القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

بكثير ، ألا ترى أنّ الألفاظ الّتي ادّعوا صيرورتها حقائق شرعية في المعاني الشرعيّة ، استعمالها في المعاني الشرعيّة أكثر من اللّغوية ، ومع ذلك يحملها المنكرون عند التجرّد عن القرينة على المعاني اللّغويّة وهو رحمه‌الله منهم (١) ، وكذلك العامّ مع أنّه بلغ في التخصيص الى أن قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ.

وأيضا ، تلك الكثرة إنّما حصلت بملاحظة مجموع روايات مجموع الرّواة عن مجموع الأئمّة عليهم‌السلام ، والذي يضرّ على سبيل التسليم هو الكثرة بالنسبة الى كلّ واحد واحد ، فافهم.

__________________

(١) وصاحب «المعالم» من المنكرين الّذين حملوا الألفاظ المعهودة عند التجرّد عن القرائن على المعاني اللّغويّة. راجع «المعالم» : ص ٩٢ وص ٨٤.

١٨١

قانون

إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو في مقام ظنّه أو توهّمه ، فاختلف القائلون بدلالته على الوجوب ، في كونه حقيقة في الوجوب ، أو مجازا في الندب ، أو الإباحة ، أو التوقّف أو تابعيّتها (١) لما قبل الحظر إذا علّق الأمر بزوال علّة عروض النّهي (٢).

والأقوى كونه للإباحة بمعنى الرّخصة في الفعل ، ويلزمه بيّنا رفع المنع السّابق للتبادر ، بمعنى أرجحيّته في النظر من الوجوب ، إذ ما تقدم (٣) من تقدّم الحقيقة على المجاز اتّفاقا ، إنّما هو إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي والمجازي إذا خلا المقام عن قرينة مرجّحة لأحدهما.

وأمّا مع القرينة الموجبة للجزم بإرادة المجاز فيقدّم المجاز ، اتّفاقا ، وكذا مع إفادتها الظنّ به مع كون أصل الحقيقة في النظر أيضا. فالمقصود أنّ ملاحظة المقام

__________________

(١) أي تابعية الدلالة لما قبل الحظر.

(٢) وهذا سادس الأقوال ، وهو التفصيل وقد عزاه العضدي الى القيل وقال بعد نقله : وهو غير بعيد ، كما ذكر في «الفصول» : ص ٧٠ : والتحقيق عندي ان حكم الشيء قبل الحظر إن كان وجوبا أو ندبا كان الأمر الوارد بعده ظاهر فيه فيدل على عدد الحكم السابق ، وإن كان غير ذلك كان ظاهرا في الاباحة كما ذهب إليه الأكثر. ومراده من التعليق المذكور ما كان من قبيل قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). وقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فإنّ الأوّل محمول على الاباحة ، والآخر على الوجوب لأنّهما قبل النهي كذلك.

(٣) وهو جواب لسؤال مقدّر ، وهو انّ هذا أعني حمل الأمر الواقع عقيب الحظر على الاباحة ينافي ما ذكرت سابقا في المبادئ من تقديم المعنى الحقيقي على المجازي في مقام تعارضهما. فأجاب بقوله : إذ ما تقدم ... الخ.

١٨٢

والالتفات الى هذه القرينة ـ أعني وقوع الصّيغة عقيب الحظر ـ يوجب تقديم إرادة المعنى المجازي وهو الإباحة على الحقيقي فيدور ترجيح المعنى الحقيقي ، أو المجازي مع القرينة على حصول الترجيح والظهور ، ولمّا كان قرينة الشّهرة ليست من قبيل القرائن الأخر ، وكانت منضبطة ؛ أفردوا الكلام فيها في باب تعارض الأحوال ، وإلّا فالدّوران والتعارض حاصل في جميع القرائن ، لكنّها غير منضبطة ، فالترجيح فيها يتفاوت بالنسبة الى تفاوت الناظرين وبالنسبة الى المقامات ، فاضبط ذلك.

ويدلّ على ذلك أيضا تتبّع موارد الاستعمال ، فإنّك لو تتبّعتها وتأمّلتها بعين الإنصاف تجد ما ذكرنا. ولو بقي لك شكّ في موضع ، فألحقه بالغالب ، لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

وهذه قاعدة نفيسة مبرهن عليها بالعقل والعرف والشّرع ، قد حرم عن فوائدها من لم يصل الى حقيقتها ، وقد أشرنا إليه سابقا.

ثمّ إنّ بعضهم لاحظ مثل قول المولى لعبده : اخرج من المحبس الى المكتب (١) ، ومثل قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(٢). و : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)(٣) ، وأمر الحائض والنّفساء بالصّلاة والصّوم بعد رفع المانع وقال بالوجوب ، مضافا الى أنّ

__________________

(١) وهذا المثال أيضا في «الفصول» ص ٧١ وقد أجاب عنه ، وذكر في «المحصول» :١ / ٣٠٥ : لو قال الوالد لولده : اخرج من الحبس الى المكتب. فهذا لا يفيد الاباحة مع أنّه أمر بعد الحظر الحاصل بسبب الحبس ، وكذا أمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم ورد بعد الحظر وإنّه للوجوب.

(٢) التوبة : ٥.

(٣) البقرة : ١٩٦.

١٨٣

المقتضي ـ وهو الأدلّة ـ على دلالتها على الوجوب موجود ، والمانع منه مفقود ، لأنّ الإباحة لا تنافي الوجوب.

وفيه : أنّا نقول : إنّ المراد من الأمر هنا مجرّد رفع الحظر لما ذكرنا (١) ، فلا دلالة فيها على أزيد من ذلك.

وأمّا عدم منافاته لثبوت الوجوب فهو مسلّم ، لكنّ الوجوب ليس من جهة هذا الأمر ، فالمانع عن الدّلالة من جهة هذا الأمر موجود ، وأكثرهم قد قرّروا هذا الدّليل على نهج آخر أضعف ، وهو أنّ المقتضي موجود ، أعني صيغة الأمر ، لما تقدّم من الأدلّة ، والمانع لا يصلح للمانعيّة ، وهو ما ذكره الخصم من أنّ الوجوب ضدّ للحظر ، ولا يجوز الانتقال منه إليه ، لأنّ الإباحة أيضا ضدّ له.

أقول : بل المانع هو قرينة المقام كما بيّنّا ، ودلالة الأدلّة على دلالة مطلق الصّيغة على الوجوب ؛ لا تنافي عدم دلالتها عليه في خصوص موضع باعتبار القرينة ، كما في سائر المجازات.

وأمّا المثال المذكور والآيات المذكورة ، فالجواب عنها : أنّ محلّ النزاع هو ما إذا حظر عن شيء تحريما أو تنزيها ثمّ أمر به من دون اكتنافه بشيء يخرجه عن حقيقته الجنسيّة أو النوعيّة.

والمراد (٢) من قولنا : إنّ ما ورد الأمر به حينئذ ليس واجبا ، بل إنّما هو أمر مرخّص فيه : إنّ الوجوب لا يراد من هذا الأمر من حيث هو هذا الأمر ، ولا نمنع من ثبوت الوجوب من موضع آخر ، فحينئذ نقول : مثل قول المولى للعبد بعد نهيه عن

__________________

(١) بأنّ المتبادر من الأمر الواقع عقيب الحظر هو الاباحة.

(٢) وهذا تمهيد لرد دلالة الآيات.

١٨٤

الخروج عن المحبس : اخرج الى المكتب ؛ خارج عن موضع النّزاع ، فإنّ الأمر ليس بعين ما نهي عنه ، بل المحظور خروجه من المجلس من حيث هو خروج عن المجلس. والمأمور به هو خروجه ذاهبا الى المكتب ، ولا يضرّ هذا بدلالة الأمر على الوجوب.

وأمّا قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١). فهو لرفع الحظر لا غير ، والوجوب إنّما هو لثبوته قبل الحظر وعدم حصول النسخ ، فيرجع الى الحكم السّابق ، وهذا ليس من دلالة (اقتلوا) على الوجوب في شيء.

وكذلك ترخيص الحائض والنفساء ووجوب الحلق بعد النّهي عنه أيضا ثابت بدليل خارجي ، لأنّه أيضا من النّسك.

ولعلّك بالتأمّل فيما ذكرنا تقدر على استخراج أدلّة القائلين بالتّابعيّة لما قبله والتوقّف (٢) ، والجواب عنها.

وأمّا القائل بالندب ، فلعلّه نظر الى أنّ الندب أقرب المجازات للوجوب ، فإذا انتفى الدلالة عليه ببعض ما ذكر ، فيحمل عليه ، وأنت بعد ملاحظة ما ذكرنا تقدر على إبطال ذلك أيضا.

وأمّا توهّم اختصاص كونها حقيقة في الإباحة (٣) في عرف الشّارع ، فهو ضعيف لعدم الفرق بينه وبين العرف العامّ.

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) وفي «الذريعة» ص ٧٣ هو حكم الأمر المبتدأ ، فإن كان مبتدؤه على الوجوب أو الندب أو الوقف بين الحالين فهو كذلك بعد الحظر. وفي «المعارج» ص ٦٥ صيغة الأمر بعد الحظر كحالها قبله.

(٣) حكاه ابن الحاجب «المنتهى» : ص ٩٨ ، والبيضاوي «منهاج الوصول» : ص ٧٦.

١٨٥

قانون

المشهور أنّ صيغة افعل لا تدلّ إلّا على طلب الماهيّة (١).

وقيل : تدلّ على التكرار مدّة العمر إن أمكن عقلا وشرعا (٢) ويكون تركه إثما.

وقيل : على المرّة (٣). ويظهر من بعضهم أنّ مراد القائلين بالمرّة هو الدّلالة على الماهيّة المقيّدة بالوحدة لا بشرط التكرار ولا عدمه (٤) ، فالزّائد على المرّة لا يكون امتثالا ولا مخالفة.

ومن بعضهم دلالتها على عدم التكرار (٥) ، فتكون الزّيادة إثما.

والقائلون بالماهيّة أيضا بين مصرّح بحصول الامتثال لو أتى به ثانيا وثالثا وهكذا ، فلا إثم على ترك الزّيادة على المرّة (٦) ، ويحصل الثواب بفعل الزّائد ،

__________________

(١) فلا يدلّ على ما يزيد على أكثر من ذلك وبمثل ذلك قال العلامة في «المبادئ» : ص ٩٤ و «التهذيب» : ص ٩٨ والشيخ حسن في «المعالم» : ص ١٤١.

(٢) أمّا الأوّل فبأن لا يؤدي الى عسر وحرج ، وأمّا الثاني فبأن لا يزاحم واجبا آخر أهم.

(٣) ونسب هذا القول الى الشيخ راجع «العدة» : ١ / ١٩٩ والمحقّق في «المعارج» : ص ٦٦ ، بل قيل : إنّ القول به محكى عن جمع كثير. وقيل أيضا : بالاشتراك اللّفظي بين المرّة والتكرار ، قال به المرتضى كما في «الذريعة» : ص ١٠١ ، وابن زهرة.

(٤) الأمر المطلق لا يدلّ على تكرار ولا على مرّة ، بل على مجرّد ايقاع الماهية ، وايقاعها وإن كان لا يمكن في أقل من مرّة ، إلّا أنّ الأمر لا يدلّ على التقييد بها ، حتى يكون مانعا من الزيادة ، بل ساكتا عنه ، وهذا الذي اختاره المحقّقون كما عن الشهيد في «التمهيد» : ص ١٢٩ ، والرازي في «المحصول» : ١ / ٣٠٦ وكذا عن صاحب «الإحكام» : ٢ / ١٧٤.

(٥) كما في «المعارج» : ص ٦٦ ، ولكن بلا قوله بالإثم في الزيادة.

(٦) وذكر في «هداية المسترشدين» : ٢ / ٢١ في مشروعية الزّيادة وعدمها ما يفيد في المقام.

١٨٦

وبين قائل بأنّ الامتثال إنّما يحصل بالمرّة ، ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، وحينئذ فيمكن أن يكون من قبيل الاحتمال الأوّل في المرّة ، فلم يكن عقاب كما لم يكن ثواب ، فينتفي ثمرة النزاع بينهما.

ويمكن أن يكون من قبيل الاحتمال الثاني فيها ، فينتفي ثمرة النزاع بينهما أيضا.

وما ذكرنا من الاحتمالين ينشأ من القول بكون ما لم يرد عليه من الشارع دليل ، تشريعا حراما ، كما هو المشهور المحقّق وعدمه (١).

والحقّ هو الأوّل ، وعلى هذا ، فلا يظهر بين القولين في المرّة أيضا ثمرة.

والأقرب عندي أنّها لا تدلّ إلّا على طلب الماهيّة (٢) ، وأنّ الامتثال إنّما يحصل بالمرّة الأولى ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، والإتيان به ثانيا وثالثا تشريع محرّم ، لكون أحكام الشّرع توقيفيّة موقوفة على التوظيف.

لنا : أنّ الأوامر وسائر المشتقّات مأخوذة من المصادر الخالية عن اللّام والتنوين ، وهي حقيقة في الطبيعة لا بشرط شيء اتّفاقا ، كما صرّح به السّكاكي (٣).

وما قيل : من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة مع قيد الوحدة المطلقة ، فإنّما يسلم إذا كان مع التنوين والوحدة والتكرار ، مثل سائر صفات الطبيعة ، قيود خارجة عنها ، فلا دلالة للّفظ الدالّ على الطبيعة الكلّية على شيء من قيودها ، لأنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ ، والهيئة العارضة لهذه المادة لا تفيد أزيد من طلبها بحكم

__________________

(١) أي وعدم القول بكونه تشريعا حراما.

(٢) يعني من غير أن يدل على ما يزيد على ذلك.

(٣) وذلك في مبحث التعريف باللّام في «المفتاح» ونقل عنه ذلك أيضا في «الفصول» : ص ٧١.

١٨٧

العرف ، والتبادر بعنوان الإيجاب والإلزام كما مرّ ، والأصل عدم إرادة شيء آخر معها.

فما قيل : من أنّ المادة إن لم تدلّ على القيد ؛ فالهيئة تدلّ عليه ، في معرض المنع. ومقايسة القائلين (١) بالتكرار ، الأمر بالنهي بجامع الطّلب ، باطل ، لأنّه في اللّغة (٢) ومع الفارق ، لأنّ نفي الحقيقة كما هو مدلول النّهي ، يقتضي استغراق الأوقات ـ كما سيجيء ـ بخلاف إيجادها ، والتروك تجامع كلّ فعل بخلاف تكرار المأمور به.

وقولهم (٣) : بأنّه لو لم يكن الدلالة على التكرار لما تكرّر الصّوم والصّلاة مع أنّه معارض بالحجّ.

مدفوع : بأنّه من دليل خارج كما توضّحه كيفيّة التكرار المقرّرة.

واحتجاجهم (٤) : بأنّ الأمر يستلزم النّهي عن الضدّ والنّهي يفيد دوام الترك ويلزمه دوام فعل المأمور به.

فيه : منع الاستلزام أوّلا ، إن أريد الخاص كما سيجيء ، ومنع استلزام دوام الترك دوام الفعل ثانيا ، إلّا في ضدّين لا ثالث لهما كالحركة والسّكون ، لعدم استحالة ارتفاع الضدّين مطلقا ، فلا يتمّ الإطلاق. ومنع دلالة النّهي على التكرار مطلقا ثالثا كما سيجيء. ومنع دلالة خصوص النّهي الذي في ضمن الأمر على الدّوام دائما ، بل إنّما هو تابع للأمر ، إن دائما فدائما وإن في وقت ففي وقت.

__________________

(١) هذا أول الاحتجاج للقائلين بالتكرار ، ونقله في «المعالم» : ص ١٤٥.

(٢) لانّه قياس في اللّغة كما قاله غيره.

(٣) ذكره في «المعالم» : ص ١٤٥.

(٤) ذكره في «المعالم» : ص ١٤٥ في مقام ذكره احتجاج من يقولون بإفادة التكرار.

١٨٨

وإن أريد من الضدّ العامّ ـ أعني الترك ـ فيسقط المنعان الأوّلان (١) ويجيء عليه الباقي.

واحتجاج القائل بالمرّة (٢) : بامتثال العبد عرفا لو أمره السيّد بدخوله الدار فدخل مرّة ، مردود بأنّ ذلك لعلّه من جهة الإتيان بالطّبيعة كما ذكرنا (٣) ، لا لأنّ الأمر ظاهر في المرّة.

واعلم أنّ ما ذكرنا من حصول الثمرة وعدمها فيما بين القول بالمرّة والماهيّة ، إنّما هو في الإتيان بالأفراد متعاقبة ، وأمّا لو أوجد أفرادا متعدّدة في آن واحد ، مثل أن يقول المأمور بالعتق لعبيده المتعدّدة : أنتم أحرار لوجه الله.

فقيل : على القول بالماهيّة يحصل الامتثال بالجميع.

وأمّا على القول بالمرّة ، فأمّا على القول الثاني (٤) فيها ، فيبنى ذلك على جواز اجتماع الأمر والنّهي مع اختلاف الجهة.

فإن قلنا بجوازه كما هو الأصحّ ، فيستخرج المطلوب بالقرعة لو احتيج الى التعيين ويكون غيره معصية ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالمرّة هو الفرد الواحد لا مجرّد كونه في الزّمان الواحد ، وإن لم نقل بجوازه فلا يحصل الامتثال أصلا.

وأمّا على القول الأوّل فلا إثم ، ويستخرج المطلوب بالقرعة أيضا.

هذا وقد ذكرنا أنّ الأقوى بالنظر الى هذا القول أيضا حصول الإثم.

__________________

(١) قوله : منع الاستلزام أوّلا ، وقوله : منع استلزام دوام الترك ، دوام الفعل ثانيا.

(٢) نقله في «المعالم» : ص ١٤٩.

(٣) من أنّ الصيغة إنّما تدلّ على الطبيعة وأنّ الامتثال يحصل بالمرّة وأنّ الأمر يقتضي الإجزاء.

(٤) القول بحرمة الزّائد.

١٨٩

بقي الكلام في قول من يصرّح بحصول الامتثال بالإتيان ثانيا ، وهكذا مع قوله بالماهيّة كصاحب «المعالم» رحمه‌الله (١).

والتحقيق ، أنّه إن أراد حصول الامتثال في الجملة ، أي ولو في ضمن المرّة الأولى فحسن ، وإلّا فنقول : أنّه لا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، فإنّ الامتثال قد حصل بالأولى جزما.

وما يتوهّم (٢) أنّه يكون من باب الواجب المخيّر بين الواحد والاثنين والأزيد.

ففيه : أنّه إن أريد التخيير المستفاد من العقل في الواجبات العينيّة فإنّ الكلّي المكلّف به عينا لا يمكن الإتيان به إلّا بإتيان الأفراد ، فيكون الأفراد من باب مقدّمة الواجب ، والعقل يحكم بجواز الإتيان بأيّ فرد يتحقّق في ضمنه الكلّي ، فلا ريب أنّه مع ذلك يوجب الإتيان بالمرّة الأولى سقوط الواجب عن ذمّة المكلّف ، فلا يبقى بعد واجب حتّى يمكن الإتيان بمقدّمته ، فضلا عن الوجوب.

وإن أريد التخيير المستفاد من النقل المدلول عليه بهذا الأمر.

__________________

(١) ص ١٤٩.

(٢) قال في الحاشية : إنّ لهذه العبارة محامل ثلاثة ، أحدها : أن يكون بمنزلة الاشكال على ما ذكره من التقريب بقوله : لا معنى للامتثال عقيب الامتثال. والنقض عليه : بأن يقال : كيف يستحيل وقد وقع في الواجب التخيير بين الزّائد والناقص ، فإنّه تمثيل فيه بالزّائد كالتسبيحات الأربع في الركوع والسجود ، والأربعين في نزح البئر بعد تحقّق الامتثال بالناقص من الواحدة والثلاثة. وثانيهما : أن يكون بمنزلة الاستدلال للخصم على أنّ الامتثال يحصل ثانيا وثالثا ، بأن يقال لو امتنع لكان لسبق الامتثال لكنّه ليس بمانع لتحققه في التخيير بين الزّائد والناقص. وثالثها : أن يكون امتثالا بعد الامتثال ، بل مراده أنّ مجموع الأوّل والثاني امتثال أوّلي وكل واحد واحد جزء للامتثال ، لا امتثال مستقلّ كما في التخيير بين الزّائد والناقص.

١٩٠

ففيه : منع ظاهر ، مع أنّه لا معنى للتخيير بين فعل الواجب وتركه. وليس هذا من باب التخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة ، فإنّهما حقيقتان مختلفتان ولو بالقصد والنيّة ، وجعل الشّارع بخلاف ما نحن فيه ، بل ليس من قبيل التسبيحة والثلاث في الركوع والسّجود والركعة.

فإذا عرفت هذا ، فيرد على هذا القائل أيضا : أنّه إن كان يقول باتّصاف المرّة الثانية والثالثة وهكذا بالوجوب ، فهو قول بالتكرار ، وإن كان يقول بالنّدب ، فمع أنّه قول جديد مستلزم لاستعمال اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي على القول بكون الصّيغة حقيقة في الوجوب ، وأنت بعد التأمّل فيما ذكرنا من التحقيق ، تعرف أنّه لا يتمّ ما نقلناه آنفا من القول بحصول الامتثال في الجميع ، على القول بالماهيّة في صورة الإتيان بالأفراد مجتمعة أيضا.

وكذلك تتمّة ما نقلناه من البناء على اجتماع الأمر والنّهي على القول الثاني في المرّة وغيره ، فتأمّل حتّى يظهر لك حقيقة الأمر.

تذنيب

الأمر المعلّق على شرط ، أو صفة ، يتكرّر بتكرّر الشّرط والصّفة عند القائلين بدلالته على التكرار قولا واحدا ، لوجود المقتضي وعدم المانع ، غاية الأمر تقليل التكرار بالنسبة الى الأمر المطلق ، وأمّا غيرهم (١) فذهبوا الى أقوال :

ثالثها : دلالته عليه مع فهم العلّيّة (٢) ، يعني كون الشّرط أو الوصف علّة ، فيكون

__________________

(١) غيرهم القائلين بالمرّة والماهيّة.

(٢) كالعلامة في «التهذيب» : ص ٩٩.

١٩١

من باب المنصوص العلّة.

والسيّد المرتضى رحمه‌الله (١) هنا أيضا من المانعين مطلقا ، لعدم اعتباره المنصوص العلّة مطلقا.

وسيجيء إن شاء الله تعالى أنّ الحق حجّيتها ، فالأقرب إذا التفصيل.

وتحرير المقام ، أنّ كلّ ما دلّ على العموم من أدوات الشرط مثل : كلّما ، ومهما ونحوهما (٢) ، فلا ينبغي التأمّل في تكرّر الأمر بتكرّر الشّرط.

وأمّا ما لم يدلّ على العموم مثل : إن وإذا ، فلا يفيد التكرار أصلا ، إلّا أن يقال بحملها على العموم ، لوقوعها في كلام الحكيم ، وكون الشرط لغوا لولاه.

وأمّا الصّفة ، فهي أيضا لمّا لم تدلّ على العلّيّة على ما هو التحقيق كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، بل فيها إشعار بالعلّيّة ، والمعتبر هو العلّة الثابتة كما صرّحوا به ، فلا اعتبار بها أيضا.

وأمّا إذا فهم العلّيّة الثابتة بمعونة الخارج ، فيفيد العموم والتّكرار بتكرّر العلّة سواء كان في الشّرط أو الصّفة ، مثل : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٣).

وإن زنى فاجلدوا ، ونحوهما.

واحتجّ القائلون بالتّكرار مطلقا : بالاستقراء ، فإنّ قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا)(٤). (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٥). (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً

__________________

(١) «الذريعة» : ص ١٠٩.

(٢) ونحو حيثما أينما.

(٣) النور : ٢.

(٤) المائدة : ٦.

(٥) المائدة : ٦.

١٩٢

فَتَيَمَّمُوا)(١) و : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٢) و : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)(٣). الى غير ذلك من الآيات والأخبار يتكرّر الأمر فيها بتكرّر الشّرط ، فكذا فيما يحصل الشكّ إلحاقا بالغالب.

وفيه : أنّ حمله على التّكرار فيما ذكر ، إنّما هو لأجل فهم العلّيّة ، وهو مسلّم عندنا.

واحتجّ النّافي : بمثل إن دخلت السّوق فاشتر اللّحم (٤) ، أو : أعط هذا درهما إن دخل الدّار ، فلا يفهم منه التّكرار.

وفيه : أنّ ذلك لعدم فهم العلّيّة ، وذلك لا يستلزم الاطّراد.

وقيل : إنّ ذلك للقرينة ، فإنّ من قال لعبده : إذا شبعت فاحمد الله ، فهم منه التّكرار ، وهو مقلوب عليه (٥) ، بل ذلك أيضا (٦) لفهم العلّيّة.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) النور : ٢.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) كما في «الوافية» : ص ٧٧ ، و «المعارج» : ص ٦٧ وفي «تهذيب الاصول» : ص ٩٩ ، بإضافته لمثال الدرهم التالي وإن كان هو فيه يذهب إلى غير ما ذهبوا إليه.

(٥) يعني انّ استدلال القيل مقلوب على نفسه.

(٦) أي أنّ عدم التكرار في المثالين الاوّلين لأجل القرينة ، فكذلك التكرار في المثال الثاني لأجلها وهو فهم العليّة.

١٩٣

قانون

لا دلالة لصيغة الأمر على وجوب الفور (١) كما ذهب إليه جماعة ، وليست مشتركة بينه وبين جواز التراخي ، كما ذهب إليه السيّد رحمه‌الله (٢) ، بل هي لطلب الماهيّة ، وأيّهما حصل حصل الامتثال ، كما ذهب إليه جماعة من المحقّقين (٣).

وأمّا القول بتعيين التراخي ، فلم نقف على مصرّح به.

لنا : نظير ما مرّ في القانون السّابق.

واستدلال القائلين بالفور : بمذمّة العبد إذا أخّر في السّقي عند قول مولاه : اسقني.

مدفوع : بأنّه للقرينة ، ولا نزاع فيه ، مثل استدلالهم بذمّ إبليس على تركه السّجود ، بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(٤). مع إمكان أن يعتذر بعدم دلالة الأمر على الفور ، لأنّ الفاء في قوله : (فَقَعُوا)(٥) ، يفيد التوقيت ، فلم يثبت دلالتها على الفور ، وإنّ الذمّ لعلّه من جهة الاستكبار.

__________________

(١) خلافا للشيخ في «العدّة» : ١ / ٨٥ والحنفيّة كما في «المحصول» : ١ / ٢٧٤ والحنابلة كما في «المنتهى» : ص ٩٤.

(٢) كما نقل عنه في «المعالم» : ص ١٥١.

(٣) ومنهم المحقّق أبو القاسم بن سعيد حيث ذكر في «المعارج» : ص ٦٥ : والظاهر أنّه لا إشعار فيه بفور ولا تراخ. والعلّامة على ما صرّح به في «التهذيب» : ص ٩٩ ، وصاحب «المعالم» : ص ١٥١ ، وصاحب «الوافية» : ص ٧٨ ، ومشاهير المخالفين كالحاجبي والشافعي والفخري وصاحب «المنهاج» كما عن المولى المازندراني في حاشيته عن «المعالم» ص ٧١.

(٤) الأعراف : ١٢.

(٥) ص : ٧٢.

١٩٤

وأيضا ينافيه قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١). لأنّه كاشف عن الإعراض أوّلا.

وأمّا استدلالهم (٢) : بأنّه لو جاز التأخير لجاز الى وقت معيّن ، وإلّا لزم أن يجوز الى آخر وقت الإمكان وهو مجهول (٣). وتكليف المكلّف بعدم التأخير عن وقت لا يعلمه تكليف بالمحال ، ولا دلالة في الصّيغة على وقت معيّن.

فاجيب عنه مرّة (٤) : بأنّا نجوّز التأخير الى حصول ظنّ الموت ، وهو ممكن الحصول غالبا كسائر الواجبات الممتدّة بامتداد العمر ، ومرّة بالنقض بصورة التّصريح بجواز التأخير.

واخرى (٥) : بأنّ جواز التأخير لا يستلزم وجوبه ، فالامتثال ممكن.

وأورد عليه (٦) : أنّ هذا وإن كان يرفع تكليف المحال ، إلّا أنّه التزم بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ، وإن لم يثبت كونه مدلول الصّيغة لغة ، إذ جواز التأخير حينئذ مشروط بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة ، فينحصر الامتثال بالمبادرة ، فيجب الفور.

__________________

(١) الاعراف : ١٢ ، ص : ٧٦.

(٢) استدلال القائلين بالفور ونقله في «المعالم» : ص ١٥٣.

(٣) وآخر وقت الامكان مجهول.

(٤) وهذا الجواب هو للعضدي تبعا للحاجبي وقد ذكره المحقق السلطان أيضا ونقله صاحب «الفصول» : ص ٧٧ وهو أي الجواب يرجع الى منع الملازمة في الشرطية الأولى ، وإن شئت فارجعه الى منع الملازمة في الشرطية الثانية.

(٥) وهذا الجواب يرجع الى منع بطلان اللازم في الشرطية الثانية هذا من المصنف كما في الحاشية.

(٦) وهذا الايراد من سلطان العلماء كما في حاشيته على «المعالم» ص ٢٧٨.

١٩٥

وردّ (١) : بأنّ جواز التأخير ليس بمشروط بمعرفة المكلّف بآخر أزمنة الإمكان ، بل إنّما يتوقّف على عدم كونه آخر أزمنة الإمكان ، والموقوف على معرفة آخر أزمنة الإمكان إنّما هو العلم بجواز التأخير ، لا نفس الجواز ، فإنّ الجواز في نفس الأمر لا يتوقّف على العلم بالجواز ، بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع ، على ما يقتضيه أصالة الإباحة.

على هذا فيصير مآل كلام المجيب تسليم أنّه يجب عدم تأخير الفعل عن آخر أزمنة الإمكان ، ويمكن تحصيل البراءة بالمبادرة ، مع عدم لزوم وجوب المبادرة ، فلو بادر فيخرج عن عهدة التكليف ، ولو لم يبادر وفعله ثانيا ، فكذا ، وهكذا ، ولو لم يفعل حتّى خرج الوقت فيصير آثما ، فلم يلزم من ذلك فور ، ولا خروج الواجب عن الوجوب.

وتوهّم كون البدار مقدّمة للواجب ـ أعني عدم تأخير الفعل عن آخر أزمنة الامكان ـ مدفوع : بمنع التوقّف.

نعم ، إنّما يتوقّف حصول العلم بعدم تأخيره عن آخر أزمنة الإمكان في أوّل زمان التكليف بذلك ، ووجوبه ممنوع (٢).

وما يقال : من أنّ تحصيل البراءة اليقينيّة المسبّبة عن شغل الذمّة يقينا يستلزم الفور (٣) لإمكان أن يفاجئه الموت في الجزء الثاني من الوقت فضلا عن غيره ، فيأثم بالترك ؛ فهو ممنوع مثل سائر الواجبات الموسّعة أو الممتدّة بامتداد العمر ،

__________________

(١) وهذا الردّ من المدقق الشيرواني وقد ذكر صاحب «الفصول» : ص ٧٧ ما أورد وردّه.

(٢) راجع «الفصول» : ص ٧٧.

(٣) وقدد ردّه أيضا في «الفصول» : ص ٧٧.

١٩٦

فإنّ غاية الأمر وجوب تحصيل اليقين بالمأمور به ، وأمّا وجوبه فورا فيحتاج الى الدّليل.

نعم ، يتمّ ذلك على القول بوجوب الاحتياط مع احتمال وجوب الفور ، إمّا باشتراطه في الصّحّة ، أو في مجرّد حصول الإثم وهو ممنوع (١).

وكيف كان فهذا الدّليل مع تمامه لا يدلّ على كون الصيغة للفور ، بل يدلّ على وجوب العمل بالفور من الخارج (٢).

واستدلّوا أيضا (٣) : بالاستقراء ، فإنّ مقتضى النسب الخبريّة مثل : زيد قائم ، وعمرو عالم ، والإنشائيّة ك : أنت طالق ، وهو حرّ ، قصد الحال ، فكذا الأمر إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

وظنّه بعضهم (٤) قياسا. وردّه (٥) : بأنّ القياس غير جائز ، سيّما في اللّغة وسيّما مع الفارق. فإنّ الأمر لا يمكن توجيهه الى الحال ، لاستحالة طلب الحاصل ، بل الى الاستقبال ، وهو إمّا الأقرب الى الحال المعبّر عنه بالفور ، أو ما بعده ، فلا يتعيّن الأوّل إلّا بدليل.

وردّ (٦) : بعدم إرادة الحال الحقيقي ، والحال العرفي متحقّق في الأمر أيضا.

والكلام في الاستفهام نظير الكلام في الأمر ، فإنّ التفهيم لا يمكن في آن الاستفهام،

__________________

(١) وجوب الاحتياط ممنوع.

(٢) كالشرع أو العقل.

(٣) وقد نقله في «المعالم» : ص ١٥٦.

(٤) وهو الشيخ حسن في «المعالم» : ص ١٥٧.

(٥) الظّانّ وكذا الرّاد هو صاحب «المعالم».

(٦) أي ورد الشيخ حسن هذا الردّ كما في «المعالم» : ص ١٥٧.

١٩٧

وكذلك النّهي.

وفيه (١) : أنّ ذلك يستلزم تفاوت مدلولات الموادّ المستقرأة فيها ، إذ الفرق واضح بين هو حرّ ، وهي طالق ، وبين الاستفهام ، والقدر المشترك لا يثبت المطلوب ، إلّا أن يقال أنّ المعلوم من هذه الموادّ إرادة أحد المعنيين ، إمّا حصول مدلولها مقارنا لحصولها ، أو في الآن المتّصل بها ، ولمّا لم يكن الأوّل في الأمر ، فتعيّن الثاني.

والتحقيق : أنّ مطلوب المستدلّ ، إن كان أنّه حصل له من الاستقراء أنّ النسب الخبرية والإنشائية الصادرة عن المتكلّم حاصلة في الحال الحاضر ، فهو لا يجديه. لأنّه لا إشكال في أنّ النسبة الإنشائية في الأمر ، وهي الطّلب القائم بنفس المتكلّم ، حاصلة في الحال ، فلا يمكن النزاع فيه.

وإن كان أنّ مفاد تلك الجمل ومدلولاتها حاصلة في الحال ، كقيام زيد وعلم عمرو وطلاق هند وحريّة بلال فهو ، مع أنّه منقوض بمثل : كان زيد قائما ، وعمرو سوف يجيء ، وموقوف على كون المشتقّ حقيقة في الحال المقابل للاستقبال ، لا حال التلبّس كائنا ما كان ، وقد عرفت أنّ التحقيق خلافه ، لا يمكن الوثوق على مثل هذا الاستقراء في إثبات اللّغة.

وهناك طريق آخر يمكن إثبات المطلوب به ، وهو أنّ النّحاة ذكروا أنّ الأمر للحال ، وغرضهم من اقتران معنى الفعل بأحد الأزمنة هو المعنى الحدثي ، وإن شئت قلت : انتسابه الى الفاعل مقترن بأحد الأزمنة ، وأمّا نسبة المتكلّم فكلّها واقعة في حال التكلّم ، فعلى هذا إذا انضمّ الى ذلك أصالة عدم النّقل ، فيثبت كونها للحال لغة ، فيثبت الفور.

__________________

(١) أي في الردّ الأخير.

١٩٨

ولكنّه مدفوع : بأنّ كلام النّحاة مع أنّه لم يثبت اتّفاقهم على ذلك ، يضعّفه خلاف علماء الأصول والبيان ، فالظاهر أنّ نظرهم الى الأغلب من إمكان حصول الطبيعة في الحال.

والحاصل ، أنّ الأمر مأخوذ من المضارع ، ولا فرق بينهما في الاشتراك بين الحال والاستقبال.

وقد استدلّوا (١) أيضا : بقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(٢) الآية. وبقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٣) الآية. بتقريب أنّ المراد من المغفرة سببه لاستحالة المسارعة الى فعل الله ، وفعل المأمور به سبب ، إذ قد يكون بعض الواجبات سببا لإزالة الذّنوب ، كما ورد في الصّلوات الخمس والحجّ وغيرهما ، سيّما على القول بالإحباط كما هو الحقّ ، ويثبت في الباقي بعدم القول بالفصل ، فلا يرد أنّ سبب المغفرة إنّما هو التوبة ، وهو فوريّ اتّفاقا ، ولا حاجة الى الاستدلال ، ولا يتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل أيضا لاتّفاق الفريقين فيه.

وكذا لا يرد على إرادة فعل المأمور به بناء على الإحباط ، أنّ هذا إنّما يتمّ فيما حصل الذّنب ، فلا يعمّ جميع الأوامر.

وأمّا ما يقال (٤) من أنّ بعض المستحبّات أيضا ممّا ورد كونه سببا للمغفرة ، فلا بدّ من حمل الأمر على الاستحباب.

ففيه : أنّ العامّ يخصّص والمطلق يقيّد ، والتخصيص والتقييد أولى من غيرهما

__________________

(١) أيضا في حجّة القول بالفور ، وقد نقلها في «المعالم» : ص ١٥٤.

(٢) آل عمران : ١٣٣.

(٣) البقرة : ١٤٨ ، المائدة : ٤٨.

(٤) وهو المفهوم من ردّ «المعالم» : ص ١٥٥ في المسارعة والاستباق ، وفي «هداية المسترشدين» : ١ / ٦٢ ، فيه كلام.

١٩٩

من المجازات ، وكذلك الكلام في قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(١).

وقد يجاب (٢) عن الآيتين بالحمل على الاستحباب ، لمنافاة مدلول الهيئة للمادّة لو حملت على الوجوب ، لعدم إطلاق المسارعة والاستباق عرفا إلّا على الموسّع ، فالحكم بوجوب الفور إثبات للتضييق ، والإتيان بالمضيّق عرفا ليس بمسارعة واستباق ، فإنّ المأمور بصوم شهر رمضان إذا صام فيه ، لا يقال أنّه مسارع.

وفيه : أنّه كما يمكن تحقّق المسارعة عرفا بملاحظة الوسعة في زمان الرخصة ، كذلك يمكن تحقّقها بملاحظة الوسعة في زمان الصّحّة. فعلى القول بالصّحّة في صورة التأخير في الفوري يصدق عرفا المسارعة بإتيانه في أوّل زمان الصّحّة ، كما يقال لمن حجّ في العامّ الأوّل من الاستطاعة أنّه سارع في حجّه ، وكذلك لمن عجّل في أداء دينه حين القدرة ومطالبة الدائن ، وهذا واضح مع أنّ قابليّة الأوامر المطلقة للتوسعة يكفي في صدق المسارعة عرفا ولا يلزم ثبوتها بالفعل.

فالتحقيق في الجواب بعد منع نهوض هذا الاستدلال على إثبات الفور لغة وعرفا ، بل ولا شرعا : أنّ الآيتين لو سلّم ظهورهما في الوجوب مع ملاحظة هذه المذكورات (٣) فهو ظهور.

وما ذكرنا من التبادر في الماهيّة في الأوامر المطلقة ظهور ، ولا ريب أنّ هذا أقوى منه ، فيحمل الآيتان على الاستحباب ، فكيف ولا ظهور في آية المسارعة

__________________

(١) البقرة : ١٤٨.

(٢) والمجيب هو صاحب «المعالم» : ص ١٥٦.

(٣) وهي الايرادات الأربع والجوابين السّابقين.

٢٠٠