القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

بعموم الاشتراك ، والظاهر أنّه لا إشكال كما أنّه لا خلاف في جواز الأخير.

وأمّا الأوّل فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم الجواز ، أمّا حقيقة فظاهر ، وأمّا مجازا فلاشتراط استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، بكون الجزء ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه مع اشتراط كون الكلّ ممّا له تركّب حقيقيّ كما مرّت إليه الإشارة وهو منتف فيما نحن فيه.

وامّا المعنى الثاني ، فهو محلّ النزاع ، فقيل فيه أقوال :

ثالثها : الجواز في التثنية والجمع دون المفرد.

ورابعها : الجواز في النفي دون الإثبات.

ثمّ اختلف المجوّزون على أقوال :

ثالثها : كونه مجازا في المفرد وحقيقة في التثنية والجمع.

والأظهر عندي عدم الجواز مطلقا.

أمّا في المفرد ، فعدم الجواز حقيقة لما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ اللّفظ المفرد موضوع للمعنى حال الانفراد ، والعدول عنه في استعماله فيه في غير حال الانفراد ليس استعمالا فيما وضع له حقيقة.

وأمّا عدم الجواز مجازا فلما عرفت في المقدمة الثالثة ، من عدم ثبوت الرّخصة في هذا النوع من الاستعمال ، فلو ثبت إرادة أكثر من معنى ، فلا بدّ من حمله على معنى مجازيّ عامّ يشمل جميع المعاني.

وأمّا ما ذكره بعضهم (١) من أنّ العلاقة فيه هو أنّ اللّفظ الموضوع للكلّ ـ وهو

__________________

(١) كصاحب «المعالم» في مبحث المشترك في الجواز مطلقا ص ٩٩ دفعا لما يمكن أن يقال من أنّ العلاقة موجودة فلم نحكم بعدم ثبوت الرخصة لفقدانها.

١٤١

كلّ واحد من المعاني مع الوحدة المعتبرة في الموضوع له ـ قد استعمل في المعنى بإسقاط قيد الوحدة وهو جزء الموضوع له ، فيظهر ما فيه ممّا ذكرنا في المقدّمات ، مع أنّ ذلك يستلزم وجود سبعين مجازا في استعمال واحد في مثل العين بالنسبة الى سبعين حقيقة ، وهو أجنبيّ بالنسبة الى موارد استعمالات العرب.

وأمّا في التثنية والجمع حقيقة ، فلما عرفت في المقدّمة الرابعة من أنّهما حقيقتان في فردين أو أفراد من ماهيّة ، لا في الشّيئين المتّفقين في اللّفظ والأشياء كذلك ، وللزوم الاشتراك وتكثّر الاحتياج الى القرائن لو كان كذلك ، والمجاز خير من الاشتراك.

وأمّا مجازا ، فلعدم ثبوت الرّخصة في هذا المجاز ، فإنّ الظاهر أنّ المجاز في التثنية والجمع إنّما يرجع الى ما لحقه علامتهما ، لا الى العلامة والملحق به معا ، فإنّ الألف والنّون ونحوهما لا يتفاوت فيهما الحال في حال من الأحوال ، فإنّ لفظ عينان أو عينين مثلا يراد به الشيئان ، سواء أردت منهما الفردين من عين أو شيئين مسمّيين بالعين ، إنّما التفاوت في لفظ العين ، فيراد (١) في أحد الاستعمالين منهما [منها] ، أعني الاستعمال الحقيقيّ الماهيّة المعيّنة الواحدة ، ويشار بالألف والنّون ونحوهما الى الفردين منها أو أكثر ، وفي الاستعمال الآخر لا يمكن إرادة كلّ واحد ، بأن يكون مجازا مرسلا من باب استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، فلا بدّ أن يراد منها المسمّى بالعين ليكون كليّا له أفراد ، فيشار بالألف والنون حينئذ الى الفردين من المسمّى بالعين أو أكثر ، وهذا واضح ممّا ذكرنا ، وهذا المجاز خارج عن المتنازع ويكون من قبيل عموم الاشتراك.

__________________

(١) من لفظ المفرد في ضمن التثنية.

١٤٢

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مدلول العلامات ليس مجرّد الإشارة الى الاثنينيّة أو التعدّد ، بل الاثنينيّة الخاصّة والتعدّد الخاصّ ، أعني ما يراد بها اثنان من ماهيّة أو أفراد منها ، فيكون التثنية والجمع مستندا بوضع على حدة ، فيمكن حينئذ القول بالتجوّز في هذا اللّفظ بأجمعه فيستعمل اللّفظ الموضوع لإفادة الفردين من ماهيّة ، أو الأفراد من ماهيّة في شيئين متّفقين في الإسم لا لكونهما فردين من المسمّى بهذا الإسم ، بل لكونهما مشابهين لفردين من ماهيّة معيّنة ، وعلاقة المشابهة اشتراكهما في الإسم وصدق الإسم عليهما لفظا وإن لم يرتبطا معنى.

والحاصل ، تشبيه الاشتراك اللّفظي بالمعنوي ، فيكون استعارة ، إلّا أنّ ذلك لا يثمر فائدة بعد تجويز إرادة الفردين من المسمّى بالعين مجازا. وذلك لأنّ ثمرة النّزاع في استعمال اللّفظ حقيقة ومجازا يحصل بذلك المجاز ، فإذا علم بالقرينة عدم إرادة المعنى الحقيقي ، فيصحّ الحمل على هذا المجازي ـ أعني عموم الاشتراك ـ فثبوت المجاز الآخر الذي هو داخل في محلّ النّزاع غير معلوم ، وعدم الثبوت يكفي في ثبوت العدم ، غاية الأمر جوازه ، وهو لا يفيد وقوعه ؛ فتأمّل ، مع أنّ المجاز الأوّل أقرب وأشيع فهو أولى بالإرادة.

لا يقال : يمكن القول بوجود ثمرة ضعيفة حينئذ ، نظير الثمرة الحاصلة في الفرق بين قول المعتزلة والأشاعرة في الواجب التخييري (١) ، لأنّ مورد الحكم هنا

__________________

(١) انّ المعتزلة والأشاعرة بعد اتفاقهم على جواز الأمر بشيء أو أشياء على سبيل التخيير ، اختلفوا في انّ الواجب حينئذ هو كل واحد من الأفراد أو أحد الأبدال ، أعني المفهوم المنتزع منها ، والمعتزلة على الأوّل والأشاعرة على الثاني ، والمصنف قد ذكر في قانون الواجب التخيري انّ الثمرة بينهما إنّما تظهر في اتصاف الافراد بالوجوب الشرعي على الأوّل دون الثاني ، فإنّ الواجب شرعا على الثاني.

١٤٣

الفردان على التقديرين ، لا الطبيعة كما لا يخفى على المتأمّل ، فتأمّل. ولم أقف على من ذهب الى المذهب الذي ذكرته في مجازيّة التثنية والجمع من كونه من باب الاستعارة.

وأمّا في النّفي فيظهر الكلام فيه ممّا مرّ ، وأنّه (١) حقيقة في نفي جميع أفراد ماهية واحدة ، وأنّ التجوّز فيه إنّما يكون بإرادة فرد من أفراد المسمّى بالعين مثلا ، فيكون خارجا عن المتنازع ، ويجري التكلّف الذي ذكرته في التثنية والجمع من اعتبار الاستعارة.

ثمّ إنّ بعض (٢) من جوّز استعمال المشترك في أكثر من معنى حقيقة ، أفرط في القول حتّى قال : إنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن (٣) ، فلا إجمال عنده في المشترك عند التجرّد عن القرينة.

واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ)(٤) و : (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(٥). فإنّ الصلاة من الله الرّحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، والسّجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، ومن غيرهم على نهج آخر.

__________________

(١) عطف تفسير للكلام.

(٢) المراد بهذا البعض كالشافعي والقاضي وابن الحاجب من المتأخّرين وتبعهما جماعة من الجماعة وعندنا ما مرّ عليك في الهامش الأوّل من هذا القانون.

(٣) نقله في «المعالم» ص ١٨٧ وفي نسخة ١٠٦.

(٤) الاحزاب : ٥٦.

(٥) الحج : ١٨.

١٤٤

وأجيب عن ذلك بوجوه (١) :

الأوّل : منع ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فالمراد هو المعنى اللّغوي ، أعني غاية الخضوع ، أو جعل ذلك من باب عموم الاشتراك لو سلّم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيراد منه غاية الخضوع ، ومن الصلاة الاعتناء بإظهار الشّرف.

والمراد من غاية الخضوع ما يعمّ الخضوع التكليفي والتكويني ، ولهذا لم يذكر في الآية جميع الناس مع ثبوت الخضوع التكويني في الكلّ.

الثاني : أنّ ذلك مجاز لا حقيقة ، وهذا الجواب لا يتمّ على ما اخترناه (٢).

الثالث : أنّه على فرض تسليم كون ذلك حقيقة أيضا لا يتمّ الاستدلال بهما على ظهورهما في إرادة الجميع عند التجرّد عن القرائن ، إذ القرينة على إرادة الجميع هاهنا موجودة.

وأمّا حجج (٣) سائر المذاهب فيظهر بطلانها من ملاحظة ما ذكرنا.

واحتجّ من جوّز الاستعمال حقيقة مطلقا : بأنّ الموضوع له هو كلّ واحد من المعاني لا بشرط الوحدة ولا عدمها ، وهو متحقّق في حال إرادة الواحد والأكثر.

والجواب عنه : أنّ الموضوع له هو كلّ واحد من المعاني في حال الانفراد كما مرّ في المقدّمات.

واحتجّ من جوّز في المفرد مجازا ، وفي التثنية والجمع حقيقة.

أمّا على الجواز في المفرد : فبأنّ المانع منتف لضعف ما تمسّك به المانع كما سيجيء.

__________________

(١) وقد ذكرها في «المعالم» ص ١٨٧ وفي نسخة ١٠٦.

(٢) لانّه الملاحظ من هذا الجواب القول بالجواز ولكن على سبيل المجاز ، واختياره عدم الجواز مطلقا.

(٣) أي الحجج الآتية.

١٤٥

وأمّا على كونه مجازا : فيتبادر الوحدة منه عند الإطلاق ، فيكون الوحدة جزء للموضوع له ، فإذا استعمل فيه عاريا عن الوحدة فيكون مجازا ، لأنّه استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وأمّا على كونه حقيقة في التثنية والجمع : فبأنّهما فى قوّة تكرار المفرد ولا يشترط فيهما الاتّفاق في المعنى ، بل يكفي الاتّفاق في اللّفظ ، كما يقال : زيدان وزيدون (١).

وفيه : أنّ المانع ليس منحصرا فيما تمسّك به المانع ، بل المانع هو أنّ اللّغات توقيفيّة ، والوضع لم يثبت في المفرد إلّا في حال انفراد المعنى في الإرادة كما حقّقنا سابقا.

وأمّا مجازيّته ، فيتوقّف على حصول الرّخصة في نوع هذا المجاز كما أشرنا ، وإن كان ولا بدّ ، فالأولى أن يقال : العلاقة هو استعمال اللّفظ الموضوع للخاصّ في العامّ كما لا يخفى.

وأمّا كونه حقيقة في التثنية والجمع.

ففيه : أنّ المتبادر منهما هو الاتّفاق في المعنى ، كما بيّنّا سابقا.

وحجّة من خصّ المنع بالمفرد دون التثنية والجمع : أنّ التثنية والجمع متعدّدان في التقدير ، فيجوز تعدّد مدلوليهما بخلاف المفرد ، والمدّعى في المفرد حقّ.

والجواب عن التثنية والجمع يظهر ممّا مرّ ، إلّا أن يراد به ما ذكرنا من الاستعارة.

وحجّة من خصّ الجواز بالنّفي : أنّ النّفي يفيد العموم فيتعدّد ، بخلاف الاثبات ، ومدّعاه في المثبت حقّ.

__________________

(١) وهو كلام لصاحب «المعالم» فيه ص ١٧٩ وفي نسخة ٩٩.

١٤٦

وجوابه (١) عن التجويز في النفي : أنّه إنّما يفيد عموم النّفي في أفراد الماهيّة المثبتة ، لا في المشتركات في الإسم كما حقّقناه ، إلّا ان يراد الاستعارة كما أشرنا (٢).

واحتجّ المانع مطلقا : بأنّه لو جاز الاستعمال في المعنيين ، لكان ذلك بطريق الحقيقة ، إذ المراد بالمعنى هو المعنى الحقيقي ، فيلزم التّناقض ، إذ يكون حينئذ له ثلاثة معان : هذا وحده ، وهذا وحده ، وهما معا ، وإرادتهما معا مستلزم لعدم إرادة : هذا وحده وهذا وحده ، وبالعكس ، والمفروض استعماله في المعاني الثلاثة.

واجيب عنه (٣) : بأنّ المراد ليس إرادة المعاني مع بقائه لكلّ واحد منها منفردا ، بل نفس المدلولين مع قطع النظر عن الانفراد ، فيرجع النّزاع الى أنّ ذلك ليس استعمالا في المعنيين ، وهذا مناقشة لفظيّة.

والأولى في الاستدلال على المنع ، ما ذكرنا.

__________________

(١) أي صاحب «المعالم» ص ١٠٥.

(٢) وهو أنّ استعمال اللّفظ الموضوع لعموم النفي في أفراد الماهيّة المثبتة في المشتركات في الاسم وإن لم يكن من ماهيّة واحدة بعلاقة المشابهة التي هي الاتفاق في صدق الاسم كان ذلك من باب الاستعارة كما أشرنا في التثنية والجمع.

(٣) والمجيب هو صاحب «المعالم» فيه ص ١٨٢ وفي نسخة ١٠٢.

١٤٧

قانون

اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي على نهج استعمال المشترك في أكثر من معنى ، بأن يكون كلّ واحد منهما محلّا للحكم وموردا للنفي والإثبات ، فمنهم من منع مطلقا (١) ، ومنهم من جوّز مجازا (٢) ، ومنهم من جعله حقيقة ومجازا بالنسبة الى المعنيين (٣).

والأقوى المنع مطلقا ، لما عرفت في مقدّمات المسألة السّابقة من أنّ وضع الحقائق والمجازات وحدانية نظرا الى التوظيف والتوقيف (٤). فمع القرينة المانعة عن إرادة ما وضعت له وإرادة معنى مجازي لا يمكن إرادة ما وضعت له كما ذكرنا ، بل ولا غيره من المعاني المجازيّة الأخر ، ويتمّ بذلك عدم جواز إرادة المعنيين من اللّفظ.

وقد يستدلّ على ذلك (٥) : بأنّ المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي ،

__________________

(١) وهو اختيار المصنف وذكره في «مدارك الأحكام» : ١١ / ٧٣ ، وحكي عن المحقق في «المعارج» وغيرهما من الأواخر ص ٥٣ في فرعين من مبحث الحقيقة والمجاز.

وهذا المانع هو ثالث بين فريقين أحدهما يمنعه من حيث الامكان عقلا كأبي هاشم والتفتازاني على ما نسب إليهما ، والآخر يمنعه من حيث اللّغة.

(٢) حكي عن العلامة في «النهاية» ، وإليه يؤول رأي صاحب «المعالم» ص ١١٤.

(٣) والى هذا يرجع مآل سلطان العلماء. وقوله بالنسبة الى المعنيين بأن يراد باستعمال واحد إفادة المعنى الحقيقي اعتمادا على وصفه وإفادة المعنى المجازي تعويلا على مناسبة الموضوع له ، فيتّصف بالحقيقة والمجاز بالاعتبارين.

(٤) إذ اللّغات توقيفية كالأحكام الشرعية ، بل الأمر في اللّغات أشدّ ، ولذا لم يقل بالتصويب فيها وإن قيل به في الأحكام.

(٥) ونقله في «المعالم ص ١٠٩ ، وذكر وضوح بطلانه.

١٤٨

وملزوم معاند الشيء معاند له. ومناط هذا الاستدلال عدم جواز اجتماع الإرادتين عقلا ، كما أنّ مناط ما ذكرنا ، عدم الرّخصة من الواضع.

وقد اعترض (١) على هذا الاستدلال : بأنّ غاية ما ثبت ، كون المجاز ملزوما لقرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا.

وأمّا عن إرادة المعنى الحقيقي مطلقا فلا. يعني : إنّ (يرمي) في قولنا : رأيت أسدا يرمي ، يدلّ على أنّ المراد من الأسد ليس الحيوان المفترس فقط. وأمّا هو مع الرّجل الشّجاع فلا.

وأيضا (٢) ، فقد يستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، مثل : (الرّقبة) في الإنسان ، ولا ريب في ثبوت إرادة المعنى الحقيقي مع المجازي.

وكما يمكن دفع ذلك : بأنّ مرادنا من القرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي هي المانعة عن إرادته بالذّات ، لا مطلقا ؛ فكذا يمكن أن يقال بأنّ مرادنا منها المانعة عن إرادته منفردا ، فمن أين يحكم بأنّ المراد هو الأوّل لا الثاني! فكما لا يجب كونها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي في ضمن المجازي ، كذا لا يجب كونها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي مع المجازي ، بحيث يكون كلّ منهما موردا للنفي والإثبات.

أقول : ويمكن الجواب عن الأوّل : بأنّ ذلك مبنيّ على كون اللّفظ موضوعا للمعنى لا بشرط الانفراد ولا عدمه ، حتى يصحّ القول بكون اللّفظ مستعملا حينئذ

__________________

(١) ثلاثة منها للفاضل الشّيرواني على ما حكي عنه ، والرابع للمحقق السلطان على ما أشار إليه المصنف.

(٢) هذا جواب نقضي.

١٤٩

في المعنى الحقيقي والمجازي ، وقد عرفت في الأصل السّابق بطلانه.

ولكن يدفعه (١) : أنّ ذلك مناقشة لفظيّة ، فإنّ مآله يرجع الى عدم تسمية ذلك استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي مع بقاء المعنى الحقيقي على حقيقته ، وإلّا فلا ريب أنّه يصدق عليه أنّه استعمال في المفهومين كما مرّ نظير ذلك في جواب حجّة المانع مطلقا في المبحث السّابق ، فالأولى في الاستدلال هو ما ذكرنا.

وأمّا الجواب عن الثاني : فبأنّ إرادة الجزء في المركّب ، كإرادة الرّقبة من الإنسان إذا استعملت وأريد منها الإنسان ؛ غير معلوم ، لا مجتمعا مع الكلّ ولا بالذّات ، بل عدمه معلوم ، غاية الأمر انفهامها بالتّبع لا بمعنى القصد إليها بدلالة الالتزام ، أو انفهامها من اللّفظ عرفا كما في دلالة التنبيه ، بل بمعنى كونها لازم المراد ، فيكون من باب دلالة الإشارة الغير المقصودة من اللّفظ كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل (٢) ، وهذه الدّلالة متروكة في نظر أرباب الفنّ.

__________________

(١) إنّك عرفت أنّا لا نسلّم كون اللّفظ موضوعا للمعنى لا بشرط ، بل هو موضوع له مع قيد الوحدة على مذهب صاحب «المعالم» أو حال الوحدة على مذهب المصنّف. فكيف كان لا يجوز إرادته مع المعنى المجازي من جهة لزوم التناقض كما مرّ في الأصل السّابق. ولكن يدفعه : انّ إرادة المعنى الحقيقي مع قيد الوحدة يستلزم التناقض. وأما بعد اسقاط قيد الوحدة فلا يلزم ذلك. غاية الأمر انّه لا يقال حينئذ انّ اللّفظ استعمل في المعنى الحقيقي والمجازي ، بل يقال أنّه استعمل في المعنيين المجازيين حينئذ ، فهذه مناقشة تعبيريّة لا يضرّ على غرض المعترض الذي هو رفع التناقض بين المعنيين ، هذا كما في حاشية الطارمي.

(٢) إنّ المدلول عليه بالدلالة الالتزامية على ثلاثة أقسام : الاقتضاء والتنبيه ويرادفه الايماء والاشارة. لأنّ الدلالة إما أن تكون مقصودة للمتكلّم أو لا. والثاني هو دلالة ـ

١٥٠

وأيضا : المراد من الاستعمال في الشيء هو الاستعمال قصدا لا الاستعمال فيما يستتبعه ويستلزمه تبعا ، كما لا يخفى.

وقد يعترض أيضا (١) : بأنّ النزاع المفيد في هذا المقام هو أنّه هل يجوز استعمال اللّفظ في الموضوع له وغيره ، أم لا؟ وليس يلزم في كلّ ما استعمل في غير الموضوع له أن يكون له قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ، غاية الأمر أن يسمّى ذلك استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي والكنائي لا الحقيقي والمجازي ، فإنّ الكناية أيضا استعمال اللّفظ في غير الموضوع له مع جواز إرادة ما وضع له ، فلم يثبت عدم جواز الاستعمال بالتزام القرينة المعاندة للحقيقة ، لعدم ضرورة الالتزام.

والجواب عن ذلك :

أمّا أوّلا ، فبما قيل : إنّه إنّما يتمّ لو قلنا أنّ الكناية هي إرادة المعنى الغير الموضوع له من اللّفظ مع جواز إرادة الموضوع له ، فيتمّ حينئذ جواز إرادة المعنيين من اللّفظ بلا احتياج الى القرينة المانعة.

وأمّا إن قلنا : بأنّها إرادة المعنى الحقيقي لينتقل منه الى المعنى المجازي ؛ فلا ، إذ لا ينفكّ حينئذ استعمال اللّفظ في غير ما وضع له عن القرينة المانعة عن إرادة ما وضع له ، فلا يصحّ فرض المعترض ؛ إذ اللّفظ لم يستعمل حينئذ في المعنى الموضوع له والغير الموضوع له معا.

__________________

ـ الاشارة كدلالة قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.) مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) على كون أقلّ الحمل ستة أشهر ، فإنّه غير مقصود فى الآيتين ، إذ المقصود في الآيتين ، إذ المقصود في الآية الأولى بيان تعب الأم ومشقتها في الحمل والفصال ، وفي الثانية بيان لأكثر هذا الفصال وكون أقلّ الحمل ستة أشهر.

(١) وهذا الاعتراض الثالث من المدقّق الشيرواني.

١٥١

وصرّح بأنّ لهم في تعريف الكناية طريقين المحقّق التفتازاني في «شرح المفتاح» (١).

وأمّا ثانيا : فبأنّا نجعل البحث فيما يتناقضان وقامت القرينة المانعة ، فلا يمكن جعله من باب الكناية.

ويدفعه : أنّه إن أريد بقيام القرينة المانعة قيام ما يمنع عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا ومجتمعا مع المعنى المجازي ؛ فهو خارج عن محلّ النّزاع ، فإنّ النّزاع في هذه المسألة مثل المسألة السّابقة فيما يمكن إرادة المعنيين بالذّات ، لا فيما لا يمكن أصلا.

وإن أريد كونها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا ، فهو لا ينافي كونه من باب الكناية ، فتأمّل.

وقد يعترض أيضا : بأنّ القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة في المجاز إنّما تمنع عن إرادتها بتلك الإرادة بدلا عن المعنى المجازي.

وأمّا بالنظر الى إرادة اخرى منضمّة إليها فلا ، إذ المراد من إرادة المعنى الحقيقي والمجازي من اللّفظ معا ، هو كون كلّ واحد منهما مرادا بإرادة على حدة بالاعتبارين.

وهذا الاعتراض مستفاد من كلام سلطان العلماء رحمه‌الله.

وفيه : أنّ دخول المجاز في الإرادة حينئذ إنّما هو من باب دخول الخاص في العامّ الاصولي على ما صرّح هو رحمه‌الله به أيضا في حواشي «المعالم». وقال : إنّه هو المراد في المشترك أيضا.

__________________

(١) يحتمل أن يكون مراد المصنّف من الشرح القسم الثالث منه وهو «المطوّل» بإسقاط كلمة التلخيص لأن اسمه «شرح تلخيص المفتاح» أو أن يكون للتفتازاني شرحا مستقلا على «المفتاح» وعرف عنده ولم يعرف بيننا أو «شرح المفتاح المشهور» من العلّامة قطب الدين الشيرازي.

١٥٢

ولا يخفى أنّ إرادة كلّ واحد من الأفراد في ضمن العامّ ليس بإرادة ممتازة عن غيره ، بل المراد كلّ واحد منها بعنوان الكلّ الأفرادي ، وليس هنا إرادتان متضامّتان فيعود المحذور من لزوم اجتماع المتنافيين.

نعم ، له وجه إن أريد من البدليّة إرادة هذا وهذا ، لا كلّ واحد كما هو التحقيق ، مع أنّ من الظاهر أنّ الاستعمال لا تعدّد فيه. وظاهر كلمات علماء البيان أنّ المجاز يستلزم قرينة معاندة لاستعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي ، فالاستعمال واحد وإنّما هو لأجل الدّلالة على المعنى ، والإرادة تابعة له.

واحتجّ من قال بالجواز (١) : بعدم تنافي إرادة الحقيقة والمجاز معا ، فإذا لم يكن هناك منافاة ، فلم يمتنع اجتماع الإرادتين عند المتكلّم.

ويظهر جوابه ممّا تقدّم (٢) ، ولعلّه نظر الى تعدّد الإرادة ، وقد عرفت بطلانه.

وزاد من قال مع ذلك بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللّفظ مستعمل في كلّ واحد من المعنيين ، فلكلّ واحد من الاستعمالين حكمه (٣).

وفيه : مع ما عرفت ، أنّ الاستعمال لا تعدّد فيه ، مع أنّه لو صحّ فإنّما يتمّ على القول بكون اللّفظ موضوعا للمعنى لا بشرط ، وقد عرفت بطلانه.

واحتجّ من قال بكونه مجازا : بأنّ ذلك يستلزم سقوط قيد الوحدة المعتبرة في الموضوع له ، فيكون مجازا. يعني : إنّ المعنى الموضوع له هو المعنى الحقيقي وحده ، فإذا أريد كلّ واحد من المعنيين على سبيل الكلّ الأفرادي ـ كما هو محلّ

__________________

(١) وحجّة المجوّزين قد ذكرها في «المعالم» ص ١١٠.

(٢) وهو أنّ أوضاع الحقائق والمجازات وحدانية نظرا الى التوظيف والتوقيف ، فجواز الإرادتين في نفس الأمر عقلا لا يثبت جواز ما هو معروف على النقل والرخصة ، أعني جواز الارادتين عند التكلّم.

(٣) وفي «المعالم» ذكرها أيضا ص ١١٠.

١٥٣

النزاع ـ فيستلزم ذلك إسقاط قيد الوحدة ، فيكون مجازا ، لا إنّه يراد به معنى ثالث يشمل المعنيين حتى يكون من باب عموم المجاز الذي لا نزاع فيه.

والجواب عن ذلك بعد بطلان أصل الجواز ، واضح.

وأمّا ما فصّل (١) : بأنّ المراد في محلّ النزاع من المعنى المستعمل فيه إن كان هو المعنى الحقيقي حتّى مع قيد الوحدة ، فالمانع مستظهر ، لأنّ المجاز معاند للحقيقة حينئذ من وجهين : من جهة القرينة المانعة ، ومن جهة اعتبار الوحدة.

وإن أرادوا مطلق المدلول من دون اعتبار الانفراد ، اتّجه الجواز (٢) ، لأنّ المعنى الحقيقي حينئذ يصير مجازا بإسقاط قيد الوحدة ، فالقرينة اللّازمة للمجاز لا تعانده (٣).

ففيه : مع أنّ ذلك يستلزم عدم الفرق بين الكناية والمجاز حينئذ ، لأنّ المفروض أنّ المجازية إنّما حصلت بإسقاط قيد الوحدة ، ومع إسقاطه صحّت إرادته مع المعنى المجازي ، أنّ القرينة كما أنّها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، لا بدّ أن تكون مانعة عن إرادة المعنى المجازي الآخر أيضا ، وإلّا لم يتعيّن المراد ، إلّا أن يقول إنّ القرينة مانعة عن المجازات الأخر ، إلّا أن يقوم قرينة على إرادة بعضها كما فيما نحن فيه ، فإنّ المفروض وجوب إقامة قرينة اخرى على إرادة المعنيين معا كما في المشترك أيضا ، وإلّا فكيف يعلم إرادة المعنيين من اللّفظ ، ومع ما عرفت من كون أوضاع الحقائق والمجازات وحدانيّة ، فالأمر أوضح.

__________________

(١) وهو صاحب «المعالم» ص ١١٢.

(٢) بأن يقال : رأيت أسدا ويراد منه الحيوان المفترس والرجل الشجاع. إن قلت : إذا أريد كلاهما يكون المجاز معاندا للحقيقة ، قلت : إنّما يلزم ذلك في الصورة الأولى وهي أن يكون المراد هو المعنيين مع قيد الوحدة ، وأمّا إذا ألغينا قيد الوحدة ، فلا يلزم حينئذ الإشكال.

(٣) انتهى كلام صاحب «المعالم» فيه ص ١١٣.

١٥٤

قانون

المشتقّ كاسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة ، حقيقة فيما تلبّس بالمبدإ دون ما وجد المبدا فيه في حال التكلّم فقط ، كما توهّمه بعضهم (١) حتّى يكون قولنا : زيد كان قائما فقعد أو سيصير قائما مجازا.

والظاهر أنّ هذا وفاقيّ كما إدّعاه جماعة (٢) ومجاز فيما لم يتلبّس بعد ، سواء أريد بذلك إطلاقه على من يتلبّس بالمبدإ في المستقبل ، بأن يكون الزّمان مأخوذا في مفهومه أو إطلاقه عليه بعلاقة أوّله إليه (٣). والظاهر أنّ ذلك أيضا اتّفاقيّ كما صرّح به جماعة.

وقد يتوهم (٤) أنّ إطلاق النّحاة اسم الفاعل مثلا على مثل (الضّارب) في قولنا : زيد ضارب غدا ، ينافي دعوى الإجماع ، وهو باطل (٥) لما حقّقنا سابقا من أنّ

__________________

(١) نسب هذا التوهم الى السيّد والشهيد.

(٢) كما في «الوافية» ص ٦٢.

(٣) كون علاقة المجاز علاقة الأوّل يناسب أن يراد من المشتق الذّات البحت الغير المتلبسة بعلاقة أنّها تتلبس في ما بعد من دون اعتبار الاتصاف معها أيضا حتى يكون قولك : رأيت قائما مثلا ، بمنزلة قولك : رأيت زيدا وهذا كما ترى اطلاق آخر مقابل لما اطلق على ما انقضى عنه المبدأ بعلاقة كونه عليه ، أي الذّات البحت الغير المتلبسة من غير اعتبار اتصافها أيضا بالعلاقة المذكورة ، لأنّه لو لا اعتباره على هذا الوجه لم يتميّز عن المنقضى عنه المبدا بالمعنى المتنازع فيه تميّزا ظاهرا إلا في ملاحظة هذه العلاقة وعدم ملاحظتها. وهذا بمجرده لا يوجب الفرق بين الاطلاقين في كون المجازيّة في أحدهما محلّ وفاق وفي الآخر محلّ خلاف كما لا يخفى. ولم نقف لكلامهم في هذا المقام على تحرير تام ، هذا كما في حاشية القزويني.

(٤) قيل أن أصل هذا التوهم من صاحب «الوافية» وعليك بالمراجعة هناك ص ٦٢.

(٥) أي التوهم المذكور باطل.

١٥٥

الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وفيما انقضى عنه المبدأ ـ أعني إطلاق اللّفظ المشتق وإرادة ما حصل له المبدا في الماضي من الأزمنة بالنسبة الى زمان حصول النّسبة في المشتق الى من قام به ـ خلاف. وقد يعبّر : بإرادة ما حصل له المبدأ وانقضى قبل زمان النّطق ، فيعتبر المضيّ بالنسبة الى زمان النطق ، وما ذكرناه أحسن (١).

ويظهر الثمرة (٢) في مثل قولنا : كان زيد قائما فقعد ، فعلى ما ذكرنا حقيقة ، وعلى ما ذكره هذا القائل يكون محلّا للخلاف.

نعم ، إذا قلنا : كان زيد قائما أمس ، باعتبار كونه قائما قبل الأمس ، فيصير محلّا للخلاف على ما ذكرنا أيضا.

ومن هذا يظهر لك جواز إجراء هذين التعبيرين فيما لم يتلبّس بعد بالمبدإ أيضا ، فتأمل.

وهناك تعبيران آخران :

أحدهما : استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ بعلاقة ما كان عليه.

وثانيهما : استعماله فيما حصل له المبدا في الجملة ، أي ما خرج من العدم الى الوجود من دون اعتبار القدم والحدوث والبقاء والزّوال.

والظاهر أنّ المعنى الأخير أيضا ممّا وقع فيه النزاع كما سيظهر بعد ذلك.

وأمّا المعنى الأوّل ، فالظاهر عدم الخلاف في كونه مجازا.

__________________

(١) وكأنّه يريد من قوله : أحسن المعنى الوصفي ، وإلّا فكيف يجوز إثبات الوهم والحسن للقول الواحد. والظاهر أنّه لم يرد به التفضيل.

(٢) أي ثمرة اختلاف التعبيرين.

١٥٦

والمشهور بينهم في محلّ الخلاف قولان : المجاز مطلقا ، وهو مذهب أكثر الأشاعرة ، والحقيقة مطلقا ، وهو المشهور من الشّيعة والمعتزلة (١).

وهناك أقوال أخر منتشرة ، والظاهر أنّها محدثة من إلجاء كلّ واحد من الطرفين في مقام العجز عن ردّ شبهة خصمه ، ففصّل جماعة وفرّقوا بين ما كان المبدا من المصادر السيّالة (٢) كالتكلّم والإخبار وغيره ، فاشترطوا البقاء في الثاني دون غيره.

وأخرى (٣) ففرّقوا بين ما لو كان المبدا حدوثيّا أو ثبوتيا (٤) ، فاشترطوا البقاء

__________________

(١) ولكن لا يبعد في أعصارنا أن يدّعى انّ الشهرة في هذه الأزمنة قد استقرت على عكس ذلك.

(٢) أي الجارية الغير القارّة ، وعلى ما فسرها بعض الأعاظم أنّ المصدر السيّال هو كل مبدإ من المبادئ لا يوجد بتمام أجزائه في الخارج ، بل يوجد جزء فجزء وينعدم ، يعني لا يوجد الجزء اللّاحق منه إلّا بعد انعدام السّابق كالتكلّم ، فزيد قائم مثلا إذا تكلّم به متكلّم فلا يأتي بياء زيد إلّا بعد انعدام زائها وهكذا ، ومقابلة المبدا القارّ بالذّات كالقيام ، فإنّه لا يوجد في الخارج إلا مجتمعة الأجزاء مرّة واحدة.

(٣) أي جماعة أخرى.

(٤) المراد بالحدوثي على الظاهر الفعل الذي يكون حادثا ومتجددا في كل وجود يتجدد تأثير مؤثر ، فإذا لم يتجدد تأثير المؤثر فينعدم كالضرب والمشي والكتابة وأمثال ذلك.

وعلى هذا فالثبوتي ما يكون ثابتا في الوجودات اللّاحقة للوجود الأوّل بسبب تأثير واحد سابق على الجميع من دون حاجة الى تأثيرات على حدة ، بلّ إذا وجد المؤثّر أوّلا استمر وجوده حتى يجيء المزيل ككثير من الكيفيات النفسانية من عقائد الإيمان والكفر ، ومنها الفقاهة ، بل مطلق الاعتقاد بالحكم الشرعي ولو برسم التقليد وغيرها كالمحبة والعداوة فيما يزول أسبابها ويبقى آثارها ، هذا كما أفاد بعض الأعاظم في الحاشية.

١٥٧

في الأوّل دون الثاني (١).

وأخرى ، ففرّقوا بين ما طرأ الضدّ الوجودي على المحلّ ، سواء ناقض الضدّ الأوّل ـ كالحركة والسّكون ـ أو ضادّه وغيره (٢) فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثاني.

وفصّل بعضهم (٣) ، بين ما كان المشتق محكوما عليه أو به ، فاشترط في الثاني دون الأوّل.

والأقوى كونه مجازا مطلقا.

لنا وجوه :

الأوّل : تبادر الغير منه ، وهو المتلبّس بالمبدإ ، وهو علامة المجاز.

والثاني : أنّه لا ريب في كونه حقيقة في حال التلبّس ، فلو كان حقيقة فيما انقضى عنه أيضا للزم الاشتراك ، والمجاز خير منه ، كما مرّ مرارا.

وما يقال : من أنّ المشتقّ إنّما يستعمل في المعنى الأخير من الثلاثة المتقدّمة ، وهو أعمّ من الماضي والحال ، واستعمال العامّ في الخاص حقيقة إذا لم يرد منه الخاصّ من حيث الخصوصيّة ؛ فلا مجاز ولا اشتراك.

ففيه : أنّه مناف لكلمات أكثرهم ، وكثير منهم ادّعى الإجماع على كونه حقيقة في الحال ، ولو كان حقيقة في ذلك المعنى العامّ أيضا ، للزم الاشتراك أيضا.

وممّا ينادي ببطلان ذلك ، أنّ المستدلّين بكونه حقيقة فيما انقضى عنه المبدا ،

__________________

(١) ذكره الوحيد في «الفوائد» ص ٣٣٣.

(٢) أي وبين غير ما لو طرأ الضد الوجودي. واعلم أنّ الضدّ باصطلاح الاصولي أعمّ مما هو مصطلح عليه بين المتكلّمين فلذا قيّده بالوجودي.

(٣) وهو الشهيد الثاني في «تمهيد القواعد» : ص ٨٥ ، وحكاه المحقّق الاصفهاني في «هدايته» : ١ / ٣٧٠ عن الغزالي والأسنوي.

١٥٨

يستدلّون باستعمال النّحاة ، فإنّهم يستعملونه في الماضي وفي الحال وفي الاستقبال ولا يريدون به المعنى الأعمّ جزما.

الثالث : أنّه إذا كان جسم أبيض ثمّ صار أسودا ، فينعدم عنه حينئذ مفهوم الأبيض جزما ، وإلّا للزم اجتماع المتضادّين ، فإطلاق لفظ الأبيض حين انعدام مفهومه ، إطلاق على غير ما وضع له.

ويرد عليه : أنّه إنّما يسلم لو لم يكن مراد من لا يشترط بقاء المبدا هو المعنى العامّ وإلّا فلا منافاة حينئذ ولا يلزم اجتماع الضدّين.

الرابع : انّا لا نفهم من لفظ المشتقّ إلّا الذّات المبهمة والحدث والنسبة ، ولكن يتبادر منه حصول المبدا في زمان صدق النّسبة الحكميّة (١). ولا يذهب عليك أنّ هذا الزمان ليس بأحد من الأزمنة المعهودة ، بل هو أعمّ من الجميع ، فلسنا ندّعي دلالته على زمان ، كيف وقد أجمع أهل العربيّة على أنّ الدّال على الزّمان إنّما هو الفعل ، ألا تراهم أنّهم يقيّدون حدّ الفعل بأنّه ما يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ليخرج اسم الفاعل وما في معناه!

ولا منافاة بين ذلك ، وبين ما يقولون : إنّ اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال يعمل عمل النّصب ، وبمعنى الماضي لا يعمل ، فإنّ مرادهم بالاقتران بأحد الأزمنة في حدّ الفعل إنّما هو بسبب الوضع.

ومرادهم في اسم الفاعل إنّما هو بالقرينة فيكون مجازا.

وقد يوجّه بأنّ هذا هو مقتضى الوضع الثانوي الحاصل بسبب كثرة الاستعمال.

__________________

(١) أي التقييدية الناقصة بين الضرب وذات ما ثبت هو له ، يعني شرط تلك النسبة أن يوجد في زمانها معنى المبدا تحقيقه بحيث يصدق عليه أنّه ضرب في ذلك الحين.

هذا كما في الحاشية.

١٥٩

وأمّا في الفعل ؛ فبمقتضى الوضع الأوّل ، وهو بعيد ، فإنّ غاية ما يمكن أن يدّعى فيه الوضع الثانوي والتبادر من جهته إنّما هو الحال ، فتأمّل ، فإنّ ذلك أيضا لا ينطبق على الزّمان المعهود كما ذكرنا ، بل المتبادر هو التلبّس.

والحاصل ، أنّ تحقّق المبدا شرط في صحّة الإطلاق حين النّسبة ، كالجوامد بعينها (١) ، فلا يقال للهواء المنقلب عن الماء هو ماء حقيقة.

ومرادنا من هذه النّسبة أعمّ من الخبرية الصّريحة أو اللّازمة للنّسبة التقييدية ، فإنّ قولنا : رأيت ماء صافيا يتضمّن النّسبة الخبريّة ويستلزم الإخبار عن الماء بالصّفاء ، فيلاحظ حال هذه النّسبة ، ويعتبر الاتّصاف بالمبدإ حين تحقّق هذه النسبة وذلك فيما نحن فيه في الزّمان الماضي ، فهو حقيقة وإن صار في زمان التكلّم كدرا. وقد يكون كذلك في الحال ، وقد يكون في الاستقبال ، كقولك : سأشتري خمرا ، فإنّه حقيقة وإن كان ما سيشتريه لم يصر حين التكلّم خمرا.

حجّة القائلين بكونه حقيقة : أنّ المشتقّ قد استعمل في الأزمنة الثّلاثة والأصل في الاستعمال الحقيقة ، خرج الاستقبال بالاتّفاق (٢) وبقي الباقي.

وفيه : أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما بيّنّا سابقا.

وقد استدلّ بعضهم بعد الاستدلال بذلك ، بأنّ معنى المشتق من حصل له المشتقّ منه ، أي خرج من القوّة الى الفعل ، فيشمل الماضي حقيقة.

__________________

(١) ولا يخفى أنّ نحو كلام المصنف في قياس ما نحن فيه بالجوامد كلام المدقق الشيرازي وفيه دلالة واضحة على خروج الجوامد عن محلّ النزاع في المقام ، ويظهر من جمال العلماء جريان النزاع في الجوامد أيضا ، على ما أفاده في الحاشية.

(٢) ذكره الشيخ البهائي في «الزّبدة» ص ٦٠.

١٦٠