القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

أصلا ، فإنّ الأمر بالمسارعة الى سبب المغفرة كما هو مناط الاستدلال لا يفيد إلّا وجوب المسارعة الى السّبب في الجملة ، فإذا تعدّد الأسباب كما فيما نحن فيه ، فإنّ أحد الأسباب فيه (١) التوبة التي فوريّتها مجمع عليها ، فلا يفيد إلّا فوريّة أحدها ، وهو لا يستلزم المطلوب كما لا يخفى.

واحتج السيّد رحمه‌الله (٢) : بالاستعمال وأنّ الأصل فيه الحقيقة ، وبحسن الاستفهام ولا يحسن إلّا مع الاحتمال في اللّفظ.

وفيه : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وتبادر الماهيّة لا بشرط ، ينفي غيرها ، وأنّ الاستفهام يحسن على القول بالماهيّة أيضا احتياطا عن أن يكون مراد الآمر بعض الأفراد مجازا ، لشيوع استعمال الكلّي في الفرد مجازا.

وذلك لا يدلّ (٣) على عدم انفهام الماهيّة مستقلّة ووجوب التوقّف حتى يثبت الاشتراك ، بل إنّما ذلك لرجحان الاحتياط ، ولذلك يصحّ التخيير في الجواب مع عدم ارتكاب خلاف الظاهر ، خلافا لصورة الاشتراك ، فإنّه إمّا لا يجوز ـ كما اخترناه وحقّقناه سابقا ـ أو يجوز مجازا.

ثم إنّ الفور على القول به ، تحديده موكول الى العرف ، ويتفاوت بتفاوت المأمور به ونحوه ، كالسّفر القريب الغير المحتاج الى زمان معتدّ به للتهيّؤ له ، والبعيد المحتاج إليه ، إن لم نقل بأنّ الكلام في المجرّد عن القرائن.

وهذه الامور قرائن لجواز التأخير في الجملة ، فتأمّل.

__________________

(١) أي في موضع النزاع.

(٢) في «الذريعة» : ص ١٣٢.

(٣) أي حسن الاستفهام.

٢٠١

تذنيب

اختلف القائلون بكون الأمر للفور في ثبوت التكليف على من ترك الامتثال فورا في الزّمان المتأخّر وعدمه ، وفرّعوا الكلام فيه على أنّ معنى : افعل ، هل هو : افعل في الزّمان الثاني ، وإن لم تفعل ففي الثالث ، وهكذا ، أو معناه : افعل في الزّمان الثاني مع السّكوت عمّا بعده (١).

وأمّا كون المعنى عدم الفعل في الزّمان المتأخّر فلم نقف على مصرّح به.

قيل (٢) : وهذا الكلام غير مفيد ، والفائدة في بيان صحّة المبنى.

والتحقيق (٣) : أنّ أدلّة القول بالفور على تسليمها ، صنفان :

منها : ما يدلّ على أنّ الصّيغة بنفسها دالّة على الفور ، ومنها : ما يدلّ على وجوب المبادرة بالامتثال ، كآية المسارعة والاستباق ، فمن اعتمد على الأوّل ، فيلزمه القول بالسّقوط ، لصيرورته من باب الموقّت ، ومن اعتمد على الثاني ، فيلزمه القول بالثبوت ، لإطلاق أصل الأمر.

وردّه بعض المحقّقين (٤) : بمنع صيرورته كالموقّت على الأوّل ، لاحتمال إرادة التعجيل بالمأمور به ، فإن لم يفعل فيجب التعجيل أيضا في الزّمان الثاني ، وهكذا. ومنع عدم وجوب الموقّت مع فوات الوقت على تقدير تسليم كونه من قبيله ، وبأنّ وجوب الفور إن اقتضى التوقيت وخصوصيّة الزّمان المعيّن ، فلا يتفاوت الأمر بين

__________________

(١) وعلى هذا بنى الخلاف العلّامة كما نقل في «المعالم» : ص ١٦١.

(٢) والقائل به صاحب «المعالم» فيه ص ١٦١.

(٣) وهذا التحقيق أيضا لصاحب «المعالم» فيه ص ١٦٣.

(٤) وهو سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٢٧٩.

٢٠٢

ما ثبت وجوبه من الصّيغة أو من الخارج ، كما إذا ثبت التوقيت من دليل خارج في الموقّت ، فإنّ من يقول بفوات الموقّت بفوات وقته ، [و] لا يفرّق بين ما ثبت التوقيت من خارج أم لا.

فالأولى تفريع المسألة على أنّ التكليف بالموقّت هل هو تكليف واحد أو تكليفان؟

وهل ينتفي المقيّد بانتفاء القيد أم لا؟ كما ذكروا (١) في مسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها.

أقول : والظاهر من الصّيغة على القول بدلالتها بنفسها على الفور هو الوجوب في أوّل الوقت لا ما ذكره (٢) ، والظاهر هو الحجّة ، وهو تكليف واحد.

والحقّ ، أنّ المقيّد ينتفي بانتفاء القيد ، فلا يبقى تكليف ، مع أنّ الأصل عدمه.

ولا يجب التنصيص بالتوقيت ، وثبوت وجوب الموقّت بعد فوات الوقت خلاف التحقيق ، لأنّ الجنس لا بقاء له بعد انتفاء الفصل ، كما حقّق في محلّه.

فالحقّ ، أنّ القضاء في الموقّت إنّما هو بفرض جديد ، وما ذكر أنّه لا يتفاوت الأمر بين ما ثبت وجوبه من الصيغة أو من الخارج (٣).

ففيه : أنّ في الثاني تكليفين (٤) ، والأوّل لا ينتفي بانتفاء الثاني ، بخلاف الأوّل لأنّه تكليف واحد ، وقياسه بالموقّت قياس مع الفارق ، إذ ربّما يفهم من الموقّت

__________________

(١) اي كما ذكروا العلماء هذا المبنى. راجع «الوافية» : ص ٨٥ و «المعالم» : ص ١٦٣.

(٢) من الاحتمال.

(٣) «المعالم» : ص ١٦٢.

(٤) أي فيما ثبت وجوب الفور فيه من الخارج تكليفان : الأول الماهيّة المطلوبة بنفس الصيغة. والثاني : تحصيلها في ذلك الزمان الفوري بحكم الآية كما في الحاشية.

٢٠٣

عدم الوجوب بعد الوقت أيضا ، ويسلم المساواة لو كان معنى الموقّت مجرّد الوجوب في الوقت.

وبالجملة ، عدم الحكم (١) إمّا من جهة عدم الدّليل أو من جهة الدّليل على العدم.

والظاهر أنّ الموقّت من الثاني ، وما يثبت فيه الفور من دليل خارج من الأوّل ، ولذلك (٢) ترى الأصوليّين نازعوا في حجّية مفهوم الزّمان وعدمها.

ومعنى حجّية المفهوم المخالف ، هو كون اللّفظ ذا دلالتين : منطوقيّة ، ومفهوميّة ، متخالفتين في النفي والإثبات ، فافهم ذلك ، وانتظر لزيادة توضيح في مباحث المفاهيم.

__________________

(١) أي عدم الحكم بشيء بعد الآن الأوّل نفيا واثباتا. إمّا من جهة الدليل أي العدم كما في الموقّت أو من جهة عدم الدليل مثل ما ثبت توقيته من الفور من دليل خارج هذا كما في الحاشية للطارمي.

(٢) أي ولأجل عدم الدليل أو الدليل على العدم أو لأجل أنّه قد يفهم عدم الوجوب بعد الوقت.

٢٠٤

قانون

اختلف الاصوليّون في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي إيجاب مقدّماته مطلقا أم لا؟ على أقوال :

ثالثها : اقتضاء الإيجاب في السّبب دون غيره (١).

ورابعها : في الشّرط الشرعي دون غيره (٢).

وتحقيق هذا الأصل يقتضي تمهيد مقدّمات :

الأولى : أنّ الواجب كما أنّه ينقسم باعتبار المكلّف الى العينيّ والكفائيّ ، وباعتبار المكلّف به الى التعيّني والتخييري ، وباعتبار الوقت الى الموسّع والمضيّق ، وباعتبار المطلوبية بالذّات وعدمها (٣) الى النفسي والغيري ، وباعتبار تعلّق الخطاب به (٤) بالأصالة وعدمه (٥) الى الأصلي والتّبعي ، وغير ذلك ، فكذا ينقسم

__________________

(١) المراد بالسبب هو ما يلزم من وجوده وجود الشيء ومن عدمه عدمه وهو المعبر عنه بالعلّة التامّة كالصعود للكون على السطح. وفي الذبح لو وجب عليه الهدي وجب عليه فري الأوداج الأربعة لكونه سببا ، دون تحصيل السكين لكونه شرطا. وهذا القول اشتهرت حكايته عن السيّد المرتضى ، وكلامه في «الذريعة» و «الشافي» غير مطابق للحكاية ، ولكنّه يوهم ذلك في بادي الرأي كما ذكر في «المعالم» : ص ١٦٥.

(٢) في الشرط الشرعي كالتطهير بالنسبة الى الصلاة لا إرادة المكلّف بالنسبة الى جميع الواجبات. فالشرط الشرعي هو ما لا يتأتّى الفعل بدونه.

(٣) النفي وارد على القيد أي عدم المطلوبية بالذّات لا على المطلوبية فقط ، لأنّ الغيري أيضا مطلوب ، ولكن لا لذاته.

(٤) أي كيفيّة تعلّقه في خطاب مستقل سواء كان واجبا نفسيا كالصلاة أو غيريّا كالطهارة ، وسواء كان الخطاب لفظيا أم حكما عقليا.

(٥) أي عدم تعلّقه بالأصالة والتبعي عبارة عما استفيد وجوبه بتبعيّة الخطاب مثلا كأقلّ الحمل.

٢٠٥

باعتبار مقدّماته الى المطلق والمشروط ، وقد يطلق عليه المقيّد.

وتسمية الثاني بالواجب مجاز في الحقيقة تسميته باسم ما يؤول إليه ، ولذلك لم نقيّد الأمر في صدر المبحث بالمطلق مع كون المبحث مختصّا بمقدّماته.

والواجب المطلق : هو ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، وإن كان في العادة أو في نظر الأمر.

والمقيّد : ما توقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده كذلك.

الثانية : أنّ الأمر المطلق حقيقة في الواجب المطلق على الأصحّ للتبادر ، واستحقاق العبد التارك للامتثال ، المعتذر بأنّ أمر المولى لعلّه كان مشروطا بشرط للذمّ ، ولأصالة عدم التقييد.

ويظهر من السيّد المرتضى رحمه‌الله (١) القول بالاشتراك ، فيلزمه التوقّف حتّى يظهر من الخارج ، ودليله الاستعمال.

والجواب : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

نعم ، استثنى السيّد الواجب بالنسبة الى السّبب ، فقال بكونه مطلق ، بالنسبة إليه مطلقا لعدم إمكان الاشتراط ، لعدم انفكاك المسبّب عن السّبب (٢) ، وستعرف الكلام فيه.

الثالثة : ما يتوقّف عليه الواجب إمّا سبب أو شرط.

والسّبب : هو ما يلزم من وجوده وجود الشيء ، ومن عدمه عدمه لذاته. فخرج الشّرط والمانع.

__________________

(١) في «الذريعة» : ص ١٣٢.

(٢) راجع فصل في هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلّا به من «الذريعة» : ص ٨٣.

٢٠٦

فإنّ الشّرط : هو ما يلزم من عدمه عدم المشروط (١) ، ولا يلزم من وجوده ، وجوده.

والمانع : ما لا يلزم من عدمه عدم شيء ، بل يلزم من وجوده عدم شيء.

وأمّا التقييد بقولنا : لذاته ، احتراز عن مقارنة وجود السّبب عدم الشّرط أو وجود المانع ، فلا يلزم الوجود (٢) أو قيام سبب آخر حالة عدم الأوّل مقامه ،

__________________

(١) وهذا هو بالمصطلح عليه عند الأصولي ، ولكن استعمله النحاة فيما تلي حروف الشرط كإن ونحوها ، سواء علّق عليه جملة وجودا كقولهم : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ، أو مطلقا مثل المرء مجزّى بعمله ، وإن كان مثقال ذرّة ، وتسمى عند النحويين بأن الوصليّة. وقد يستعمل في العلّة والسّبب كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا). وهذا هو مراد الأصولي منه في بحث المفاهيم. حيث يقولون : إنّ تعليق الحكم على الشرط يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، ومن هنا ظهر الفرق بين الشرط المذكور هنا وفي باب المفاهيم.

(٢) يمكن أن يكون مقصوده بأنّه لو لم نقيّده بهذا القيد لم يكن هذا التعريف جامعا لخروج بعض أفراد السبب عنه كالنار مثلا إنّها سبب للاحتراق في اصطلاحهم ، وإذا وضعت في محلّ يمتنع عن الاحتراق لم يلزم من وجودها الوجود لتحقق المانع ، وكذا لم يلزم من عدمها العدم كما اذا عدمت مع وجود محرق آخر كالشمس مثلا.

وأما إذا قيّد بقيد لذاته لم يرد ما ذكر لأنّ معنى التعريف مع هذا القيد هو أنّ السّبب ما يلزم من وجوده الوجود من حيث ملاحظة نفسه مع قطع النظر عن المانع. وأمّا إذا تحقق المانع لا يلزم من وجوده الوجود. وكذا معنى قوله : ولا يلزم من عدمه العدم لذاته ، أي مع قطع النظر عن اقامة سبب آخر مقامه. هذا وقد مثّل في الحاشية لهذا بقوله : وهذا كالصيغة بالنسبة الى الطلاق مع عدم كون المرأة في طهر غير المواقعة فيه ، فالسبب الموجود هو الصيغة والشرط المعدوم هو كونها في طهر المواقعة. ومثل الزّنى بالنسبة الى الحمل مع كون الزّانية حاملا ، فإنّ الحمل مانع عن الحمل ، مع أنّ سببه الذي هو الزنى موجود.

٢٠٧

فلا يلزم العدم ، ويدخل في الشّرط جميع العلل الناقصة من المقدّمات العقليّة والعاديّة والشرعيّة.

والسبب والشرط قد يلاحظان بالنسبة الى الحكم الشرعي ، فيكونان من الأحكام الوضعيّة ، وقد يلاحظان بالنسبة الى موضوع الحكم ، ولا يتوقّفان على وضع الشّارع حينئذ ، وإن كان قد يكون بوضعه ، وكلامنا إنّما هو في الثاني.

وبعبارة اخرى ، إنّما الكلام في مقدّمات الواجب لا في مقدّمات الوجوب ، وكلّ منهما إمّا شرعيّ أو عقليّ أو عاديّ.

فالسّبب الشرعيّ كالصّيغة بالنّسبة الى العتق الواجب ، والوضوء والغسل بالنسبة الى الطهارة عن الحدث ، والغسل بالنسبة الى إزالة الخبث.

والعقليّ كالنّظر المحصّل للعلم الواجب.

والعاديّ كجزّ الرّقبة في القتل الواجب.

والشرط الشرعيّ كالوضوء بالنسبة الى الصلاة.

والعقليّ كترك الأضداد في الإتيان بالمأمور به.

والعاديّ كغسل شيء من العضد لغسل اليد في الوضوء. وشاع التمثيل لذلك بأمر المولى عبده بالكون على السّطح ، فالسّلّم ونصبه من الشروط والصعود سبب.

إذا عرفت (١) هذا ، يظهر لك أنّ ما يستفاد من بعض الكلمات (٢) ، أنّ السّبب هو

__________________

(١) وهو المذكور في هذه المقدمة الثالثة من أنّ السّبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.

(٢) لعلّ مقصوده من بعض الكلمات التعريض على السيّد المرتضى حيث فسّر السبب بما ذكر على ما قيل.

٢٠٨

ما يستحيل انفكاكه عن المسبّب مطلقا (١) مساوقا للعلّة التامّة ، والجزء الأخير منها ليس كما ينبغي ، وخلاف ما صرّحوا به في الكتب الأصوليّة (٢).

ثمّ إنّ مقدمة الواجب تنقسم الى ما يتوقّف عليها وجوده كما مرّ (٣) أو يتوقّف عليها صحّته ، كالطهارة للصلاة على القول بكون العبادات أسامي للأعمّ أو يتوقّف عليها العلم بوجوده ، كتوقّف العلم بالإتيان بالصلاة الى القبلة عند اشتباهها على الإتيان بأكثر من صلاة ، ولو اعتبرنا كون الواجب تحصيل العلم ، فيكون هذا أيضا مقدّمة للوجود.

وأيضا ، المقدّمة إمّا تكون فعلا أو تركا.

ومن المقدّمات الفعليّة تكرار نفس الواجب كالصلاة الى أكثر من جانب وفي أكثر من ثوب عند اشتباه القبلة والثوب الطّاهر.

ومن المقدّمات التركيّة ترك الإناءين المشتبهين ، ونظيره من الشبه المحصورة.

الرابعة : الواجب بالنّسبة الى كلّ مقدّمة غير مقدورة مشروط ، فتقييد كثير من الاصوليّين المقدّمات بالمقدورة هاهنا ؛ لا وجه له إلّا توضيح هذا المعنى ، وإلّا فليس مقدّمات الواجب المشروط ممّا يتنازع في وجوبها ، بل عدم وجوبها مجمع عليه ، والمقدوريّة أعمّ من المقدوريّة بالذّات أو بواسطة ، فالأفعال التوليديّة كلّها مقدورة إذا حصل القدرة على المباشريّة.

واعلم أنّ الإطلاق والتقيّد للواجبات إضافيّة بالنّسبة الى المقدّمات ، فقد يكون

__________________

(١) أي وجودا وعدما.

(٢) لأنّهم فسروه بالمقتضي والعلّة الناقصة ، فعلى هذا قد ينفك عن المسبب من جهة فقدان الشرط لوجود المانع. نعم المعنى المذكور مناسب لاصطلاح أصحاب المعقول.

(٣) من السّبب الشرعي والعقلي والعادي وهكذا البواقي كما في الأمثلة السّابقة.

٢٠٩

الشيء واجبا مطلقا بالنّسبة الى مقدّمة ، ومشروطا بالنسبة الى اخرى.

الخامسة : قد يقال : الواجب المطلق ويراد منه الإطلاق بالنظر الى اللّفظ ، وقد يضاف الى ذلك (١) اقتضاء الحكمة والعدل ذلك أيضا ، وإلّا لزم التّكليف بالمحال ، وهذا أخصّ من الأوّل.

وأيضا النزاع في وجوب مقدّمات الواجب يجري فيما يثبت وجوب الواجب من غير لفظ : افعل ، وما في معناه أيضا ، كالإجماع والعقل وغيرهما ، وإن كان سياق الاستدلال يتفاوت في بعض الموادّ.

السادسة : الوجوب المتنازع فيه هو الوجوب الشّرعي ، لأنّ الوجوب العقليّ بمعنى توقّف الواجب عليه ، وأنّه لا بدّ منها في الامتثال ممّا لا يريب فيه ذو مسكة (٢).

والمراد من الوجوب الشرعيّ هو الأصليّ (٣) الذي حصل من اللّفظ وثبت من الخطاب قصدا.

وبالجملة ، النزاع في أنّ الخطاب بالكون على السّطح ، هل هو تكليف واحد وخطاب بشيء واحد ، أو تكليفات وخطاب بأمور أحدها الكون والثاني نصب السّلّم والتدرّج بكلّ درجة درجة وغيرهما؟

__________________

(١) أي الى ذلك النظر أو الى اللّفظ أو الى ذلك الاطلاق. وأما قوله : اقتضاء الحكمة والعدم ذلك أيضا أي يقتضيان الاطلاق أيضا كاقتضاء اللّفظ له ، فكما أنّ له عموما بقرينة الحكمة على ما قرّروه ومنهم صاحب «المعالم» في بحث المحلّى باللّام في نحو : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فكذا لنا اطلاق بقرينتهما. يبقى الكلام في تقرير الاقتضاء بالنسبة الى الأمرين وسيأتي.

(٢) أي ذو قوّة عاقلة ورمق.

(٣) والمراد من الأصلي هو في مقابل التبعي الذي هو من لوازم المراد غير المقصود من اللّفظ من باب دلالة الاشارة كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل.

٢١٠

ويظهر الثمرة فيما لو وجب عليه واجب بالنّذر واليمين ونحوهما ، وفي ثبوت العقاب والثواب على ترك كلّ من المقدّمات وفعلها.

وربّما يقال (١) : إنّ القائل بوجوب المقدّمة أيضا لا يقول بترتّب الثواب والعقاب على فعل المقدّمات وتركها ، بل الثمرة تظهر في جواز الاجتماع مع الحرمة ، فلو كانت المقدّمة واجبة شرعا ، فلا يجوز أن يجتمع مع الحرام.

وفيه : مع أنّه خلاف ما صرّح به بعضهم (٢) أنّ وجوب المقدّمة من باب التوصّل (٣). والواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام ، غاية الأمر عدم الثواب حينئذ. وأمّا البطلان ، فلا.

نعم ؛ يمكن ذلك فيما لو كانت المقدّمة أيضا من العبادات التوقيفيّة ، كالوضوء والغسل. ولا ريب أنّ ذلك حينئذ إنّما هو من جهة كونها مطلوبة بالذّات ، مع جهالة علّة تخصيصها باشتراط الواجب بها وتوقّفه عليها ، لا من جهة الوجوب الحاصل من إيجاب ذي المقدّمة ، فإنّ الواجب قد يجتمع فيه التوصّليّة والتوقيفيّة بالاعتبارين (٤).

__________________

(١) القائل هو صاحب «الفوائد» على ما نقل.

(٢) يعني كون الثمرة في وجوب المقدمة شرعا هي عدم جواز اجتماعها مع الحرام دون ترتب الثواب على الفعل أو العقاب على الترك خلاف ما صرّح به بعض الاصوليين ، فإنّ صاحب «المعالم» : ص ١٧٢ قال في ذكر حجّة القائلين بالوجوب : بأنّ العقلاء لا يرتابون في ذم تارك المقدمة وهو دليل الوجوب. والشيخ البهائي في «زبدته» : ص ٧٩ قال : لنا ذمّ العقلاء العبد المأمور بالكتابة القادر على تحصيل القلم ... وقال غيرهما مثلهما.

(٣) «المعالم» : ص ١٩٨.

(٤) فالوضوء مثلا باعتبار تعلّق الخطاب به قصدا وكونه مطلوبا بالذّات ، وإن جهلنا علّة تخصيصه باشتراط الصلاة الواجبة وتوقيفها عليه توقيفي. وباعتبار أنّه يتوصل به الى ـ

٢١١

وممّا يؤيّد ما ذكرنا (١) ، من أنّهم يقولون بثبوت العقاب ، استدلالهم في دلالة الأمر بالشيء على النّهي عن الضدّ ، بأنّ ترك الضدّ واجب من باب المقدّمة فيكون فعله حراما ، فثبت حرمة الضدّ ، ويترتّب عليه أحكامه من الفساد وغيره.

فإنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن الضدّ ، ليس مراده طلب الترك التبعيّ كما سنحقّقه ، بل مراده الخطاب الأصلي. ووجه التأييد أنّ النّهي المستلزم للفساد ليس إلّا ما كان فاعله معاقبا.

السابعة : دلالة الالتزام إمّا لفظيّة وإمّا عقليّة.

واللّفظيّة على قسمين : إمّا بيّن بالمعنى الأخصّ ، لدلالة صيغة افعل على الحتم والإلزام عند من يدّعي التبادر فيه كما هو الحق ، والمراد به دلالة اللّفظ عليه ، وكونه مقصود اللّافظ أيضا.

وإمّا بيّن بالمعنى الأعمّ كدلالة الأمر بالشّيء على النّهي عن الضدّ العامّ ، بمعنى الترك.

فبعد التأمّل في الطرفين والنسبة بينهما ، يعرف كون ذلك مقصود المتكلّم أيضا بذلك الخطاب.

وأمّا العقليّة ، فهو أن يحكم العقل بعد التأمّل في الخطاب وفي شيء آخر ، كون ذلك الشيء لازما مرادا عند المتكلّم ، وإن لم يدلّ عليه ذلك الخطاب بالوضع ولم

__________________

ـ الصلاة توصلي ، فعدم اجتماعه مع الحرام ، وكونه باطلا على تقدير اجتماعه معه إنّما هو باعتبار كونه توقيفيا لا من جهة كونه توصليا ، وكون وجوبه حاصلا من إيجاب ذي المقدمة.

(١) من أنّ القائلين بوجوب المقدمة يقولون في ثبوت العقاب على ترك المقدمة دون ما ذكره صاحب «الفوائد» ، استدلالهم في دلالة الأمر بالشيء عن النهي عن الضدّ ... الخ.

٢١٢

يقصده المتكلّم أيضا بذلك الخطاب ، بل ولم يستشعر به (١) أيضا ، كوجوب المقدّمة على ما سنحقّقه ، ودلالة الآيتين على أقلّ الحمل (٢) ونحو ذلك. فهذا الحكم وإن كان ، إنّما حصل من العقل لكن حصل بواسطة خطاب الشّرع ، ويقال لذلك إنّه خطاب حصل بتبعيّة الخطاب الشّرعي ، وإن كان الحاكم باللّزوم هو العقل. ولا يخفى أنّ هذه الدلالة معتبرة أيضا محكمة في المسائل ، سواء كان من أحكام الوضع ، كأقلّ الحمل المستفاد من الآيتين ، أو من أحكام الطلب.

وأمّا الوجوب المذكور ـ أي وجوب المقدّمة ـ فلمّا كان هو أيضا تبعيّا كأصل الخطاب به ، بمعنى أنّه لازم لأجل التوصّل الى ذي المقدّمة ، وحكمه حكم الخطابات الأصليّة التوصّلية كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق وغسل الثوب النّجس للصلاة ، فلم يحكم بكونه واجبا أصليّا ولم يثبت له أحكام الواجب الأصلي الذّاتي ، فلا عقاب عليه لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي ، كما سنشير إليه. ويجتمع مع الحرام لأجل كونه توصّليا ، نظير الإنقاذ والغسل الواجبين لاستخلاص النفس المحترمة ، والصلاة في الثّوب الطاهر ، ولذلك يحصل المطلوب بالحرام أيضا ، بل بفعل الغير أيضا ، فيرجع هذه الدلالة أيضا الى البيّن بالمعنى الأعمّ ، لكن بالنسبة الى المأمور به لا الأمر ، نظير توابع الماهيّة في الوجود وغاياتها.

وأمّا القائل بوجوب المقدّمة ، فلا بدّ أن يقول بوجوب آخر غير الوجوب التوصّلي ، ويقول بكونه مستفادا من الخطاب الأصلي ، وإلّا فلا معنى للثمرات التي

__________________

(١) المتكلّم بالكلام من حيث إنّه متكلّم ، وهناك من صرّح بأنّ مقصوده ليس هو خطاب الشارع ، إذ لا يجوز نسبة عدم الشعور إليه.

(٢) من قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ.) وقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وأنّ أقلّ الحمل ستة أشهر.

٢١٣

أخذوها لمحلّ النزاع ، فلا بدّ لهم من القول بأنّها واجبة في حدّ ذاتها أيضا ، كما أنّها واجبة للوصول الى الغير ليترتّب عليه عدم الاجتماع مع الحرام ، وأن يكون بالخطاب الأصلي ليترتّب العقاب عليه ، وأنّى لهم بإثباتها (١).

ثمّ إنّ هاهنا معنى آخر للاستلزام العقلي ، وهو أنّ العقل يحكم بوجوب المقدّمة عند وجوب ذي المقدّمة ، يعني أنّ وجوب أصل الفعل يحصل من الأمر ، ووجوب مقدّمته يحصل من العقل وهو من أدلّة الشرع.

فهاهنا خطابان أصليّان للشارع تعالى ، أحدهما بلسان الرّسول الظاهر ، وثانيهما بلسان الرّسول الباطن ، والى هذا ينظر استدلالهم الآتي (٢) على إثبات وجوب مطلق المقدّمة.

وأنت خبير بأنّ ذلك لا يتمّ [حين] انفراد كلّ منهما عن الآخر حتّى يثبت الوجوب الذّاتيّ للمقدّمة ، فتأمّل.

ولعلّنا نتكلّم بعض الكلام في تتميم هذا المرام في مباحث المفهوم والمنطوق.

الثامنة : قد أشرنا أنّ وجوب المقدّمة من التوصّليّات.

والمراد بالواجب التوصّليّ : هو ما علم أنّ المراد به الوصول الى الغير ، وليس هو مطلوبا في ذاته ، ولذلك يسقط وجوب الامتثال به بفعل الغير أيضا ، كغسل الثوب النّجس للصلاة ، وبالإتيان به على الوجه المنهيّ عنه كالغسل بالماء المغصوب ، ونحو ذلك. وهذا هو السرّ في عدم اشتراط النّية فيها ، دون الواجبات

__________________

(١) وفي بعض النسخ إفراد ضمير المؤنث أيّ بإثبات تلك الجملة.

(٢) وهو قولهم : إنّ العقلاء يذمّون تارك المقدمة ... الخ. وقولهم : إنّ المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركه ... الخ.

٢١٤

التي لم يحصل العلم بانحصار الحكمة منها في شيء ، أو علم أنّ المراد منها تكميل النفس ورفع الدّرجة وحصول التقريب ، فإنّها لا تصحّ بدون النيّة لعدم حصول الامتثال عرفا إلّا بقصد إطاعة الأمر.

إذا عرفت هذا ؛ فاعلم أنّ المقدّمة لا تنحصر فيما كان مقدورا للمكلّف ، أو فيما أتى به ، أو فيما تفطّنه وكان مستشعرا به. وقد ذكرنا سابقا أنّ الواجب بالنسبة الى المقدّمات الغير المقدورة مشروط ، وكلامنا هنا في مقدّمات الواجب المطلق ، لكن لا بدّ أن يعلم أنّه قد يكون الغير المقدور مسقطا عن المقدور ، وفعل الغير نائبا عن فعل المكلّف ، وما لا يتفطّنه ولا يستشعر به أيضا من المقدّمات ، فإنّ من وجب عليه السّعي في تحصيل الماء للوضوء إن فاجأه من أعطاه الماء ، فسقط عنه ذلك السّعي ، ويكون فعل الغير نائبا عن فعله.

فالمقدّمة هو القدر المشترك بين المقدور وغيره ، والقدر المشترك بينهما مقدور ، وثمرة النّزاع إنّما تحصل فيما كان مقدورا للمكلّف وفعله.

فالقائل بوجوب المقدّمة ، إنّما يقول بوجوب القدر المشترك ، والكلام في حصول الثواب وعدمه بالنسبة الى مثل هذه المقدمة ، هو الكلام في مثل حصوله على غسل الغير ثوبه من دون اطّلاعه.

نعم ، إنّما يثاب على نيّته لو نوى ذلك ثمّ ناب عنه فعل الغير.

فظهر من جميع ذلك ، أنّ الواجب قد يكون مطلقا ، وإن كان مقدّمته قدر المشترك بين المقدور وغير المقدور ، فليكن على ذكر (١) منك.

__________________

(١) الذّكر بضم الذال ذكر بالقلب قال الفراء : الذّكر بالكسر ما ذكرته بلسانك وأظهرته والذكر بالقلب. يقال : ما زال مني على ذكر اي لم أنسه.

٢١٥

إذا تمهّد لك هذا ، فنقول : القول بالوجوب مطلقا لأكثر الاصوليّين ، وبعدمه مطلقا نقله البيضاوي (١) في «المنهاج» عن بعض الاصوليّين ، والشهيد الثاني رحمه‌الله في «تمهيد القواعد».

وبوجوب الشرط الشرعيّ لابن الحاجب ، وبوجوب السّبب دون غيره للواقفيّة (٢) ، ونسبه جماعة الى السيّد رحمه‌الله (٣) وهو وهم (٤) ، لأنّه جعل الواجب

__________________

(١) البيضاوي : (... ـ ٦٨٥ ه‍) عبد الله بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير أو أبو سعيد ناصر الدين البيضاوي ، نسبة الى البيضاء قرية من أعمال شيراز. فقيه واصولي شافعي ، قاضي القضاة وله مصنفات كثيرة منها : «منهاج الوصول الى علم الاصول» وهو مختصر من كتاب «الحاصل» لتاج الدين الارموي المختصر من المحصول للفخر الرّازي. وهو أي «منهاج الوصول» من مراجع أصول الفقه ، وعدّه البعض منهم أحسن مختصر في فنّه. ومن مصنّفاته أيضا شرح «المحصول في أصول الفقه» لفخر الرّازي ، وشرح «المنتخب في أصول الفقه» لفخر الرّازي أيضا ، وشرح «مختصر المنتهى في أصول الفقه» لابن الحاجب وسمّاه «مرصاد الافهام الى مبادئ الأحكام». وتوفي بتبريز في سنة ٦٨٥ وقيل سنة ٦٩١ وقيل في سنة ٧١٩ ه‍ ودفن هناك بجانب القطب الشيرازي كما أوصى به.

(٢) وإليه ذهب الواقفية كما في «المحصول» : ٢ / ٣٧٠.

(٣) كالعلامة في «التهذيب» : ص ١١٠ ، وفي «المعالم» : ص ١٦٥ اشتهرت حكاية هذا القول عن المرتضى رحمه‌الله وكلامه في «الذريعة» و «الشافي» غير مطابق للحكاية ولكنّه يوهم ذلك في البداية حيث حكى فيهما عن بعض العامة إطلاق القول بأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلا به ، وقال : والصحيح أن يقسّم ذلك فنقول : إن كان الذي لا يتمّ ذلك الشيء إلّا به سببا فالأمر بالمسبّب يجب أن يكون أمرا به وإن كان غير سبب وإنّما هو مقدمة للفعل وشرط فيه ـ لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به. راجع «الذريعة» : ص ٨٣.

(٤) الوهم بالتحريك بمعنى الغلط ، يقال وهمت بالحساب ، بالكسر أي غلطت.

٢١٦

بالنسبة الى السبب مطلقا ، وبالنسبة الى غيره محتملا للإطلاق والتقييد ، فيحكم بوجوب السّبب مطلقا لعدم احتمال التقييد ، ويتوقّف في غيره لاحتمال كون الوجوب مقيدا بالنسبة إليه.

وهذا بعينه قول المشهور في مقدّمات الواجب المطلق.

والأقرب عندي عدم الوجوب مطلقا.

لنا (١) : الأصل وعدم دلالة الأمر عليه بإحدى من الدّلالات ، أمّا المطابقة والتضمّن فظاهر ، وأمّا الالتزام فلانتفاء اللّزوم البيّن ، وأمّا الغير البيّن فهو أيضا منتف بالنسبة الى دلالة اللّفظ ، إذ لا يقال ـ بعد ملاحظة الخطاب والمقدّمة والنسبة بينهما ـ أنّ هاهنا خطابين وتكليفين كما هو واضح ، ولذلك يحكم أهل العرف بأنّ من أتى بالمأمور به ، امتثل امتثالا واحدا ، وإن أتى بمقدّمات لا تحصى.

وكذا لو ترك المأمور به لا يحكم إلّا بعصيان واحد ، ولا يحكم العقل والعرف بترتّب المذمّة والعقاب على ترك المقدّمة في نفسها ، إذ المذمّة والعقاب إمّا لقبحه ، أو لحصول العصيان بتركها ، ولا يستحيل العقل كون ترك شيء قبيحا بالذّات ، ولا يكون ترك مقدّمته قبيحا بالذّات ، وحصول العصيان يدفعه فهم العرف كما بيّنّا.

نعم ، يمكن القول باستلزام الخطاب لإرادتها حتما بالتّبع ، بمعنى أنّه لا يرضى بترك مقدّمة ، ولا يجوز تصريح الأمر بعدم مطلوبيّتها للزوم التناقض من باب دلالة الإشارة ، ولا يستلزم استفادة شيء من الخطاب كونه مقصودا للأمر مشعورا به له حتّى يقال إنّه ربّما نأمر بشيء ولا يخطر ببالنا المقدّمة ، فكيف يكون واجبا؟

ألا ترى أنّا نحكم باستفادة كون أقلّ الحمل ستّة أشهر من الآيتين ، مع عدم كونه

__________________

(١) وقد ذكرت في «الفصول» : ص ٨٥ وأجاب هناك عليها.

٢١٧

مقصودا في الآيتين.

والحاصل ، أنّه لا مانع من استفادة وجوب المقدّمة تبعا بالمعنى المتقدّم ، ولا يكون على تركها ذمّ ولا عقاب ، بل يكون الذمّ والعقاب على ترك ذي المقدّمة ، وقد سبقنا الى هذا التحقيق جماعة من المحقّقين (١).

وأمّا المدح والثواب على فعلها ، فالتزمه بعض المحقّقين ، ونقله عن الغزالي (٢) ، ولا غائلة فيه (٣) ظاهرا ، إلّا أنّه قول بالاستحباب ، وفيه إشكال ، إلّا أن يقال باندراجه تحت الخبر العامّ فيمن بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه (٤). فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه.

احتجّ الأكثرون : بالإجماع ، نقله جماعة (٥) ، وربّما ادّعى بعضهم الضّرورة (٦)

__________________

(١) كالمحقق الخوانساري وأشدّ في الاصرار عليه ، نعم نسبه أيضا الى الغزالي وهو أسبق حتى من الباغنوي الذي صرّح به.

(٢) راجع «المستصفى» : ص ٧٣ مسألة ما لا يتم الواجب إلّا به.

(٣) أي لا عيب ولا فساد فيها وتعرّض لذلك المحقق الاصفهاني في «هدايته» : ٢ / ١٠٢.

(٤) جاء في كثير من الألفاظ وفي كثير من الكتب الحديثية «كالوافي» ج ٣ ص ٧٢ ب ٤٧ ح ١١ و «الكافي» ج ٢ ص ٨٧ ج ٥ ب ٤٦ ح ٢ و ١.

(٥) كما عن السيّد المرتضى في «الذريعة» ١ / ٨٣ الذي قال : اعلم أنّ كل من تكلّم في هذا الباب أطلق القول بأنّ الأمر بالشيء هو بعينه أمر. والعلّامة منّا وغير واحد من العامة ، منهم الآمدي في «الاحكام» ، وادعاء الاجماع عليه والضرورة ، نقله في «هداية المسترشدين» : ٢ / ١٠٢ وذكر أنّ حكاية الاجماع عليه مستفيضة على ما ذكره جماعة.

(٦) الظاهر من بعض الحواشي أنّه الفاضل التوني ، ويبدو أنّه ليس له وإنّما ذكر في «الوافية» ص ٢٢١ : بأن المتطلع يحصل له ظنّ قوي بوجوب مقدّمة الواجب مطلقا ، ويظهر أن المقصود المحقق الدواني ، وربما يستفاد ذلك من كلام المحقق الطوسي أيضا كما في «هداية المسترشدين» : ج ٢ ص ١٠٣.

٢١٨

وبأنّ (١) المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي التكليف لزم التكليف بالمحال وإلّا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، وكلاهما باطلان ، وأنّ العقلاء يذمّون تارك المقدّمة مطلقا.

والجواب عن الأوّل : أنّ الإجماع في المسائل الاصولية غير ثابت الحجّية ، ودعوى بعضهم الضّرورة مع دعوى الجماعة الإجماع يقرب كون مراد الأكثرين أيضا الوجوب بالمعنى الذي اخترناه ، لا الوجوب الأصليّ ، لغاية بعده.

وعن الثاني : إنّا نختار الشقّ الأوّل (٢).

ونجيب أوّلا : بالنقض بما لو ترك عصيانا على القول بالوجوب ، إذ لا مدخليّة في الوجوب في القدرة.

فإن قلت : العصيان موجب لحصول التكليف بالمحال ولا مانع منه إذا كان السّبب هو المكلّف ، كما فيمن دخل دار قوم غصبا ، أو زنى بامرأة ، فهو مكلّف بالخروج وعدمه ، وإخراج فرجه من فرجها وعدمه.

قلنا : فيما نحن فيه أيضا صار المكلّف هو سببا للتكليف بالمحال ، لأنّ الفعل كان مقدورا له أوّلا فهو بنفسه جعله غير مقدور.

وثانيا : بالحلّ وهو أنّ المقدور لا يصير ممتنعا ، إذ الممتنع هو التكليف بشرط عدم المقدّمة لا حال عدم المقدّمة ، نظير تكليف الكفّار بالفروع حال الكفر.

وإن فرضت الكلام في آخر أوقات الإمكان على ما هو مقتضى جواز الترك ، فنلتزم بقاء التكليف أيضا لعدم استحالة مثل هذا التكليف ، لأنه بنفسه تسبّب

__________________

(١) لصاحب «المعالم» فيه ص ١٧١.

(٢) أي بقاء الواجب على وجوبه بعد اختيار المكلّف ترك المقدمة.

٢١٩

للتكليف بالمحال وصيّر المقدور ممتنعا باختياره ، ولا يستحيل العقل مثل ذلك.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الجواب يوهم أنّا نقول بجواز تصريح الآمر بجواز ترك المقدّمة ، فحينئذ يستظهر القائل بالوجوب ، ويقول : إنّ ذلك قبيح عن الحكيم فكيف يجوز تجويز الترك منه؟ وما لا يجوز تجويز تركه يكون واجبا.

ولكنّا إنّما قرّرنا هذا الدّليل ، والجواب على مذاق القوم.

وأمّا على ما اخترناه وحقّقناه فلا يرد ما ذكر ، لأنّا لا نقول بجواز تجويز ترك المقدّمة ، وإن قلنا بجواز التصريح بعدم العقاب على ترك المقدّمة ، وإنّ العقاب إنّما هو على ترك ذي المقدّمة ، ولا يستلزم ذلك عدم الوجوب التبعي أيضا.

وأمّا على مذاق القوم ، فقد يجاب عن هذا الإشكال (١) : بأنّ هذا التجويز إنّما هو بحكم العقل لا الشرع حتّى يكون سفها وعبثا ، وإنّا وإن استقصينا التأمّل في جواز انفكاك حكم العقل هاهنا من الشّرع ، فلم نقف على وجه يعتمد عليه (٢).

وقد يوجّه ذلك (٣) ؛ بأنّ أصالة البراءة التي هي حكم العقل تقتضي جواز الترك فيما لا نصّ فيه ، وهو بمعزل عن التحقيق ، إذ المراد من حكم العقل هنا ، إن كان مع قطع النظر عن ورود الأمر من الشّرع بوجوب ذي المقدّمة ، فلا اختصاص له بالعقل ، وأمّا معه ، فلا يمكن الحكم للعقل أيضا ، إذ هو من أدلّة الشرع ، مع أنّه لا يجري فيما يستقلّ بوجوبه العقل كمعرفة الله ، ولا قائل بالفرق.

__________________

(١) والمجيب هو صاحب «المعالم» فيه ص ١٧.

(٢) هذا تعريض على قول صاحب «المعالم» حيث قال : بجواز الحكم العقلي دون الشرعي. هنا يظهر بالتأمل وجه عدم جواز الانفكاك ، وانّ العقل أيضا من أدلّة الشرع ، فكما لا يجوز تصريح الشارع بجواز الترك ، لا يجوز تجويز العقل أيضا.

(٣) وهذا اشارة الى ما ذكره المدقق الشيرواني في حاشيته على «المعالم».

٢٢٠