القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٦

الماهيّة ، وأنّ العبادات هي هذه ، مثل صحيحة حمّاد الواردة في بيان آداب الصلاة (١)

__________________

(١) كما في «التهذيب» بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا حمّاد تحسن أن تصلي. فقلت : يا سيدي أنا أحفظ كتاب الله حريز في الصلاة. فقال : لا عليك يا حمّاد قم فصلّ. قال : فقمت بين يديه متوجها الى القبلة ، فاستفتحت الصلاة فركعت وسجدت. فقال : يا حمّاد لا تحسن أن تصلي. ما أقبح بالرجل منكم يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة. قال حمّاد : فأصابني في نفسي الذلّ. فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة. فقام أبو عبد الله عليه‌السلام مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه جميعا القبلة لا ينحرفها عن القبلة وقال بخشوع : الله أكبر ، ثم قرء الحمد بترتيل وقل هو الله أحد ثم صبر هنيهة بقدر ما يتنفس وهو قائم ثم رفع يديه حيال وجهه وقال : الله أكبر وهو قائم ، ثم ركع وملاء كفيه من ركبتيه منفرجات وردّ ركبتيه الى خلفه ثم استوى ظهره حتى لو صبت عليه قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره ، ومدّ عنقه وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل فقال : سبحان ربي العظيم وبحمده ، ثم استوى قائما. فلمّا استمكن ولمّا استوى من القيام قال : سمع الله لمن حمده ثم كبّر وهو قائم ورفع يديه حيال وجهه ثم سجد وبسط كفّيه مضمومتي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه فقال : سبحان ربي الأعلى وبحمده ، ثلاث مرات ، ولم يضع شيئا من جسده على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الكفين والرّكبتين وأنامل إبهامي الرّجلين والجبهة والأنف. وقال : سبع منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكر الله عزوجل في كتابه فقال : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ، وهي الجبهة والكفّان والركبتان والإبهامان ووضع الأنف على الأرض سنة ، ثم رفع رأسه من السّجود ، فلما استوى جالسا قال : الله أكبر ، ثم قعد على فخذه الأيسر وقد وضع قدمه الأيمن على بطن قدمه الأيسر وقال : استغفر الله ربي وأتوب اليه ، ثم كبّر وهو جالس وسجد السجدة الثانية وقال : كما قال في الأولى ، ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود وكان مجنّحا ولم ـ

١٢١

ونحوها ، فحينئذ يتّضح عدم الفرق بينها وبين نفس الأحكام في إجراء أصالة العدم.

وقد ظهر ممّا ذكرنا إمكان إثبات ماهيّة العبادات بضميمة أصل العدم مطلقا ، سواء حصل لنا ظنّ من جهة خبر أنّ هذا هو الماهية ، أو حصل الظنّ من جهة مجموع ما ورد من الأدلّة في خصوص جزء جزء وأصالة عدم شيء آخر.

وأمّا ما يقال (١) : إنّ السبيل منحصر في الإجماع ، فلا نفهم معناه ، فإن أراد أنّه لا بدّ أن ينعقد الإجماع على أنّ هذا هو الماهيّة لا غير ، فلا سبيل لنا الى مثل هذا الإجماع ولم يدّعه أحد من العلماء ، وإن إدّعاه أحد فهو أيضا ظنّ مثل الظنّ الحاصل من تلك الرّواية أو من الأصل (٢) ، ولا يتمّ إلّا بضميمة أصالة عدم دليل آخر يدلّ على ثبوت جزء آخر له أو شرط آخر له ، وإن أراد أنّ ما حصل الإجماع على صحّته ، فالماهيّة موجودة فيه جزما.

ففيه : أنّ هذا ليس إثبات الماهيّة وتعيينها ، بل هو إثبات لما اندرج فيه الماهيّة جزما لاحتمال اشتمالها على المستحبّات التي ليست داخلة في ماهيّة العبادة ، مع أنّ ذلك ممّا لا يمكن غالبا ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء من الأجزاء ، مثل الجهر ب «بسم الله» في الصلاة الإخفاتيّة ، وبطلان الصلاة بتذكّر إسقاط الرّكوع بعد إكمال السجدتين ، مع ملاحظة القول بلزوم حذفهما وتدارك الركوع فيما بعده.

__________________

ـ يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا ويداه مضمومتا الأصابع وهو جالس في التّشهد ، فلمّا فرغ من التّشهد سلّم فقال عليه‌السلام : يا حمّاد هكذا صلّ.

(١) وهذا القول يبدو لأستاذه الوحيد البهبهاني في «الفوائد الحائرية» : ص ١٠٢ المانع من إجراء الأصل في ماهيّة العبادات وأنّ السبيل الى إثبات الماهيّة منحصر بالاجماع فقط.

(٢) من الرّواية رواية حمّاد ، ومن الأصل ، أي الاصل عدم جزئية المشكوك وعدم شرطيته.

١٢٢

وربّما يتكلّف في دفع هذا الإشكال ، بأنّ المخالف في المسألة إذا سلّم أنّه لو كان دليله باطلا ، لكان الماهيّة هي على وفق ما اقتضاه دليل خصمه ، سواء صرّح بذلك التسليم أم لا. فهذا يكفي في كون الماهيّة إجماعيّة عند الخصم ، إذا ظهر له بطلان دليل المخالف وغفلته عن الحق.

وفيه : مع أنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة الى المخالفة الخاصّة دون سائر المخالفات (١) وذلك لا يثبت الماهيّة مطلقا. إنّ ظهور بطلان دليل المخالف غالبا إنّما هو بحسب اجتهاد الخصم ، وقد يكون الغفلة في نفس الأمر من جهة الخصم لا المخالف ، مع أنّ هذا الاحتمال حاصل بالنسبة الى المخالف أيضا بالنظر الى دليل الخصم فيصير الإجماع تابعا لاجتهاد المجتهد وهو كما ترى ، ويزيد شناعة ذلك لو تعدّد الأقوال (٢) أزيد من اثنين ، كما في الجهر ب «بسم الله» ، فإنّ الأقوال فيه ثلاثة : الحرمة ، والوجوب والاستحباب.

وإن قلت : الإجماع حينئذ يحصل بتكرير الصلاة ، فيصير الأمر أشنع ، ومآل [ومال] هذا القول الى وجوب الاحتياط ، وهو مع أنّه لم يقم عليه دليل من العقل والنقل ، يوجب العسر والحرج أو الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا ما أورد على إعمال الأصل في ذلك (٣) ، بأنّه إنّما يتمّ إذا جاز العمل

__________________

(١) والمخالفة الخاصة أي الجامعة لهذه الخصوصيّات ، بأن يكون دليل المتخاصمين مذكورا في البين حتى ينظر فيه الثالث فيظهر عليه بطلانه ، بخلاف ما إذا لم يكن عنده إلّا القولان من دون ذكر دليل في البين.

(٢) قال في «التوضيح» : فإنّه من ابطال أحد الاقوال لا يلزم ثبوت الماهية وتعيينها إذ القول في الطرف الآخر أيضا متعدد كما لا يخفى.

(٣) وهو الوحيد البهبهاني في «الفوائد الحائريّة» : ص ١٠٢.

١٢٣

بالاستصحاب حتّى في نفس الحكم الشرعي (١) ، مع أنّه معارض بأصالة عدم كونها العبادة المطلوبة ، وإنّ شغل الذمّة اليقيني مستصحب حتى يثبت خلافه.

ففيه : مع أنّ المحقّق في محلّه ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ حجيّة الاستصحاب مطلقا ، إنّ مرادهم من عدم حجّيته في إثبات نفس الحكم الشرعي أن يكون الاستصحاب مثبتا لنفس الحكم ، مثل أن يقال : إنّ المذي غير ناقض للوضوء مثلا لاستصحاب الطهارة السابقة ، فاستصحاب الطهارة هو المثبت لعدم كون المذي ناقضا ، وأصل العدم منفردا لا يثبت به الماهيّة ، بل هي بضميمة سائر الأدلّة المثبتة لها كما لا يخفى ، مع أنّه مقلوب على المعترض بأنّه كيف يجوز التمسّك في إثبات استحباب غسل الجمعة مثلا بعد تعارض الأدلّة بأصالة عدم شيء آخر يدلّ على الوجوب فيحكم بالاستحباب ، فإنّ الذي يثبت من نفس أدلّة الطرفين إنّما هو القدر الرّاجح لاشتراكهما في الرّجحان ، فيبقى نفي الوجوب وتعيين نفس الاستحباب مستفادا من نفس الاستصحاب وأصالة العدم ، إذ ليس مطلق الرّجحان معنى الاستحباب.

وأمّا المعارضة بأصالة عدم كونها العبادة المطلوبة (٢).

ففيه : أنّ الموجود الخارجي كما يحتمل كونه غير العبادة المطلوبة ، يحتمل كونه هي ، فجعل أحدهما هو الأصل دون الآخر ، ترجيح بلا مرجّح.

نعم ، يمكن أن يقال : الأصل عدم تحقّق العبادة المطلوبة في الخارج ، بمعنى عدم حصول اليقين بالإتيان بالعبادة المطلوبة ، ولا محصّل لهذا الاستصحاب لإبقاء

__________________

(١) قال محمد حسين رحمه‌الله في التوضيح : إنّ المصنّف سلّمه الله تعالى قال في أثناء الدرس : المراد بالحكم الشرعي هنا هو ما أحدثه الشارع ليشمل الماهيات الشرعية أيضا.

(٢) وهو للوحيد في «فوائده» : ص ١٠٢.

١٢٤

المكلّف به في الذمّة ، وهو يرجع الى استصحاب شغل الذمّة اليقيني (١).

وجوابه : أنّ اشتغال الذمّة اليقيني مقتض لليقين بإبراء الذمّة إذا أمكن ، والظنّ الاجتهادي الحاصل من الأصل بضميمة سائر الأدلّة قائم مقام اليقين كما هو متّفق عليه عندهم ، مع أنّ شغل الذمّة بأزيد من ذلك لم يثبت من الأدلّة ، وأصل البراءة السّابق لم ينقطع إلّا بمقدار ما ثبت اشتغال الذمّة به ، وما ثبت علينا من الأدلّة وسلّمنا هو اشتغال ذمّتنا بما يظهر علينا من الظّنون الاجتهادية ثبوته.

وقد يتمسّك (٢) في إثبات ماهيّة العبادات بطريق آخر ، وهو أن يرجع الى اصطلاح المتشرّعة ، ويقال : المتبادر في اصطلاحهم هو هذا ، فهو مطلوب الشّارع ، أمّا على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فظاهر ، وأمّا على القول بالعدم فمع القرينة الصّارفة عن اللّغوي يحمل عليه لكونه أقرب مجازاته وأشيعها ، لكن يشكل ذلك على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحة مطلقا (٣) ، وعلى القول بكونها اسما للأعمّ من الصّحيحة لو كان الإشكال والتّشكيك في الأجزاء ، وأمّا لو كان الإشكال في ثبوت شرط لها ، فيصير مثل المعاملات في جواز الاكتفاء بما يفهم منه عرفا ، وينفي الشّرط المحتمل بالأصل ، وإنّما قلنا أنّه لو كان الحيرة والإشكال في الأجزاء فلا يتمّ هذا الطريق على القول بكونها أسامي للأعمّ ، فلأنّ غاية ما يتبادر من الصلاة مثلا هو ذات الركوع والسجود ، فيخرج صلاة الميّت.

وكذلك يمكن عندهم (٤) سلب اسم الصلاة عن صلاة وقع فيها فعل كثير يمحو

__________________

(١ و ٢) وهو للوحيد في «فوائده» : ص ١٠٢.

(٣) ومطلقا سواء كانت الشروط أجزاء أو شروطا إذ الأجزاء أيضا من شرائط الصحة.

(٤) قال في التوضيح : على ما حكي عنه أي بالركوع والسجود لا يثبت ماهية الصلاة ، إذ ـ

١٢٥

صورة الصلاة ، ولا يثبت بهما ماهيّة الصلاة بتمامها كما لا يخفى.

وفيه نظر من وجوه :

أمّا أولا : فلأنّ دعوى الحقيقة الشرعية وثبوت الحقيقة المتشرّعة إنّما هو في المعنى المحدث الذي أبدعه الشارع في مقابل المعنى اللّغوي ، ويكفي في تصوّر إرادة ذلك المعنى دون المعنى اللّغوي أو معنى آخر ، التصوّر في الجملة ، فلا يلزم في ذلك تصوّره بالكنه وبجميع الأجزاء والشرائط. وما ذكره من الرجوع إلى عرف المتشرّعة والشارع إنّما يناسب تمايز المعاني بوجه ما ، لا من جميع الوجوه بحيث يكون تصوّر الكنه شرطا في كونه مرادا من اللّفظ ، فالتفصيل المذكور لا دخل له في إثبات ما هو بصدده.

وأمّا ثانيا : فنقول : إذا بنينا بيان الماهيّة بالرّجوع الى مصطلح المتشرّعة أو الشّارع ، فنقول : هاهنا مقامات من الكلام :

الأوّل : بيان تلك الماهيّة المخترعة وتميّزها من بين ما هي من صنفه من المخترعات ، مثل أن يقال : المعنى المخترع الذي نقل الشارع اسم الصلاة إليه ، هل هو ذات الركوع والسجود أو المشروط بالقبلة والقيام؟ فنرجع الى عرف المتشرّعة ونثبت به مراد الشارع.

والثاني : أنّ بعد بيان أنّ المراد أيّهما ، قد يقع الإشكال في كون بعض ما يحتمل كونه فردا للموضوع له فردا له ، مثل : إنّا نعلم أنّ ذات الرّكوع والسّجود هو معنى الصّلاة ، لكن نشكّ في أنّ الصّلاة المذكورة إذا كانت بحيث وقع في بينها فعل كثير

__________________

ـ الصلاة التي تمحى صورتها بفعل كثير وهي ذات الركوع والسجود ويمكن سلب الاسم عنها عندهم.

١٢٦

غاية الكثرة (١) ، هل هو فرد حقيقي لها أم لا ، نظير ما تقدّم في ماء السّبيل في مسألة عدم صحّة السّلب ، والّذي يناسب ما نحن فيه هو المقام الثاني لا المقام الأوّل ، فذكر تبادر ذات الركوع والسجود ، وصلاة الميّت لا يناسب المقام.

وأمّا ثالثا : فنقول : لا يتفاوت الحال بتعدّد القولين (٢) في ألفاظ العبادات ، إذ حقيقة المتشرّعة تابعة لما هي عليها عند الشّارع ، فإن كانت عند الشّارع هي الصحيحة ؛ فكذلك عند المتشرّعة ، وإن كانت الأعمّ ؛ فكذلك عند المتشرّعة ، واختلاف عرف المتشرّعة وعدم انتظامها لا يوجب عدم الإعتداد بها ، وقد بيّنا سابقا أنّ الاختلاف اليسير غير مضرّ في الحقيقة عرفا وإن أضرّ بها عقلا ، والمعيار هو العرف ، خرج ما ثبت فساده بالدّليل ، وبقي ما شكّ في فساده تحت الحقيقة العرفيّة.

لا يقال : أنّ هذه التسمية شرعيّة وليست بعرفيّة حتى يجعل من الأمور العرفيّة ، لأنّا نقول : المسمّى شرعيّة ، والتسمية ليست بشرعيّة ، فالتسمية مبنيّة على طريق العرف والعادة ، فإنّ الشارع أيضا من أهل العرف ، فالمسمّى وإن كان من الأمور التوقيفيّة المحدثة من الشّارع ، لكن طريق التّسمية هو الطريق العرفي ، فافهم.

وبالجملة ، لا فرق بين العبادات والمعاملات في ذلك (٣) ، ألا ترى أنّهم استشكلوا في المعنى العرفي للغسل ، فقيل : يدخل فيه العصر في الثياب ، وقيل : يدخل في ماهيّته إخراج الماء منه (٤) ، وقيل : يحصل بالماء المضاف ، وقيل : يشترط المطلق وهكذا. وبعضهم فرّق بين صبّ الماء والغسل ونحو ذلك.

__________________

(١) مع عدم محو صورة الصلاة.

(٢) بالصحيحة والأعمية.

(٣) في البناء على العرف والعادة.

(٤) من الثوب.

١٢٧

فكما يؤخذ في ألفاظ المعاملات بما هو المتداول عند عامّة أهل العرف وأغلبهم ، فكذلك يؤخذ في ألفاظ العبادات ما هو المتداول عند المتشرّعة سواء قلنا بأنّها أسام للصحيحة أو الأعمّ.

فنقول مثلا : المتبادر عند المتشرّعة لو كان الصلاة المتلبّسة بالركوع والسجود والقراءة والقيام والتشهّد والسلام مع كونها مصاحبة للطهارة من الحدث والخبث ، وحصل الشكّ في أنّ الماهيّة هل تتمّ بهذا المجموع ، أم يجب فيه كون المصلّي في مكان مباح أيضا ، فيمكن إجراء أصل العدم فيه ، نظير اشتراط الدّلك في غسل غير الثياب والعصر فيها.

وكذا لو قلنا : إنّ المتبادر من الصلاة هو ذات التكبير والقيام والفاتحة والركوع والسجود ، وشككنا في كون التشهّد والسّلام أيضا جزء لها وفي كون السّورة أيضا جزء لها أم لا ، أو هل هو مشروط بشرط آخر أم لا.

نعم ، إذا علمنا مدخليّة شيء آخر فيه ولم نعلمه بعينه ، فلا يمكن إجراء الأصل حينئذ ، ويجب إبراء الذمّة بالإتيان بالمحتملات ، وهذا غير ما نحن فيه.

ثمّ إنّ الفرق بين الشكّ في الجزء والشرط أيضا قد عرفت أنّه لا وجه له ، لما نبّهناك عليه هنا (١) وأشرنا إليه في المقدّمة (٢) أيضا ، مع أنّ تحديد الشرط (٣) والجزء في غاية الإشكال ، ولعلّ نظر من فرّق بينهما الى أنّ الشرط خارج عن

__________________

(١) بقوله : وشككنا في أنّ التشهد والتسليم أيضا جزء لها أم لا ، وفي كون السورة أيضا جزء لها أم لا ، فإنّ فيه تنبيها الى عدم الفرق بين الجزء والشرط.

(٢) بقوله : انّ مبنى القوم على العرف وانتفاء كل جزء لا يوجب انتفاء المركب عرفا ولا يوجب عدم صدق الإسم في المتعارف.

(٣) قد حكى العلامة في «المنتهى» ٣ / ٤٦ وفي ٤ / ٢٢١ تحديد الشرط بما تقدم على المشروط وتوقف صحته عليه.

١٢٨

الماهيّة والجزء داخل فيها ، وأنت خبير بأنّ الشرط أيضا قد يكون داخلا في الماهيّة. فإنّ قولنا : الطمأنينة بمقدار الذّكر شرط في صحّة الركوع ، في قوة قولنا : يجب الكون الطويل بالمقدار المعلوم في حال الركوع.

وكما يمكن أن يقال : يجب الطمأنينة في القيام بعد الرّكوع ، يمكن أن يقال : يجب المقدار الزّائد عن تحقّق طبيعة القيام بعد الرّكوع ، وهكذا.

تنبيه

يمكن أن يستفاد ممّا ذكرنا في هذا المقام من باب التأييد والإشارة والإشعار كون ماهيّة الصلاة مثلا هو التكبير والقيام والرّكوع والسّجود ، ويكفي في تحقّق كلّ ذلك مجرّد حصول الماهيّة.

وأمّا الزّائد على الماهيّة وغيرها من الواجبات ، فشروط وزوائد ، ولعلّه الى ذلك ينظر اصطلاح العلماء في الأركان ، وجعل الرّكن في كلّ من المذكورات المسمّى ، وأنّ بانتفاء كلّ منها ينتفي المركب وجعل لباقي الواجبات أحكام أخر ، فليتأمّل.

١٢٩

تذنيبان

قد ذكرنا تقديم عرف الشارع على غيره ، وهو فيما خصّ به ممّا حصل فيه الحقيقة الشرعية واضح ، لأنّ تعيينه ووضعه لهذا المعنى الذي أحدثه إنّما هو لأجل تفهيم المكلّفين المخاطبين ، فإذا خاطبهم به فلا بدّ أن يحمل على إرادة هذا المعنى.

وأمّا فيما لم يخصّ به ، بل كان عرفا لأهل زمانه ، فكذلك أيضا ، كالدّينار (١).

__________________

(١) في الحاشية : فانّهم مطبقون ظاهرا على أنّه هو المثقال الشرعي وأنّه بحسب الوزن عبارة عن درهم وثلاثة أسباع درهم فيكون كل عشرة دراهم سبعة دنانير في تقدير الدّرهم ، مخالفة بين المجمع والمشهور ، ومنهم «الرّوضة البهيّة» : ٢ / ٣١ ، حيث إنّهم قدروه بثمان وأربعين حبّة من أوساط الشعير بخلافه فإنّه عبارة عن اثنين وأربعين ، فبحسابه يصير الدّينار عبارة عن ستين حبة به أيضا. وإنّه عبارة عن عشرين قيراطا كل قيراط ثلاثة شعيرة. وبحساب المشهور يصير الدينار أزيد من ذلك بثمان شعيرا أو أربعة أسباع شعيرة ، وبحسب الجنس هو عبارة عن ذهب مسكوك ومنه قولهم : أهلك الناس الدّرهم البيض والدينار الصفر. وكان الأشيع في الاستعمالات في الفقه والحديث هو الأخير ، ثم إنّ في جعل الدينار مثالا لما كان للشارع فيه عرف وغيره بأن كان مشتركا بينه وبين أهل زمانه. والحكم بأنّ العرف الشرعي فيه مقدم على غيره إشكالا حيث إنّ الأشبه في النظر انّ الاطلاقات السّالفة كلها في العرف العام وإن كان بعضها مجازا ولا اختصاص بشيء منها للشارع وأهل زمانه كما في الدابّة وغيرها من العرفيات العامة إلّا أن يتكلّف انّ الشارع لما تكرّر مكالمته بهذه اللّفظة بخصوصها مع أصحابه في إحكام شيء بأزيد من أهل العرف العام كما ربما يظهر من الجميع ، لا جرم كأنّهم من بين أهل العرف اصطلحوا بينهم فيها بحيث إنّهم أينما تعاطوها لم يكن ذلك يتبعه عرف اللّغة ، بل مبنيّا على اصطلاح أنفسهم ، غاية الأمر انّ أهل العرف العام أيضا ـ

١٣٠

وقد يقع الإشكال فيما لو اختلف عرفه الخاص الذي لا يختص به ، بل يوافقه طائفة من قومه مع عرف طائفة اخرى منهم كلفظ الرّطل (١) الذي اختلف فيه أهل المدينة والعراق ، فإذا خاطب الإمام عليه‌السلام مع كونه من أهل المدينة مع من كان من أهل العراق ، فهل يقدّم عرف الرّاوي أو المرويّ عنه (٢)؟ فيه إشكال.

__________________

ـ لو تعاطوها نادرا لم يريدوا إلا إحدى تلك الاطلاقات أيضا ، ولا كذلك أمر الدّابة واشباهها فإنّ الكل فيها على السّواء. ويمكن أن يقال : أنّه ليس من الألفاظ العربية ، بل هو معرّب كما نقل عن «الدروس» ، وانّ أصله دنّار بالتشديد كما في «القاموس المحيط» : ٢ / ٣٠ ، فابدلت إحدى النونين ياء لئلّا يلتبس بالمصادر ككذّاب ، وإذا لم يكن عربيا فلا عرف فيه لعموم المعرّب. وأما الاصطلاح فلا مشاحة فيه ، ويمكن أن يقال أيضا : بأنّ المراد بالدينار في العرف الشرعي هو المعنى الوزني منه ، فإنّه من خواصه وأصحابه ، والمعنى العرفي العام هو الذهب العيني الذي هو مثقال شرعي من الذهب مسكوك بسكة خاصة.

(١) الرّطل بالكسر والفتح وكسره أكثر ، عراقي ومدني ومكي ، فالعراقي عبارة عن مائة وثلاثين درهما هي إحدى وتسعون مثقالا شرعيا على ما سلف من النسبة بينهما ، فيكون كل رطل بالمثاقيل الصيرفيّة عبارة عن ثمان وستين مثقالا وربع مثقال ، ومن هنا يصير الكرّ دون المفسّر بألف ومأتي رطل محمول على العراقي أربعا وستين منّا شاهيا إلّا عشرين مثقالا صيرفيا. وأمّا المدني فهو عبارة عن رطل ونصف بالعراقي والمكي ضعف العراقي ، وما أورد على الدينار لا يرد على الرّطل لأنّ له معنى عرفيا عاما وراء ذلك كله ، فعن «مجمع البحرين» : ٥ / ٣٨٤ وفي المصباح أنّه معيار يوزن به ، يقال : رطلت الشيء من باب قتلت وزنته بيدك لتعرف وزنه تقريبا.

(٢) كمرسلة ابن أبي عمير الواردة في تحديد الكرّ عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الكرّ ألف ومائتا رطل. فإنّ المتكلّم المروي عنه وهو المعصوم عليه‌السلام مدني فيكون عرفه عرف أهل المدينة ، والرّاوي المخاطب ابن أبي عمير عراقي فيكون عرفه عرف أهل العراق. وهذه المسألة تعرف بتعارض عرف السّائل والمسئول ، وفيها خلاف فهل ـ

١٣١

والحقّ الرجوع الى القرائن الخارجية ، ومع عدمها التوقّف (١).

الثاني :

إذا اطلق الشارع لفظا على شيء مجازا مثل قوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» (٢). و : «تارك الصلاة كافر» (٣) ، وكذا تارك الحجّ (٤) ، ونحو ذلك (٥) ، فالظّاهر أنّ المراد منه المشاركة في الحكم الشرعي.

وفيه وجوه :

القول : بالإجمال لعدم ما يدلّ على التعيين.

والقول : بالعموم للظهور ، ولئلّا يلغو كلام الحكيم.

والقول بتساويهما في الأحكام الشّائعة لو كان للمشبّه به حكم شائع ، وإلّا فالعموم ، والأوجه الوجه الأخير.

والظاهر أنّه إذا قال : فلان بمنزلة فلان أيضا كذلك ، بل هو أظهر في العموم لصحّة الاستثناء مطلقا.

__________________

ـ يقدّم عرف الرّاوي كما عن العلّامة والشهيد الثاني راجع «إرشاد الأذهان» ١ / ٢٣٦ ، «تبصرة المتعلّمين» ص ١٦ ، «تحرير الأحكام» : ١ / ٤٦ ، «مسالك الأفهام» : ١ / ١٤ أو المروي عنه كما عن المرتضى وغيره من المتأخرين. راجع «الانتصار» ص ٨٥ ، «الناصريات» ص ٤١ و ٦٨ ، و «رسائل الشريف المرتضى» ٣ / ٢٢.

(١) كما عن السيد صاحب «المدارك» ١ / ٥٢ ، ونقله في «المفاتيح» عن جده وبعض معاصريه.

(٢) «عوالي اللّئالي» : ١ / ٢١٤ ، الحديث ٧٠ ، و ٢ / ١٦٧ ، الحديث ٣.

(٣) «الكافي» : ٢ / ٢١٢ ، الحديث ٨ ، «الوسائل» : ٤ / ٤٢ ، الحديث ٤٤٦٥.

(٤) «الوسائل» : ٩ / ٣٤ ، الحديث ١١٤٥.

(٥) مثل قوله عليه‌السلام «الفقاع خمر استصغره الناس» ، «الكافي» ٦ / ٤٢٣ ، الحديث ٩.

١٣٢

قانون

اختلفوا في جواز إرادة أكثر من معنى من معاني المشترك في إطلاق واحد على أقوال.(١)

وتحقيق الحق في ذلك يتوقّف على بيان مقدّمات :

الأولى : أنّ المشترك حقيقة في كلّ واحد من معانيه ، وقد عرفت أنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، أي فيما عيّن الواضع اللّفظ للدلالة عليه بنفسه في اصطلاح به التخاطب ، وقيد الاستعمال مبنيّ على اعتبار الاستعمال في الحقيقة ، والقيد الثاني لإخراج المجاز ، فإنّ دلالته على المعنى ليس بنفسه ، بل إنّما هو من جهة القرينة.

وأمّا المشترك ، فإنّه وإن كان قد عيّن في كلّ وضع للدلالة على المعنى بنفسه ، لكنّ الإجمال وعدم الدّلالة إنّما نشأ من جهة تعدّد الوضع ، فالقرينة في المشترك إنّما هي لأجل تعيين أحد المعاني المدلول عليه إجمالا ، لا لنفس الدّلالة. فإنّ الدلالة حين الإطلاق حاصلة إجمالا ، لكنّها غير معيّنة حتى تنصب القرينة ، بخلاف المجاز ، فإنّا إذا علمنا من قرينة أنّ المعنى الحقيقي غير مراد ، فنتوقّف في المعنى المراد حتى يعيّن بقرينة اخرى ، ولا يتحقّق لنا من نفسه شيء لا إجمالا ولا

__________________

(١) فذهب إلى عدم جوازه أبو هاشم وأبو الحسين البصري وجماعة مثل مالك وأبو حنيفة وأبو الحسن الكرخي والغزالي والرازي والجويني وآخرين ، والمحقّق الحلّي على تفصيل عند بعضهم. وذهب إلى جوازه الشافعي والقاضي أبو بكر وأبو عليّ الجبّائي والقاضي عبد الجبّار ، والعلّامة والسيّد المرتضى والشيخ حسن على تفصيل عند بعضهم.

١٣٣

تفصيلا ، وهذا معنى ما يقال : إنّ المجاز يحتاج الى قرينتين : صارفة ومعيّنة ، بخلاف المشترك ، وقد يكتفى بقرينة واحدة إذا اجتمع فيه الحيثيّتان (١).

لا أقول : إنّ مدلول المشترك عند الإطلاق واحد من المعنيين غير معيّن كما يتوهّم من ظاهر كلام السّكّاكي (٢) ، بل مدلوله واحد معيّن عند المتكلّم غير معيّن عند المخاطب لطريان الإجمال بسبب تعدّد الوضع.

وأمّا القيد الأخير ؛ فهو لإخراج الاستعمال فيما وضعت له في اصطلاح آخر. فاستعمال الفعل في مطلق الحدث في اصطلاح النحوي ليس حقيقة ، وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة ، وقد يستغنى عنه باعتبار الحيثيّة كما أشرنا اليه في أوّل الكتاب (٣).

الثانية : أنّ اللّفظ المفرد ـ أعني ما ليس بتثنية وجمع (٤) ـ إذا وضع لمعنى كلّي

__________________

(١) وذلك كلفظ يرمي من قولهم رأيت أسد يرمي ، فإنّها كما تكون قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس ، تكون قرينة معيّنة للمعنى المجازي الذي هو الرجل الشجاع أيضا.

(٢) للمشترك على ما ذكروه إطلاقات ، أحدها : أن يطلق على أحد المعنيين من غير تعيين ، وقد عزي إلى السكاكي أنّه حقيقة فيه ، وحكي عنه أنّ المشترك كالقرء ، مدلوله أنّ لا يتجاوز الطهر والحيض غير مجموع بينهما يعني أنّ مدلوله واحد من المعنيين غير معيّن. والتفتازاني في «المطوّل» له حمل وربما يظهر من الفاضل الباغنوي حمل أيضا ، وقد حقق المسألة صاحب «الهداية» : ١ / ٥٠١.

(٣) حيث قال في صدر القانون الثاني : إنّ اللّفظ إن استعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة.

(٤) إشارة الى أنّ المفرد قد يطلق في مقابل المركب ويراد به ما ليس بمركب ، وقد يطلق ـ

١٣٤

أو جزئي حقيقي ، فمقتضى الحكمة في الوضع أن يكون المعنى مرادا في الدلالة عليه بذلك منفردا.

توضيحه : أنّ غرض الواضع من وضع الألفاظ هو التفهيم بنفسه ، فلو كان في دلالة اللّفظ الموضوع بإزاء معنى كلّي أو جزئي مدخليّة لشيء آخر ، أو كان للمعنى شريك آخر في إرادة الواضع بأن يريد دلالة اللّفظ عليه أيضا ، لما كان ذلك المعنى هو تمام الموضوع له ، ولا بدّ من التنبيه عليه.

لا أقول : إنّ الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شيء آخر وبشرط الوحدة ، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضا ، بل أقول (١) : إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد ، وفي حال الانفراد لا بشرط الانفراد حتى تكون الوحدة جزء للموضوع له كما ذكره بعضهم (٢) ، فيكون المعنى الحقيقي للمفرد هو المعنى في حال الوحدة ، لا المعنى والوحدة ، فلا يتم ما يفهم من

__________________

ـ في مقابل المضاف ويراد به ما ليس بمضاف ، وقد يطلق في مقابل الجملة ويراد به ما ليس بجملة ، وقد يطلق في مقابل التثنية والجمع ويراد به ما ليس تثنية ولا جمع ، والمراد هنا هو الأخير لا غير.

(١) وفي هذا القول نظر من صاحب «الفصول» ص ٥٥.

(٢) الظاهر انّ المراد بذلك البعض هو صاحب «المعالم» راجع مبحث المشترك فيه ص ٩٦ ـ ١٠٢ حيث ذهب فيه الى انّ المراد بالموضوع له هو المعنى والوحدة معا ، فالموضوع له عنده هو الماهيّة بشرط أن يكون مع شيء آخر. والحاصل أنّ المراد بالموضوع له ليس هو الماهية بشرط الوحدة ومع الوحدة كما ذهب الى ذلك صاحب «المعالم» ، ولا بشرط الكثرة ومع الكثرة ، ولا بشرط الوحدة والكثرة يستعمل في الواحد والكثير كما فهم من كلام سلطان العلماء.

١٣٥

بعض المحقّقين (١) أيضا من أنّ الموضوع له هو المعنى لا بشرط الوحدة ولا عدمها ، فقد يستعمل في الواحد وقد يستعمل في الأكثر ، والموضوع له هو ذات المعنى في الصورتين ، فإنّ الموجود الخارجي الذي هو الموضوع له مثلا هو جزئي حقيقي وإن كان قد يكون الموضوع له كليّا بالنسبة الى أفراده.

واعتبار الكليّة والجزئيّة الجعليّتين الحاصلتين من ملاحظة انضمامه مع الغير وعدمه إنّما هو باعتبار المعتبر ، ومع عدم الاعتبار (٢) ، فالمتّبع هو ما حصل العلم بكونه موضوعا له وهو ليس إلّا المعنى في حال الانفراد (٣) ، لا بشرط الانفراد ، ولا لا بشرط الانفراد (٤).

فإن شئت توضيح ذلك فاختبر نفسك في تسميتك ولدك ، هل تجد من نفسك الرّخصة (٥) بأن تقول : إني وضعت هذا الاسم له بشرط أن يراد الوحدة (٦) أو لا بشرط الوحدة (٧) ولا عدمها. فهذا الإطلاق والتقييد إنّما هو باعتبار الوضع لا الموضوع له ، والمفروض عدم ثبوت ذلك الاعتبار من الواضع ، والأصل عدمه.

والحاصل ، أنّ المعنى الحقيقي توقيفي لا يجوز التعدّي فيه عمّا علم وضع الواضع له ، وفيما نحن فيه لا نعلم كون غير المعنى الواحد موضوعا له اللّفظ ،

__________________

(١) وهو سلطان العلماء كما بان في الحاشية السّابقة.

(٢) اي مع عدم العلم بالاعتبار.

(٣) وهو قيد الوحدة.

(٤) وهو قيد الاطلاق.

(٥) الاستفهام إنكاري أي لا يتحقق الوضع بهذه الكيفية.

(٦) وهو شرط الوحدة.

(٧) وهو شرط الاطلاق.

١٣٦

فلا رخصة لنا في استعمال اللّفظ بعنوان الحقيقة إلّا في المعنى حالة الوحدة لا بشرط الوحدة.

الثالثة : المجاز مثل الحقيقة في أنّه لا يجوز التعدّي عما حصل الرخصة من العرب في نوعه ، فإنّ الحقيقة كما أنّها موضوعة بوضع شخصي ، فالمجاز موضوع بوضع نوعي ، ولا بدّ من ملاحظة الوضع النوعي أيضا ، وأنّ الرخصة في أي نوع حصل.

والحاصل ، أنّه لا يجب الرخصة من العرب في كلّ واحد من الاستعمالات الجزئية إذا حصل الرخصة في كليها ، وهذه الرخصة ليست بنصّ من العرب وتصريح منه ، بل يحصل لنا من استقراء استعمالاته الجزئية ، العلم بتجويزه لهذا النوع من الاستعمالات في ضمن أيّ فرد من أفراد ذلك النوع ، وقد ذهب المحقّقون من علماء الأدب (١) الى عدم وجوب الرّخصة في الجزئيّات.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّه قد يوجد تلك الاستعمالات في جزئيّات صنف من أصناف نوع من أنواع العلاقات المعتبرة في المجاز أو نوع من أنواع جنس منها ، ولم يوجد في صنف آخر من ذلك النّوع ولا نوع آخر من ذلك الجنس. فالذي نجد الرّخصة من أنفسنا هو الحكم بالتجويز فيما لم نطّلع عليه من سائر جزئيّات ذلك الصّنف المستعمل في بعضها بسبب استقراء ما وجد فيه الاستعمال ، لا في جزئيّات الصّنف الآخر (٢) ، وهكذا الكلام في النوع من الجنس.

مثلا إذا رأينا العرب يستعمل اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، لكنّا وجدنا ذلك فيما كان للكلّ تركّب حقيقي خارجي ، وكان الجزء ممّا له قوام في تحقّق الكلّ ،

__________________

(١) المقصود أعمّ من علماء المعاني والبيان وغيرهما.

(٢) كاستعمال الأصبع في الانسان وهو غير صحيح.

١٣٧

كالرّقبة في الإنسان والعين في الربيئة (١) ، فلا يجوز القياس باستعمال سائر الأجزاء في المركّبات الحقيقيّة ، وجميع الأجزاء في المركّبات الاعتبارية.

وكذلك وجدنا أنّهم يستعملون اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، إذا كان المركّب مركّبا حقيقيّا ، كالأصابع في الأنامل في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ)(٢) ، واليد في الأصابع الى نصف الكفّ في آية السّرقة ، والى المرفق في آية الوضوء ، والى الزّند في آية التيمم (٣) ، فلا يجوز القياس في غير المركّبات الحقيقية.

وأيضا إنّا وجدنا العرب تستعمل الألفاظ الموضوعة للمعاني الحقيقية في المعاني المجازية مع القرينة الصارفة منفردا منفردا ، أعني لا يريد في الاستعمال الواحد إلّا معنى مجازيا واحدا.

وبالجملة ، المجازات المستعملة وحداني غالبا ، ولم يحصل لنا العلم بترخيصهم في استعمال اللّفظ في مجازين ، وعدم العلم بالرّخصة كاف في عدم جواز الاستعمال ، فإنّ جواز الاستعمال مشروط بحصول العلم أو الظنّ بالرّخصة.

الرابعة : المتبادر من التثنية والجمع هو الفردان ، أو الأفراد من ماهيّة واحدة لا الشيئان أو الأشياء المتّفقات في الإسم ؛ فيكون حقيقة في ذلك ، فإنّ التبادر علامة الحقيقة ، وتبادر الغير من علائم المجاز.

__________________

(١) والمقصود منها المراقب والحارس.

(٢) البقرة : ١٩.

(٣) كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). المائدة / ٣٨ في آية السّرقة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ). المائدة / ٦ في آية الوضوء. وقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ). المائدة / ٦ في آية التيمم.

١٣٨

فإن شئت اختبر نفسك في مثل : رأيت مسلمين أو مسلمين ، فإنّه يتبادر منه رجلان مسلمان أو رجال مسلمون لا الرّجلان المسمّيان بمسلم والرجال المسمّون بمسلم ، فيعتبر في الأعلام المثنّيات والمجموعات مفهوم كلّي في مفردها مجازا ، مثل المسمّى بمسلم أو المسمّى بزيد مثلا ، ثمّ يثنّى ويجمع.

ويؤيّد ما ذكرنا ويؤكّده ، أنّه لو قلنا بكفاية مجرّد اتّفاق اللّفظ في التثنية والجمع ؛ للزم الاشتراك في مثل عينين إذا جوّزنا استعماله حقيقة في الشّمس والميزان ، أو البصر والينبوع ، فلا بدّ من التوقّف ، فيلزم هاهنا قرينة اخرى ، لأنّ التثنية للنوعين لا للفردين من نوع ، والمجاز خير من الاشتراك فيتكثّر الاحتياج الى القرائن.

الخامسة : المتبادر (١) من النّكرة المنفيّة المفيدة للعموم ، هو نفي أفراد ماهيّة واحدة.

وأيضا الإسم المنكر إذا اعتبر خاليا عن اللّام والتنوين ، وعلامة التثنية والجمع حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، وإذا لحقه التنوين يراد به فرد من أفراد تلك الماهيّة غير معيّنة ، وإذا لحقه الألف والنون أو الواو والنون مثلا يراد به فردان أو أفراد من تلك الماهيّة ، وإذا لحقه الألف واللّام فإمّا أن يشار بها الى الفرد أو لا ، فالثاني يراد به تعريف الجنس وتعيينه ، والأوّل ؛ فإمّا أن يراد به الإشارة الى فرد غير معيّن ، فهو المعهود الذّهني وهو في معنى النّكرة ، أو الى فرد معيّن ، فهو المعهود الخارجي ، أو الى جميع الأفراد ، فهو الاستغراق.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ دخول حرف النّفي على النّكرة لا تفيد إلّا نفي أفراد

__________________

(١) مسارعة الى الدليل قبل ذكره للمقصد ، لكن بحيث يتضمن دعواه. وكأنّه قال النكرة المنفية حقيقية في عموم النفي لجميع أفراد ماهيّة واحدة للمتبادر.

١٣٩

تلك الماهيّة. وإذا ثبت أنّ اللّفظ المشترك حقيقة في كلّ واحد من المعاني منفردا منفردا ، فلا شيء يوجب دخول معنى آخر من معانيه فيما دخله حرف النفي.

إذا تمهّد لك هذه المقدّمات ؛ فنقول :

استعمال المشترك في أكثر من معنى يتصوّر على وجوه :

منها : استعماله في جميع المعاني من حيث المجموع.

ومنها : استعماله في كلّ منها على البدل (١) ، بأن يكون كلّ واحد منها مناطا للحكم ، والفرق بينهما الفرق بين الكلّ المجموعي والأفرادي (٢).

ومنها : استعماله في معنى مجازي عام يشمل جميع المعاني ، وقد يسمّى ذلك

__________________

(١) قال في الحاشية : المراد بالبدل ليس ما هو المتداول في ألسنة الأصوليين في هذا المقام ، يريدون به الاستعمال المعهود في المشترك وهو أن يستعمل اللّفظ مرّة في هذا المعنى وأخرى في معنى آخر ، ولا ما هو المراد في المطلق حيث يراد فيه كل واحد من المعاني على البدل ، يعني يجوز في مثل اعتق رقبة بمقتضى قول الشرع اختيار كل فرد من أفراد الرّقبة بدلا عن الآخر ، فيجوز اختيار أحد الأفراد ويجوز تركه واختيار فرد آخر بدلا عنه ، بل المراد تعاور المعاني المتعدّدة للّفظ الواحد ، والفرق بين ما ذكرنا وعام الأصولي انّ المراد بالعام الأصولي هو ما يعبّر عنه بكل واحد ونحوه. والمراد بما نحن فيه هذا وهذا الى آخر الأفراد. فمعنى قولنا : القرء من صفات النساء ، على ما هو محلّ النزاع انّ الحيض والطهر من صفات النساء ، لا كل واحد من الحيض والطهر من صفات النساء ، إذ من الواضح أنّ معنى القرء ليس كل واحد من الأمرين حقيقة مع أنّ محلّ النزاع لا بد أن يكون قابلا لقول القائل بكونه حقيقة فيها أيضا. انتهى.

(٢) وبيان الفرق بينهما أنّه لو قلنا كلّ العشرة وصلوا المسجد ، فالمراد ثبوت الحكم لمجموع أفراد العشرة من حيث المجموع وعلى الهيئة الاجتماعية ، فلا ينافي خروج الواحد أو الاثنين عنهما ، بخلاف ما لو قلنا كل القوم دخلوا المسجد ، فإنّ المراد ثبوت الحكم حينئذ لكل فرد من أفراد القوم فينافي خروج الواحد أو الاثنين منه.

١٤٠