القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

وبالجملة ، لا بدّ من التفرقة بين قول المولى للعبد : كن على السّطح ، وأجزت لك أن لا تنصب السّلّم ، أو لا تصعد ، وبين قوله : كن على السّطح ، وإن لم تكن عليه فأعاقبك على ترك الكون ، ولا أعاقبك على ترك النّصب ، ولا على ترك الترقّي على كلّ واحد من الدّرجات ، والذي نجوّزه هو الثاني ، والذي يرد عليه الاعتراض هو الأوّل.

وعن الثالث ؛ منع كون المذمّة على ترك المقدّمة لذاتها ، بل إنّما هو لأجل ترك ذي المقدّمة حيث لا ينفكّ عن تركها ، ولهم حجج أخرى ضعيفة ، أقواها ما ذكرنا (١).

حجّة القائلين بوجوب السّبب دون غيره (٢) : أمّا في غير السّبب فما مرّ (٣) ، وأمّا في السّبب فهو أنّ المسبّب لا يتخلّف عن السّبب وجودا وعدما ، فالقدرة لا تتعلّق بالمسبّب ، بل القدرة على المسبّب ، باعتبار القدرة على السّبب لا بحسب ذاته ، فالخطاب الشرعيّ وإن تعلّق على الظاهر بالمسبّب إلّا أنّه يجب صرفه بالتأويل الى السّبب ، إذ لا تكليف إلّا بالمقدور من حيث هو مقدور ، فإذا كلّف المكلّف كان تكليفا بإيجاد سببه ، لأنّ القدرة إنّما تتعلّق بالمسبّب عن هذه الحيثيّة ،

__________________

(١) أي أقوى الحجج مطلقا ، ومن جملة تلك الحجج انّ العقل يحكم بالوجوب وهو من أدلّة الشرع أيضا فثبت الوجوب الشرعي. والجواب : أنّه لا يثبت به إلّا الوجوب التبعي وهو مما لا ينكر ولا نسلّم ترتب العقاب بترك مثل ذلك الواجب بنفسه غير العقاب المترتب على نفس الواجب كما هو محلّ النزاع ، بل القدر المسلّم من العقاب إنّما هو على ترك ذي المقدمة فقط كما لا يخفى.

(٢) راجع ما قرّره السيّد في «الذريعة» : ١ / ٨٢.

(٣) من أدلّة النفي.

٢٢١

بخلاف ما إذا كانت المقدّمة شرطا للواجب غير مستلزم إيّاه ، كالطهارة للصلاة والمشي للحج ، فإنّ الواجب هاهنا يتعلّق به القدرة بحسب ذاته ، فلا يلزم أن يكون إيجابه إيجابا للمقدّمة.

وحاصله ، أنّ المسبّب لا ينفكّ عن السّبب قطعا ، ووجوده واجب حينئذ ويمتنع عند عدمه ، فالتكليف بالمسبّب إمّا تكليف بإيجاد الموجود أو الممتنع ، وكلاهما محال فلا يصحّ تعلّق التكليف به ، فالتكليف متعلّق بالسّبب.

وجوابه : أنّ المقدور لا يصير ممتنعا ، فإنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وكذلك الامتناع بالاختيار (١).

وبالجملة ، المسبّب مقدور وإن كان بواسطة السّبب ، ولذلك (٢) ذهب المحقّقون الى جواز كون المطلوب بالأوامر هو المفهومات الكلّيّة وإن لم يمكن وجودها إلّا في ضمن الفرد ، مع أنّ الامتناع بالمعنى المذكور يتمشّى في الشروط أيضا.

وقد يورد عليه أيضا (٣) : بأنّ ذلك مستلزم لارتفاع التكليف ، إذ كلّ سبب مسبّب أيضا ، لاحتياج الممكن الى المؤثّر حتى ينتهى الى الواجب.

وقد يجاب (٤) : بأنّ المراد بالمسبّب هاهنا ما له واسطة مقدورة بينه وبين

__________________

(١) يعني أنّ الذي ذكرت من أنّ التكليف بإيجاد الموجود والممتنع محال وهو على اطلاقه غير مسلّم ، لما تقرّر من أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وكذلك الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

(٢) أي ولأجل أنّ المسبب مقدور ولو بواسطة.

(٣) أي على احتجاج القائلين بوجوب السبب دون غيره ، وهذا الايراد نقل عن سلطان العلماء.

(٤) وهذا الجواب أيضا من المورد السلطان في حاشيته على «المعالم» : ص ٢٨١.

٢٢٢

المكلّف ، لا كلّ ما له علّة ، وانتهاء العلل الى الواجب تعالى لا يستلزم الجبر كما يشهد به الضرورة ، والشّبهة المشهورة لا يعتنى بها في مقابلة البديهة.

وما يقال (١) : إنّ النزاع في السّبب قليل الجدوى لأنّ تعليق الأمر بالمسبّب نادر ، بل الغالب التعليق بالأسباب كالأمر بالوضوء والغسل دون رفع الحدث مثلا.

ففيه ما لا يخفى ، إذ التعليق بالمسبّبات أيضا كثير إن لم نقل بكونه أكثر ، كالأمر بالكفّارة ، والأمر بالعتق ونحوهما ، فإنّ الصيغة سبب العتق ، والعتق سبب الكفّارة ، ولاحظ تعلّق التكاليف بالكلّيات مع أنّ الفرد إنّما هو السّبب لوجود الكلّي.

فالحاصل ، أنّ المختار عدم دلالة الأمر بالمسبّب على وجوب السّبب كغيره من المقدّمات بدلالة ما قدّمنا سابقا ، نعم يمكن أن يقال : إنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسّبب إذا كان المسبّب فعل الغير ، ومثل الأمر بالإحراق فإنّه حقيقة أمر بإلقاء الحشيش في النار مثلا ، لأنّ الإحراق إنّما هو فعل النّار ، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالإحراق هنا هو ما يمكن حصوله من المكلّف من المبادئ المستلزمة للإحراق مجازا ، لا أن يكون نفس الإحراق مأمورا ويكون دالّا على وجوب السّبب باللّزوم العقلي من جهة استحالة حصول الإحراق عنه ، وهذا هو مقتضى استدلال المستدلّ أيضا ، فعلى هذا يخرج الكلام عن موضوع هذا الأصل ومحلّ النزاع ، فإنّ الظاهر أنّ من يقول بدلالة الأمر على وجوب السّبب ، لا يقول بدلالته عليه مطابقة ، فالأمر حقيقة إنّما يوجّه هناك الى السّبب مطابقة وإن كان باللّفظ المجازيّ ، فافهم ذلك فإنّه دقيق.

__________________

(١) وهو للشيخ حسن في «المعالم» : ص ١٧٠.

٢٢٣

ثمّ إنّ ما ذكرنا (١) مبنيّ على أن لا يكون الأفعال التوليديّة (٢) مستندة الى العلّة الأولى حقيقة ، وإلّا فلا مانع من إسناد الإحراق الى المخاطب ، كما في أمر الملك أحد أمرائه بفتح البلاد ، فلا يتفاوت المقام في دعوى كون الأمر بالمسبّب مستلزما للأمر بالسّبب بعنوان اللّزوم العقلي لا الدّلالة المجازية المطابقية ، ولكنّ ظاهر كلام المستدلّ هو المعنى الثاني ، فيختلف موضع النزاع بالنسبة الى السّبب وغيره من المقدّمات ، ومع ذلك فقد عرفت بطلان دليله بما لا مزيد عليه.

حجّة القول بتخصيص الوجوب بالشرط الشرعي (٣) : أنّه لو لم يكن واجبا ، لم يكن شرطا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة ، فلأنّه لو لم يجب لجاز تركه ، وحينئذ فإمّا أن يكون الآتي بالمشروط آتيا بتمام المأمور به أم لا (٤) ، والثاني باطل ، لأنّ المفروض أنّ المأمور به منحصر في المشروط ، فيلزم تماميّة المأمور به بدون الشرط ، فيلزم عدم توقّفه على الشّرط ، هذا خلف.

وأمّا بطلان التالي فواضح (٥).

والدّليل على عدم الوجوب في غيره يظهر ممّا تقدم.

__________________

(١) وهو قوله : ولكن الظاهر انّ المراد بالاحراق .. الخ قوله : في أمر الملك ، وأنت خبير بأنّ الأمر بالاحراق ، وأمر الملك أحد أمرائه بفتح البلاد فرقا ظاهرا ، إذ في الأوّل إسناد الفعل الى المخاطب على سبيل الحقيقة ، وفي الثاني الى الأمر على سبيل المجاز كما ذكرنا سابقا.

(٢) التوليدية عبارة عن أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر.

(٣) راجع «المعالم» : ص ١٧١ ، وراجع «المنتهى» : ص ٣٦ ، وشرح العضد : ١ / ٩٠.

(٤) لا آتيا بتمام المأمور به.

(٥) لأنّه خلاف المفروض.

٢٢٤

والجواب : اختيار الشقّ الثاني ، وأنّ عدم الإتيان بتمام المأمور به لا يلزم أن يكون من جهة عدم الإتيان ببعض المأمور به (١) بل يجوز أن يكون لفوات وصف من أوصاف المأمور به يختلف كيفية المأمور به بسببه ، وكون ما يستلزم عدمه عدم المأمور به واجبا أوّل الكلام ، وسيجيء بيان أنّ علّة الحرام ليست بحرام كما تقدّم أنّ سبب الواجب ليس بواجب.

ومن هذا يندفع ما قيل (٢) ، أنّ الواجب هو الصلاة المتّصفة بكونها صادرة عن المتطهّر ، فالأركان المخصوصة مع الطهارة حينئذ يكون سببا لإيجاد الهيئة المحصّلة لحقيقة المأمور به ، فيكون واجبا لكونه سببا ، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا أنّ الجزء يجب بوجوب الكلّ ، وسيجيء الكلام فيه.

وتحقيق المقام هو ما تقدّم من إثبات الوجوب الحتميّ التبعيّ ، ولكنّه ليس بمحلّ النزاع في شيء ، ثمّ إنّ سوق هذه الحجّة يجري في غير الشّرط الشرعي من المقدّمات العقليّة والعادية أيضا ، ولا اختصاص لها بالشّرط الشرعيّ والجواب ، الجواب.

__________________

(١) بأن يتعدّد متعلّق الأمر ، بأن قال مثلا : معنى صلّ ، أقم الصلاة وتوضئ.

(٢) أي في مقام إثبات الوجوب للشرط بإرجاعه الى السّبب ، ونسب هذا القول الى الفاضل السبزواري.

٢٢٥

تنبيهات

الأوّل :

ربّما يتوهم (١) أنّه لا خلاف في وجوب المقدّمة إذا كانت المقدّمة هو إتيان أمور يحصل الواجب في ضمنها ، كالصّلاة الى أكثر من جانب ، والإتيان بالظهر والجمعة معا عند من اشتبه عليه المسألة وأوجب الاحتياط ونحو ذلك ، لأنّه عين الإتيان بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد كالصلاة الى أربع جهات.

وفيه ما [لا] يخفى على المتأمل ، سيّما بعد ما بيّنّا من معنى الوجوب ، وثمرة النزاع والإجماع المتوهّم ممنوع.

وأمّا الكلام في النصّ الوارد في بعض هذه الموارد ، فنحن أيضا لا نتحاشى عن القول بالوجوب هناك ، ولا اختصاص به بهذا المورد ، بل الكلام فيه هو الكلام في مثل الوضوء إذا لوحظ وجوبه المستفاد من النصّ ، إذ الوجوب فيهما الحاصل من النصّ عليه هو الوجوب الغيري ، والفرق بين المنصوص وغير المنصوص إنّما يحصل في كون الخطاب به أصليّا أو تبعيّا ، فوجوب سائر المقدّمات تبعيّ ، ووجوب مثل ذلك أصليّ.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا هنا لا ينافي ما سبق منّا من منع وجوب الشرط الشرعيّ من المقدّمات ، إذ الشرطيّة غير الوجوب كما هو مصرّح به في كلام الأعلام ، مع أنّ ما تقدّم من الكلام إنّما هو في الوجوب المستفاد من إيجاب نفس الواجب (٢) ، وهو باق بحاله بالنسبة الى مثل الوضوء أيضا.

__________________

(١) هذا التوهم للفاضل التوني في «الوافية» : ص ٢٢١.

(٢) أي من ايجاب ذي المقدمة.

٢٢٦

والحاصل ، انّا نقول بأنّ الأمر بالصلاة ليس أمرا بالوضوء ، وذلك لا ينافي كون الوضوء شرطا من قبل الشّارع ، ولا كونه مأمورا به بخطاب على حدة ، بل لا نضايق (١) في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة خصوص الأمر به ، وإن كان وجوبه المعتبر كما هو مدلول أصل لفظ الأمر ، ومصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين ، ونفى الخلاف في وجوب هذا القسم الذي تعلّق به الوجوب على حدة ، المحقّق الشيرازي (٢) في حاشية «العضدي».

الثاني :

صرّح جماعة بوجوب التروك المستلزمة للترك الواجب ، كالمطلّقة المشتبهة فيما بين الأربع أو أقلّ ، والدينار المحرّم في الدنانير المحصورة ونحوهما من باب المقدّمة.

والذي يترجّح في النظر هو عدم الوجوب ، وإن قلنا بوجوب المقدّمة ، إذ الواجب إنّما هو الاجتناب عمّا علم حرمته ، لا عن الحرام النفس الأمري ، لعدم الدّليل على ذلك ، والأصل والأخبار المعتبرة (٣) يساعدنا.

وكيف ما كان ، فالذي نمنع وجوبه هو اجتناب الجميع ، وأمّا إذا بقي منه بمقدار نجزم بارتكاب الحرام ، فلا نجوّزه.

وتمام التحقيق في ذلك سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر الكتاب.

__________________

(١) هذا مبني على كون وجوب الوضوء اصطلاحيا كذا نقل من «التوضيح» في الحاشية.

(٢) وهو الملا ميرزا جان الشيرازي أو العلّامة قطب الدين الشيرازي ، والظاهر هو الأوّل على ما نقل في الحاشية.

(٣) أي اصل البراءة والاستصحاب والأخبار المعتبرة كقوله عليه‌السلام : الناس في سعة مما لم يعلموا ، وحديث الرّفع ونحوهما من الأخبار التي تفيد البراءة والتي تساعدنا في هذا المجال.

٢٢٧

الثالث :

الظاهر أنّ الكلام في دلالة الواجب على وجوب جزئه ، كالكلام في سائر مقدّماته ، والقدر المسلّم من الدلالة هو التبعيّ إلّا أن ينصّ عليه بالخصوص بعنوان الوجوب ، كما مرّ في حكم المقدّمة الخارجة. وربّما نفي الخلاف عن الوجوب في الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا ، وهو ممنوع (١).

وقد جعل العلّامة (٢) من فروع المسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، من جهة أنّ الكون الذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب ، فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه.

__________________

(١) أي ادعاء عدم الخلاف ممنوع إذ الخلاف فيه كسائر المقدمات موجود.

(٢) كما نقل عن العلّامة في «التهذيب» : ص ١١٠.

٢٢٨

قانون

الحق أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ مطلقا (١).

وأمّا الضدّ العامّ فيقتضيه التزاما (٢).

وتوضيح المقصد يقتضي رسم مقدّمات.

الاولى :

الضدّ الخاصّ للمأمور به هو كلّ واحد من الامور الوجوديّة المضادّة له عقلا أو شرعا(٣).

وأمّا العامّ فقد يطلق على أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، وهو يرجع الى الأوّل ، وقد يطلق على الترك إمّا بجعله عبارة عن الكفّ ، أو مجازا للمناسبة والمجاورة ، والمراد في هذا المبحث هو المعنى الثاني (٤).

الثانية :

انّ ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل المأمور به لاستحالة وجود الضدّين في محلّ واحد(٥). فوجود أحدهما يتوقّف على انتفاء الآخر عقلا ، فالتوقّف عقليّ

__________________

(١) أى لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما.

(٢) أي التزاما بيّنا بالمعنى الأعم.

(٣) المضاد العقلي كالقيام بالنسبة الى القعود والنوم بالنسبة الى اليقظة وأمثالهما ، والمضاد الشرعي كإزالة النجاسة بالنسبة الى الصلاة ونحوها ، فإنّ كون أحدهما ضدا للآخر شرعي لا عقلي لإمكان اجتماعهما عقلا.

(٤) وهو الضد العام بمعنى الترك لا المعنى الأوّل من الضد العام ، وهو أحد الأضداد الوجودية لا بعينه.

(٥) كما حقّقه المدقق الشيرواني ردا على بعض المحققين.

٢٢٩

وإن كان الضدّ شرعيّا ، إذ المراد بعد فرضه ضدّا (١). وقد أغرب بعض المحقّقين (٢) فأنكر كونه مقدّمة وقال : إنّه من المقارنات الاتّفاقيّة ، فلو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ، فكون فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه أولى بالإذعان ، ولمّا كان منشأ توهّم التوقّف هو المقارنة الاتّفاقية ، حصل ذلك الاشتباه في المقامين ، مع أنّه محال.

وغرضه من المقام الثاني هو شبهة الكعبي (٣) الآتية ، فإنّه جعل فعل المباح

__________________

(١) مثلا خياطة الثوب ، وإن لم يكن ضدا لفعل الصلاة شرعا لكونها مشتملة على فعل كثير وهو مناف للإتيان بالصلاة ، والامتثال بها يكون تركها حينئذ ما يتوقف عليه فعل الصلاة عقلا ، لظهور انّ العقل يمنع إرادة الصلاة مع الاشتغال بالخياطة التي تركها من مقدماتها شرعا ، فالتوقف عقلي وإن كان الضد شرعيّا.

(٢) المراد به هو سلطان العلماء في حاشيته على شرح «المختصر» على ما نقله ميرزا حبيب الله الرشتي في «بدائع الأفكار» : ص ٣٧٥ ، وأشار السلطان بذلك في حاشيته على «المعالم» : ص ٩٤ (طبعة كتابفروشي داوري ـ قم) أيضا ، وبمثل نظره الشيخ البهائي في «الزبدة» : ص ٨٢ والكاظمي ، وكذلك الحاجبي الذي هو من قبلهم.

(٣) عبد الله الكعبي البلخي الخراساني (٢٧٣ ـ ٣١٩ ه‍) أحد أئمة الاعتزال ورأس طائفة منهم تسمى الكعبية. له آراء في علم الكلام انفرد بها وقد اعتاد الأصوليين على ذكر وايراد نظريته المتعلّقة بالمباح وهي نظرية اختلفت عبارات الاصوليين في تصويرها على ثلاثة أوجه : أحدها : انّ كل فعل يوصف بأنّه مباح عند النظر إليه بانفراده يكون واجبا باعتبار انّه ترك به الحرام. ثانيها : انّ المباح مأمور به بناء على انّه حسن ، فيحسن ان يطلبه الطالب لحسنه. ثالثها : انّ المباح من أضداد الحرام ، فيكون مأمورا به بناء على انّ النهي عن الشيء أمر بضده. وغاية ما يرومه الكعبي في نظريّته هذه هي الإفضاء الى اثبات كون المباح غير موجود في الأحكام الشرعية ، بل المباح من قسم الواجب. وقد اثارت هذه النظرية الكعبية مناقشات وردود مختلفة ، وكلّها تتضمّن في محتواها توجيه حكم المباح غير هذا التوجيه الذي أبداه الكعبي وسار عليه.

٢٣٠

مقدّمة لترك الحرام (١). يعني أنّه لمّا قارن ترك الحرام لفعل المباح ، فتوهّم أنّ المباح مقدّمة له ، فكما انّ ذلك باطل لأنّه من باب محض الاتّفاق ، فكذا فيما نحن فيه.

وأنت خبير بأنّ الفرق بينهما في كمال الوضوح ، فإنّ ترك الحرام قد يتخلّف عن جميع الأفعال مع وجود الصّارف ، ومع عدم التخلّف فلا يتوقّف عليه غالبا ، بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا يمكنه التخلّف أبدا.

وقوله : مع أنّه محال ، الظاهر أنّه أراد منه لزوم الدّور ، وهو أغرب من سابقه (٢) لأنّ المقامين متغايران. وإن أراد أنّ ترك الضدّ كما أنّه مقدّمة لفعل الضدّ الآخر على ما قلت ، ففعل الضدّ الآخر أيضا علّة لترك هذا الضد.

ففيه : أنّ في هذا الكلام اشتباه التوقّف بالاستلزام ، فإنّ ترك أحد الضدّين لا يتوقّف على فعل الضدّ الآخر ، لجواز خلوّ المكلّف عنهما جميعا.

نعم ، فعل الضدّ الآخر يستلزم ترك الآخر ، وأين هذا من التوقّف.

والظاهر ، أنّ منشأ توهّمه النظر إلى أنّ ترك الضدّ يتخلّف غالبا من فعل ضدّه ، فحسب من ذلك انّه لا مدخليّة لترك الضدّ في فعل ضدّه ، وحسب أنّ مقدّمة الشيء

__________________

(١) «المنخول» : ص ١١٦ ، «الإحكام» : ١ / ١٠٧ ، «المنتهى» : ص ٤٠ ، ونسب الغزالي في «المستصفى» هذا القول إلى البلخي.

(٢) لأنّه مغالطة محضة لاختلاف طرفي التوقف ومعه لا يلزم دور أصلا ، فإنّ التوقف الذي فيما نحن فيه هو توقف الصلاة على ترك الأكل مثلا ، والتوقف الذي هو الأولى بالإذعان الذي يلزم منه شبهة الكعبي هو توقف ترك شرب الخمر على فعل مباح كالأكل مثلا فأين الدّور. وهذا معنى قوله : لأنّ المقامين متغايران. وبهذا التقرير يندفع شبهة التكرار بين هذه الفقرة وما بعدها.

٢٣١

هي ما يتوقّف عليه الفعل في نظر المكلّف مع تفطّنه بكونه ممّا يتوقّف عليه ، وأمّا مع وجود الصّارف عن المكلّف به وعدم حصوله في الخارج ، فلا يتحقّق واجب في الخارج حتّى يتحقّق توقّف.

ثمّ طرد الكلام غفلة إلى حال الاشتغال والتفطّن ، وأنكر التوقّف هنا أيضا.

وأنت خبير بأنّ عدم تفطّن المكلّف بالتوقّف لا يوجب عدم التوقّف في نفس الأمر.

والثاني : إنّما هو معنى ما لا يتمّ إلّا به لا الأوّل ، مع أنّ هذا الكلام يجري في سائر المقدّمات أيضا.

فإن قلت : إذا ترك الواجب لصارف عنه ، فينتفي الواجب ، فما معنى وجوب المقدّمة مع أنّ وجوبه للتوصّل الى الواجب ، فإذا كان معنى المقدّمة هو ما يتوقّف عليه الواجب في نفس الأمر ، سواء تفطّن به المكلّف أم لا ، وسواء أتى بالواجب أم لا ، فكيف يصحّ لك الحكم بالوجوب شرعا حينئذ ، كما هو مقتضى القول بوجوب المقدّمة على ما ذكرت؟

قلت : علم الأمر بعدم الامتثال لا يؤثّر في قدرة المكلّف ، وإلّا لزم الجبر ، وتوهّم كون الخطاب (١) بالمقدّمة حينئذ قبيحا ، لأنّ مع عدم الواجب لا معنى لطلب المقدّمة ، لأنّها ليست مطلوبة في نفسها ، ومع وجود الصارف لا يمكن صدوره ، مدفوع بالنقض بأصل الواجب أوّلا ، وبمنع امتناع الواجب ثانيا (٢) ، وبأنّ التكليف

__________________

(١) هذا مبتدأ وخبره قوله الآتي : مدفوع.

(٢) لما مرّ من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإذا لم يكن الواجب ممتنعا لا يقبح طلب مقدمته.

٢٣٢

للامتحان ثالثا (١). فاللّازم على القائل بوجوب المقدّمة القول بالعقاب على ترك المقدّمات ، التي لو فعل الواجب كان موقوفا عليه ، وعدم وجود الواجب وعدم التأثير في الوجود في الخارج ، وفي نظر المكلّف لا يضرّ ، وهذا من أفصح (٢) ما يلزم القائل بوجوب المقدّمة ، فإنّ إجراء أحكام الواجب على تلك المقدّمات أصعب شيء. فمن كان عليه أداء دين مع المطالبة ، وكان له صارف عن أدائه ، يلزمه عدم صحّة عباداته من أوّل العمر الى آخره. غاية ما في الباب ، أنّه لا يترتّب ثواب على ترك الضدّ لو لم يتفطّن المكلّف له في صورة الامتثال بالمأمور به ، لو قلنا بأنّ الامتثال بالنّهي إنّما يكون بالكفّ لا بنفس أن لا يفعل ، وذلك مع أنّه غير مسلّم ـ كما سيجيء ـ لا ينفي ترتّب العقاب على فعله على القول بوجوب المقدّمة.

الثالثة :

المباح يجوز تركه ، خلافا للكعبي ، فإنّه قال بوجوب المباح ، والمنقول عنه مشتبه المقصود ، فقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما هو مباح عند الجمهور ، فهو واجب عنده ، لا غير (٣) ، وقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما كان مباحا بالذّات فهو واجب بالعرض ، وعلى أيّ التقديرين فالنزاع معنويّ والمنقول عنه في دليله وجهان :

أحدهما : أنّ ترك الحرام واجب ، وهو متلازم الوجود مع فعل من الأفعال ، فكلّ ما يقارنه فهو واجب ، لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

__________________

(١) فربما هو للإتيان بالمقدمات دون الأصل الواجب للامتحان كما في ذبح النبي إبراهيم لولده اسماعيل عليهما‌السلام.

(٢) وهو لزوم القول بالعقاب على ترك المقدمات.

(٣) أي ليس غير واجب ولو بالاعتبار.

٢٣٣

وثانيهما : أنّه لا يتمّ ترك الحرام إلّا بإتيان فعل من الأفعال ، وهو واجب ، فذلك الفعل أيضا واجب ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب.

والجواب عن الأوّل : منع ذلك ، فإنّ الممتنع هو اجتماع الضدّين في محلّ واحد لا في المتقارنين في الوجود ، إلّا في العلّة والمعلول عند بعضهم (١).

وامّا الثاني : فأجيب عنه بوجوه :

الاوّل : أنّ هذا لا يختصّ بالمباح فقد يتمّ بالواجب.

وفيه : أنّه لا يرفع الإشكال ، لأنه يقول حينئذ بكونه أحد افراد الواجب المخيّر.

والثاني : منع وجوب المقدّمة.

والتحقيق في الجواب إنّ ذلك ليس بمقدّمة مطلقا ، إذ الصارف يكف في ترك الحرام.

نعم ، لو تحقق فرض لا يمكن التخلّص إلّا بإتيان شيء ، فنقول بوجوبه إن قلنا بوجوب المقدّمة ، وذلك لا يثبت الكليّة المدّعاة خصوصا إن قلنا بأنّ المراد من ترك الحرام هو نفس أن لا يفعل فإنّه يحصل غالبا ولا يحتاج الى شيء أصلا ، بل وقد يكون المكلّف حينئذ خاليا عن كل فعل إن قلنا ببقاء الأكوان (٢) ، وعدم

__________________

(١) ومن قوله : عند بعضهم نشعر بأنّه ليس مختاره ، فإنّ وجوب المعلول عنده مما لا يدلّ على وجوب علّته ، غاية الأمر وجوبها كسائر المقدمات تبعي وهو ليس مما يترتب عليه ثمرة الوجوب الشرعي. هذا ولعلّ مراده من ذلك البعض هو صاحب «المعالم».

راجع ص ١٩٠ وما بعدها فيه.

(٢) قال في الحاشية : إنّ المتكلّمين بعد اتفاقهم على أنّ الجسم لا يمكن خلوّه عن كونين من الأكوان ، اختلفوا في أنّ الأكوان هل هي باقية بعد وجودها أم لا ، بمعنى أنّ السّكون الطويل مثلا الغير المتخلّل بالحركة هل هو سكونات عديدة لا بد أن يوجد السكون في ـ

٢٣٤

احتياج الباقي الى المؤثّر ، فكذلك إن قلنا بكونه (١) الكفّ ، إذ كثيرا ما لا يتصوّر فعل الحرام حتى يجب الكفّ عنه فحينئذ لا يكون المباح أحد أفراد الواجب المخيّر أيضا ، اللهمّ إلّا أن يقال بالنظر الى ما حقّقناه سابقا في مقدّمات القانون السّابق من انّ المقدمات قد تكون غير مقدورات ، وانّه قد يقوم غير المقدور مقام

__________________

ـ كل آن من ذلك للزمان الطويل إيجادا بعد إيجاد أم هو سكون واحد يبقى بعد إيجاده أوّلا ولا يحتاج الى الإيجاد ثانيا. وعلى القول بالبقاء هل يحتاج الموجود في البقاء الى مؤثّر ومبق في كل آن من ذلك الزّمان الطويل فيحصل في كل آن تأثير ، أم الموجود بعد إيجاده لا يحتاج الى العلّة المبقية كما لا يحتاج الى العلّة الموجدة ، بل تكون العلّة الموجدة هي المبقية ، وقد علم من ذلك أيضا أنّ الأقوال في الأكوان ثلاثة : أحدها أنّها باقية والباقي في بقائه لا يحتاج الى المؤثر. وثانيها : انّها باقية ولكن الباقي في البقاء يحتاج الى المؤثّر. وثالثها : أنّها غير باقية ، بلّ يتجدّد آناً فآنا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه على القول الأوّل يمكن خلوّ الجسم عن كلّ فعل بناء على أنّ الفعل هو التأثير ، فعلى هذا لا يكون السّكون فعلا فينحصر الباعث على ترك الحرام حينئذ في الصارف ، فلا يتم قول الكعبي حينئذ. وأما على القولين الأخيرين فلا يخلو الجسم عن الفعل في كل آن من الآنات ، بلّ هو في كل آن إمّا موجد للشيء كما على القول الأخير أو مبق له ، وإبقاء الكون أيضا فعل كما على القول الوسط ، فيكون الفعل على القولين مقدمة للحرام ، فيتمّ قول الكعبي حينئذ. ثم أعلم انّ المشهور من الأكوان هو الأربعة أعني الاجتماع والافتراق والحركة والسّكون ، والتخصيص بهذه الأربعة إمّا من جهة إرجاع البواقي من العلم والجهل والنوم واليقظة وغيرها الى هذه الأربعة ولو بتكلّف أو من جهة اشتهارها.

(١) يعني كما قلنا انّ المباح لا يكون مقدمة لترك الحرام في الصورة السّابقة ، وهي جعل الترك بمعنى نفس لا يفعل ، كذلك لو جعلناه بمعنى الكفّ الذي يعتبر فيه التفطن ، إذ كثيرا ما لا يتصوّر فعل الحرام ، فلا يكون الكفّ عنه واجبا ، فلا يكون المباح مقدمة له لعدم وجود ذي المقدمة وهو الكفّ عن الحرام ، هذا كما في الحاشية.

٢٣٥

المقدور انّ المباح أحد أفراد الواجب المخيّر ، ولكن قد يقوم مقامه ومقام سائر أفراده بعض الأمور الغير المقدورة مثل عدم شرط الحرام ووجود المانع عنه ونحو ذلك. فالصّارف ايضا من أحد أفراد الواجب المخيّر لو كان هو ترك الإرادة بالاختيار ، ومن جملة ما يقوم مقام تلك الأفراد لو كان شيئا خارجا عن الاختيار.

وأنت خبير بأنّ هذا في الحقيقة تخيير بين الأمور المقدورة ، والغير المقدورات مسقطات لها لا أنّه تخيير بين المقدورات وغير المقدورات كما قد يتوهّم ، مع أنّا لو سلّمنا التخيير مطلقا فلا نأبى عن كونه أحد أفراد الواجب المخيّر بهذا المعنى ، ولكن ليس هذا مراد الكعبيّ.

وأمّا ما ذكره المحقّق السّابق الذكر (١) ، من أنّه لا مدخليّة للمباح في ترك الحرام أصلا ومطلقا (٢) ، وأنّه من مقارناته الاتفاقية مطلقا.

ففيه ما فيه ، إذ كثيرا ما نجد من أنفسنا توقّف ترك الحرام على فعل وجودي بحيث لو لم نشتغل به لفعلنا الحرام ، ولا يمكن إنكاره.

وأطلنا الكلام في إبطال توهّمه وتوضيحه فيما علّقناه على «تهذيب» العلّامة.

الرابعة :

موضع النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا (٣) ، ولو كانا موسّعين (٤) فلا نزاع ، وأما لو كانا مضيّقين (٥) فيلاحظ ما هو الأهم.

__________________

(١) وهو سلطان العلماء في دفعه لشبهة الكعبي.

(٢) أي في جميع حالات المكلّف ، وكذا معنى الاطلاق في قوله : من المقارنات الاتفاقيّة.

(٣) كإزالة النجاسة عن المسجد مع صلاة الظهر مثلا في أوّل الوقت.

(٤) كصلاة النذر المطلق مع صلاة الظهر مثلا في أوّل الوقت.

(٥) كإزالة النجاسة عن المسجد مع صلاة الظهر مثلا في آخر الوقت.

٢٣٦

وقد يفصّل بأنّ الفعلين إمّا كلاهما من حقّ الله أو حق الناس أو مختلفان ، وعلى التقديرات إمّا معا موسّعان أو مضيّقان أو مختلفان (١) ، فمع ضيق أحدهما الترجيح له مطلقا ، ومع سعتهما التخيير مطلقا.

وأمّا الثاني ، فمع اتحاد الحقيقة التخيير مطلقا ، إلّا إذا كان أحدهما أهم في نظر الشّارع كحفظ بيضة الإسلام ، ومع اختلافهما فالترجيح لحقّ الناس إلّا مع الأهميّة.

إذا تمهّد هذا فنقول :

يكثر النزاع في اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن ضدّه بكل من المعنيين وعدمه ، وفي كيفيّة الاقتضاء بالعينية أو التضمن أو الاستلزام اللّفظي أو العقلي.

ولمّا كان بعض الخلافات والأقوال في المسألة في غاية السّخافة فنقتصر

__________________

(١) فبلغ مجموع الصّور إلى عشرة ، ثلاثة من الموسّعين وثلاثة من المضيّقين وأربعة من المختلفين. أما الثلاثة الأولى أي الحاصلة من الموسّعين فأحدهما : أن يكون الفعلان كلاهما حق الله كصلاة النذر المطلق مع صلاة الظهر في أوّل وقتها. وثانيها : أن يكون كلاهما حق الناس كأداء الدّينين الموسّعين. وثالثها : أن يكون أحدها حق الله والآخر حق الناس كصلاة النّذر المطلق وأداء الدّين الموسّع ، وأما الثلاثة الثانية أي الحاصلة من المضيّقين ، فأحدها : أن يكون كلا الفعلين حق الله كإزالة النجاسة عن المسجد وصلاة الظهر في آخر الوقت. وثانيها : أن يكون كلاهما حق الناس كإنقاذ الغريق وأداء الدّين المعجّل مع مطالبة الدّائن. وثالثها : أن يكون أحدهما حق الله والآخر حق الناس كأداء الدّين المضيّق وصلاة الظهر في آخر وقتها. وأما الأربعة الحاصلة من المختلفين فأحدها : أن يكون كلاهما حق الله مع تضييق أحدهما وتوسيع الآخر كتطهير المسجد وصلاة الظهر في أوّل وقتها : وثانيها : أن يكون كلاهما حق الناس كذلك كإنقاذ الغريق وأداء الدّين الموسّع ، وثالثها : أن يكون حق الله مضيّقا وحق الناس موسّعا كإزالة النجاسة عن المسجد وأداء الدّين الموسّع ، ورابعها : عكس الثالث كأداء الدّين المعجّل وصلاة الظهر في أوّل الوقت ، هذا كما في الحاشية.

٢٣٧

الكلام في بيان مقامين :

الاوّل : الأقوى أنّ الامر بالشيء يقتضي النّهي عن ترك المأمور به التزاما لا تضمّنا كما توهّم بعضهم (١) ، إذ المنع من الترك ليس جزء مفهوم الأمر ، فإنّ معنى افعل هو الطّلب الحتمي الجازم ، ويلزمه إذا صدر عن الشّارع ترتب العقاب على تركه والممنوعيّة عنه ، فالمنع عن التّرك لو سلّم كونه جزء معنى الوجوب لا يلزم منه كون جزء معنى افعل كما توهم.

وبتذكّر ما أسلفنا في مباحث دلالة الصّيغة على الوجوب تتبصّر هنا ، فالصيغة تدلّ عليه التزاما بيّنا بالمعنى الأعمّ. والقول بالعدم منقول عن السيّد رحمه‌الله وبعض العامّة محتجا : بأنّ الآمر قد يكون غافلا فلا يتحقّق النّهي.

وفيه : أنّ الغفلة مطلقا حتى إجمالا ممنوع وهو يكفي ، ولذلك قلنا بكون اللّزوم بيّنا بالمعنى الأعم مع أنّ القصد غير معتبر في الدّلالة كما في دلالة الإشارة ، ولكن ذلك خارج عن محل النزاع. وكما أنّ القول بالعينيّة في الضدّ الخاصّ إفراط فهذا القول تفريط ، ولا ثمرة في هذا النزاع (٢).

الثاني : الحق عدم دلالة الأمر بالشّيء على النّهي عن الضدّ الخاص ، والمثبتون بين من يظهر منه الالتزامية اللّفظية ، ومن يظهر منه الالتزامية العقليّة.

لنا : أنّه لا دلالة لقولنا : أزل النجاسة عن المسجد ، على قولنا : لا تصلّ ، ونحوه بإحدى من الدّلالات الثلاث.

__________________

(١) كما توهّم بعضهم باقتضائه تضمنا كصاحب «المعالم» فيه ص ١٧٤.

(٢) يعني كون الأمر بالشيء مستلزما للنهي عن ضده العام بمعنى الترك مما لا يثمر في شيء من الأحكام أصلا ، إذ لا يقتضي سوى وجوب الواجب النفسي الذي هو أصل مفاد الكلام ، ولا يثبت منه حكم شيء آخر كما هو محلّ نزاع الأصوليين كما لا يخفى.

٢٣٨

أمّا المطابقة فظاهر وكذا التضمّن ، وقد مرّ ما يمكن لك إبطاله به بطريق أولى.

وأمّا الالتزام فاللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ فيه منتف كما هو ظاهر ، ولم يدّعه الخصم أيضا كما يظهر من أدلّتهم الآتية.

وأمّا البيّن بالمعنى الأعمّ فأيضا غير موجود ، لأنّه لا يلزم من تصوّر الأمر وتصوّر الضدّ والنسبة بينهما كون الآمر قاصدا حرمة الضدّ ، وسنبطل ما تثبّت به الخصم في ذلك.

نعم يدلّ عليه دلالة تبعية من قبيل دلالة الإشارة ، ولكن ذلك ليس ممّا يثمر فيما نحن فيه ، فإنّ ترك الضدّ من مقدمات المأمور به ووجوب تركه تبعي ، والوجوب التبعي لا يفيد إلا أنّ ترك الضّد مطلوب الأمر تبعا ، بمعنى أنّ المقصود بالذّات هو الإتيان بالمأمور به ، وطلب ترك الضّد إنما هو لأجل الوصول إليه فلا يثبت بذلك عقاب على ترك الترك ، بمعنى فعل الضدّ ، فلا يثبت فساد كما مرّت الإشارة (١).

واحتجّ المدّعون للدلالة اللّفظية (٢) : بأنّ أمر الايجاب طلب فعل يذمّ على تركه اتّفاقا ولازم إلّا على فعل لأنّه المقدور وهو ليس إلّا الكفّ أو فعل ضدّه ، والذّم بأيّهما كان يستلزم النّهي عنه (٣) إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه.

وفيه : منع انحصار الذمّ على الفعل لما سنحققه من أنّ مطلق ترك الفعل ايضا مقدور بسبب القدرة على استمراره ولا نحتاج الى الكفّ مع أنّ الكفّ لا يتحقق في ترك المأمور به عرفا لمدخليّة الزّجر والإكراه في مفهومه.

__________________

(١) في مقدمات قانون مقدمة الواجب ، في المقدمة السادسة.

(٢) «الجامع لجوامع العلوم» للنراقي : ص ١٥٠.

(٣) أي عن أيّهما او عند الضد الخاص ، هذا كما في الحاشية.

٢٣٩

وإن أريد به مطلق صرف عنان الإرادة فيكفي في ذلك (١) الكفّ ، ولا يثبت بذلك حرمة الأضداد الخاصّة ، لعدم انفكاكها عنه بهذا المعنى.

سلّمنا ، لكن نقول : إنّ هذا الاستلزام تبعي لا أصلي كما مرّ ولا يضر ، بل القدر المسلّم في الكفّ أيضا هو ذلك. والذي هو مراد القائلين هو الحكم الأصلي لا التبعي كما يظهر من ترتب الثمرات في الفقه (٢).

واحتج المثبتون للاستلزام العقلي بوجوه ، ويريدون بالاستلزام العقلي ، أنّ العقل يحكم بأنّ مراد المتكلّم ذلك أصالة ، لا العقلي بمعنى التبعي ، فإنّه ليس من محطّ النزاع في شيء.

الأوّل : أنّ ترك الضدّ مما لا يتمّ فعل المأمور به إلّا به فيكون فعله حراما وهو معنى النّهي عنه (٣).

وقد اجاب عنه بعض المحقّقين (٤) : بمنع كون ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به ، وقد عرفت بطلانه بما لا مزيد عليه.

والتحقيق في الجواب : منع وجوب المقدّمة أصالة وتسليمه تبعا ، وهو لا ينفع المستدلّ كما تكرّرت الإشارة.

وقد أجيب أيضا (٥) : بأنّ وجوب المقدّمة توصّلي والوجوب للتوصّل يقتضي

__________________

(١) اي الذم والنهي.

(٢) من الثواب والفساد والعقاب.

(٣) ونقله في «المعالم» : ص ١٨٨.

(٤) وهو سلطان العلماء كما مرّ في المقدمة الثانية.

(٥) بأنّ وجوب المقدمة توصلي. والمجيب هو صاحب «المعالم» فيه ص ١٩٩ وهو أيضا صاحب الجواب الآتي فيه ص ٢٠٠.

٢٤٠