القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

عند حضور وقته ، أو من باب إرادة العزم (١) والتوطين ، فتأمّل. مع أنّ حصول العلم (٢) لإبراهيم عليه‌السلام في معرض المنع لم لا يكون بسبب الظنّ المتّبع في مثل هذا المقام ، مع أنّ الوجوب الشرطيّ (٣) فيما لو كان المكلّف واحدا والحال واحدا أيضا مشكل ، فتدبّر.

وممّا يتفرّع على المسألة لزوم القضاء على المكلّف إذا دخل الوقت وجنّ ، أو حاضت المرأة قبل مضيّ زمان يسع الصّلاة ، وانتقاض التيمّم ممّن وجد الماء ، وإن لم يمض زمان يتمكّن عن المائيّة أو منع عنها مانع فلا يكون مكلّفا بالمائيّة فلا ينتقض ، والمشهور انتقاضه ، ولعلّه من جهة ظواهر النصوص (٤).

ومنها : ما لو منع عن الحجّ في العام الأوّل ثمّ مات أو تلف ماله ، فلا قضاء ، وفروع المسألة كثيرة ، وربّما جعل منها لزوم الكفّارة على من أفطر في شهر رمضان ثمّ مرض في ذلك اليوم ، أو حصل له مفطر آخر ، من سفر ضروريّ أو غير ضروري ونحو ذلك.

وفيه : إشكال ؛ إذ لا دليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصّوم التامّ النفس الأمريّ ، بل قد يجب لأنّه فعل فعلا حراما وأفطر صوم رمضان بحسب ظنّه الذي عليه المعوّل في التكليف ، ولذلك وقع الخلاف فيه بين الأصحاب.

__________________

(١) وهو الجواب الرابع ، وحاصله أنّ المطلوب لم يكن نفس الذبح ، بل هو العزم وتوطين النفس عليه.

(٢) وهو الجواب الخامس.

(٣) وهو الجواب السادس.

(٤) انّ الانتقاض من جهة دليل خارجي ولعلّه ظواهر النصوص لا لما ذكر. قال في الحاشية : فلا ينافي ذلك قول المشهور بعدم الجواز.

٢٨١

قانون

اختلفوا في أنّ الشارع إذا أوجب شيئا ثمّ نسخ وجوبه ، هل يبقى الجواز أم لا؟(١)

والظاهر أنّ الجواز الثابت بالبراءة الأصليّة ثابت حينئذ جزما ، وإنّما الإشكال في بقاء الجواز الذي استفيد من الأمر ، فمحلّ النزاع هو ثبوت حكم آخر شرعيّ من الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الاستحباب وعدمه.

فالأقوى عدمه ، بل يرجع إلى الحكم السّابق من البراءة أو الإباحة أو التحريم ، بالنظر الى الموارد ، مثل أن يكون من العبادات فيحرم ، لكونها تشريعا بدون الإذن (٢) ، أو العادات (٣) والتلذّذات (٤) فيكون مباحا ، أو المعاملات ، فالأصل البراءة من اللّزوم لأصالة عدم ترتّب الأثر ، أو بالنظر إلى الأقوال فيما لم يرد فيه

__________________

(١) عند الرازي بقي الجواز خلافا للغزالي كما في «المحصول» : ٢ / ٢٨٣ وكذا بقي الجواز عند العلّامة كما صرّح في «التهذيب» : ص ١١٢ و «المبادئ» : ص ١٠٨ بينما الشيخ حسن في «المعالم» : ص ٢٣٢ قال : «لا يبقى معه الدلالة على الجواز ، بل يرجع الحكم الّذي كان قبل الأمر ونقل في «المعالم» : وبه قال العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» وبعض المحقّقين من العامّة ، وقال أكثرهم بالبقاء.

(٢) إذ إنّ العبادات من جهة كونها توقيفيّة موقوفة على أمر الشارع وبيانه ، وبدونه يكون تشريعا محرّما ، فبعد الأمر هي إمّا واجبة أو مستحبة فإذا رفع الأمر لا يمكن أن يرجع الى غير الحرمة وذلك كحرمة التوجّه الى بيت المقدس في الصلاة بعد ما رفع وجوبه بالآية.

(٣) عطف على قوله : العبادات ، والمراد منها مثل القعود والقيام والنوم ونحو ذلك.

(٤) كالأكل والشرب ونحوهما.

٢٨٢

نصّ ، فإنّ منهم من قال فيه بالتحريم ، ومنهم من قال غير ذلك (١) ، فيما يتوهّم (٢) من أنّ المراد رجوع الحرمة المنسوخة (٣) مثلا ، لو فرضت ثبوتها قبله أيضا باطل.

وبالجملة ، المراد عدم بقاء الجواز المستفاد من الأمر بالدّلالة التضمّنيّة مطلقا ، لا رجوع الحكم السّابق ، وإن كان حكما شرعيّا منسوخا.

ومحلّ النزاع ما إذا قال : نسخت الوجوب أو رفعته ، أو : نسخت المنع عن الترك ، ونحوها. أمّا لو حرّمه أو صرّح بنسخ مجموع مدلول الأمر ، فلا إشكال.

احتجّوا على بقاء الجواز (٤) : بأنّ الأمر الإيجابيّ دلّ على الجواز مع المنع من الترك ، فالمقتضي للجواز موجود ، ونسخ الوجوب لا يحصل معه اليقين برفعه ، لحصول معناه برفع المنع عن التّرك ، فإنّ رفع المركّب يحصل برفع أحد جزءيه ، وعدم بقاء الجنس مع انعدام الفصل إنّما يسلم لو لم يخلفه فصل آخر ، ولا ريب أنّ رفع المنع عن التّرك يستلزم جواز الترك ، فمع انضمامه الى جواز الفعل ، يحصل الإباحة.

وفيه : أنّ الجنس والفصل وجودهما في الخارج متّحد ، ووجودهما إنّما هو في ضمن الفرد ، فلا معنى للتفكيك بينهما ، مع أنّ المحقّقين منهم (٥) صرّحوا بكون الفصل علّة لوجود الجنس (٦) ، مع أنّ الأحكام منحصرة في الخمسة ، فلا يتصوّر

__________________

(١) وهو مذهب أصحابنا ومعتزلة بغداد ، والإباحة مذهب أكثر أصحابنا ومعتزلة البصرة ، والوقف مذهب الشيخ المفيد وبعض العامة كما ذكر في الحاشية.

(٢) راجع في «المعالم» : ص ٢٣٢.

(٣) هذا الكلام كأنّه ردّ على سلطان العلماء في حاشيته ص ٢٩١ على «المعالم».

(٤) وكذا ذكر في «المعالم» : ص ٢٣٤ مع تصرّف في العبارات.

(٥) وقد ذكره في «المعالم» : ص ٢٣٤ بقوله : كما نصّ عليه جمع من المحقّقين.

(٦) قال المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ٢ / ٦٤٨ : كأنّ مرادهم بعلّية الفصل للجنس ـ

٢٨٣

الانفكاك عن واحد من الفصول الأربعة (١) التي يتركّب الجواز معها.

وما قيل (٢) في الاحتجاج من نيابة الفصل الآخر.

ففيه : أنّ تحصّل الجنس في ضمن الفصل الأوّل غير تحصّله في ضمن فصل آخر ، فإذا انتفى التحصّل الأوّل فما الذي أوجب حصوله ثانيا؟

فإن قلت : إنّ وجوده مستصحب (٣).

قلت : علّية الفصل لوجود الجنس والتفرقة بين التحصّلين (٤) لا يجامع القول بالاستصحاب ، وإن تقارن رفع الفصل وجود فصل آخر في الخارج.

سلّمنا (٥) ، لكنّه معارض (٦) باستصحاب عدم القيد (٧) ، فإنّ جواز الترك حال

__________________

ـ أنّ وجود الجنس مستند الى وجود الفصل تبعا له لاتحاده به ، فهناك وجود واحد ينسب أصالة الى الفصل وتبعا الى الجنس وهما متحدان بحسب الوجود. وقال في الحاشية في بيان كون الفصل علّة للجنس ما هو حاصله ، أنّه علّة لرفع إبهامه الذهني وتميّزه من حيث تحصيله في ضمن الفصل الخاص.

(١) أي لا يتصوّر انفكاك الجنس وهو الجواز عن واحد من الفصول الأربعة ، أعني فصل الوجوب والاستحباب والاباحة والكراهة حتى يكون ذلك الجواز بدون أحد هذه الفصول حكما آخر ، وأمّا تحقّقه مع شيء من هذه الفصول فلا دليل عليه.

(٢) في «المعالم» : ص ٢٣٥ بتصرّف في العبارة.

(٣) راجع «المعالم» : ص ٢٣٧.

(٤) اي اختلافهما بواسطة اختلاف الفصلين.

(٥) أي سلّمنا عدم اليقين برفع الجنس وجريان الاستصحاب فيه.

(٦) وذكره في «المعالم» : ص ٢٦٧.

(٧) واستصحاب عدم القيد يعني استصحاب عدم الجواز من قبيل الأصل المثبت إذ يثبت به زوال الفعل والأصل المثبت غير معتبر كما سيأتي في محلّه إن شاء الله ، مضافا ـ

٢٨٤

ثبوت الوجوب كان منعدما يقينا ، وحصوله الآن مشكوك فيه.

فإن قلت : لا ريب في حصول القيد ، لأنّ جواز التّرك حاصل برفع الوجوب مطلقا (١) ، فمع استصحاب الجواز يتمّ المطلوب.

قلت : سلّمنا ذلك ، لكنّ الأصل عدم الارتباط والتقييد.

فإن قلت : الارتباط والتقييد أمر اعتباريّ ، وبعد حصول الطرفين واتّحاد المورد فلا معنى لعدم اعتبار ذلك.

قلت : سلّمنا ذلك ، لكن نقول : الأصل عدم تيقّن اللّحوق وهو مستصحب ، غاية الأمر حصول ظنّ باللّحوق بالاستصحاب ، ولا يقين ، لا لأنّ الانضمام في نفسه يحتاج إلى دليل ، بل لأنّ اليقين بالانضمام يحتاج إلى اليقين بثبوت المنضمّ إليه ، وهو غير متيقّن ، لأنّه كما يحتمل تعلّق النسخ بالمنع عن الترك فقط ، يحتمل التعلّق بالمجموع فلا يبقى قيد ولا مقيّد. فعدم اليقين بالانضمام إنّما هو لعدم اليقين ببقاء المنضمّ إليه ، فكما أنّ بقاء المنضمّ إليه ـ أعني الجواز ـ مستصحب حتّى يثبت اليقين بخلافه ، فكذلك عدم لحوق القيد به متيقّن حتّى يثبت اليقين بخلافه ، والاستصحاب لا يوجب اليقين فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان (٢) فيبقى

__________________

ـ الى أنّ استصحاب عدم اللّوازم لا يعارض استصحاب الملزوم ، وإلّا لم يصح استصحاب أصلا ، إذ استصحاب وجود شخص لا يخلو عن معارضة استصحاب عدم آثاره ، وجواز الترك من لوازم أثار وجود الفعل.

(١) أي سواء قلنا ببقاء الجواز أو لم نقل.

(٢) أي استصحاب بقاء الجواز واستصحاب عدم لحوق القيد به. وقال في الحاشية : وقد أورد عليه بأنّ الاستصحابين هنا من باب المزيل والمزال ، لأنّ الشك في لحوق القيد وعدمه مسبّب عن الشك في بقاء المنضمّ إليه ، فإذا استصحب بقاء المنضم إليه ارتفع ـ

٢٨٥

المورد بلا حكم.

وبعبارة اخرى ، فكما أنّ الأصل بقاء الجواز الذي في ضمن الوجوب ، فالأصل عدم تحقّق الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الاستحباب ، فإنّ جميع الأحكام الشرعيّة ، الأصل عدمها.

ومن طريق بيان المبحث علم أنّ الباقي على القول بالبقاء هو الاستحباب لا الإباحة ولا غيرها (١) ممّا توهّم (٢) ، فإنّ جنس الوجوب هو الطّلب الراجح.

ثمّ إنّ هذا الأصل وإن قلّ فروعه ، بل لا يحضرني الآن له فرع إلّا ما توهّمه بعض الأصحاب (٣) من تفريع جواز الجمعة بعد انتفاء الوجوب العينيّ بسبب فقد شرطه ، أعني حضور الإمام عليه‌السلام أو نائبه ، أو تحريمه لبقائه بلا دليل ، والعبادة بلا دليل حرام وهو باطل كما ستعرفه (٤) ، لكن له نظير كثير الفروع عظيم الفائدة وهو

__________________

ـ الشك عن اللّحوق ويحصل اليقين به ، فلا وجه له حينئذ للتعارض ، وفيه عدم تسليم كون الشك في اللّحوق عن الشك في بقاء المنضمّ إليه حتّى فى مقام استصحاب المنضمّ إليه.

(١) غير الاباحة. فالأقوال في المسألة على ما قيل أربعة هي : انّ الباقي هو المعنى الظاهري من الجواز أعني الاباحة ، أنّه الاستحباب ، أنّه يعمّهما والمكروه ، أنّه الأعم من الاباحة والاستحباب.

(٢) ولعلّ المتوهم هو الفاضل المير محمد حسين خاتون آبادي في رسالته التي كتبها في صلاة الجمعة على ما نقل.

(٣) في بعض الحواشي وقد أشار الى هذا المتوهم في «التمهيد» ، ولعلّ المتوهم هو المحقق الثاني في رسالته المعمولة في صلاة الجمعة. راجع «رسائل المحقّق الكركي» : ١ / ١٤٠.

(٤) قول ذلك المتوهم باطل كما ستعرف بطلانه في آخر هذا القانون.

٢٨٦

ما اشتهر في ألسنتهم من أنّ بطلان الخاصّ لا يستلزم بطلان العامّ ، والتحقيق خلافه كما بيّنا.

فمن فروعه : أنّ القضاء تابع للأداء ، والتحقيق خلافه.

ومنها : أنّ الوضوء لا يجزي عن الغسل إذا تعذّر.

ومنها : أنّه لو نذر إيقاع صلاته في مكان لا رجحان فيه.

والتحقيق أنّه لو نذر إيقاع صلاة الظهر مثلا أو نافلته في مكان لا رجحان فيه ، فلا ينعقد على القول باشتراط الرّجحان في النذر ، وأمّا لو نذر إيقاع ركعتين مبتدأة (١) في المكان المذكور فينعقد ، لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ لا يستلزم عدم اعتبار العامّ فلا بدّ أن ينعقد ويفعلها ولو في غير ذلك الموضع ، بل لأنّ مورد النّذر هو ذلك الفرد ، وهو راجح باعتبار الكلّيّ الموجود فيه.

ومنها : ما لو باع العبد المأذون ، أو أعتقه ، ففي الإذن أو انعزاله وجهان ، بل الوجهان يجريان لو صرّح بكونه وكيلا أيضا. فإنّ الإذن الحاصل من جهة كونه مالكا قد ارتفع ، وبقي كلّيّ الإذن ، إلى غير ذلك من الفروع ، مثل أن ينذر أضحيّته حيوان خاصّ فمات قبل ذلك ، فلا يجب آخر ، بل الظاهر أنّه كما لا يجري الاستصحاب في الأجزاء العقليّة (٢) لإثبات الأحكام الشرعيّة ، كذلك لا يمكن

__________________

(١) أي نافلة مبتدأة.

(٢) المراد من الأجزاء العقلية هو ما كان كذلك جزء من الأجزاء محتاجا الى جزء آخر منهما في تركيب الماهيّة كاحتياج نفس المركب إليها ، فبانتفاء أحد الأجزاء ينتفي المركب وسائر الأجزاء ، فيخرج بذلك عن إطلاقه الاسم كالإنسان بالنسبة الى الحيوان الناطق ، ولكن هذا بخلاف الأجزاء الخارجية كأجزاء اليد بالنسبة الى نفس اليد لأنّها ليست بطريق الأجزاء العقلية.

٢٨٧

الاستدلال عليه بمثل قولهم عليهم‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١). «والميسور لا يسقط بالمعسور» (٢). «وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» (٣). بخلاف الأجزاء الخارجيّة فيجب غسل الأقطع بقيّة العضو في الوضوء ، ونحو ذلك.

وأمّا انتفاء الشّرط (٤) ، فليس ممّا نحن فيه في شيء ، فبانتفائه ينتفي المشروط رأسا وهو ليس بنسخ جزما وبديهة ، لتجدّده آناً فآنا في جميع الأزمان ، ومسألة صلاة الجمعة المتقدّمة من هذا القبيل.

وممّا قرّرنا يظهر لك بعد التأمّل حال نسخ الاستحباب ونسخ الكراهة وغيرهما.

وكذلك الكلام في أقسام العامّ والخاصّ.

__________________

(١) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨.

(٢) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨.

(٣) «عوالي اللئالي» : ٤ / ٥٨.

(٤) وهو جواب على التوهم الذي سبق لبعض الأصحاب وهو خاتون آبادي كما نقل أو غيره.

٢٨٨

قانون

الحقّ أنّ الأمر يقتضي الإجزاء (١).

وتحقيق هذا الأصل يقتضي رسم مقدّمات :

الأولى :

الإجزاء (٢) : هو كون الفعل مسقطا للتعبّد به ، وإنّما يكون إذا أتى المكلّف به مستجمعا لجميع الامور المعتبرة فيه.

وقيل : هو عبارة عن إسقاط القضاء ، كما سيجيء نظيره في الصّحّة ، وهو أخصّ من الصّحة ، إذ مورد الصّحّة أعم من موارد التعبّد فيشمل العقود والإيقاعات ، بخلاف الإجزاء فإنّه مختصّ بموارد التعبّد.

فالظاهر أنّ الإجزاء في العبادات هو اللّازم المساوي للصّحّة فيها.

وتعريف الإجزاء بهذا اللّفظ قد وقع في كلام بعضهم ، وهو موهم لخلاف المقصود ، والأولى أن يعبّر عن المعنى الأوّل بحصول الامتثال ، وعن الثاني بسقوط فعله ثانيا ، أعمّ من الإعادة والقضاء ، فإنّ ما لا يكون مسقطا للقضاء ،

__________________

(١) وإلى هذا ذهب العلّامة كما في «مباديه» : ص ١١١ ، بل في «الذريعة» : ١ / ١٢١ : أنّ جميع الفقهاء يذهبون إلى أنّ امتثال الفعل المأمور به يقتضي إجزائه. نعم في «المبادي» : ص ١١ : وذهب أبو هاشم إلى أنّه لا يقتضيه. وستعرف بعد صفحات سبع من متن هذا الكتاب أنّه المشهور نعم ، وخالف فيه أبو هاشم وعبد الجبّار.

(٢) الإجزاء في اللّغة هو الكفاية يقال أجزأه أي كفاه ، وفي الاصطلاح هو كما في المتن المذكور.

٢٨٩

لا يكون مسقطا للإعادة بطريق أولى.

والظاهر أنّ مراد من عبّر بما ذكر ، هو ذلك أيضا (١) ، وإن لم يساعده العبارة.

ويشهد بذلك (٢) اتفاقهم على دلالة الأمر على الإجزاء بالمعنى الأوّل دون الثاني.

الثانية : كون الأمر مقتضيا للإجزاء ، هو إذا أتى به المكلّف على ما هو مقتضى الأمر والمفهوم منه مستجمعا لشرائطه المستفادة له من الشّرع بحسب فهمه وعلى مقتضى تكليفه كما عرفت (٣) ،

الثانية :

ولكنّ الإشكال في حقيقة الأمر (٤) وتعيينه ، فإنّ التكليف قد يكون بشيء واحد في نفس الأمر وقد حصل العلم به للمكلّف (٥) واستجمع جميع الأمور المعتبرة فيه على سبيل اليقين ، وقد يكون كذلك ولكنّ المكلّف لم يحصل له سوى الظنّ به (٦) ، وباستجماع تلك الأمور ، كما يحصل للمجتهد

__________________

(١) بأن يراد من القضاء في التعريف الثاني مطلق التدارك ، أعمّ من القضاء والاعادة مع إرادة الشأنيّة ، فيصير المعنى أنّ الإجزاء هو ما من شأنه إسقاط فعله ثانيا ، فلا يرد على عكسه خروج مثل صحيح صلاة العيدين ، وعلى طرده دخول فاسدهما مع أنّه لا اسقاط فيه حقيقة وإنّما المتحقّق السّقوط ، هذا كما في الحاشية.

(٢) أي بأنّ الأولى أن يعبّر عن المعنى الأوّل بحصول الامتثال أو بأنّ مراد من عبّر بما ذكر هو ذلك.

(٣) أي من كونه مستجمعا لجميع الأمر والمعتبرة فيه أو كما عرفت في أوّل القانون من معنى الإجزاء.

(٤) أي المأمور به.

(٥) هذا هو المأمور به الاختياري الواقعي.

(٦) هذا هو الظاهري العقلي.

٢٩٠

في الفتاوى ، فإنّ اعتماده على الظنّ المستفاد حجّيته عموما من العقل والنّقل.

وقد يكون كذلك ، ولكنّ الشّارع نصّ بالخصوص (١) على كفاية الظنّ عن اليقين ، كالطهارة المظنونة بسبب الشّك في حصول الحدث.

وكذلك قد يكون التكليف بشيء أوّلا (٢) مع الإمكان ، وببدله ثانيا مع عدمه كالتيمّم عن الماء.

والإشكال في أنّ المكلّف (٣) مكلّف بالعمل بالظنّ ما دام غير متمكّن عن اليقين ، ومحكوم بإجزاء عمله كذلك ، أو مطلقا (٤).

وبعبارة اخرى : هل هو مكلّف باليقين والعمل بمقتضاه في الحال والماضي (٥) إلّا في حال عدم التمكّن منه ، أو هو منقطع بالظنّ ، ولا يترتّب على الماضي شيء (٦)؟

وكذلك الكلام في المبدل والبدل ، فمن تيمّم لعذر ثمّ تمكّن من الماء في الوقت ، فإن قلنا أنّ المكلّف به هو الوضوء في الوقت ، إلّا في حال عدم التمكّن منه وبعبارة اخرى : إنّه مكلّف بإبداله بالتيمّم ما دام متعذّرا فيجب عليه الإعادة في الوقت.

وإن قلنا : إنّ التكليف الأوّل انقطع والتكليف الثاني أيضا مطلق ، فلا.

__________________

(١) هذا هو الظاهري الشرعي.

(٢) هذا هو الواقعي الاضطراري.

(٣) هذا هو الاشكال الذى أشار إليه أوّلا بقوله : ولكن الاشكال في حقيقة الأمر ، وما ذكر بينهما توطئة لتوضيح هذا الاشكال.

(٤) يعني أنّه مكلّف بالعمل بالظنّ سواء انكشف فساد ظنّه أم لا ، هذا مبنيّ على موضوعيّة الظنّ.

(٥) في الحال أي في حال الانكشاف فإنّه حينئذ مكلّف بالعمل باليقين. وقوله : والماضي ، أي ما فعل في السّابق.

(٦) أيّ لا أداء ولا قضاء

٢٩١

والظاهر أنّ هذا لا يندرج تحت أصل (١) ويختلف باختلاف الموارد ، فلا بدّ من ملاحظة الخارج.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ التكليف يتعدّد بحسب اختلاف الأزمان والأحوال ، والمكلّف به في الأوامر المطلقة إنّما هو الطبيعة لا بشرط المرّة ولا التكرار ، والطبيعة تتحصّل بوجود فرد منها ، فصلاة الظهر قد تجب مع الوضوء في وقت ، ومع التيمّم في آخر ، فبأيّهما حصلت فقد حصلت ، فحينئذ نقول : موضع الخلاف إن كان بالنسبة إلى كلّ واحد من الحالات فلا إشكال في الإجزاء بمعنييه ، لحصول الامتثال وعدم وجوب الإعادة والقضاء بسبب نقصان بالنسبة إلى ذلك التكليف ، وإنّما يكون عدم الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الآخر ، فوجوب القضاء أو الإعادة لمن انكشف فساد ظنّ طهارته إنّما هو لعدم حصول الصلاة بالطهارة اليقينيّة ، لا للاختلال في الصلاة بالطهارة الظنّيّة ، ففعلها ثانيا إنّما هو لعدم الإتيان بالأولى لا الثانية (٢) ، وكذلك فعل الصلاة ثانيا بالمائيّة لأجل اختلال المبدل لا البدل ، ولذلك لا تعاد بالطهارة الترابيّة.

وإن كان بالنسبة الى مطلق الأمر أعمّ من المبدل والبدل ، فلا أظنّ مدّعي الدّلالة على سقوط القضاء ، يدّعي السّقوط ، حتّى بالنسبة الى المبدل.

ولعلّ النزاع في هذه المسألة لفظيّ ، فإنّ الذي يقول بالإجزاء ، إنّما يقول بالنظر إلى كلّ واحد من الأوامر بالنسبة إلى الحال التي وقع المأمور به عليها ، ومن يقول بعدمه ، إنّما يقول بالنسبة إلى مطلق الأمر الحاصل في ضمن البدل والمبدل.

__________________

(١) لم يدخل تحت أصل لفظي أو أصل عملي أو قانون معيّن يرجع إليه في مقام الشك.

(٢) المراد هنا من الأولى الصلاة بالطهارة اليقينية كما انّ المراد من الثانية الصلاة بالطهارة الظنيّة.

٢٩٢

الثالثة :

محلّ النزاع في هذه المسألة يحرّر على وجهين :

الأوّل : هو أنّ إتيان المأمور به على وجهه ، هل هو مسقط للتعبّد به ، بمعنى أنّه لا يقتضي ذلك الأمر فعله ثانيا قضاء أم لا؟

والظاهر أنّ المخالف حينئذ يقول إنّه لا مانع من اقتضائه فعله ثانيا قضاء في الجملة ، لا أنّه لا بدّ أن يقتضي فعله ثانيا دائما ، كما لا يخفى.

والثاني : أن يكون معنى إسقاط القضاء أنّه لا يجوز أن يكون معه أمر آخر (١) يفعله ثانيا قضاء أو يجوز (٢)؟

والظاهر أنّ النزاع على الثاني (٣) يكون لفظيّا ، إذ لا يمكن إنكار إمكان ذلك ، فيعود النزاع في تسميته ذلك قضاء (٤). ونحن أيضا نسقط هذا التقرير ونجري في الاستدلال على التحرير الأوّل ، ونقرّر الأدلّة على ما يطابقه.

ثمّ إنّ هذا الكلام مع قطع النظر عن الخلاف الآتي في كون القضاء تابعا للأداء أو بفرض جديد ، فالخلاف يجري على القولين كما لا يخفى.

وكذلك مع قطع النظر عن كون الأمر للطبيعة أو المرّة أو التكرار ، إذ نفي المرّة للغير إنّما هو بالتّنصيص ، وإسقاط القضاء على القول بالإجزاء إنّما هو من جهة

__________________

(١) كما هو لازم القول بالإجزاء.

(٢) أي يجوز أن يكون معه أمر آخر كما هو لازم القول بعدم الإجزاء.

(٣) أي على الوجه الثاني.

(٤) يكون النزاع في لفظ القضاء بمعنى أنّ ما ثبت بالأمر الأوّل مع الآخر يجوز تسميته قضاء أم لا.

٢٩٣

عدم الدّليل ، إذ بعد حصول الإجزاء حصل الامتثال ، فلا أمر يمتثل به ثانيا ، فيسقط لأنّه تشريع.

وكذلك ثبوت فعله ثانيا في التكرار إنّما هو بالأصالة ، والتكرار فيما نحن فيه على القول بعدم دلالته على الإجزاء إنّما هو من باب القضاء أو الإعادة.

الرابعة :

القضاء يطلق على خمسة معان (١) :

الأوّل : هو الفعل كقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)(٢) ، و : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)(٣).

الثاني : فعل ما فات في الوقت ، المحدود بعد ذلك الوقت سواء كان وجب عليه في الوقت ، كتارك الصلاة عمدا مع وجوبه عليه أم لم يجب ، كالنائم والناسي والحائض والمسافر في الصوم ، أو وجب على غيره كقضاء الوليّ ، وهذا هو المعنى المصطلح عليه المنصرف إليه الإطلاق.

الثالث : استدراك ما تعيّن وقته إمّا بالشروع فيه كالاعتكاف ، أو بوجوبه فورا كالحجّ إذا أخلّ [أفسد] ، فيطلق على المأتيّ به ثانيا القضاء وإن لم ينو به القضاء.

الرابع : ما وقع مخالفا لبعض الأوضاع المعتبرة فيه ، كما يقال : التّشهد والسّجدة

__________________

(١) وقد يطلق على غير تلك المعاني أيضا كما في قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) ، أي يحكم. وقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، أي أمر. وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) ، أي خلقهنّ.

(٢) الجمعة : ١٠.

(٣) البقرة : ٢٠٠.

٢٩٤

يقضى بعد التسليم.

الخامس : ما كان بصورة القضاء المصطلح عليه في فعله بعد خروج الوقت المحدود ، كقولهم : الجمعة يقضى ظهرا (١).

إذا تمهّد هذه المقدمات فنقول :

اختلف الأصوليّون في أنّ إتيان المأمور به على وجهه ؛ هل يقتضي الإجزاء ، بمعنى سقوط القضاء بعد اتّفاقهم على اقتضائه الامتثال؟

على قولين ، المشهور نعم (٢) ، وخالف فيه أبو هاشم (٣) وعبد الجبار (٤).

__________________

(١) قالوا : إنّ من فات عليه الجمعة مع وجوبها عليه لا يقضي الجمعة ، بل يصلّي الظهر أداء لو كان الوقت باقيا وقضاء في خارج الوقت ، ومع هذا يصح أن يقال الجمعة تقضى ظهرا.

(٢) وإليه ذهب العلّامة في «المبادي» والمحقّق صاحب «المعارج» فيه ، بل في «العدّة» : ذهب الفقهاء بأجمعهم وكثير من المتكلّمين إلى كونه مجزيا إذا فعل على الوجه الّذي تناوله الأمر. وذهب إليه الرازي في «المحصول» ونقله إلى : أكثر العامّة وعزاه الآمدي إلى أصحابه الأشاعرة وأكثر المعتزلة كما ذكر المحقّق الاصفهاني في «الهداية» : ٢ / ٧٠١ والغزالي فصّل كما في «المستصفى» : ٢ / ١٠.

(٣) عبد السّلام بن محمّد ابو هاشم الجبائي البصري (٢٤٧ ـ ٣٢١ ه‍) من أعيان المتكلّمين المعتزلة ومن أصولييهم. تبعته فرقة معتزليّة تسمى البهشمية له مصنّفات منها : «العدة في اصول الفقه» و «كتاب الاجتهاد» و «تذكرة العالم ـ فى أصول الفقه» وأبو هاشم هو صاحب المسألة التي تذكر في بعض الكتب والتي قال عنها إمام الحرمين إنّها حارت فيها عقول الفقهاء وهي : أنّ من توسط جمعا من الجرحى وجثم على صدر واحد منهم وعلم أنّه لو بقي على ما هو عليه لهلك من تحته ولو انتقل عنه لم يجد موقع قدم إلّا بدن آخر وفي انتقاله اهلاك المنتقل إليه فكيف حكم الله وما الوجه؟

(٤) القاضى عبد الجبار المعتزلي (... ـ ٤١٥ ه‍) من أئمة الاصوليين وشيخ المعتزلة قد ـ

٢٩٥

لنا : أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة المطلقة ، بدون اعتبار مرّة ولا تكرار كما مرّ تحقيقه.

ومعناه أنّ المطلوب به إيجاد الطبيعة ، وهو يحصل بإيجاد فرد منه ، والمفروض حصوله ، فحصل المطلوب ، فلا يبقى طلب آخر ، فقد سقط الوجوب ، بل المشروعيّة أيضا ، لما مرّ تحقيقه في نفي دلالة الأمر على التكرار.

فلو قيل : إنّ حصول الامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر إنّما هو بالنسبة إلى بعض الأحوال دون بعض ، وإنّما السّاقط هو الأمر بالبدل دون المبدل.

فأقول : إنّ ذلك باطل من وجهين :

الأوّل : أنّ ذلك خروج عن المتنازع ، إذ ما ذكرته يصير أمرين ، وكلامنا في الأمر الواحد.

والثاني : أنّ المكلّف بالصلاة مع الوضوء مثلا إنّما هو مكلّف بصلاة واحدة كما هو مقتضى صيغة الأمر ، من حيث إنّ المطلوب بها الماهيّة لا بشرط ، فإذا تعذّر

__________________

ـ اسند اليه منصب القضاء بعد ذلك انحسر شأنه وضعف أمره ورجع الى ما يشبه ما كان عليه من الفقر. ومن مؤلفاته في اصول الفقه «كتاب العمد» وهو كتاب قال عنه ابن خلدون : إنّه أحد الكتب الأربعة التي هي أركان المؤلفات الأصولية وهي بالاضافة الى «كتاب العمد» هذا «البرهان» لإمام الحرمين و «المستصفى» للغزّالي و «المعتمد» لأبي الحسين البصري المعتزلي ، اثنان للمعتزلة واثنان للشافعيّة. ويعدّ «كتاب العمد» موسوعة أصوليّة يتميّز بكثرة نصب الأدلّة والاستطراد في كلّ ما يمكن أن يراد عليها من اعتراضات ثمّ الاجابة عنها ، كما أنّه يتضمّن آراء لعلماء ليس من المتوقع العثور على أقوالهم بعد أن اندثرت كتبهم. وقد شرحه تلميذه أبو الحسين البصري المعتزلي. وقد توفي في الري ودفن بها في داره على رأي أكثر المترجمين له بعد أن تجاوز التسعين من عمره.

٢٩٦

عليه ذلك ، فهو مكلّف بهذه الصلاة مع التيمّم ، وهو أيضا لا يقتضي إلّا فعلها مرّة ، وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأوّل ، فعوده يحتاج إلى دليل ، والاستصحاب وأصالة العدم وعدم الدّليل كلّها يقتضي ذلك (١) ، مضافا الى فهم العرف واللّغة ، وما ترى أنّ الصلاة بظنّ الطهارة تقضى بعد انكشاف فساد الظنّ ، فإنّما هو بأمر جديد ودليل خارجي(٢).

نعم لو ثبت من الخارج أنّ كلّ مبدل إنّما يسقط عن المكلّف بفعل البدل ما دام غير متمكّن عنه ، فلما ذكر وجه (٣) ، وأنّى لك بإثباته ، بل الظاهر الإسقاط مطلقا (٤).

فيرجع النزاع في المسألة إلى إثبات هذه الدّعوى إلّا أنّ الأمر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه ، فالمسألة تصير فقهيّة لا اصوليّة (٥).

وقد استدلّوا على المشهور أيضا بوجهين آخرين :

الأوّل : أنّه لو كان مكلّفا بذلك الأمر بعينه بفعل ما أتى به على وجهه ثانيا فيلزم تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وإن كان مكلّفا بذلك الأمر بإتيان غير المأتيّ به أوّلا فيلزم أن لا يكون المأتيّ به أوّلا تمام المأمور به ، هذا خلف.

أمّا الثاني ، فظاهر ، وأمّا الأوّل ، فهو مبنيّ على ما حقّقناه من أنّ حصول الامتثال

__________________

(١) أي اسقاط الأمر الأوّل.

(٢) من الاجماع والأخبار الدالة على أنّ الطهارة شرط واقعي للصلاة لا علمي.

(٣) هذا جواب الشرط أعني لو قيل.

(٤) اسقاط المبدل بعد الاتيان بالبدل سواء حصل التمكن من المبدل أم لا.

(٥) لأنّه بحث عن وصول الدليل لا عن كيفية الاستنباط عنه. ومراده بالفقه ، الفقه الاستدلالي وقد ردّ في «الفصول» : ص ١١٨ على هذا المقالة.

٢٩٧

لا يبقى معه طلب آخر ، فتحصيل الامتثال الثاني لا يتمّ الّا بإعادة الامتثال الأوّل ، وهو تحصيل الحاصل.

وبذلك يندفع (١) ما يقال : إن فعله ثانيا مثل المأتيّ به أوّلا ، لا نفسه ، فإنّ ذلك إنّما يصحّ لو كان فعله ثانيا بأمر آخر كما يستفاد من التحرير الثاني في محلّ النزاع.

وأمّا على التحرير الأوّل ، فلا يبقى طلب وأمر حتّى يستدعي إثباته ثانيا بحيث يكون غير الأوّل.

وأمّا ما قيل في ردّه (٢) : من أنّ المطلوب هو الطبيعة لا الأفراد ، ولا شكّ في أنّ تحصيل الطبيعة بعد حصوله أوّلا تحصيل للحاصل ، فهو قريب من الهذيان ، إذ ذلك يستلزم أن يكون فعل جميع الأنواع المندرجة تحت جنس بعد فعل واحد منها تحصيل للحاصل.

الثاني : أنّه لو لم يكتف بإتيان المأمور به على وجهه في حصول الامتثال واقتضى الأمر فعله ثانيا ، لزم كون الأمر للتكرار ، وهو خلاف التحقيق ، أو خلاف المفروض.

ويرد عليه (٣) : انّ منكر الدلالة على الإجزاء لا يقول بأنّ الأمر يقتضي ذلك بحيث لا يتخلّف منه بالذّات ، كما يقوله القائل بالتكرار ، بل يقول أنّه لا مانع من اقتضاء ذلك (٤) كما أشرنا في المقدّمات (٥).

__________________

(١) هذا عن التفتازاني في «شرح الشرح».

(٢) الردّ هو على قول التفتازاني السّابق الذّكر ، وهو من الباغنوي. وأيضا قيل أنّ الرادّ هو المدقّق الشيرواني ، كما أفاده في الحاشية وذكره في «الفصول» : ص ١١٧ بقوله : وأجاب بعض المعاصرين.

(٣) الايراد من المصنّف على التفتازاني المذكور.

(٤) وهو اقتضاء الأمر التكرار.

(٥) لعلّه أراد من المقدمات بعضها لأنّه إنّما أشار إليه في المقدّمتين إحداهما المقدمة ـ

٢٩٨

وأيضا التكرار على القول به إنّما هو على مقتضى العقل والعادة إلّا أن يمنع مانع عنه ، كما مرّ في مبحثه ، وما نحن فيه ليس كذلك.

احتجّ المانع : بوجوب إتمام الحجّ الفاسد (١) ، فلو كان الأمر مقتضيا للإجزاء لكان إتمامه مسقطا للقضاء (٢).

وفيه : أنّ القضاء للفائت وهو الحجّ الصحيح وإتمام الفاسد ، أمر على حدة ولا يجب له قضاء ، وبأنّه لو كان مسقطا للقضاء لما وجب القضاء على من صلّى بظنّ الطهارة ثمّ انكشف فساد ظنّه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه ضعيفة :

منها : أنّ تسمية ذلك قضاء مجاز ، بل هو أمر على حدة.

وفيه : أنّه مستلزم للواسطة بين القضاء والأداء وليس بإعادة أيضا.

ومنها : منع بطلان اللّازم.

والتحقيق في الجواب يظهر بعد التأمّل فيما ذكرنا.

فنقول : إنّ هذا القضاء إنّما يجب من جهة دلالة الدليل على أنّ المطلوب هو الصلاة بالطهور ، ويجوز الاكتفاء بالظنّ ما لم يحصل اليقين بخلافه ، فإذا حصل ، فيقضى الفائت ، فالقضاء إنّما هو للمبدل بالدليل لا البدل ، فيصحّ إطلاق القضاء

__________________

ـ الثانية أعني قوله : ثم إنّ الظاهر انّ التكليف ... الخ. وثانيهما المقدمة الثالثة أعني قوله :كذلك مع قطع النظر عن كون الأمر للطبيعة أو المرّة أو التكرار. هذا كما في الحاشية.

(١) وهو لأبي هاشم كما في «المبادي» : ص ١١١.

(٢) قال في التوضيح : توضيح ذلك الجواب انّه إن اريد بالقضاء في قوله لكان اتمام الحج فاسدا مسقطا للقضاء وقضاء الحج المأمور به فالملازمة ممنوعة ، وإن اريد به قضاء الاتمام فبطلان اللازم ممنوع.

٢٩٩

المصطلح عليه حقيقة.

هذا وإنّي لم أقف في كلماتهم على تصريح بما ذكرنا (١) ، ووجدنا كلماتهم مختلطة في بيان المقصود ، فعليك بالتأمّل فيما يرد عليك من الفروع لكي لا تخبط ، والله الهادي.

__________________

(١) من تحرير محلّ النزاع وتقرير الأدلّة وتحقيق المبحث وغير ذلك.

٣٠٠