القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

قانون

الواجب الكفائيّ ما قصد به غرض يحصل بفعل البعض ، ولا يتعلّق الغرض بحصوله من كلّ واحد من المكلّفين أو بعض معيّن منهم ، كخصائص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب في جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، كالجهاد المقصود منه حفظ الإسلام وإذلال الكفّار ، وصلاة الميّت المقصود منه احترام الميّت.

والحقّ ، أنّه واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض ، لا كما قيل : بتعلّقه بالمجموع (١) ، ولا كما قيل : بتعلّقه بالبعض الغير المعيّن (٢).

لنا : أنّهم لو تركوا جميعا لذمّوا بالترك واستحقّوا العقاب جميعا ، باتّفاق الخصم ، وهو معنى الوجوب. وأمّا السّقوط بفعل البعض ، فإجماعي.

حجّة القول الثاني : أنّه لو تعيّن على كلّ واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحقّقه ، فيكون نسخا فيفتقر الى خطاب جديد ، ولا خطاب ، فلا نسخ فلا يسقط ، بخلاف الإيجاب على الجميع من حيث هو ، فإنّه لا يستلزم الإيجاب على كلّ واحد ، ويكون التأثيم للجميع بالذّات ، ولكلّ واحد بالعرض (٣).

وأجيب : بأنّ سقوط الأمر قبل الأداء قد يكون بغير النسخ ، كانتفاء علّة الوجوب ، كاحترام الميّت مثلا ، فإنّه يحصل بفعل البعض ، ولهذا ينسب السّقوط إلى

__________________

(١) نسب هذا القول الى قطب الدّين الشيرازي ، وفي كلام التفتازاني والباغنوي الى القيل.

(٢) نسب هذا القول الى فخر الدّين وهو المفهوم من كلامه في «المحصول» : ٢ / ٣٦٩ ، والبيضاوي ، وعزي إلى الشافعية كما في «هداية المسترشدين» ، وفي «النهاية» الى قوم.

(٣) وللمحقّق الاصفهاني ردّ عليه في «الهداية» : ٢ / ٣٨٤.

٢٦١

فعل البعض ، و : بأنّ الوجوب لو لم يتعلّق بكلّ واحد ، فكيف ينوي كلّ واحد منهم الوجوب؟

وحجّة الآخرين وجوه :

الأوّل : أنّ الوجوب لو كان على الكلّ لما سقط بفعل البعض.

وفيه : أنّه استبعاد محض ، ومثله يجري في الواجبات العينيّة أيضا ، كإسقاط دين رجل بأداء متبرّع عنه.

الثاني : كما انّه يجوز الأمر بواحد مبهم اتّفاقا ، يجوز الأمر ببعض مبهم (١). فإنّ ما يحصل مانعا هو الإبهام وقد لغي ، وقد يسقط بفعل أيّ بعض كان ، فيكون واجبا على بعض مبهم.

وفيه : أنّه قياس مع الفارق ، لأنّكم تقولون بتأثيم الكلّ على ترك ذلك البعض المبهم فيما نحن فيه ، بخلاف الأمر بواحد مبهم ، فإنّ التأثيم ليس على ترك الواحد ، بل التأثيم للكلّ حين ترك الكلّ ، دليل على الوجوب على الكلّ ، ولا معنى لعقاب شخص عن شخص آخر.

فثمرة النزاع إذا إنّما هو في اتّصاف كلّ واحد منها بالوجوب وعدمه إذا صدر عن الكلّ ، ويتفرّع عليه ثمراته (٢).

__________________

(١) المراد بواحد مبهم هو المأمور به في الواجبات التخييرية ، كما انّ المراد من بعض مبهم هو المأمور به في الواجبات الكفائية.

(٢) قال في «الحاشية» : ويتفرّع عليه ثمراته كما لو نذر أن يعطي جماعة أتى كلّ واحد منهم بواجب دراهم ، فحينئذ لو رأى جماعة صلوا على ميّت فأعطى الدراهم لهم ، فيبرّ نذره على القول المشهور من اتّصاف كل واحد منهم بواجبه ، ولا يبرئ نذره على قول القائل من عدم اتّصاف كل واحد به.

٢٦٢

الثالث : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)(١) الآية. فإنّ التنديم والتهديد على طائفة منكرة مبهمة.

واجيب : بأنّ المراد بيان ما يسقط الوجوب ، جمعا بين الأدلّة ، مع أنّ اشتغال الجميع يوجب اختلال النظام والعسر والحرج ، وكما أنّ الشروع واجب ، فالإتمام أيضا واجب ، فالسّقوط إنّما هو بعد التفقّه.

ثمّ إنّ الواجب الكفائيّ لا يسقط إلّا مع حصول العلم بفعل الآخر.

وهل يعتبر الظنّ الشرعيّ مثل شهادة العدلين ونحوها فيه؟

قولان : الأقرب الاعتبار.

والظاهر أنّ مجرّد العلم بحصول الفعل من مسلم يكون كافيا ، حملا لفعله على الصّحة (٢) بمقتضى الأدلّة القاطعة ، فلا يعتبر العدالة.

وتمام هذا الكلام في الفروع.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) كقوله عليه‌السلام : «ضع فعل أخيك على أحسنه». ومثل هذا كثير في كتب الاحاديث.

٢٦٣

قانون

اختلفوا في أنّ الأمر المعلّق بالكلي (١) ظاهرا ، هل المطلوب به هو الماهية (٢) أو الجزئي المطابق للماهيّة الممكن الحصول؟ (٣)

وصرّح بعضهم (٤) بوصفه بالحقيقي أيضا لأنّه هو الموجود في الأعيان.

والأقرب الأوّل (٥) للتبادر عرفا ، ولأنّ الأوامر مأخوذة من المصادر الخالية عن اللّام والتنوين ، وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء. ونقل فيه السّكاكي إجماع أهل العربيّة ، ولا يفيد [الهيئة] إلّا طلب [طلب إلّا] ذلك الحدث ، مع أنّ الأصل عدم الزّيادة.

والظاهر أنّ من يدّعي أنّ المطلوب هو الفرد أيضا ، لا ينكر ذلك بحسب اللّفظ

__________________

(١) المراد به أسماء الاجناس تحقيقا نحو أقم الصلاة أو تقديرا نحو صلّها. قال في الحاشية : الكلي قد يكون مستفاد من مادة الأمر فيكون المراد من تعليق الأمر به هو تعليق هيئته بمادته مثل صلّ ، وقد يكون شيئا آخر فيتعلّق بمادته وهيئته معا مثل أوجد الصلاة وافعلها ونحوها.

(٢) أي لا بشرط شيء كما هو مختار المصنف.

(٣) أي الماهيّة بشرط شيء أي المقيّدة عند العقل بمشخصات الفرد بحيث لو وجدت في الخارج كان فردا خارجيا.

(٤) قيل أراد بهذا البعض العضدي. ونقل في الحاشية وهو للحاجبي والعضدي.

(٥) وفاقا لأكثر المحققين. وذهب شرذمة من العامة الى الثاني كالآمدي ، ووافقه منّا الشيخ حسن في «المعالم» : ص ٢٤٥ في بحث اجتماع الأمر والنهي ، ولكن ربما يناقضه بعض كلماته في بحث المفرد المحلّى. ووافقه في الأوّل الفاضل التوني في «الوافية» : ص ٩١ ، وقد أفرط التفتازاني فيه بما مرّ.

٢٦٤

والعرف واللّغة ، ولكنّه يدّعي ذلك بثبوت القرينة على خلافه من جهة العقل. فقد تراهم لا ينكرون ذلك في شيء من الموارد ، مثل أنّهم يقولون في مبحث إفادة الأمر للمرّة أو التكرار أو الفور وعدمه ، وغير ذلك (١) ، أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة (٢). فلعلّ مرادهم أنّ حقيقة (٣) اللفظ وإن كان يقتضي ذلك ، إلّا أنّ العقل يحكم بأنّ المراد هنا هو الفرد ، لأنّ مطلوب الشّارع هو ما أمكن وجوده ، وما لا يمكن وجوده يستحيل طلبه من الشّارع للزوم التكليف بالمحال ، والماهيّة ممّا لا وجود له في الأعيان ، فثبت أنّ المطلوب هو الفرد.

وجوابه : أنّ المستحيل وجوده في الخارج هو الطبيعة بشرط أن لا يكون مع قيد وتشخّص. وأمّا هي لا بشرط شيء ، فيمكن وجودها بإيجاد الفرد ، والممكن بالواسطة ممكن ، فيجوز التكليف به ، فيكون الفرد من مقدّمات حصولها ؛ فيجب من باب المقدّمة ، وذلك لا يستلزم نفي مطلوبيّة الطبيعة.

فإن قلت : النزاع في هذا الأصل متفرّع على النزاع في وجود الكلّيّ الطبيعيّ وعدمه ، وما ذكرته إنّما يتمّ على تقدير تسليم وجوده ، ولعلّ الخصم لا يسلّم ذلك.

قلت : أوّلا : إنّ ما حقّقه المحقّقون (٤) هو وجوده ، وإنّ وجوده عين وجود الأفراد وبيّنوه في محلّه.

__________________

(١) كبحث القضاء بالفرض الجديد وبحث مقدمة الواجب.

(٢) «المعالم» : ص ١٤١.

(٣) أي من جهة اللّغة والعرف.

(٤) من الأصوليين كالعلّامة والشيخ البهائي ، ومن المتكلّمين وأهل الميزان كأصحاب «التجريد» و «المطالع» و «الشمسية» و «شرح المقاصد» ، بل ربما يظهر منه الاتفاق عليه ، و «الشوارق» وصريح الشيخ في «الشفاء».

٢٦٥

وثانيا : إنّ المقام يتمّ بدون ذلك أيضا ، فإنّ منكري وجود الكلّي الطبيعي لا ينكرون (١) أنّ العقل ينتزع من الأفراد صورا كليّة مختلفة ، تارة من ذواتها ، واخرى من الأعراض المكتنفة بها ، بحسب استعدادات مختلفة واعتبارات شتّى ، كما صرّحوا به (٢) ، وإن لم يكن لتلك الصّور وجود إلّا في العقل ، وتلك الصّور هو الكلّي الطبيعيّ (٣) على مذاق هؤلاء (٤). ولا ريب أنّ له نوع اتّحاد مع الفرد لصدقها عليه عرفا ، وعدم وجودها في الخارج إنّما يظهر بعد التدقيق الفلسفي.

وأمّا أهل العرف فلا يفهمون ذلك (٥) ولا يفرّقون بين ما كان وجوده متأصّلا ومتحقّقا ، أو بالإضافة والاعتبار (٦).

فيفهمون من الأمر أنّ مطلوب الأمر هو هذه الطبيعة المطلقة لا بشرط ، غاية الأمر استحالة تحقّقها في نفس الأمر إلّا بإيجاد الفرد ، ولا ضير فيه مع القدرة عليه بالواسطة ، ويكفي في انفهامهم ذلك ، تولّد الأمر الانتزاعيّ ممّا به الانتزاع وإن كان أمرا اعتباريا.

وحاصل المرام ، أنّ أهل العرف يفهمون من ذلك ، الخصوصيّات المعيّنة لا مدخليّة لها في الامتثال ، ويكفي تحقّق هذا المفهوم في الخارج على أيّ نحو

__________________

(١) أي انّ المنكرين لوجوده فهم لا ينكرونه رأسا ، بل ينكرون وجوده التأصلي لا وجوده الانتزاعي العقلي التبعي لاعترافهم به.

(٢) فصرّحوا بعدم إنكارهم وجود الكلي الانتزاعي العقلي مع إنكارهم وجود الأصلي الخارجي.

(٣) الذاتي او العرضي.

(٤) المنكرين لوجود الكلي الطبيعي.

(٥) أي لا يفهمون عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج.

(٦) العطف تفسيري.

٢٦٦

يكون ، وإن كان اعتقادهم بتحقّقه في الخارج فاسدا في نفس الأمر ، ولا يضرّ فساد هذا الاعتقاد في حصول الامتثال.

نعم ، هذا النزاع يثمر في المسائل الحكميّة ، على أنّا نقول : غاية ما دلّ عليه دليلكم أنّ المطلوب لا بدّ أن يكون هو الفرد ، وأمّا تعيّنه وتشخّصه وإرادة فرد معيّن ، فلم يدلّ عليه دليل ، لا من اللّفظ ولا من العقل.

ولا ريب أنّ فردا ما من الطبيعة أيضا كلّيّ ولا تحقّق له في الخارج على مذاقكم ، وإرادة فرد خاصّ تحكّم بحت.

فإن قلت : إنّا نريد من فرد ما أحد الأفراد ، بمعنى أنّ المطلوب هو كلّ واحد من الجزئيّات المعيّنة المشخّصة على سبيل التخيير ، فيتعلّق الطلب بكلّ واحد منها على سبيل التخيير ، وليس ذلك من باب التعلّق بالكلّي.

قلت : قد مرّ الفرق (١) بين الجواب التخييري والعيني ، وأنّ تخيير المكلّف في أفراد الواجب العينيّ ليس من باب الوجوب التخييري ، وإلّا لما بقي فرق بينهما ، مع أنّهم نازعوا في الواجب التخييري على أقوال شتّى ، ولم ينازعوا فيما نحن فيه أصلا ، وهو من أعظم الشواهد على أنّ المطلوب هنا شيء واحد (٢) ، وأنّ التخيير بين الأفراد إنّما هو من باب حكم العقل من جهة وجوب المقدّمة ، أو من خطاب الشرع أيضا بخطاب تبعيّ ، لا أن يكون خطابا متأصّلا كما هو مقتضى قول الخصم ، فإنّه يقول : إنّ مطلوب الشارع في الأمر المتعلّق بالكلّيّ هو الأفراد تخييرا بالأصالة.

__________________

(١) عند قوله : هناك ويمكن الفرق ... الخ.

(٢) من الطبيعة الكليّة.

٢٦٧

ونحن نقول : بأنّ وجوب المقدّمة يقتضي الرّخصة في إتيان أيّها شاء ، تبعا للخطاب بالكلّي.

وأيضا الأفراد (١) في الواجبات التخييريّة لا بدّ أن تكون منظورة بالذّات ومفصّلة ، والمطلوب هنا التخيير في إتيان هذه الطبيعة في ضمن أيّ فرد من الأفراد شاء ، فالتخيير بينهما ليس من حيث إنّها أشياء متأصّلة بذاتها ، بل من حيث إنّها مصاديق لهذا المفهوم ، فيئول الكلام في وجوبها إلى تحصيل الامتثال بإيجاد المفهوم وتحصيله في الخارج ولو في نظر أهل العرف ، وممّا يلزمهم ، كون أكثر خطابات الشّرع مجازا.

فإن قلت : على ما ذكرت من كفاية مطلق اتّحاد الكلّيّ مع الفرد ، فيصحّ إطلاق الكلّي وإرادة الفرد حقيقة ، وإن كان الاتّحاد غير واقع في نفس الأمر ، فلا مجاز.

قلت : فرق بيّن بين قولنا : ايتيني برجل ، و : آتاني رجل ، و : سلّم أمري إلى الرّجل لا إلى المرأة ، والمسلّم في كون الكلّي حقيقة في الفرد هو الصّورة الأولى ، وفي الثانية إشكال (٢). فإنّ المراد منه (٣) شخص خاصّ ، وإنّما علّق الحكم على المطلق أوّلا ليسري الى الفرد ، والمطويّ في ضمير المتكلّم إنّما هو الرّجل الخاص مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٤) فلم يعلّق الحكم أوّلا على الفرد الخاصّ (٥) ، ولم يقصد من اللّفظ دلالته على الخصوصيّة ، وبذلك يمكن

__________________

(١) وهنا وجه ثالث لبيان الفرق بين ما نحن فيه والواجب المخيّر.

(٢) ووجه الاشكال يبدو لكونها محتملة الحقيقة والمجاز.

(٣) بيان لاحتمال المجاز.

(٤) القصص : ٢٠.

(٥) بيان لاحتمال الحقيقة.

٢٦٨

إدراجه تحت الحقيقة أيضا.

وأمّا الثالثة : فلا التفات فيه إلى الفرد ، لا أوّلا وبالذّات ، ولا ثانيا ، ولكن لمّا لم يمكن الامتثال إلّا بالفرد ، وجب من باب المقدّمة. ولا ريب أنّ الأوامر من قبيل الثالث ، فلا ريب أنّ إرادة الفرد من ذلك مجاز.

فتأمّل وانتظر لتمام التحقيق في باب العموم والخصوص.

وأمّا ما قيل (١) : من أنّ الخلاف في هذا الأصل إنّما نشأ من عدم التمييز بين الماهيّة لا بشرط ، وبينها بشرط لا ، وحمل كلام النافي على إرادة الثاني ، فهو بعيد من أنظار العلماء (٢).

تنبيه وتحقيق

اعلم أنّ صيغة الأمر مثل : اضرب ، لها اعتبارات ثلاث ، يلاحظ الكليّة والجزئية بالنسبة إليها :

الأوّل : ملاحظة كونها كليّا بالنسبة إلى الطلب الراجح.

فعلى القول بكونه حقيقة فيه ، فاستعماله في كلّ واحد من الوجوب والندب ؛ استعمال في أفرادها.

والثاني : ملاحظتها بالنسبة إلى أفراد الضّرب.

والثالث : ملاحظتها بالنسبة إلى المخاطبين.

__________________

(١) هذا مبتدأ وخبره قوله : فهو بعيد. ونسب هذا القول الى شرح التفتازاني.

(٢) قال الشيخ البهائي في «الزبدة» : ص ١١٩ : ومنشأ النزاع الاختلاف في وجودها لا بشرط ، والحق وجودها بوجود أفرادها فتطلب ، ومطلقها لا ينافي مقيّدها ، بل يشمله ، والقول بأنّ منشأ النزاع عدم التفرقة بينهما بشرط لا وبلا شرط بعيد.

٢٦٩

وهذه المواضع متغايرة بالذّات وبالحكم (١). ووضعها بالنسبة إلى الثالث حرفيّ نسبيّ ، والموضوع له هو الأفراد فلا مجاز في استعمالها في الأفراد على ما هو التحقيق في وضع الأفعال والحروف.

وأمّا الأوّلان فقد عرفت حكم الثاني منهما هاهنا مفصّلا ، والوضع هنا وضع المشتقّات ، والملحوظ فيه هو المادّة.

وأمّا الأوّل ، فالظاهر أنّه من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٢) وكونه حقيقة حينئذ إنّما هو لأجل التعلّق بالطبيعة.

والظاهر أنّ الوضع فيه أيضا كسابقه ، وإنّما هو متعلّق بالهيئة لا بالمادّة ، ولكن مع قطع النظر عن النسبة إلى الفاعل ، وقد اشتبه الأمر على بعض الفحول (٣) فحسب وضع الأمر من حيث كيفيّة الطلب وضعا حرفيّا كوضعه بالنّسبة إلى ملاحظة النّسبة إلى الفاعل ، فتأمّل وانتظر لتمام الكلام.

__________________

(١) يعني انّ الموضوعات والذّوات في هذه الاعتبارات الثلاثة مختلفة ، إذ الموضوع في الاعتبار الأوّل هو الطلب وفي الثاني هو الحدث وفي الثالث هو نسبة الحدث الى المخاطب. كما انّ أحكامها مختلفة مثل أعمّية الوضع والموضوع له كما في الاعتبار الثاني ، وأعمّية الوضع وأخصّية الموضوع له كما في الثالث ، واختلف حكم الاعتبار الأوّل فأشار الى تغاير الحكم بقوله : ووضعها بالنسبة الى الثالث حرفي.

(٢) القصص : ٢٠.

(٣) وهو المدقق الشيرواني.

٢٧٠

قانون

الحقّ عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه.

وتنقيح ذلك يستدعي رسم مقدّمة ، وهي أنّ الواجب المشروط ـ أعني ما توقّف وجوبه على ما توقف عليه وجوده ـ إمّا أن يعلم بتنصيص الأمر على الاشتراط مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١). ويجب الصّيام على من كان حاضرا ، ونحو ذلك. أو يعلم بحكم العقل ، مثل توقّف الواجب على التمكّن منه ، فيتوقّف وجوبه أيضا لئلّا يلزم تكليف ما لا يطاق.

ومعنى الشرطيّة أي التعليق على ما يفهم منه هنا ممّا لا يصحّ على العالم بالعواقب ، ولا يحسن الشرط منه على ظاهره ، فإنّ ظاهره الجهل بالوقوع ، وهو ينافي العلم ، فينحلّ الاشتراط حينئذ إلى حكمين مطلقين : ثبوتيّ بالنسبة إلى الواجد ، وسلبيّ بالنسبة الى الفاقد.

نعم اشتراطه إنّما هو بالنسبة إلى المكلّف والأمر الجاهلين (٢) ، فالعمومات الشاملة

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) والمكلّف هنا بفتح اللّام بدليل تثنية الجاهل ، لعلّ ذكر المكلّف هنا للاستطراد وإلّا لا فائدة له ظاهرا ، وتفصيل المقام هو أنّ الأمر مع انتفاء الشرط إمّا على وجه الاطلاق أو على وجه الاشتراك ، وعليها إمّا مع علم الأمر والمأمور معا أو مع جهلهما كذلك ، أو علم الأمر وجهل المأمور أو بالعكس ، فالأقسام ثمانية. ولا إشكال في الجواز مطلقا مع جهل الأمر بالانتفاء سواء جهل المأمور أيضا أم علم به ، وفي الباقي إشكال وخلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. هذا كما في الحاشية.

٢٧١

بظاهرها لكلّ المكلّفين ، منها : ما يحصل العلم بكونها مطلقا ، وهو إذا جمع المكلّف جميع الشرائط العقليّة والشرعيّة ومضى من الوقت مقدار ما يتمكّن من أدائه فيه.

ومنها : ما يحصل العلم بكونها مطلقا بالنسبة الى الشّروع فيه ، كالفرض السّابق في أوّل الوقت لمن لم يخبره صادق ببقائه إلى التمام.

ومنها : ما يحصل الظنّ بالإطلاق بالنسبة إليهما ، كالصّحيح السّليم الذي يظنّ بقاؤه إلى أن يتمّ الواجب. ولا ريب انّه مع هذا الظّن يجب الإقدام على الواجب بعد دخول وقته ، بل قبل الدّخول فيما يتوقّف عليه أيضا ، كالحجّ عن البلد النائي [الثاني] ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، بل لا يمكن صحّة التكاليف الشرعيّة إلّا بذلك ، سيّما في المضيّقات. ومدار إرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وشرع الشرائع ، بل مدار نظام العالم ، وانتظام عيش بني آدم على ذلك ، فيكفي الظنّ ويجب التعبّد به.

والقول بأنّ التكليف يتجزّأ بالنسبة الى أجزاء المكلّف به (١) ، فهو مع أنّه في محلّ المنع بالنسبة الى الدّلالات المقصودة من اللّفظ كما ذكرنا في مقدّمة الواجب ، لا يتمّ العلم قبل حصول ذلك الجزء ، وبعد تحقّقه يخرج عن المتنازع فيه ، مع أنّ الكلام في نفس التكليفات لا أجزائها.

والمراد بالشرط في محلّ النزاع ، هو شرط الوجوب ، سواء كان شرطا للوقوع أيضا كالقدرة والتمكّن من المقدّمات العقلية المحضة (٢) وعدم السّفر وعدم الحيض للصّوم فيما جعله الشارع شرطا للوقوع أو لا ، كتملّك النصاب من الزّراعة في الزّكاة.

__________________

(١) غرضه من هذا الكلام دفع الايراد الوارد على ما تقدم من انحصار حصول علم المكلّف بكون العمومات مطلقا على كون مستجمعا لجميع شرائط التكليف ومضى من الوقت مقدار ما يمكن أداء الفعل فيه.

(٢) واعلم أنّ المقدمة الشرعيّة أيضا عقلية لكنّها غير محضة.

٢٧٢

وأمّا جعل إرادة المكلّف من (١) ذلك فهو لا يتمّ إلّا على مذهب الجبريّة.

وبالجملة ، لا كلام فيما كان مقدّمة للوقوع فقط ، كالطهارة بالنسبة الى الصلاة لأنّه يجب تحصيله كالواجب ، ولا يلزم من أمر الآمر إذا علم انتفاؤه نقص وقبح ، وإن علم أنّه يتركه اختيارا ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : إنّ هاهنا مقامين من الكلام :

الأوّل : أنّه هل يجوز توجيه الأمر إلى المكلّف الفاقد للشرط مع علم الآمر بانتفائه ، وإن لم يكن نفس الفعل المأمور به ، بل كان المراد مصلحة اخرى حاصلة من نفس الأمر من العزم على الفعل وتوطين النّفس على الامتثال والابتلاء والامتحان أم لا؟

والثاني : أنّه هل يجوز إرادة نفس المأمور به مع العلم بعدم الشّرط أم لا؟

والظاهر أنّ كليهما ممّا وقع النزاع فيه ، ولكنّ المتداول في ألسنة الاصوليين المفيد في تعريفاتهم [تفريعاتهم] هو النزاع الثاني. وقد اختلط المقامان على كثير منهم (٢) ، كما يظهر من استدلالاتهم :

والحقّ في الأوّل الجواز.

ولا يحضرني الآن كلام من أنكر جواز ذلك إلّا العميدي رحمه‌الله في «شرح التهذيب» حيث قال : إنّ ذلك غير جائز لما يتضمّن من الإغراء بالجهل لما يستلزم

__________________

(١) أي من شرط الوجوب على مذهب الجبريّة ، فإنّهم يجعلون إرادة المكلّف شرطا في وجوب الصلاة مثلا لاعتقادهم على أنّ الذي يصدر عن المكلّف فهو لا يقدر على خلافه لأنّه الذي علمه في الأوّل ، ولا يلزم أن يكون علمه تعالى جهلا ، ولكن الانصاف ان جعل علم الأزلي علّة لعصيان المكلّف فهو في غاية الجهل ، كما في الحاشية.

(٢) راجع «المعالم» : ص ٢٢٢.

٢٧٣

من اعتقاد المأمور إرادة الآمر الفعل المأمور به منه (١) ، ويظهر ذلك من صاحب «المعالم» أيضا في أواخر المبحث (٢).

وفيه : أنّه لا قبح في ذلك.

أمّا أوّلا : فلما بيّنا أنّه قلّما يحصل العلم للمأمور بكونه مكلّفا بأصل الفعل لاحتمال انتفاء شرط التمكّن ، بل المدار على الظنّ ، فلا يستلزم الاعتقاد الجازم ، ولا يضرّ الظنّ مع انكشاف فساده كما هو المشاهد في العمومات الشاملة لقاطبة المكلّفين ، مع أنّ كثيرا منهم لا يتمكّن عن الإتمام ، وإلّا لانتفى الواجب المشروط غالبا. غاية الأمر كون ذلك الاستعمال مجازيّا تأخّرت عنه قرينته ، وتأخيرها إنّما يقبح إذا كان عن وقت الحاجة ، وأمّا عن وقت الخطاب فلا قبح فيه ، كما سيجيء تحقيقه.

وأمّا ثانيا : فذلك يستلزم نفي النسخ المجمع عليه ظاهرا ، فإنّ ظاهر الحكم التأبيد (٣). وعلى القول بجوازه (٤) قبل حضور وقت العمل ، فالملازمة أظهر.

والحاصل ، أنّ الأمر حقيقة في طلب نفس الفعل ، ومجاز في طلب العزم عليه والتوطين له لقصد الامتحان وغيره ، وانكشاف عدم الشّرط قرينة على ذلك متأخّرة عن الخطاب.

__________________

(١) الضمير في منه يرجع الى الأمر.

(٢) مبحث جواز الأمر مع انتفاء الشرط.

(٣) يعني أنّ الحكم المنسوخ قبل مجيء النسخ ظاهر في التأبيد وهذا الظهور يورث للمكلّفين الظنّ بكون الحكم مؤبدا مع أنّه ليس بمؤبد ، بل مؤقت الى مجيء النسخ ، وليس هذا إلّا الإغراء بالجهل بالمعنى المذكور ، فيلزم أن لا يجوز النسخ ، مع أنّ جوازه ووقوعه إجماعيّ.

(٤) أي بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وقد نسب هذا القول الى المفيد والحاجبي والى أكثر الأشاعرة.

٢٧٤

وما قيل (١) : إنّ الامتحان لا يصحّ في حقّه تعالى لأنّه عالم بالعواقب.

ففيه ما لا يخفى ، إذ لا تنحصر فائدة الامتحان في خصوص حصول العلم للآمر ، بل قد يكون للغير ، وللمكلّف ، ولإتمام الحجّة كما لا يخفى.

وبما ذكرنا (٢) يعلم الجواب عمّا يقال في هذا المقام أيضا ، بأنّه لو جاز الأمر لمجرّد مصلحة في نفس الأمر (٣) ممّا ذكر ، لما دلّ الأمر على وجوب المقدّمة ، ولا النهي عن ضدّه ، ولا على كون المأمور به حسنا ، فإنّ الدّلالة على المذكورات إنّما هي من خواصّ الصّيغة ، فلا يخرج عنها إلّا بالقرينة على المجاز ، ومجرّد الاستعمال لا يوجب الحقيقة حتّى يحصل الاشتراك الموجب للإجمال المانع عن الدّلالة ، ومن عدم إرادة المذكورات في بعض الأحيان ، لا يلزم عدم دلالة اللّفظ من حيث هو.

وأمّا المقام الثاني : فذهب أصحابنا فيه الى عدم الجواز ، وجمهور العامّة على الجواز ، وربّما [وبما] أفرط بعضهم (٤) فجوّزه مع علم المأمور بانتفاء الشّرط أيضا.

لنا : أنّه تكليف بما لا يطاق ، أمّا فيما انتفى فيه ما يتوقّف عليه الفعل عقلا فواضح. وأمّا فيما انتفى فيه ما جعله الشّارع شرطا للوجوب والوقوع معا ، كعدم

__________________

(١) القائل هو الشارح العميدي وتبعه صاحب «الأنيس» ونقل انّه ظاهر كلام صاحب «المعالم» أيضا. راجع «المعالم» : ص ٢٢٤ و «الذريعة» : ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) والمقصود من المذكور هو أنّ الأمر حقيقة في طلب نفس الفعل ومجاز في طلب العزم عليه.

(٣) أي في نفس هذا الأمر الذي أمر به الآمر.

(٤) نسبه في «المعالم» : ص ٢٢٣ الى بعض متأخري العامة. وعدّه إفراطا لأجل انّ دليل المنع فيها آكد حيث انّ التكليف بما لا يطاق فيه ظاهر أول الواقع بخلاف صورة جهل المأمور به ، فإنّه يختص بالثاني.

٢٧٥

السّفر والحيض ونحوهما ، فلأنّه رخّص في السّفر ، ومنع في حال الحيض ، فبعد اختيار السّفر يحرم الصوم ، فلا يجوز فعله ؛ فيمتنع شرعا ، وكذلك يحرم في حال الحيض ؛ فيمتنع فعله شرعا ، فتكليفه بالوجوب والحرمة معا مع اتّحاد الجهة ، ممتنع كما سيجيء (١). ولا فرق عندنا (٢) بين الممتنع بالذّات والممتنع بالغير (٣) في قبح التكليف به إلّا فيما صار الامتناع من جهة سوء اختيار المكلّف ، فلا يرد ما أجاب به ابن الحاجب (٤) وغيره بأنّ ما لا يصحّ التكليف به هو المحال الذّاتي لا

__________________

(١) في بحث اجتماع الأمر والنهي.

(٢) معاشر العدلية خلاف لبعض الأشاعرة.

(٣) الممتنع بالذّات كشريك الباري سبحانه وتعالى واجتماع النقيضين ، والمراد منه في هذا المقام انتفاء الشروط العقليّة كالتمكّن والقدرة. وأما الممتنع بالغير كالطيران بالهواء بالنسبة الى غير الطيور ، وهذا ممتنع لا بالذّات لكونه موجودا في الطيور. والمراد به في المقام انتفاء الشروط الشرعيّة كالخلوّ من الحيض والسّفر. هذا ومراد المصنّف من هذا الكلام الردّ على بعض الأشاعرة الذين لم يجوّز والتكليف بالممتنع الذّاتي كما جوّزه فرقة منهم ، بل جوّزوا التكليف بالممتنع الغيري والاضافي.

(٤) عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن الحاجب الدويني ثم المصري ثم الدمشقي ثم الإسكندري (٥٧٠ ـ ٦٤٦ ه‍) من أئمة المالكية ومن كبار علماء اصول الفقه ولد بإسنا من صعيد مصر ، له مصنّفات كثيرة طار ذكرها في البلاد منها «منتهى السّؤل والأمل في علمي الاصول والجدل» ومختصره «مختصر منتهى السّؤل والأمل في علمي الاصول والجدل» وهذا الكتاب يعد من عيون مراجع اصول الفقه وقد أثنى عليه عضد الإيجي وكذا سعد الدين التفتازاني وحاجى خليفة بعبارات بليغة ، وقد اعتكف الكثير على هذا الكتاب تدريسا وشرحا وتحشية وقد طبع بعض من شروحه وحواشيه وأحسنها على ما نقل شرح عضد الدين الإيجي وهو مطبوع بحاشية التفتازانى وغيرها من الحواشي.

٢٧٦

الإضافي (١) ، ولا ما أورده (٢) من النقض بلزوم عدم صحّة التكليف مع جهل الآمر أيضا لاشتراك امتناع الامتثال.

وفيه : انّا لا نقول بانحصار جهة قبح التكليف في امتناع الامتثال ، بل هو ذلك مع علم الآمر به ، والقبح إنّما هو في هذه الصّورة (٣).

احتجّوا (٤) بوجوه :

الأوّل : أنّ حسن الأمر قد يكون لمصالح تتعلّق بنفسه دون المأمور به ، كالعزم والتوطين ، ونحوهما.

وفيه : أنّ هذا خروج عن المتنازع.

والثاني : أنّه لو لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه ، لم يعص أحد ، واللّازم باطل بالضّرورة من الدّين. وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما لم يقع فقد انتفى شرط من شروطه ، وأقلّها إرادة المكلّف.

وفيه : أنّ الكلام في شرط الوجوب ، والإرادة من شرط الوقوع لا غير.

نعم يصحّ ذلك (٥) على القول بكون العبد مجبورا في الإرادة ، وبطلانه بديهيّ.

والثالث : لو لم يصحّ ، لم يعلم أحد أنّه مكلّف ، وهو باطل بالضّرورة.

أمّا الملازمة فلأنّه مع الفعل ، وبعده ينقطع التكليف عنه ، وقبله لا يحصل العلم ببقائه على صفات التكليف إلى التمام ، والمراد العلم بالإتيان به فيما بعد ، فلا يضرّ

__________________

(١) هو بمعنى الممتنع بالغير.

(٢) العضدي.

(٣) أي صورة علم الآمر.

(٤) القائلين بجواز الأمر وإرادة المأمور به مع علم الآمر بانتفاء الشّرط.

(٥) أي الاحتجاج المذكور.

٢٧٧

حصول العلم بالواجب الموسّع بعد تقضّي الوقت بمقدار الواجب مستجمعا للشرائط مع عدم الفعل ، فيلاحظ هذا الكلام بالنسبة الى جزء جزء من الزّمان يمكن إيقاع الفعل فيه.

وفيه : منع الملازمة لو أراد من العلم أعمّ من الظنّ المعلوم الحجّية كما مرّت الإشارة إليه. ومنع بطلان التالي لو أراد خصوص العلم. ودعوى الضرورة فيه مكابرة (١) وعناد ، مع أنّ انقطاع التكليف حال الفعل أيضا محلّ كلام.

والرابع : لو لم يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليه‌السلام وجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته ، وهو عدم النّسخ ، وقد علمه قطعا ، وإلّا لم يقدم على قتل ولده ، ولم يحتج إلى فداء.

وأجيب عنه : بالمنع (٢) من تكليف إبراهيم عليه‌السلام بالذّبح الحقيقي ، بل إنّما كلّف بمقدّماته كالإضجاع ، وتناول المدية (٣) ونحو ذلك بدليل قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٤).

وأمّا جزعه فلإشفاقه عن أن يؤمر بعد ذلك بالذّبح نفسه لجريان العادة بذلك.

وأمّا الفداء فيجوز أن يكون عمّا ظنّ انّه سيؤمر به ، أو عمّا لم يؤمر به من المقدّمات ، إذ لا يجب أن يكون الفدية من جنس المفدّى.

وفيه : أنّ ذلك لا يناسب (٥) امتحان مثل إبراهيم عليه‌السلام واشتهاره بالفضل لذلك ،

__________________

(١) وهو كلام في «المعالم» : ص ٢٢٩.

(٢) المجيب هو صاحب «المعالم» فيه ص ٢٣٠.

(٣) في «مجمع البحرين» المدى بالقصر والضّم جمع المدية مثلّثة الميم وهي الشّفرة ، سميت بذلك لأنّها تقطع مدى حياة الحيوان ، وسميت سكينا لأنّها تسكن حركته.

(٤) الصّافات : ١٠٥.

(٥) يعني انّ الجواب المذكور من أنّ المطلوب في المقام هو المقدمات لا نفس الذّبح لا ـ

٢٧٨

وكذا ولده إسماعيل عليه‌السلام ، ولا اشتهاره بذبيح الله ، ولا ما ورد أنّ المراد بذبح عظيم هو الحسين صلوات الله وسلامه عليه. والاستشهاد بتصديق الرّؤيا معارض ب : (أَنِّي أَذْبَحُكَ)(١) مع كون المجاز في الأوّل أظهر ، كما لا يخفى.

وقد يجاب أيضا (٢) : بأنّ ذلك من باب البداء الذي يقول به الشيعة.

وهو مشكل ، لأنّ البداء إنّما هو في الأفعال التكوينية الإلهيّة (٣) لا الأحكام ، والذي يجري في الأحكام هو النسخ (٤).

نعم ، قد يطلق كلّ منهما على الآخر مجازا فيقال : إنّ النسخ بداء في الأحكام كما أنّ البداء نسخ في الأفعال.

__________________

ـ يناسب الامتحان العظيم لمثل النبي ابراهيم عليه‌السلام الذي اشتهر بمدى طاعته لإقدامه على ذبح فلذة كبده.

(١) الصافات : ١٠٢.

(٢) وقد نسب الى المحقق الثاني ، وهو الجواب الثاني من الأجوبة الستة.

(٣) يعني انّ البداء الاصطلاحي هو أن يظهر للمخلوق من جانبه تعالى من جهة ملاحظة الأسباب أنّ الفعل المخصوص يصدر منه تعالى في وقت مخصوص ، فإذا جاء الوقت لم يصدر منه الفعل ، كما في قصة موسى عليه‌السلام وفرعون عليه اللّعنة في حكاية النيل ، وكما في حكاية إماتة اسماعيل بن الامام جعفر الصادق عليهما‌السلام ، وقصة إخبار عيسى عليه‌السلام عن موت العروس ونحو ذلك ، لأنّ في جميع هذه الوقائع قد أظهر الله تعالى أفعاله الايجاديّة بعد ما أخفاها كما لا يخفى ، وأما حكاية إبراهيم عليه‌السلام فليس فيها إظهار لفعله ، بل هو نسخ للحكم السابق. هذا كما في الحاشية.

(٤) والنسخ في اللّغة الإزالة ، وفي الاصطلاح رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عن وجه لولاه لكان ثابتا كنسخ جهة الصّلاة من بيت المقدس الى شطر المسجد الحرام بآية القبلة في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

٢٧٩

ويمكن توجيهه (١) : بأنّ المراد حصول البداء فيما ظهر له من الله تعالى وعلم من قبله انّه يذبحه ويصدر عنه الذّبح بقرينة قوله تعالى : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)(٢) ، لا أمرني تعالى بذبحك ، فيكون في المعنى إخبارا عن حصول هذا الفعل في الخارج بدون منع عن الله تعالى ، ثمّ بدا لله فلم يقع في الخارج ، مثل إخبار عيسى عليه‌السلام عن موت العروس ثمّ ظهور خلافه (٣).

لكن يرد عليه : أنّ رؤيته عليه‌السلام ذبحه في المنام مسبّبة عن أمره تعالى به ، فيدور الكلام(٤).

ويشهد بذلك (٥) قوله تعالى حكاية عن إسماعيل عليه‌السلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(٦). فالأولى جعله (٧) إمّا من باب النّسخ ، والقول بجوازه قبل العمل سيّما

__________________

(١) أي توجيه الجواب لينطبق على البداء المصطلح أي في الأفعال دون الأحكام.

(٢) الصافات : ١٠٢.

(٣) حكي أنّ رجلا من بني إسرائيل قد استدعى امرأة ذات ثروة في زمان عيسى عليه‌السلام فخطب ، فأخبره عليه‌السلام بأنّك لا تدركها لموتها ليلة العرس ، فوقعتا المناكحة فلم تمت في تلك اللّيلة ، فاستعجب من تخلّف ما أخبره به ، فأوحى الله إليه أن يفتّشوا تحت وسادتها فإذا فيه حيّة عظيمة ، فاستخبروا من العروس كيف حالك باللّيلة ، فقالت : بعد ما نمت ونام أهل البيت كلهم سمعت سائلا بالباب يسأل ويدعو بدفع البليّات فقمت وأخذت ما ادّخروا لنا من الغذاء ومشيت نحوه بحيث لا يلتفت أحد وأوصلت الغذاء الى السّائل تقرّبا الى الله تعالى دفعا للبليّات ثم نمت كما كنت. فقال عيسى : هذا من ذاك وإلّا لوقع ما أخبرت به.

(٤) أي يرجع الكلام الى الأمر ، أي أنّ ما ظهر له من الفعل مسبب من الأمر ، فالبداء بما ظهر حقيقة في البداء عن الأمر.

(٥) أي يشهد انّ ما ظهر مسبّب عن الأمر.

(٦) الصّافات : ١٠٢.

(٧) هذا هو الجواب الثالث من الأجوبة السّتة.

٢٨٠