القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

وفيه : ـ مع أنّه ينافي لاستدلاله الأوّل ، لأنّ مفاده إرادة الخصوصيّة لا المعنى العامّ ـ منع قد عرفته.

حجّة مشترطي بقاء المبدا فيما لم يكن المبدأ من المصادر السيّالة : امتناعه فيها ، لأنّها تنقضي شيئا فشيئا ، فهو قبل حصول أجزائه غير متحقّق ، وبعده منعدم.

والحقّ اعتبار العرف في ذلك ، ولا ريب أنّ العرف يحكم على من يتكلّم وهو مشتغل به ولو بحرف منه ، أنّه متكلّم ، ولا يضرّه السّكوت القليل بمقدار التنفّس أو أزيد ، بل بمقدار شرب الماء أيضا في بعض الأحيان.

وحجّة من اشترط البقاء في الحدوثيّ دون الثبوتيّ : أنّه لو كان شرطا مطلقا ، للزم أن يكون إطلاق المؤمن على النائم مجازا إذ لا تصديق في حال النوم.

وأجيب عن ذلك : بأنّ ما حصل للنّفس من التصديق ، هو حاصل في الخزانة حال النوم ، وإن لم يكن حاصلا في المدركة حينئذ.

وحجّة من خصّ الاشتراط بما طرأ على المحلّ ضدّ وجودي : أنّه لو لم يكن كذا ، يلزم كون إطلاق النائم على اليقظان ، والحامض على الحلو ، باعتبار النّوم السّابق والحموضة السّابقة حقيقة ، وهو خلاف الإجماع ، وأيضا يلزم أن يكون أكابر الصّحابة كفّارا حقيقة.

وقد يجاب عن الثاني : بأنّ ذلك إنّما هو من جهة الشّرع لا اللّغة.

والحقّ : المنع في الجميع (١) لغة وعرفا أيضا.

وحجّة من اشترط البقاء في المحكوم به دون المحكوم عليه (٢) : هو أنّه لو

__________________

(١) وهذا المنع على مبنى المصنّف.

(٢) راجع «تمهيد القواعد» ص ٨٥ ، وكذا «الوافية» ص ٦٣.

١٦١

اشترط في المحكوم عليه أيضا للزم عدم جواز الاستدلال بمثل قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(١) ، و : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)(٢) ، ونحو ذلك ، بالنّسبة الى من لم يكن زانيا أو سارقا حال الإطلاق ، بل المعتبر اتّصافه في أحد الأزمنة الثّلاثة.

ووجه هذا الاستدلال ، أنّهم يستدلّون بهذه الآيات وظاهرهم إرادة الحقيقة ، فيكون المشتقّ حينئذ حقيقة في كلّ واحد من الأزمنة.

أقول : ويلزم من ذلك أنّ ذلك القائل يقول بكون المشتقّ حقيقة في المستقبل أيضا.

وقد يوجّه : بأنّ مراده حينئذ أنّ المحكوم عليه حقيقة فيما تلبّس بالمبدإ في الجملة ، يعني المعنى العامّ السّابق أو ما هو أعمّ منه ليشمل الاستقبال ، وكيف كان فهو باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ هذا الكلام مبنيّ على أنّ المراد بالحال وأخويه في محلّ النزاع ، هو حال النطق وما قبله وما بعده ، وقد عرفت خلافه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المشتقّ كونه حقيقة في الحال مع الخصوصيّة ممّا لا خلاف فيه ، وإن كان محكوما عليه ، فلو جعلناه حقيقة في القدر المشترك أيضا للزم الاشتراك ، والمجاز أولى منه ، وكونه محكوما عليه قرينة للمجاز ، مع أنّ الاستدلال بها على من لم يتلبّس بعد حين الإطلاق (٣) أو لم يوجد أيضا هو من قبيل الاستدلال بالخطابات الشفاهيّة ، فإنّ تلك الخطابات لا تثبت إلّا أصل التكليف.

وأمّا خصوص تكليفنا فإنّما يثبت بدليل خارج ، كالإجماع وغيره.

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) كما ذكر في كلام المستدل.

١٦٢

وأمّا على ما حقّقنا موضع النّزاع من عدم مدخلية الزّمان أصلا وعدم اعتبار حال النطق ، فلا إشكال ، إذ المراد أنّ المتلبّس بالزّنا أو السّرقة مثلا حكمه كذا ، سواء كان تلبّسه حال النطق أو قبله أو بعده ، ولا يضرّ ثبوت الحكم بعد حال الانقضاء وإن طال المدّة ، لأنّ إجراء الحكم ثابت حينئذ بالاستصحاب وغيره من الأدلّة.

تتميم

ينبغي أن يعلم أنّ مبادئ المشتقّات مختلفة ، فقد يكون المبدا حالا كالضّارب والمضروب ، وقد تكون ملكة ، وقد يعتبر مع كونه ملكة كونه حرفة وصنعة مثل : الخيّاط والنجّار والبنّاء ونحوها ، وقد يكون لفظ يحتمل الحال والملكة والحرفة كالقارئ والكاتب والمعلّم ، والتلبّس وعدم التلبّس يتفاوت في كلّ منها ، فالّذي يضرّ بالتلبّس في الملكة هو زوالها بسبب حصول النسيان ، وفي الصناعة الإعراض الطويل بدون قصد الرّجوع.

وأمّا الإعراض مع قصد الرّجوع ـ ولو كان يوما أو يومين ، بل وشهرا أو شهرين أيضا مع إرادة العود ـ فغير مضرّ. ويصدق على من لم ينس ، ومن أعرض وقصد العود في العرف أنّه متلبّس بالمبدإ فيهما ، وإن طرأ الضدّ الوجودي لأصل ذلك الفعل أيضا.

وأمّا في الأحوال فالتلبّس فيها أيضا يختلف في العرف ، فأمّا في المصادر السيّالة ، فيكفي الاشتغال بجزء من أجزائه ، وأمّا في غيرها كالسّواد والبياض وغيرهما من الصّفات الظاهرة والباطنة ، فالمعتبر بقاء نفس الصّفات.

وقد اختلط على بعض المتأخّرين (١) ، واشتبه عليه الأمر وأحدث مذهبا في

__________________

(١) قيل المراد بالبعض هو الفاضل التوني على ما نقل ، وقيل انّه الوحيد البهبهاني. والذي ـ

١٦٣

التفصيل ، فقال : إنّ إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة إن كان اتّصاف الذّات بالمبدإ أكثريا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدإ مضمحلّا في جنب الاتّصاف ، ولم يكن الذّات معرضا عن المبدا وراغبا عنه ، سواء كان المشتق محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضدّ الوجودي أو لا. لأنّهم يطلقون المشتقّات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة ، كالكاتب والخيّاط والقارئ والمتعلّم والمعلّم ونحوها ، ولو كان المحلّ متّصفا بالضدّ الوجودي كالنّوم ونحوه.

والقول بأنّ الألفاظ المذكورة ونحوها ، كلّها موضوعة لملكات هذه الأفعال ؛ ممّا يأبى عنه الطّبع السليم في أكثر الأمثلة ، وغير موافق لمعنى مبادئها على ما في كتب اللّغة ، انتهى(١).

وبعد ما حقّقنا لك ، لا يخفى عليك ما فيه.

إذا تحقّق ذلك فنقول : إنّ ما جعلوه ثمرة النزاع من مثل كراهة الجلوس تحت الشّجرة المثمرة ، ينبغي التأمّل في موضع الثمرة منها ، فإنّ المثمرة يجوز أن يكون المبدا فيها هو الملكة ، فإنّ للشجرة أيضا يتصوّر نظير ما يتصوّر للإنسان ، وعلى هذا فلا يضرّ عدم وجود الثمرة بالتلبّس بالمبدإ فيها إلّا أن يحصل للشجرة حالة لا يحصل معها الثمرة أصلا بالتجربة ونحوها ، شبيه النسيان للإنسان ، ويجوز أن يكون هو الحال.

والحال أيضا يحتمل معنيين : أحدهما : صيرورته ذا ثمرة مثل : أغدّ البعير (٢).

والثاني : المعنى المعهود الحالي.

فعليك بالتأمّل والتفرقة في كلّ موضع يرد عليك.

__________________

ـ يبدو لي أنّه للأوّل وذكر عين العبارات من قوله : ان اطلاق المشتق ... الخ ، الى ... على ما في كتب اللغة. في «الوافية» في أولى صفحاتها في بحث المشتق ص ٦٣.

(١) كلام صاحب «الوافية» فيها ص ٦٤.

(٢) أي صار ذا غدّة فهو مغدّ ، والغداد جمع غدد وهو طاعون الإبل.

١٦٤

الباب الأول

في الأوامر والنّواهي

وفيه مقصدان :

الأوّل :

في الأوامر

الأمر على ما ذكره أكثر الاصوليين هو طلب فعل بالقول استعلاء. والأولى اعتبار العلوّ مع ذلك كما اختاره جماعة (١) ، وسنشير اليه في آخر المبحث (٢).

والمراد بالعالي من كان له تفوّق يوجب إطاعته عقلا أو شرعا.

وقيل : هو الطلب من العالي.

وما قيل : باشتراكه مع ذلك بين الفعل والشأن وغير ذلك ، بعيد لعدم تبادرها ، المجاز خير من الاشتراك ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وظنّي أنّ من يقول بأنّ الأمر ـ أعني المركّب من (أم ر) حقيقة في الوجوب ، هو ممّن يقول بالقول الأوّل ، ولا بدّ أن يقول به ليناسب تعريفه الاصطلاحي معناه

__________________

(١) اشتراط العلو أو الاستعلاء أو عدم اشتراط شيء منهما محلّ خلاف بين الاصوليين ، وتفصيل هذه الأقوال وأدلّتها في «المحصول» : ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) في آخر هذا القانون عند قوله : واعلم أنّ ما ذكرنا من الصور الثلاث يجري في لفظ (أم ر).

١٦٥

العرفي ، إذ الاستعلاء ظاهر في الإلزام ، إذ لا معنى لإظهار العلوّ في المندوب ، وإدّعائه كما لا يخفى ، وهو الأظهر عندي (١) للتبادر وللآيات والأخبار مثل : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الخ (٢) و : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(٣) ، و : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك» (٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله؟ حيث طلب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراجعتها إلى زوجها : لا ، بل إنّما أنا شافع (٥).

فكلّ ما ثبت كونه أمرا وصدق عليه هذا المفهوم ، يستفاد منه الوجوب ، لأنّ كون المشتقّات من هذا المبدا حقيقة في الوجوب ، وكون المبدا أعمّ كما ترى ، فالوجوب مأخوذ في مفهوم الأمر.

فالتعريف الأوّل مناسب لمعناه العرفي المتبادر منه ، ومن يقول بعدم إفادته الوجوب ولا يأخذ الوجوب في مفهوم الأمر ، فهو إمّا ممّن يقول بأنّ الأمر هو الطلب من العالي لا من حيث إنّه مستعل ، وقد عرفت بطلانه ، أو يأخذ الاستعلاء في مفهوم النّدب أيضا ويجعله أعمّ من الندب ، وستعرف بطلانه.

__________________

(١) بل عند جماعة من المحققين كما عن العلّامة في «التهذيب» ص ٩٦ والكرخي وأبي بكر الرّازي والفخري ، ووافقهم الشيخ البهائي كما في «الزبدة» ص ١١٣ ومن تبعه ، خلافا للشهيد في «التمهيد» ص ١٢١ والحاجبيين ، وذكر في «التمهيد» في القاعدة ٣١ ، الأقوال في المقام.

(٢) النور : ٦٣.

(٣) الاعراف : ١٢.

(٤) «من لا يحضره الفقيه» : ١ / ٣٤ الحديث ١٢٣ ، «الوسائل» : ٢ / ١٧ الحديث ١٣٤٦.

(٥) «صحيح البخاري» : ٧ / ٦٢ ، «سنن ابن ماجة» : ١ / ٦٧١ الحديث ٢٠٧٥ ، «الذريعة» : ١ / ٥٨.

١٦٦

واحتج (١) من قال بعدم إفادة لفظ الأمر الوجوب : بتقسيم الأمر الى الواجب والنّدب. وهو لا يستلزم كونه (٢) حقيقة فيهما ، إذ لو أريد أنّ الأمر الحقيقي ينقسم ، فهو غير مسلّم ، وإن أريد الأعمّ ، فلا ينفع ، مع أنّه ينقسم الى ما ليس بحقيقة فيه اتّفاقا ، كالتسخير والتعجيز ونحوهما (٣).

وكذلك الكلام في قولهم : إنّ المندوب طاعة ، والطاعة فعل المأمور به ، فإنّ الطاعة إمّا فعل المأمور به الحقيقي أو فعل المندوب ، لا فعل المأمور به الحقيقي فقط ، وإن أريد الأعمّ من المأمور به الحقيقي ، فلا يجديهم نفعا.

ولمّا كان العالي قد يطلب الشيء ولكن لا على سبيل الاستعلاء ، كالمندوب ، فإنّه إرشاد وهداية ، ولا يلزم فيه اعتبار الاستعلاء ، فلا بدّ أن يميّز بين أقسام طلبه بالتميّز بين الألفاظ التي يطلب بها حتّى يعلم أيّها أمر وأيّها ندب وإرشاد.

وقد ظهر لك ، أنّ الطلب إذا كان بما يشتقّ من أصل الأمر كقوله : آمرك بكذا ، أو أنت مأمور بكذا ، ونحو ذلك ، يفيد الوجوب وهو أمر حقيقة.

وأما إذا كان الطلب من العالي بغير ما يشتقّ من لفظ الأمر ، كالصّيغ الموضوعة للطّلب مثل : افعل وأخواته (٤) ، ورويد وأخواته (٥) ، فهو الذي جعله الأصوليّون

__________________

(١) أولى الحجّتين للحاجبيين وأشار إليه الآمدي أيضا.

(٢) أي كون التقسيم المذكور أو الاحتجاج المذكور.

(٣) كالارشاد وغيره وهي وان كانت من معاني افعل ، إلّا ان افعل أيضا من جملة مصاديق لفظ الأمر.

(٤) والمراد بأخواته شيئان : أحدهما : الأمر بالصيغة من سائر المباني المجرّدة ثلاثية ورباعية ، وكذلك المزيدة. وثانيهما : الأمر الغائب سواء كان معلوما أو مجهولا.

(٥) يحتمل أن يكون المراد من أخواته هو أسماء الأفعال القياسية كنزال مثلا لكون نفس ـ

١٦٧

أصلا على حدة ، ومحلّ نزاع برأسه.

فنزاعهم في دلالة هذه الألفاظ على الوجوب يتصوّر على صور :

إحداها : أنّ العالي إذا طلب شيئا بهذا اللّفظ ، هل يفهم منه الإلزام والحتم الذي يستلزم مخالفته الذّم والعقاب اللّذين هما لازم مخالفة السّافل للعالي حين الإلزام حتى يثبت خلافه فيكون حقيقة في ذلك ، أو مطلق الرّجحان ، أو غير ذلك؟

وثانيتها : أنّ هذه الألفاظ مع قطع النظر عن القائل والقرينة ، هل تفيد الإلزام والحتم أم لا ، مثل أن يسمع لفظ : افعل ، من قائل من وراء الجدار ولم يعرف حال المتكلّم والمخاطب ، فهل يفهم منه الإلزام ، ثم يعرف الذّمّ واللّوم على التّرك وعدمهما بعد معرفة حالهما أم لا؟

وثالثتها : الصّورة بحالها ، ولكنّه [لكنّها] هل يفهم منه [منها] الإلزام من العالي المستحقّ تاركه اللّوم والعقاب أو لا؟

وبعبارة اخرى : هل يفهم منها أنّ القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب أم لا؟

ومرجع الأولى الى الثانية ، إذ الّذي ظهر من الصّيغة هو مجرّد الحتم والإلزام ، وحصول الذّم والعقاب على الترك إنّما هو من لوازم خصوص المقام.

وعلى هذا فيمكن إجراء النّزاع في الصّيغة إذا صدرت عن السّافل والمساوي أيضا ، فإنّ طلبهما أيضا قد يكون على سبيل الحتم واللّزوم ، وقد يكون غير ذلك من المعاني.

__________________

ـ رويد من السماعية أو يكون المراد منها غير رويد من أسماء أفعال ، سواء كان قياسيا أو سماعيا نحو صه وحيهل ونحوهما.

١٦٨

وعلى هذا فما استدلّ به بعض القائلين (١) بكونها حقيقة في النّدب ، من أنّ الفرق بين الأمر والسّؤال ليس إلّا تفاوت رتبة الطالب ، فالوجوب شيء زائد ، والسّؤال إنّما يدلّ على الندب ، فكذا الأمر (٢).

فجوابه التحقيقي بعد منع اختصاص الفرق بذلك لما عرفت (٣) ، ثمّ تسليمه هو : أنّ النزاع إنّما هو في الصّيغة ، والقائل بكونها للوجوب يقول به في السّؤال أيضا ، يعني به الحتم والإلزام ، غاية الأمر أنّ حصول الذمّ والعقاب ثمّة يحصل بالترك بخصوص المقام دون ما نحن فيه.

والحاصل ، أنّ صيغة افعل مع قطع النّظر عن القرائن ، تفيد الوجوب اللّغوي ، وبضميمة المقام يتمّ الوجوب الاصطلاحي ، وهذا هو مراد القائل بكونها حقيقة في الوجوب.

نعم ، يمكن الفرق بين الصّورتين الأوليين بإمكان المناقشة في الصّورة الأولى ،

__________________

(١) إنّما أتى بكلمة البعض لأنّ منهم من اكتفى بحديث الاستطاعة حاملا لها على المشيّة لا على القدرة ، ومن هذا البعض القائلين بالندب كأبي هاشم من العامة ومن وافقه كما في «شرح العضد» : ١ / ١٩١ و «شرح المختصر» : ٢ / ٧٩ ، وعن أبي علي أيضا كما في «الذريعة» : ١ / ٥١ ، وقد ذهب إليه كثير من المعتزلة وجماعة من الفقهاء ، ومنهم من نقله عن الشافعي كما ذكر الغزالي في «المستصفى» : ١ / ٢٥٨ ، وقد صرّح الشافعي في كتابه «أحكام القرآن» بتردّد الأمر بين الندب والوجوب وقال : إنّما أوجبنا تزويج الأيم لقوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) البقرة : ٢٣٢. وقال : لم يتبيّن لي وجوب إنكاح العبد لأنّه لم يرد فيه النهي عن العضل ، بل لم يرد إلّا قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) النور : ٣٢. فهذا أمر وهو محتمل للوجوب والندب ويبدو أنّ إحدى النسبة للشافعي لأحد قوليه.

(٢) «المحصول» : ١ / ٢٣٥ ، «منهاج الاصول» : ٧٥.

(٣) قد عرفت في تعريف الأمر بطلب الفعل بالقول استعلاء من العالي ، أنّه يعتبر فيه مع علو القائل ، صدور الطلب من استعلاء ، ولا يعتبر شيء من ذلك في السّؤال.

١٦٩

بأنّ الدّلالة على الإلزام لعلّه يكون من جهة أنّه صدر عن العالي ، فلا يتمّ القول بالدّلالة على الإلزام لغة في السّؤال أيضا.

ولا يظهر من ذلك حال الصّيغة إذا صدرت عن السّائل أنّها حقيقة فيه أو مجاز ، فاستدلالهم في دلالة الصيغة على الوجوب بذمّ العقلاء على الترك إذا قال السيّد لعبده : افعل ، ولم يفعل ـ كما سيجيء ـ ليس على ما ينبغي. اللهمّ إلّا أن يجعل النزاع في خصوص الصيغة إذا صدرت عن العالي ، وهو لا يلائم الجواب المذكور عن دليل القائل بالنّدب أيضا.

وأمّا على الصّورة الثالثة ، فلا يرد السّؤال المتقدّم أصلا ولا يتمشّى الجواب المتقدّم قطعا ، كما لا يخفى.

والفرق بين الصّورتين ، هو أنّ حصول الذّم والعقاب خارج عن مدلول اللّفظ في الصّورة الاولى ، وداخل فيه في الصّورة الأخيرة ، فلا بدّ أن يكون افعل ـ مثلا ـ حقيقة في كلّ من الأمر والسّؤال ، والالتماس إذا أراد كلّ منهم اللّزوم والحتم على الصّورة الأولى ، وحقيقة في الأمر فقط على الصّورة الأخيرة ، فيكون استعماله في الالتماس والسّؤال مجازا.

والذي يترجّح في النّظر القاصر هو الصّورة الأخيرة ، وإن لم يساعدها تحرير محلّ النزاع في كلام كثير منهم.

واعلم أنّ ما ذكرناه من الصّور الثلاث يجري في لفظ (أم ر) أيضا ، والكلام فيه الكلام في الصيغة بعينه.

ويظهر الثمرة في كون هذا اللّفظ من الملتمس والسّائل مجازا أو حقيقة أيضا.

وعليك بالتأمّل فيما ذكرنا والتحفّظ به ، فإنّ كلام القوم هاهنا مشوّش فربّما وقع الاشتباه بين المادّة والصّيغة ، وربّما حصل الخلط وعدم التميّز بين الصّور المتقدّمة ، والله الهادي.

١٧٠

قانون

اختلف الاصوليّون في صيغة افعل وما في معناه على أقوال (١) :

المشهور بين الاصوليين أنّه حقيقة في الوجوب لغة. وذهب جماعة (٢) : الى أنّها حقيقة في النّدب ، وقيل : بالاشتراك (٣) بينهما معنى. وعلم الهدى رحمه‌الله ، بالاشتراك بينهما لفظا لغة ، وبكونها حقيقة في الوجوب في عرف الشّارع (٤). و : توقّف بعضهم في الوجوب والندب (٥). وقيل : بالاشتراك بينهما والإباحة لفظا (٦) ، وقيل : معنى. وهاهنا مذاهب أخر ضعيفة(٧).

__________________

(١) نقل بعضهم انّ الأقوال وصلت الى سبعة عشر ، ولكن المذكور في المصنّفات عشرة ، وهي السّبعة المذكورة في المتن. والقول باشتراكها لفظا بين الوجوب والندب مطلقا لغة وشرعا. والقول بأنّها مشتركة فيها ، والاباحة والتهديد ، والقول بأنّها حقيقة في الطلب لغة وفي الوجوب فقط شرعا. واقتصر على ذكر ثمانية في «المعالم» ص ١١٦.

(٢) الى هذا ذهب جماعة من الفقهاء والمتكلّمين وكذا الشافعي وأبي هاشم كما في «شرح العضد» : ١ / ١٩١ نقل عنه ، ونقل أيضا ما يفضي الى القول الآخر.

(٣) منّا جماعة كالعلّامة في «البداية» : ص ٩٣ و «النهاية» : ١ / ٤٠٢ وتلميذه في «المنية» والتوني في «الوافية» : ص ٦٨ ، ومنهم جماعة كما صرّح في «النهاية».

(٤) «الذريعة» : ١ / ٥٣.

(٥) وهو المحكي عن الأشعري والقاضي أبي بكر كما في «المنخول» : ص ١٠٥ ، و «شرح العضد» : ص ١ / ١٩٢ ، والآمدي حيث قال : (وهو الأصح) «الإحكام» : ٢ / ٣٦٩ ، والغزالي وغيرهم.

(٦) حكاه الاسنوي دون أن يسمّي قائله : «التمهيد» : ٢٦٨.

(٧) كالقول بوضعها للإباحة خاصة ، والقول بالاشتراك اللّفظي بين الأحكام الخمسة على ما نقل وغيرهما.

١٧١

والأقرب (١) الأوّل للتبادر عرفا ، ويثبت في اللغة والشّرع بضميمة أصالة عدم النّقل.

لا يقال : أنّا لا نفهم (٢) من الصيغة غير طلب الفعل ، ولا يخطر ببالنا التّرك فضلا عن المنع منه ، فإنّ معنى الوجوب وغيره ، أمر بسيط إجمالي ، وهو الطّلب الحتميّ الخاص (٣) ، ولكنّه ينحلّ عند العقل بأجزاء ، كسائر الماهيّات المركّبة ، كالإنسان والفرس وغيرهما.

فهذا الطّلب البسيط الإجمالي الخاصّ إذا تحلّل عند العقل ، ينحلّ الى طلب الفعل مع المنع من التّرك ، فانظر الى العرف ، ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : افعل كذا ، فلم يفعل ، عدّ عاصيا وذمّه العقلاء للترك (٤) ، وإن لم يكن هناك قرينة تدلّ على الوجوب.

وما يتوهّم من منافاة ذلك (٥) لاستعمال الشّارع إيّاها متعلّقا بأمور كثيرة ،

__________________

(١) الى الاعتبار او الى القواعد او الى الذهن.

(٢) وهذا الاشكال هو صريح عبارة «الوافية» : ص ٦٨ ، ذكره في مقام الاحتجاج على مختاره من وضع اللّفظ بإزاء القدر المشترك.

(٣) القيد إمّا توضيحي أو احترازي ، بأن يكون غرضه من الوجوب هو الشرعي ، أعني ما يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب ، فيكون القيد مخرجا للوجوب اللّغوي ، أعني عدم الرّضا بالترك أو بالعكس.

(٤) وقد ذكر في «الذريعة» : ص ٥٥ إلى أنّ من ذهب إلى وجوب الأمر بطريق اعتباريّة وطرق سمعية وهي على ضربين قرآنية وأخباريّة ، فأما الطريق الاعتبارية فأوّلها قولهم : السيّد إذا أمر غلامه ... الخ كالمثال المذكور في المتن. وهذا المثال قد ذكر مثله في «المعارج» : ص ٦٤ و «الوافية» : ص ٧٠ ، و «المعالم» : ص ١١٩.

(٥) وهذا من جملة أدلّة «الوافية» على الوضع للطلب راجعه هناك ص ٦٩ ، وقد أخذه المصنف معرضا لتوهم منافاته لدليل المختار ، ثم دفعه.

١٧٢

بعضها واجب وبعضها مندوب ، مثل قوله : اغتسل للجمعة وللزيارة وللجنابة ولمسّ الميّت وغير ذلك.

مدفوع : بأنّه لا يتصوّر في ذلك قبح إلّا لزوم تأخير البيان عن وقت الخطاب ، سيّما فيما له ظاهر ، وقبحه ممنوع. وكون ذلك في كلّ المواضع موضع الحاجة ، سيّما موضع معرفة الوجه واعتقاد أنّ هذا واجب وذلك مندوب ، أيضا غير ظاهر.

والحاصل ، أنّ الدّليل قام على تعيين الحقيقة ، ولا مانع من استعماله في المعنى المجازي وهو عموم المجاز بقرينة من خارج ، ولا يجب وجود القرينة في اللّفظ ، وكذلك استعمال الصّيغة في المندوبات فقط بدون قرينة في اللّفظ.

وقد استدلّ أيضا : بآيات منها قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ)(١) الخ. هدّد سبحانه مخالف الأمر وحذّره من العذاب ، وهو يفيد الوجوب. وما ذكرنا هو مدلول السّياق لا صيغة ليحذر ليستلزم الدّور. والمصدر المضاف (٢) يفيد العموم حيث لا عهد ، فلا يرد أنّ الأمر لا عموم فيه ، والعموم الأفرادي لا المجموعي (٣) ليرد النّقض بترك مجموع المندوبات لكونه معصية وكلّ واحد منها على البدليّة لا السّالبيّة الكلّيّة (٤) ، بمعنى : لا يأتون بشيء من أوامره ليرتفع بالموجبة الجزئية فيلزم عدم العقاب على بعضها ، والأولى أن يقال : المراد بالأمر ، الطبيعة الكلّيّة ، وهو مستلزم للعموم لوجودها في ضمن كلّ فرد.

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) وهذا جواب على الايراد الثاني الوارد في المقام ، ويتبعه أيضا إيرادات خمسة ، تلاحظها من سياق الكلام.

(٣) وهذا جواب على الايراد الثالث الوارد في المقام.

(٤) وهو الايراد الرابع.

١٧٣

وكيف كان (١) ، فهذه الآية إنّما تدلّ على وجوب الأمر الشّرعي لا الوجوب لغة ، وأيضا لا تدل (٢) على دلالة الصّيغة على الوجوب ، بل الأمر.

وما قيل (٣) : من أنّ الأمر حقيقة في الصّيغة المخصوصة ، والتّهديد على مخالفة ما صدق عليه الأمر من الصّيغ.

ففيه ما لا يخفى ، إذ الأمر إنّما يسلم صدقه على الصّيغة إذا كان الطّلب بها على سبيل الاستعلاء المستلزم للوجوب.

وأمّا إذا أريد منها مجرّد الندب أو الإرشاد أو الأذن أو غير ذلك ، فلا يصدق عليه أنّه أمر.

والحاصل ، أنّ قولهم في تعريف الأمر مطابقا لمعناه العرفيّ طلب بالقول على سبيل الاستعلاء ، أو طلب بالقول من العالي ، يعتبرون في ذلك حيثية العلوّ سيّما في التعريف الأوّل ، وهو مستلزم للوجوب عرفا ، ولا ريب أنّ صيغة افعل الصادرة عن العالي ليس يعتبر فيها الاستعلاء في جميع موارد استعمالها ، فكيف يقال باستلزام دلالة الأمر على الوجود ، دلالة الصّيغة المطلقة عليه حتّى يجدي في المواضع الخالية عن القرينة التي هي محطّ نظر الاصولي.

وأيضا فعلى هذا فلا معنى للنّزاع في دلالة صيغة افعل على الوجوب ، ويكفي في ثبوت ذلك إثبات دلالة لفظ الأمر عليه ، وهو كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه كلمة الأصوليّين.

__________________

(١) هذا خامس الايرادات على الدّليل بمنع كلية الكبرى.

(٢) هذا سادس الايرادات.

(٣) أي في دفع الايراد المذكور ، والقائل به هو الفاضل الجواد ، كما في «شرح الزبدة».

١٧٤

ـ والتحقيق ـ أنّ لفظ الأمر حقيقة في الطّلب الاستعلائي على سبيل الوجوب ، وهو المتبادر منه عرفا ، وصيغة افعل كثيرا ما تستعمل في غير هذا المعنى ، فكون الأمر حقيقة في الوجوب لا يستلزم كون افعل حقيقة فيه ، ولذلك أفردوا البحث في كلّ منهما. فما اخترناه من كون الصّيغة للوجوب إنّما هو للتبادر في الصّيغة لا من أجل كونها مصداقا للأمر ، وإن كنّا نقول بكون الأمر أيضا حقيقة في الوجوب ، لما دللنا عليه سابقا. وممّا ينادي بذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك» (١). فإنّ طلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسّواك بصيغة افعل في غاية الكثرة.

وأمّا ما يقال : إنّه لا بدّ من تضمين (٢) الإعراض ونحوه ليكون متعلّقا بكلمة المجاوزة ، فهذا لا يدلّ إلّا على التهديد على المخالفة على سبيل الإعراض والتولّي ، وهو يتمّ إذا كان الأمر للندب أيضا.

ففيه : أنّ ذلك ليس إلّا من جهة صحّة التركيب النحوي ، ولا يشترط في ذلك اعتبار التولّي كما لا يخفى ، ومنها قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(٣). فإنّ الاستفهام إنكاريّ لاستحالته على الله (٤) ، وهو يفيد التهديد ، والتهديد لا يجوز إلّا على ترك الواجب ، وهذه الآية أيضا لا تدلّ إلّا على دلالة الأمر على الوجوب ، بل وخصوص أمر الشّارع ، إلّا أن يقال : المراد به قوله تعالى : (اسْجُدُوا) قبل هذا ، وإنّ المتبادر من التعليل هو كون العلّة مخالفة الأمر من حيث إنّه أمر ، لا من حيث هو أمره تعالى ، فتأمّل.

__________________

(١) «الوسائل» ابواب السواك كتاب الطهارة باب ٣ ح ١٣٤٦.

(٢) هنا اشارة الى سابع الايرادات.

(٣) الاعراف : ١٢.

(٤) ردّه صاحب «هداية المسترشدين» : ١ / ٦١٣.

١٧٥

وما يتوهّم (١) من أنّ التهديد لعلّه من جهة اكتناف الصّيغة بقرينة حاليّة تدلّ على الوجوب لا من جهة دلالة نفس الصيغة ، يدفعه أصالة عدمه.

لا يقال : أنّ هذا إنّما يتمّ لو ثبت اتّحاد عرفنا مع عرف الملائكة ، لأنّ حكاية أحوال كلّ أهل لسان الآخرين إنّما تصحّ من الحكيم إذا تكلّم بما يفيد المطلب من لسان الآخرين ويستعمل حقيقتهم في حقيقتهم ومجازهم في مجازهم وهو ظاهر.

وما يقال أيضا : إنّ الاستفهام تقريريّ لإتمام الحجّة ، فالغرض إقرار إبليس باستكباره ، وإنّ المخالفة إنّما كانت من جهة الاستكبار حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)(٢) وهذا يتمّ إذا كان الأمر للندب أيضا.

ففيه (٣) : أنّ الاستكبار من إبليس لعنه الله ليس على الله ، بل على آدم عليه‌السلام فيرجع بالنسبة الى الله الى محض المخالفة التبعيّة الغير المقصودة بالذّات ، المتولّدة من المخالفة الحاصلة من الحميّة والعصبيّة ، وهذه شيء ربّما يعدّ من تبعها نفسه في عداد المقصّرين فافهم.

ومنها : قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ)(٤) ذمّهم سبحانه على مخالفة الأمر. واحتمال كون الذّم على ترك الأمر مشاقّة وتكذيبا خلاف الظاهر ، وقوله تعالى بعد ذلك : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ)(٥) الخ. لا يدلّ على ذلك ، لجواز ذمّهم على

__________________

(١) وقد ذكر في «المعالم» ص ١٢٥ على نحو الاعتراض.

(٢) الاعراف : ١٢ ، ص : ٧٦.

(٣) وفيه ردّ على المصنّف في «هداية المسترشدين» : ١ / ٦١٣ وفي «الفصول» : ص ٦٦.

(٤) المرسلات : ٤٨.

(٥) المرسلات : ٤٩.

١٧٦

الجهتين إن كانوا هم المكذّبين ، واختصاص الذمّ بهم والويل للمكذّبين إن كانوا غيرهم ، واحتمال ثبوت القرينة على الوجوب ينفيه الأصل.

واحتجّ من قال بكونها حقيقة في النّدب : بما مرّ في القانون السّابق (١) ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» (٢). فإنّ الردّ الى مشيّتنا يفيد الندب.

وفيه : أنّ الاستطاعة غير المشيّة ، بل لعلّ ذلك يفيد الوجوب ، مع أنّ بيان المعنى يشعر بعدم كونها حقيقة في النّدب ، وإلّا لما احتاج الى البيان ، ولو سلّم جميع ذلك فإنّما يدلّ على أنّ أمر الشارع كذلك ، لا لأنّ الأمر في اللّغة كذا.

والكلام في عدم دلالته على حكم الصّيغة نظير ما مرّ (٣).

حجّة القول بكونها حقيقة في الطّلب مضافا الى ما مرّ (٤) في أوائل القانون مع جوابه (٥) : أنّ الحقيقة الواحدة خير من الاشتراك والمجاز ، لو قيل بوضعها لكلّ منهما على حدة أو لأحدهما فقط.

وجوابه : أنّ المصير الى المجاز في الندب لدلالة الدّليل الذي قدّمناه ، وإنّه خير من

__________________

(١) من الاستدلالين والاتحاد مع السؤال بأنّه لا فرق بين الأمر والسؤال إلّا تفاوت الرتبة والسّؤال للندب فكذا الأمر.

(٢) بحار الانوار : ٢٢ / ٣١.

(٣) كما في آية فليحذر في ردّ الشارح الجواد من أنّ الظاهر هو مادة الأمر وليس صيغته ، وكون كل صيغة مصداق المادة مردود كما مرّ سابقا.

(٤) في أوّل القانون ، يعني الوجهين الّذين أوردهما في طي التمسّك بالتبادر للقول المشهور ، وهو كونه حقيقة في الوجوب ، أحدهما قوله : لا يقال إنّا لا نفهم من الصيغة غير الطلب. وثانيهما قوله : وما يتوهم من منافاة ذلك ... الخ.

(٥) راجع «المعالم» ص ١٢٩ في القدر المشترك.

١٧٧

الاشتراك بينه وبين الوجوب ، مع أنّ المجاز لازم على ما ذكروا أيضا إذا استعمل في كلّ من المعنيين بقيد الخصوصيّة ، مع أنّ لزوم المجاز حينئذ أكثر ، لأنّ المجاز على المختار مختصّ بالندب إلّا أن يقال بالتساوي من جهة الاستعمال في عموم المجاز على المختار أيضا ، وهو مجاز شائع لا شذوذ له كما توهّمه صاحب «المعالم» (١).

حجّة الاشتراك اللّفظي بينهما لغة : الاستعمال فيهما ، والأصل فيه الحقيقة ، وقد عرفت أنّ الاستعمال أعمّ منها ، ونحن قد دللنا على كونها حقيقة في الوجوب فقط.

وحجّة الدّلالة على الوجوب شرعا : احتجاج بعض الصّحابة على بعض في المسائل بالأوامر المطلقة من غير نكير ، وإجماع الإماميّة على ذلك (٢).

والأوّل مدفوع : بأنّ الظاهر أنّ استدلالاتهم من جهة دلالته لغة والأصل عدم طروّ وضع جديد ، والإجماع لو سلّم ، فلا ينفي كونها حقيقة فيه في اللّغة أيضا.

وقد يستدلّ على ذلك (٣) : ببعض الآيات والأخبار مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(٤). فإنّ امتثال الأمر طاعة ، وترك الطاعة عصيان.

وفيه : منع كليّة الكبرى (٥) ، مع أنّه لو تمّ ذلك لتمّ في الدلالة عليه لغة أيضا ، ولا اختصاص لذلك بالشّرع ، إذ الواجب ليس إلّا ما يعدّ تاركه عاصيا. ومثل قوله

__________________

(١) ص ١٣٢ حيث قال : إنّ الاستعمال في القدر المشترك إن وقع فعلى غاية الندرة والشّذوذ.

(٢) اجماع الاماميّة على دلالة الأمر على الوجوب شرعا.

(٣) كما فعل في «الوافية» ص ٧١.

(٤) الجن : ٢٣.

(٥) لصدق السّالبة الجزئية التي هي نقيضها ، أعني بعض ترك الطاعة ليس بعصيان كالمندوب ، وصغرى القياس هو التخلّف عن الأمر هو ترك الطاعة.

١٧٨

تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(١). مضافا الى الآيات الدّالة على مذمّة من لم يطعهم ، مثل : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٢). ومثل الأخبار الدّالة على وجوب إطاعة الأئمّة عليهم‌السلام ، وأنّ إطاعتهم مفترضة وهي كثيرة.

وفيه : أنّ الطّاعة هو الانقياد للأمر والإذعان بما يحكم ، إن واجبا فواجب ، وإن ندبا فندب.

والحاصل ، أنّا لا نسلّم دلالة هذه الآيات والأخبار إلّا على عدم جواز المخالفة ، وهو لا يستلزم إيجاب جميع ما طلبوا بصيغة افعل وما في معناها ، مع أنّ الظاهر أنّ المراد من الأخبار أنّهم عليهم‌السلام أحقّ بالاتّباع من الجبت والطاغوت وأشياعهما كما قيل ، والاتّباع أعمّ من المدّعى كما لا يخفى.

حجّة التوقّف (٣) : عدم ثبوت كونها حقيقة في شيء ، لأنّ الطريق منحصر في النقل ، والآحاد منه لا يفيد العلم ، والمتواتر منه مفقود ، لأنّ العادة تقضي بالاطّلاع لمن يبحث ويجتهد ، وليس ، فليس.

والجواب : منع اشتراط العلم أوّلا ، بل يكفي الظنّ. ومنع الانحصار ثانيا لثبوته بما ذكرنا من الأدلّة.

ويظهر حجّة الباقين (٤) ، بملاحظة ما ذكرنا ، وكذا جوابه.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) كما في «المعالم» : ص ١٣٧.

(٤) كالقائلين في الاشتراك اللفظي بين ثلاثة أشياء ، وبالقدر المشترك بين الثلاثة ، وأنّها مشتركة بين الأمور الأربعة.

١٧٩

تنبيه

قال في «المعالم» (١) : يستفاد من تتبّع تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، أنّ استعمال صيغة الأمر في النّدب كان شائعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به عنهم (٢) ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، كصاحب «الذخيرة» (٣).

ويرد عليه : أنّ هذا إنّما يصحّ إذا ثبت استعمالهم في الندب بلا قرينة حالية أو لفظيّة ، ونفهم إرادة النّدب من دليل آخر ولم يثبت.

وأيضا قد عرفت أنّ المجاز الرّاجح رجحانه إنّما هو مع قطع النّظر عن الوضع ، وأمّا معه فمساواته مع الحقيقة ممنوع إلّا إذا غلب في المجاز ، بحيث يصير وضعا جديدا ، فيصير حقيقة في المعنى الثاني ، وأنّى له بإثباته فيما نحن فيه ، مع أنّه لم يدّعه أيضا.

والحاصل ، أنّ مجرّد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب الخروج عن الحقيقة وإن كان الاستعمال في غاية الكثرة ، بل وأكثر من استعماله في الحقيقة

__________________

(١) في بحث الأوامر تحت عنوان فائدة ص ١٤٠. وقد علّق الوحيد على هذا بقوله : وفيه نظر ، لأنّ الأصل البقاء على المعنى اللّغوي حتّى يثبت خلافه وبمجرّد كثرة الاستعمال لا يثبت. كما في «الفوائد» ص ١٥٨.

(٢) في نسخة «المعالم» منهم عليهم‌السلام.

(٣) ومن المواضع التي سلك فيها هذا المسلك في بحثه في وجوب غسل المسّ حكي عنه في «الحدائق» : ١ / ١١٥ ، وطعن عليه أشدّ الطعن.

١٨٠