عليها أنّه أمر.

٣١٠

وثالثا : أنّ حمل الأمر على الاستحباب مجاز ، وتخصيص كلمة الموصول مجاز آخر ، ولا محالة لا بدّ من إخراج المكروهات ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وأرجحيّة التخصيص يعارضه لزوم إخراج الأكثر ، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد أنّه يجب الإذعان على مقتضى مناهيه ، وامتثالها على طبق مدلولاتها إن حرمة فبالانزجار البتّ ، وإن كراهة فبالانزجار تنزيها ، والاعتقاد على مقتضاهما في المقامين.

وبالجملة ، المطلوب الإذعان على مقتضاه.

ورابعا : أنّه لا يدلّ إلّا على حكم مناهي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانفهام حرمة مخالفة الله تعالى عن حرمة مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفحوى لا يدلّ على دلالة لفظ لا تفعل في كلامه تعالى على ذلك ، لعدم الملازمة بينهما كما هو واضح بيّن إلّا أن يتشبّث بعدم القول بالفصل.

وفيه أيضا : إشكال (١).

ثمّ إنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله ومن تبعه تأمّلوا في دلالة المناهي الواردة في كلام أئمّتنا عليهم‌السلام على الحرمة بعد تسليمها في أصل الصّيغة لما ذكروه في صيغة الأمر من جهة كثرة الاستعمال في المكروهات وصيرورتها فيها من المجازات الرّاجحة المساوية للحقيقة (٢).

والجواب عنه : هو نفس الجواب (٣) عمّا تقدّم في الأمر ، فلاحظ.

__________________

(١) إذ أنّ غاية ما يفيده القول بعدم الفصل هو ثبوت التحريم بالنسبة الى نواهيه تعالى والأئمة عليهم‌السلام ولو مجازا ، ولا تفيد كون نواهي الله تعالى والأئمة عليهم‌السلام حقيقة في الحرمة كما هو المدّعى.

(٢) راجع «المعالم» : ص ١٤٠ و ٢٤٠.

(٣) وهو قوله هناك : إنّ ما ذكره أعني صاحب «المعالم» إنّما يصح اذا ثبت استعمالهم عليهم‌السلام ـ

٣١١

قانون

اختلفوا في أنّ المراد من النّهي هو الكفّ ، أو نفس أن لا تفعل (١)؟ والأقرب الثاني(٢).

لنا : صدق الامتثال عرفا بمجرّد ترك العبد ما نهاه المولى ، مع قطع النظر عن ملاحظة أنّه كان مشتاقا إلى الفعل فكفّ نفسه عنه.

فإن قلت : العدم الأزليّ سابق ويمتنع التأثير فيه للزوم تحصيل الحاصل ، مع أنّ أثر القدرة متأخّر عنها (٣).

قلت : الممتنع هو إيجاد العدم السّابق لا استمراره ، وأثر القدرة يظهر في الاستمرار ، فإذا ثبت إمكان رفعه بإتيان الفعل ، فيثبت إمكان إبقائه باستمرار التّرك ، إذ القدرة بالنسبة إلى طرفي النقيض متساوية ، وإلّا لكان وجوبا أو امتناعا.

فإن قلت : لو كان المطلوب هو العدم ، لزم أن يكون ممتثلا ومثابا بمحض

__________________

ـ في الندب الى قرينة حالية أو لفظية ، وتفهم إرادة الندب من دليل آخر ، ولم يثبت ـ الى آخر الايرادات ـ فنقول هنا أيضا بمثل ما هناك حرفا بحرف إلّا انّه لا بد هنا من تبديل النّدب بالكراهة ، والوجوب بالحرمة.

(١) الفرق بين أن لا تفعل وبين الكفّ عن الفعل ، أنّ الأوّل يقارن الثاني قطعا ، بخلاف الثاني فإنّه لا يلزم أن يقارن الأوّل ، لجواز أن لا يفعل ولا يخطر بباله الكفّ عنه ، وهذا كما في هامش للخوانساري على «المعالم» تعليقة صالح ص ٩٥.

(٢) ذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكفّ عن الفعل المنهيّ عنه ومنهم العلّامة في «تهذيبه» ، وقال في «النهاية» : المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل ، وحكي أنّه قول جماعة كثيرة ، وهذا هو الأقوى كما في «المعالم» : ص ٢٤١.

(٣) راجع «المعالم» : ص ٢٤٢ في نقله وردّه.

٣١٢

الموافقة الاتفاقيّة (١) ، أو بسبب عدم القدرة على الفعل أو عدم إرادته (٢) أو غير ذلك (٣).

قلت : أوّلا : إنّه معارض بالكفّ بقصد الرّياء.

وثانيا : إنّ الكلام إنّما هو على ظاهر حال المسلم.

وثالثا : إنّا لا ندّعي الكليّة ، بل ندّعي إمكان حصول الامتثال بمجرّد ترك الفعل ، فإنّ الثواب موقوف على الامتثال ، سواء كان محتاجا في التّرك إلى الكفّ أو فعل ضدّ آخر أو لم يكن ، بل يكفي في ذلك قوّة الدّاعي الحاصل بتوطين النّفس على الامتثال والانتهاء عن كلّ ما نهي عنه وإن لم يكن قادرا على الفعل ، بل وغير مستشعر أيضا.

ويؤيّد ذلك ، أنّه لو لم يكن نفي الفعل مقدورا للزم عدم العقاب على ترك الواجب إلّا مع الكفّ عنه ، وهو باطل جزما.

فإن قلت : على ما ذكرت أيضا يؤول الكلام إلى أنّ المكلّف به ليس نفس ترك الفعل كيف كان ، بل هو أمر وجوديّ (٤) ، وهو إبقاء العدم واستمراره ، ولو كان بمجرّد توطين النّفس على الامتثال بمجرّد تصوّر تمكّن أن يصدر عنه الفعل وإن لم يكن قادرا عليه بالفعل أيضا ، وإلّا فقد يكون مكلّفا بالكفّ وقد يكون مكلّفا بفعل أحد الأضداد الوجوديّة غير الكفّ ، فالذي يكون مقدورا له هو أحد هذه الأمور على التفصيل ، فالمطلوب إنّما هو ذلك الأمر الوجوديّ كالأمر بإحراق

__________________

(١) كالمغمى عليه والنائم مثلا.

(٢) راجع «المعالم» : ص ٢٤٢ و «هداية المسترشدين» : ص ١٩.

(٣) كإرادة العدم قبل ورود النهي.

(٤) وذهب جماعة إلى أنّه أمر وجودي وهو الكفّ عنه ونقله في «الفصول» : ص ١٢٠.

٣١٣

الحطب فإنّه حقيقة أمر بإلقاء الحطب في النار.

قلت : قد مرّ الكلام في نظيره في مقدّمة الواجب ، فتذكّر (١).

ونقول هنا : إنّ ذلك من قبيل طلب حركة المفتاح المقدورة بحركة اليد ، ولا مانع منه ، لأنّ المقدور بواسطة المقدور مقدور ، وإن كان غير مقدور بلا واسطة ، فعدم الفعل في الآن الثاني من التكليف مقدور بواسطة أحد الأمور المذكورة ، فهو المكلّف به بالذّات ، وسائر الأمور مكلّف بها بالتّبع من باب المقدمة.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر حجّة القول الآخر وجوابه (٢) ، وعدم حسن الاقتصار على الكفّ فقط.

فائدتان

الأولى : قد عرفت (٣) أنّهم اختلفوا في دلالة النهي عن الشيء على الأمر بضدّه على حذو ما ذكروه في الأمر ، ويشكل الفرق بين هذا المقام وما تقدّم.

وعلى القول بكون المطلوب هو الكفّ ، يتوجّه القول بالعينيّة هنا.

ويمكن الفرق بأنّ الكلام ثمّة كان في دلالة لفظ النّهي على الأمر ، مع قطع النظر

__________________

(١) في أواخر قانون مقدمة الواجب وقبيل التنبيهات حيث قال هناك : انّ ما ذكرنا مبني على أن يكون الافعال التوليديّة ... الخ.

(٢) وهو القول بأنّ المراد من النهي هو الكفّ ووجه ظهور الحجّة وجوابها هو أنّ جميع الاعتراضات التي ذكرها المصنف بقوله : إن قلت حجّة لهذا القول. وما ذكره في الجواب بقوله : قلت جواب عن هذه الحجّة.

(٣) في أواخر القانون في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا.

٣١٤

عن الأدلّة الخارجية مثل امتناع تعلّق التكليف بالعدم ونحوه ، بخلافه هاهنا ، وهو أيضا مشكل لعموم الكلام ثمّة أيضا.

وعلى أيّ تقدير فهاهنا إشكال آخر ، وهو أنّه على القول بكون المطلوب بالنّهي هو الكفّ يئول الأمر إلى النّهي عن ضدّ الكفّ أيضا على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فيلزم الدّور فتأمّل (١).

الثانية :

اختلفوا في أنّ هذا الترك هل هو من قبيل الفعل أم لا.

ذهب المحقّقون إلى الأوّل ، ويظهر الثمرة في مثل ما لو علّق الظّهار على فعل ليس فيه رضى الله فتركت صوما أو صلاة (٢) وما لو القي في النار وتمكن عن الخلاص فلم يتخلّص حتى مات فهو قاتل نفسه ، وإلّا فيجب القصاص.

__________________

(١) إشارة إلى أنّ ذلك ليس بدور التوقّف المحال ، بل هو دور معيّ. في الحاشية : توضيح ذلك أنه على القول الأوّل ، يعني القول بأنّ النهي يدل الأمر بضده ، فمعنى قولنا : لها تزن مثلا كفّ نفسك عن الزنا بمقتضى القول بكون المطلوب به هو الكفّ ، وعلى القول الثاني يعني القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فمعنى قولنا : كفّ نفسك عن الزنا هو قولنا : لا تزن ، فحينئذ يكون ترك المنهي عنه ، يعني مدلول لا تزن موقوفا على الكفّ ، يعني مدلول كفّ نفسك عن الزنا ، والكفّ عنه موقوفا على تركه فهو الدور المذكور ، ولما كان ورود هذا الدور في غاية الوهن قال فتأمّل.

(٢) فيتحقّق الظّهار لو قلنا أنّ ترك الصلاة والصوم فعل ولم يتحقّق لو لم نقل أنّه فعل.

٣١٥

قانون

اختلفوا في دلالة النّهي على التكرار على قولين (١) : فعن الأكثر أنّه للتكرار (٢). والأقوى العدم (٣).

لنا : ما مرّ مرارا أنّ الأوامر والنّواهي وغيرها مأخوذة من المصادر الخالية عن اللّام والتنوين ، وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، ولا يزيد الهيئة على المادة إلّا الطلب الحتميّ التحريميّ أو الإيجابيّ ، والأصل عدم شيء آخر ، فمن يدّعيه فعليه بالبيان ، مع أنّا نرى بالعيان استعماله في كلّ واحد من المعنيين ، كالزّنا وصلاة الحائض ونهي الطبيب عن الضّار في المرض ، فاللّفظ قابل لهما ومستعمل فيهما ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل حتّى يثبت بالدّليل.

احتجّوا (٤) : بأنّ النّهي طلب ترك الطبيعة ومنع المكلّف عن إدخال الماهيّة في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع عن إدخال كلّ فرد ، كما أنّ الطلب الإيجابيّ يحصل الامتثال فيه بإتيان فرد.

__________________

(١) بل على ثلاثة إن لم نتجاهل القول بالوقف.

(٢) ومنهم العلّامة في «النهاية» كما في «المعالم» : ص ٢٤٣ : وهو القول الثاني للعلّامة رحمه‌الله : اختاره في «النهاية» ناقلا له عن الأكثر وإليه أذهب. والعميدي والشيخ البهائي والفاضل الجواد على ما حكي عنهم.

(٣) وفاقا للشيخ في «العدة» : ١ / ٢٠٠ والسيّد يظهر من كلامه الوقف كما في «الذريعة» : ١ / ٩٩ ، والمحقق في «المعارج» : ص ٦٦ ذهب إلى عدم افادة الأمر إلى التكرار والّذين حكوا عنه ذلك في النهي لربما ذلك مستندهم ، والعلّامة في «التهذيب» : ص ١٢١ ، وفي «المبادي» : ص ٩٤.

(٤) راجع «المعالم» : ص ٢٤٣.

٣١٦

وفيه : أنّ ذلك لا يفيد ذلك (١) ولو كان مدخول الطلب التحريميّ الماهيّة بشرط الوحدة أو بشرط العموم المجموعيّ أيضا مع كونهما مفيدين للعموم في الجملة ، فضلا عمّا لو كان المدخول هو الطبيعة المطلقة ، كما هو القدر المسلّم في مبدإ الاشتقاق ، إذ كما أنّ المطلوب يحتمل الإطلاق والتقييد ، كذلك الطّلب أيضا يحتملهما ، فكما يصحّ أن يقال : أطلب منك عدم الزّنا الحاصل ما دام العمر أو عدم الزّنا في شهر أو سنة ، كذلك يصحّ أن يقال : أطلب منك ما دام العمر ترك الزّنا ، أو أطلب في هذا الشهر منك ترك الزّنا ، ولا دلالة في اللّفظ على أحد التقييدين (٢). فطلب ترك الطبيعة إنّما يقتضي ترك جميع أفراد الطبيعة في الجملة لا دائما ، وأين المطلقة من الدائمة! فلا يمكن إثبات الدّوام والتكرار للنهي ، لا من جهة المادّة ولا من جهة طلب الترك. اللهمّ إلّا أن يتشبّث بالتبادر العرفيّ كما يظهر من بعضهم (٣) وهو خلاف ما ذكره المستدلّ ، مع أنّه في معرض المنع أو يتشبّث في ذلك بأنّ طلب التّرك مطلق ، وإرادة ترك الطبيعة في وقت غير معيّن إغراء بالجهل ، فوقوعه في كلام الحكيم يقتضي حمله على العموم.

وهذا وجه وجيه ، ولكنّه أيضا خلاف ظاهر المستدلّ.

وعلى هذا ، فما أنكرناه هو دلالة الطبيعة عليه باعتبار الدّلالة اللّفظية ، كما هو المعيار في نظائر المبحث ، وإلّا فلا نمنع الحمل على العموم ، وحينئذ فصلاة

__________________

(١) أي كون النهي لطلب ترك الطبيعة لا يفيد الامتناع عن إدخال كل فرد المستلزم للتكرار.

(٢) أي الدّوام والزمان الخاص.

(٣) كالآمدي في «الأحكام» والسيد عميد الدّين في «شرح التهذيب» وقيل : بل وصريحه في «المنية».

٣١٧

الحائض ، وما نهاه الطبيب ، قد قيّد أوّلا بالوقت والزمان المطلوب تركه فيه ولوحظ مقيّدا بذلك ثمّ وقع عليه النهي ، ولذلك يحمل إطلاقه في ذلك الزّمان بالنسبة الى جميع أجزائه ، وإن كان مطلقا بالنسبة إليها.

ولا يذهب عليك (١) أنّه لا يمكن إجراء هذه الطريقة في الأمر وإدّعاء حمل مطلقه على الدّوام لحصول الامتثال هنا بفرد ما ، وعدم لزوم اللّغو والقبح في كلام الحكيم ، بخلاف ما نحن فيه.

نعم ، يجري هذا الكلام في مثل : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، كما سيجيء هذا. ولكن لك أن تمنع إجراء هذه الطريقة في النّهي أيضا ، بأن يقال : لا يلزم من الإطلاق في الصّيغة كون المطلوب ترك الطبيعة في وقت غير معيّن حتّى يلزم الإغراء القبيح ، بل نقول : المراد مطلق طلب ترك مطلق الطبيعة ، وربّما يحصل الامتثال بترك جميع أفراد المنهيّ عنه في الآن المتأخّر عن النّهي في زمان يمكن حصول الفعل فيه.

ثمّ إنّ التكليف بترك الطبيعة وتكراره على القول بالتكرار ، هل هو تكليف واحد أو تكليفات [تكليفان] ، فيحصل الامتثال بتركه على الثاني دون الأوّل؟

مقتضى الاستدلال على التكرار ، بأنّ المطلوب ترك الطبيعة ، وهو لا يحصل إلّا بتركه دائما عدم الامتثال بالترك في بعض الأوقات ، ومقتضى ما ذكرنا من انفهام التّكرار ، ومن وقوع المطلق في كلام الحكيم ، هو حصول الامتثال بموافقة مطلق النّهي وإن عصى بترك استمراره.

__________________

(١) هذا جواب عن سؤال مقدّر وهو انّ هذه الطريقة أي دليل الحكمة لو تمّ في المنهي عنه ليجري في المأمور به أيضا ، وهو باطل لما ذكره في المتن.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٣١٨

وأمّا على الاستدلال بالتبادر ، فلا بدّ من التأمّل ، فإن تبادر مع تقييد التروك المفروضة بحسب الأوقات بعضها ببعض ، فلا يحصل الامتثال إلّا بالدّوام وإلّا فيحصل الامتثال بفعل البعض ، وترتّب العقاب على ترك الآخر.

والحقّ على ما اخترناه (١) ، حصول الامتثال بالترك في الجملة ، إلّا ما أخرجه الدّليل ، كترك الأكل في الصوم ، وليس ذلك لدلالة النهي ، بخلاف قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى)(٢) ، فإنّ الامتثال يحصل بتركه في شهر أو عام أو أقلّ أو أكثر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حصول الامتثال بترك الطبيعة في الجملة إنّما هو بالنسبة إلى الزّمان والأفراد المتعاقبة بحسب تماديه ، وأمّا الأفراد المتمايزة بسائر المشخّصات ، فكلا. فمن ترك الزّنا بامرأة معيّنة وارتكب الزّنا مع الاخرى ، فلا يحصل له الامتثال حينئذ لأجل ذلك الترك ، فإنّ الطبيعة لم تترك حينئذ مع أنّ الامتثال بالترك الآخر حينئذ ممنوع لعدم المقدوريّة ، لأنّ المقدور ما يتساوى طرفاه ، فكما لا يمكن تحصيل زناءين في آن واحد ، لا يمكن ترك أحدهما في آن ارتكاب الآخر.

وبالجملة ، فلا بدّ من ترك الطبيعة رأسا في آن من الأوان ليتحقّق الامتثال ، ولا يحصل إلّا بترك جميع الأفراد.

__________________

(١) من القول بالاشتراك المعنوي ، القول بأنّ النهي حقيقة في طلب ترك الماهيّة لا بشرط شيء.

(٢) الإسراء : ٣٢.

٣١٩

تنبيه

كلّ من قال بكون النّهي للدّوام ، لا بدّ أن يقول بكونه للفور ، ليتحقّق الدّوام.

وأمّا من لا يقول به ، فلا يلزمه عدم القول به من هذه الجهة.

فما ادّعاه بعضهم (١) من أنّ كلّ من لا يقول بالتكرار يلزمه عدم القول بالفور.

وفيه ما فيه (٢) ، مع أنّ الشيخ في «العدّة» (٣) ذهب الى كونه للفور ، ولا يقول بالتكرار.

نعم ذهب العلّامة في «التهذيب» (٤) الى عدم الفور ، مع عدم قوله بالتكرار ، ولا يلزم أن يكون ذلك للتّلازم بين القولين ، فمن يقول بالفور مع عدم قوله بالتكرار ، فلعلّه يدّعي التبادر في الفور ، ويقول : إنّ العقلاء يذمّون العبد المسوّف (٥) لامتثال المولى في النهي.

وأمّا على ما ذكرنا من إخراج الكلام عن الإغراء بالجهل ، فيلزم القول بالفور أيضا.

__________________

(١) هو السيد عميد الدّين وغيره.

(٢) حيث لا ملازمة بين القولين.

(٣) ١ / ٢٢٧.

(٤) ص ١٢١ ، وفي «المبادي» ص ٩٦ : الحق أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التراخي.

(٥) وهو المؤخّر له ، لأنّ التسويف يعني التأخير.

٣٢٠