مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٤
فمن كان عفيفاً شريف النفس ملتزماً بالدين وقوانينه ، وكان صاحب ورع وعفة ، وعدل في الأقضيه ، أترى يتجاوز عن حدود الشريعة ويرتكب مالا يرتكبه من له أدنى علم وورع ؟ ما هكذا تورد يا سعد الإبل ؟
لقد تولى الشريف نقابة الطالبيين ، وإمارة الحجّ ، والنظر في المظالم سنة ٣٨٠ وهو ابن واحد وعشرين سنة على عهد الطائع ، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة عام ٣٩٧ ، ثم عهد اليه في ١٦ محرّم عام ٤٠٣ بولاية اُمور الطالبيين في جميع البلاد فدُعي نقيب النقباء ، وتلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل البيت إلّا الإمام علي بن موسى الرضا ـ سلام الله عليه ـ الذي كانت له ولاية عهد المأمون ، واُتيحت للشريف الخلافة على الحرمين على عهد القادر (٢٩).
والنقابة موضوعة لصيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافؤهم في النسب ، ولا يساويهم في الشرف ، ليكون عليهم أحبى ، وأمره فيهم امضى ، وهي على ضربين : خاصة وعامة ، اما الخاصة فهي أن يقتصر بنظره على مجرّد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد ، فلا يكون العلم معتبراً في شروطها ، ويلزمه في النقابه على أهله من حقوق النظر إثنا عشر حقا ، وقد ذكرها الماوردي في الأحكام السلطانيّة.
واما النقابه العامة ، فعمومها أن يُردّ إلى النقيب في النقابة عليهم مع ما قدمناه من حقوق النظر ، خمسة أشياء :
١ ـ الحكم بينهم في ما تنازعوا فيه.
٢ ـ الولاية على أيتامهم في ما ملكوه.
٣ ـ إقامة الحدود عليهم في ما ارتكبوه.
٤ ـ تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أولياؤهن أو قد تعينوا فعضلوهن.
٥ ـ إيقاع الحَجر على من عته منهم ، أو سفه وفكه إذا أفاق ورشد.
فيصير بهذه الخمسة عامّ النقابة ، فيعتبر في صحّة نقابته وعد ولايته أن يكون عالماً من أهل الإجتهاد ليصحّ حكمه ، وينفذ قضاؤه (٣٠).
فمن تصدّى لهذه المناصب الخطيرة أعواماً وسنين عديدة مضافاً الى ولاية المظالم
________________________________
(٢٩) الشرح الحديدي ١ : ٣٣ ، ولاحظ الغدير ٤ : ٢٥٠.
(٣٠) الأحكام السلطانية ص ٨٢ ـ ٨٦.
والولاية على الحج ، والكلّ يتطلب خصوصيات وصفات نفسانية عالية ، وسجايا أخلاقية رفيعة جداً ، حتى أنه يجب أن يكون ظاهر العفة ، قليل الطمع ، كثير الورع ، لا يعقل أن يقوم بما جاء ذكره في القصّة السابقة التي لا توجد إلّا في علبة القصاصين وجعبة الوضاعين.
*
كلّ ما مرّ عليك من الأكاذيب والتهم كان يختص إما بالشريف الرضي أو أخيه المرتضى ، وكان الهدف من وراء وضع هذه التهم تكبير هذا بتصغير ذاك أو بالعكس ، هذا يرشد الى ان كليهما كانا موضع حقد البعض وبغضهم وحسدهم ، لا أحدهما خاصة.
ويؤيد ذلك ما اتهما به على وجه الإشتراك ، وأوّل مارميا به ما ذكره ابن خلّكان في تاريخه إذ قال : اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب ، هل هو جمعه ، أو جمع أخيه الرضي ، وقد قيل انه ليس من كلام «عليّ» إنما الذي جمعه ونسبه اليه ، هو الذي وضعه (٣١).
وتبعه اليافعي ـ من دون تحقيق ـ وردّد نفس ما قاله ابن خلكان في تاريخه (٣٢).
فما تورّط فيه هذان الكاتبان من نسبة الكتاب الى علم الهدى واتهامه بوضعه أو عزو ذلك إلى سيّدنا الشريف الرضي ، مما لا يُقام له في سوق الحقائق وزن ، وليس له مناخ إلّا حيث تربض فيه العصبية العمياء وهو يكشف عن جهل اُولئك.
وبما انه قد قام عدة من المحققين بنقد هذه النسبة بوضع تأليف قيمة حول : ما هو نهج البلاغة ؟ وذكر مصادره المؤلّفة قبل أن يولد الرضي أو الشريف المرتضى ، فنحن نضرب عن ذلك صفحاً ونمرّ عليه كراماً.
وفي كتاب مصادر نهج البلاغة للعلامة الخطيب السيد عبدالزهراء الحسني ، وما كتبه الاُستاذ عبدالله نعمة ، وماأفرده العلامة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في ذلك المضمار ، وطبع مع كتابه مستدرك نهج البلاغة غنى وكفاية في دحض الشبهة ، وإبطال الفرية ، والله الهادي.
________________________________
(٣١) وفيات الأعيان ٣ : ٣١٣ ، بيروت ، ط دارالثقافة.
(٣٢) لاحظ الروضات ٤ : ٣٠٤ ، ولاحظ الرياض ٤ : ٥٥.
دفاع عن الشريف الرضي في عقيدته |
الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني |
لم يكن الشريف الرضي رضي الله عنه ـ بأوّل من تزاحمت حوله نظريات زائفة ، وحامت دون صميم عقيدته أقاويل مختلفة ، وآراء متضاربة مما أثار هذا التزاحم الشك والحذر والتساؤل عن عقيدته لإدراك الواقع والحقيقة ، لأنّ التاريخ كثيراً ما يقسو ، والقلم قد يسكب عن الصراط المستقيم ، والبيان يشذّ عن مهيع الحق ، فيحرّف الكلم عن مواضعها الأصيلة ، وهذا ما نشاهده بكثرة في معاجم السير والتراجم التاريخ :
كم حادث جلل ببطن الكتب يدرسها |
|
سرد المؤرخ ذكره طوعاً لما أوحى الهوى |
فإذا ما تصفحنا التاريخ بدقة ودرسناه دراسة تتبّع وتحقيق لألفينا على صفحاته من النظريات الشاذّة والآراء المتناقضة المتضاربة بالنسبة إلى رجالات الشيعة الإمامية بصورة عامة على امتداد التاريخ ، إذ لم يسلموا من لدغات هاتيكم الكلمات القارصة ، والنسب الفارغة المفتعلة ، مع اليقين أنهم متبرئون منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السّلام.
إنّ الشريف الرضيّ واحد من الذين جنى عليهم التاريخ
، وحرّف القلم عن بيان واقعه ، وتعريف حقيقته فشطّ عن مهيع الحق ، وسجّل ماهو خلاف الواقع لذلك اندفع المؤلف والكاتب عن الشريف الرضي يضع علائم الإستفهام حول معتقده ، ودينه ، وعقيدته ، وسياسته ، وحتى حياته الفردية والإجتماعية لأنّ الأمر التبس
عليه من جراء هذا التزاحم والتحريف. فالتاريخ ارتكب الأمرين : إخفات الواقع واخفاء الحقيقة ، وأخيراً اعياء الأجيال واتعاب الأنسال ، مع العلم أنّ حياة الشريف الرضي
لا
يكتنفها الغموض ، فهي كسائر حياة رجالات الشيعة تتناول ناحيتين احداها سياسية والاُخرى دينية ، وأساس الناحيتين واحد وليست الصفة هذه خاصة به بل ان قادة الشيعة وعلماءها كافة في جميع الأدوار والقرون كانوا كائمتهم الهداة عليهم السّلام رجال علم ودين وفقه واجتهاد ، ورجال سياسة وقيادة وسيف وحرب معاً.
لقد تضاربت النظريات حول الشريف الرضي ، كما تزاحمت في شخصية تلميذه شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، ذلك العملاق العلمي الذي استقل بالزعامة الدينية وتقلّد شؤون الطائفة الإمامية والفتيا إلى أن توّفي عام ٤٦٠ هـ ، فقد ترجم له تقي الدين السبكي في «طبقات الشافعية» المجلد ٣ ص ٥١ ، وقال : إنّ أبا جعفر الطوسي كان ينتمي إلى مذهب الشافعي قدم بغداد وتفقّه على مذهب الشافعي. واحتذى حذوه شمس الدين الذهبي في كتابه «مناقب الشافعي وطبقات أصحابه» ، والحاجي خليفة في «كشف الظنون» المجلد ١ ص ٤٥٢ ، إلى غيره من الأقاويل التي لا مقيل لها في ظل الحقيقة ، وبعيدة كل البعد عن جادة الصدق والصواب والصحة. وهذه الناحية تخص تراجم رجالات الطائفة الإمامية فحسب ، ولا طريق لها في تراجم رجال المذاهب الإسلامية الاُخرى ، وإن شوهدت ففي نطاق ضيق ، وداخل اطار محدود.
وهذا إن دلّ على شيء فانّما يدلّ على جهل اُولئك المؤلفين برجال الشيعة وتصانيفهم ، ويكشف عن عدم دراستهم لمؤلفاتهم ليقفوا على صفحاتها ماينبىء عن واقع عقيدتهم ، وحقيقة معتقداتهم ولو بصورة سطحية ، هذا وربّما كان الحسد باعثاً على التمويه والخلط :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله |
|
فالناس أعداء له وخصوم |
كضرائر الحسناء قلن لوجهها |
|
حسداً وبغضاً إنّه لدميم |
امّا بالنسبة إلى أبي الحسن الرضي فهناك أعجب كلمة وأغرب قولة قالها شمس الدين الذهبي فقد جاء في كتابه «سير النبلاء» المجلد ٣ ص ٢٨٩ في حوادث سنة ٤٣٦ : وفيها توفي شيخ الحنفية العلامة المحدّث أبوعبدالله الحسين بن موسى الحسيني الشريف الرضي واضع كتاب «نهج البلاغة».
ان هذا القول مردود لجهات :
١ ـ إنّ الحسين بن موسى هو والد الشريف الرضي لا اسم الشريف الرضي ، وقد توفي عام ٤٠٠ لا سنة ٤٣٦ ، ورثاه الشريفان المرتضى والرضيّ ، ورثاه أبو العلاء المعري ، ومهيار الديلمي.
٢ ـ جامع نهج البلاغة محمد بن الحسين بن موسى الشريف الرضي لا الحسين بن موسى ، وكان من أبطال ورجالات الشيعة الإمامية لا شيخ الحنفية كما صرحت بذلك المصادر ، ومنهم جلال الدين السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة» فقال : كان الشريف أبو أحمد سيداً عظيماً مطاعاً وكانت هيبته أشدّ هيبة ، ومنزلته عند بهاء الدولة أرفع المنازل ، ولقّبه بالطاهر ، والأوحد ، وذوي المناقب ، وكانت فيه كل الخصال الحسنة إلّا انّه كان رافضياً هو وأولاده على مذهب القوم.
٣ ـ إنّ نهج البلاغة للشريف الرضيّ من غير شكّ وترديد مهما طبّل وزمّر المعاند المتطفل على موائد الكتابة والتأليف فأبدى ضآلة رأيه ، وسخف أنظاره ، فجاء كالباحث عن حتفه بظلفه ، فقال احدهم : إنّه كلّه من كلام جامعه لا من كلام من نسب إليه. وجاء آخر فزعم أنه من تأليف الشريف المرتضى أخي الشريف الرضي ، وادّعى انه من وضعه أيضاً لا من كلام أميرالمؤمنين عليه السّلام. وبعضهم تنازل عن هذه الدعوى الى ماهو أخف منها ، فقال : قد أدخل فيه ما ليس من كلام علي (ع) ، وبعضهم كالذهبي شمس الدين في كتابه «الميزان» ، تجاوز الحدّ فادعى ان كلامه ركيك وأنه ليس من نفس القرشيين.
هذا ما في كتب القوم بالنسبة إلى الشريف الرضيّ ومهما يكن من أمر فالذي ينبغي القول به حقا : إنّ الشريف الرضي كان فقيهاً عالماً متكلماً مجتهداً عملاقاً ومن كبار رجالات الشيعة الإمامية وأنّه لم يكن زيدياً ، ولم ينتسب الى طائفة أو مذهب غير التشيع ، فهو يؤمن برسالة النبيّ الأعظم (ص) وإمامة وخلافة الائمة الأثني عشر عليهم السّلام.
لقد صرّح وأبان بمعتقده هذا في طيات نثره ونظمه ، ولم يتطرّق بصورة باتة إلى ذكر زيد أو عمرو أو الى إسم واحد من ائمة الزيدية ، لذلك كانت على منثوره ومنظومه مسحة من العبق العلويّ الأمامي ... والعطر الجعفري الإثني عشري ، وسيبقى خالداً إلى الأبد مع الحياة وما دامت الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إنّ الشريف الرضي عبّر في شعوره عن ولائه وحبه الخالص لآل البيت عليهم السّلام ، ودافع عن حقهم المشروع المغتصب وعدّ أسماءهم الكريمة ومحلّ قبورهم الشريفة ، ومثاويهم المقدسة ، وأتى بعين الواقع فما أحلى أسماءهم ، وأكرم أنفسهم ، وأعظم شأنهم ، وأجلّ خطرهم ، وأوفى عهدهم ، وأصدق وعدهم ، كلامهم نور وأمرهم رشدٌ ووصيّتهم التقوى ، وفعلهم الخير ، وعادتهم الإحسان ، وسجيتهم الكرم ، وشأنهم الحق ، والصدق ، والرفق ، وقولهم حكم وحتم ، ورأيهم علم وحلم ، إن ذُكر الخير كانوا أوّله وأهله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه.
قال في مفتتح كتابه «خصائص الائمة» : كنت حفظ الله عليك دينك ، وقوّى في ولاء العترة يقينك ـ سألتني أن اُصنّف لك كتاباً يشتمل على خصائص أخبار الائمة الإثني عشر صلوات الله عليهم ، على ترتب أيامهم ، وتدريج طبقاتهم ، ذاكراً أوقات مواليدهم ، ومدد أعمارهم ، وتواريخ وفاتهم ، ومواضع قبورهم ، وأسامي اُماتهم ، ومختصراً من فضل زياراتهم ، ثم مورداً طرفا من جوابات المسائل التي سُئلوا عنها ، واستخرجت أقاويلهم فيها ، ولمعاً من أسرار أحاديثهم ، وظواهر وبواطن أعلامهم ، ونبذاً من الأصحاح في النص عليهم».
ومن نماذج شعره قوله في قصيدة يفتخر بأهل البيت ويذكر قبورهم ويتشوّق إليها ومنها :
سَقى الله المدينة من محل |
|
لباب الماء والنطف العذاب |
وَجاد على البقيع وساكنيه |
|
رخيّ الذيل ملآن الوطاب |
وأعلام الغريّ وما أستباحت |
|
معالمها من الحسب اللباب |
وقبر بالطفوف يضمُّ شلواً |
|
قضى ظمأ إلى برد الشراب |
وبغداد وسامرا وطوس |
|
هطول الودق منخرق العباب |
قبور تنطف العبرات فيها |
|
كما نطف الصبير على الروابي |
صلاة الله تخفق كل يوم |
|
على تلك المعالم والقباب |
إلى أن يقول :
ولي قبران بالزوراء اُشفي |
|
بقربهما نزاعي واكتئابي |
اقود اليهما نفسي واُهدي |
|
سلاماً لا يحيد عن الجواب |
لقاؤهما يطهر من جناني |
|
ويدرأُ عن ردائي كلّ عاب |
قسيم النار جدّي يوم يلقى |
|
به باب النجاة من العذاب |
وساقي الخلق والمهجات حرّى |
|
وفاتحة الصراط إلى الحساب |
هذا وفي شعره الكثير من هاتيك النماذج الحية نضرب عنها صفحاً خشية الإطالة ، وحسبنا انها صريحة بأنّ الشريف الرضي شيعي إمامي في جوانبه العلمية والفكرية والعقائدية والسياسية كافة ، وأخيراً كان المثل الأعلى في الفضائل كلها ، وأختم حديثى بما قاله علي بن الحسن الباخرزي في كتابه «دمية القصر» قال : ولعمري إنّ بغداد قد أنجبت به فبوّأته ظلالها ، وأرضعته زلالها ، وأنشقته شمالها ، وورد شعره دجلتها ، فشرب منها حتى شرق ، وانغمس فيها حتى كاد يقال غرق ، فكلما انشدت محاسنه تنزّهت بغداد في نضرة نعيمها ، واستنشقت من نفاس الهجير بمراوح نسيمها ...
اكذوبتان حول الشريف الرضيّ |
السيّد جعفر مرتضى العاملي |
الشريف الرضي هو ذلك الرجل العظيم ، الذي يمتلك الشخصية الفذة ، التي يعنو لها كل عظماء التاريخ الذين جاؤا بعده بالإجلال والإكبار ، وكانت ولا تزال تستأثر منهم ، ومن كل مفكّر ونيقد بأسمى آيات العظيم والتكريم ، حيث يجدون فيها كل الخصائص الإنسانية النبيلة ، التي تملأ نفوسهم ، وتنبهر بها عقولهم ، وتعنو لها ضمائرهم ..
ولعلّ من يسبر ثنايا التاريخ لا يكاد يعثر على أي مغمز أو هنّات في شخصية هذا الرجل العملاق على الإطلاق ، بل على العكس من ذلك تماماً ... فإنك مهما قرأت عن حياة هذا الرجل ، فإنك لن تجد إلّا آيات المدح والثناء ، والمزيد من الإعجاب والإطراء ، من محبيه ومناوئيه على حد سواء.
إلا انّنا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع أن نولي هذا التاريخ كل الثقة ، ولا أن نمنحه كل الطمأنينة ... فلعل ... وعسى ... وقد ... ولربما.
فما علينا إلّا أن ندرس التاريخ ونصوصه دراسة مستوعبة وشاملة ، من شأنها أن تقضي على كل أمل بالعثور على المزيد مما له مساس بهذه الشخصية أو بتلك ، كما أن علينا أن نهتمّ بكل صغيرة وكبيرة ، وأن لا نعتبر هذا تافهاً ، وذاك ثميناً ، إلّا بعد البحث والتمحيص والتدقيق والمعاناة ، فالتافه ما أثبت البحث تفاهته وكذبه وزوره ، والثمين ما استمد قيمته من صدقه ومن واقعيته ، وذلك هو ما يثبت أصالته وجدارته أيضاً.
وبالنسبة للشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه كان
الأمر من هذا القبيل ، فرغم أن البحث المستقصى قد أثبت عظمته وجدارته ، وأبان بما لا يقبل الشك عن نبله ،
وعلمه ، وفضله ، وسمو نفسه ، وعن كرائم أخلاقه ، إلا اننا ـ مع ذلك ـ قد عثرنا أخيراً على نصّين متميزين وغريبين في نفسهما مما اضطرنا لخوض غمار البحث من أجل إثارة الكوامن ، وتسليط الأضواء الكاشفة ، لينكشف زيف الزائف ، ويبطل خداع السراب.
الاُكذوبة الاُولى : الشريف الرضيّ كان زيديا ؟!
قال ابن عنبة :
«ووجدت في بعض الكتب أن الرضي كان زيدي المذهب ، وأنه كان يرى أنه أحق من قريش بالإمامة» (١).
مناقشة النص
ولكن ذلك لا يصح ، فإنّ كونه إمامياً أشهر من النار على المنار ، ومن الشمس في رابعة النهار ، بل لقد كان ـ على حد تعبير ابن تغري بردى ـ : «كان عالي الهمّة ، متديّناً ، إلا انه كان على مذهب القوم إماماً للشيعة ، هو وأبوه وأخوه».
ويكفي للتدليل على إماميته أنه قد ذكر الائمة الإثني عشر في قصيدته المشهورة ، التي قالها وهو بالحائر الحسيني ، والتي مطلعها :
كربلا لا زلت كرباً وبلا |
|
ما لقي عندك آل المصطفى |
إلى ان قال :
معشرٌ منهم رسولُ الله والكا |
|
شف للكرب إذا الكرب عرا |
صهره الباذلُ عنه نفسه |
|
وحسامُ الله في يوم الوغى |
أول الناس الى الداعي الذي |
|
لم يقدّم غيره لمّا دعا |
ثم سبطاه الشهيدان فذا |
|
بحسي السمِّ وهذا بالظبا |
وعلي وابنه الباقر والصا |
|
دق القول ، وموسى والرضا |
وعلي ، وأبوه وابنه |
|
والذي ينتظر القومَ غدا |
يا جبال المجدِ عزاً وعلا |
|
وبدور الأرض نوراً وسنا |
________________________________
(١) عمدة الطالب : ٢١٠ ، وروضات الجنات : ٥٤٨.
وقد وجّه ابن عنبة نسبة الزيدية إليه وقوله بأنه أحق من قريش بالإمامة بقوله : «وأظن : إنما نسب الى ذلك لما في أشعاره من هذا ، كقوله ـ يعني نفسه ـ :
هذا أميرالمؤمنين محمّد |
|
طابت أرومته وطاب المحتد |
أو ما كفاك بأن اُمك فاطم |
|
وأباك حيدرة وجدك أحمد |
وأشعاره مشحونة بذلك.
ومدح القادر بالله ، فقال في تلك القصيدة :
ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ |
|
أبداً كلانا في المفاخر معرق |
إلّا الخلافة ميّزتك فانني |
|
أنا عاطلٌ منها وأنت مطوق |
فقال له القادر بالله : على رغم انفك الشريف (٢).
اما الشيخ عبدالحسين الحلي ، فيرى : «إن تلك التهمة ـ الزيدية ـ قد الصقت به من قبل آبائه لاُمه ، لأن بني الناصر الكبير أبي محمد (الحسن الاطروش) صاحب الديلم ، لكن هذا قد ثبت لدى علماء الرجال من الإمامية وفي طليعتهم السيد الشريف المرتضى علم الهدى في كتابه : شرح المسائل الناصرية نزاهته ، ونزاهة جميع بنيه عن تلك العقيدة المخالفة لعقيدة أسلافهم.
سوى ان اصطلاح الكتاب أخيراً جرى على تسمية الثائر في وجه الخلافة زيدياً ، ولمن كان بريئاً من عقائد الزيدية ، يريدون أنه زيدي النزعة لا العقيدة.
وربّما تطرفوا ، فجعلوا لفظ : زيدي ، لقباً لكل من تحمس للثورة ، وطالب بحق زعم أنه أهله ، وإن لم يجرد سيفاً ، ولم يحد قيد شعرة عن مذهب الإمامية في الإمامة ، ولا عن طريقة الجماعة. ولقد كان أبوحنيفة في نقل أبي الفرج الأصبهاني زيدياً ، وكذا أحمد وسفيان الثوري ، وأضرابهم من معاصريهم. ومراده من زيديتهم : انهم يرون أن الخلافة الزمنية جائرة ، وان الخارج آمراً بالمعروف أحق بالإتباع والبيعة» (٣).
وقال : «الذي يقال : انه إمام الزيدية هو الملقب بالدّاعي الى الحق ، وهو الحسن ابن زيد ... توفي بطبرستان سنة ٢٥٠ هـ ... واما الحسن بن علي الملقّب بالناصر للحق الكبير ، وهو الاطروش ، أحد أجداد الشريف لاُمه والحسن أو الحسين بن علي ـ أو ابن
________________________________
(٢) عمدة الطالب : ٢١٠ ، وروضات الجنات : ٥٤٨.
(٣) مقدمة حقائق التأويل : ٧٥ ـ ٧٦.
أحمد ـ الملقّب بالناصر الأصغر ، وهو والد اُم الشريف فليسا من ائمة الزيدية.
ومن زعم أن الناصر إمام الزيدية ، فقد اشتبه عليه الداعي للحق بالناصر للحق ، ولا يبعد دعوى اتباعه انه زيدي لكنه بريء عن تبعة اعتقادهم ...» (٤).
الاكذوبة الثانية : الشريف في مجالس المجون :
يقول الحصري : «شرب كوران المغني عند الشريف الرضي ، فافتقد رداءه ، وزعم أنه سرق ، فقال له الشريف : ويحك ، من تتهم منا ؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوي ما عليه ؟!
قال : انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي ، واطووه الى يوم القيامة» (٥).
مناقشة النص :
ونحن في مجال مناقشة هذا النص ، لا نريد أن نتوقّف كثيراً عند :
ألف : إنّ الحصري لم يذكر سنداً لهذا الرواية ، ولا أعرب عمن نقل هذه القصة عنه ، اذ قد يجوز لقائل أن يقول : إن من الممكن أن يكون الحصري قد نقل ذلك عن ثقة ، لا يتعمد الكذب والوضع.
باء : ولا نريد أن نناقش في حرمة النبيذ ، فنقول : إنّ حرمته غير مسلّمة لدى جميع الفقهاء. إذ ان الشريف رضوان الله تعالى عليه قد كان من طائفة الإمامية الذين يرون حرمة النبيذ كسائر أنواع الخمر.
جيم : ولا بأن النص لم يتضمن مشاركة الشريف الرضي رحمه الله في الشرب. فإن مجرد كون مجلس الشراب في بيته وحضوره فيه كاف في إثبات الإدانة للسيد الشريف.
دال : ولا بأننا رغم بحثنا الجاد لم نعثر على ذكر لكوران المغني هذا الذي ورد اسمه على أنه بطل هذه الحادثة. إذ قد يمكن الجواب عن ذلك : بأن عدم ذكره في غير هذه
________________________________
(٤) المصدر السابق ، الهامش.
(٥) زهر الآداب ٢ : ٤٩٦ ، ط دار الجيل ، بيروت سنة ١٩٧٢.
الحادثة لا يدلّ على عدم وجوده.
لا ، لا نريد المناقشة بذلك ، ولا الإصرار عليه على أنه أو بعضه كاف في وهن هذه الرواية وعدم اعتبارها.
وإنما نريد أن نلقي نظرة سريعة على واقع وأخلاقيات الشريف الرضي ، لنرى إن كانت تنسجم مع إقامة مجالس كهذه ام لا ؟
ولا نريد أن نتشبث فيما يذكره كل من ترجم الشريف من إبائه ، وعزة نفسه ، وطموحه الى جلائل الأعمال وعظائمها ، وتحلّيه بمحاسن الأخلاق وكرائمها ، وترفّعه عن كل مهين ، وتجنّبه كل مشين ، ونحو ذلك. فلربّما يقال : إن هذا كله لا يتنافى مع صدور ذلك منه ، فإن شرب النبيذ ، والحضور في مجالسه لم يكن عيباً ، ولا هو محل بالمرؤة ، ولا مهيناً للكرامة ، بعد أن كل الأعيان والأشراف ، وحتى الخلفاء يمارسون ذلك ، ولا يأبون عنه ، ولا يرون فيه أي محذور.
وإنما نريد أن نشير الى مايلي :
أولاً : إن الشريف كان منزهاً عن مثل هذه الأعمال ، لأنه كان ورعاً متديناً ، ملتزماً بالدين وقوانينه ، حيث يقولون عنه ، انه :
«كان صاحب ورع ، وعفّة ، وعدل في الأقضية ، وهيبة في النفوس» (٦).
وان «أمره في العلم ، والفضل ، والأدب ، والورع ، وعفّة النفس وعلوّ الهمة ، والجلالة ، أشهر من أن يذكر» (٧).
وأنه كان «عالي الهمّة متديناً ، إلّا أنه كان على مذهب القوم إماماً للشيعة ، هو وأبوه وأخوه» (٨).
وانه : «الشاعر العالم الزاهد» (٩).
________________________________
(٦) الغدير ٤ : ٢٠٤ ، عن الرفاعي في صحاح الأخبار : ٦١.
(٧) الكُنى والألقاب ٢ : ٢٧٢ ، ط العراق ، النجف الأشرف ـ الحيدرية ، سنة ١٣٨٩ ، وسفينة البحار ١ : ٥٢٦.
(٨) النجوم الزاهرة ٤ : ٢٤٠ ، ط مصر ، وزارة الثقافة والإرشاد.
(٩) غاية الإختصار : ٧٧ ، ط العراق ، النجف الأشرف ـ الحيدرية ، سنة ١٣٨٢.
وانه كان «فاضلاً عالماً ، ورعاً عظيم الشأن» (١٠). وأن «فيه ورع ، وعفة وتقشف» (١١).
اما ابن الجوزي ، فيقول عنه : «كان عالماً فاضلاً ، وشاعراً مترسلاً ، عفيفاً ، عالي الهمّة ، متديناً» (١٢).
ويقول عنه ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي : «كان عفيفاً ، شريف النفس ، عالي الهمّة ، ملتزماً بالدين وقوانينه» (١٣).
وأخيرا ، فقد قال عنه صاحب الروضات انه : «كان في غاية الزهد والورع ، صاحب حالات ومقالات ، وكشف ، وكرامات» (١٤).
ثم ذكر عنه قضية جرت بينه وبين أخيه السيّد المرتضى وملخّصها أنه اقتدى يوماً بأخيه المرتضى في بعض صلواته ، فلمّا دخل في الركوع قطع الإقتداء به ، وقصد الإنفراد ، فسئل عن سبب ذلك فقال : انه لمّا دخل في الركوع رأى أخاه الإمام يفكر في مسألة من مسائل الحيض ، وقلبه متوجه اليها وهو يغوص في بحر من الدم.
وفي نص آخر انه قال لأخيه بعد ما فرغ من الصلاة : لا أقتدي بك بعد هذا اليوم أبداً.
فسأله عن سبب ذلك ، فأخبره.
فصدقه المرتضى وأنصف ، والتفت الى أنه أرسل ذهنه في أثناء تلك الصلاة للتفكير في مسألة من مسائل الحيض كانت سألته عنها بعض النسوة في أثناء مجيئه الى
________________________________
(١٠) جامع الرواة ٢ : ٩٩ ، ط قم ، سنة ١٤٠٣ ، ورجال أبي علي : ٢٧١ ، ورجال المامقاني ١ : ١٠٩.
(١١) عمدة الطالب : ٢٠٧ ، ط الحيدرية ـ النجف الأشرف ، العراق ، سنة ١٣٨٠ ، وأمل الآمل ٢ : ٢٦٢ ، ط بغداد ـ مكتبة الاندلس ، سنة ١٣٨٥ ، ورياض العلماء ٥ : ٨١ ، والدرجات الرفيعة ص ٤٦٧ ، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣٣٩ ، ومستدرك الوسائل ٣ : ٥١٠ الخاتمة ، وروضات الجنات : ٥٤٧ ، ط حجرية ، والغدير ٤ : ٢٠٢.
(١٢) المنتظم ج ٧ ص : ٢٧٩ ، ط الهند ، سنة ١٣٥٨ هـ ، وعنه في رجال السيد بحر العلوم ٣ : هامش صفحة ١٣٢ ، وفي الغدير ٤ : ٢٠٣.
(١٣) شرح النهج ١ : ٣٣ ، تحقيق محمد أبو الفضل أبراهيم وعنه في قاموس الرجال ٨ : ١٤٦ ـ ١٤٧ ، ط طهران مركز نشر الكتاب ، سنة ١٣٨٧ ، وفي الغدير ٤ : ٢٠٣ ، ومقدمة حقائق التأويل لعبد الحسين الحلّي : ٤٩.
(١٤) روضات الجنات : ٥٥٠ ، ط حجرية.
الصلاة (١٥).
ثانياً : إننا إذا رجعنا الى شعر الشريف الرضي ، فإننا نلاحظ :
ألف : ما يقوله الشيخ عبدالحسين الحلي :
«إننا نعتقد ... انه لم يجالس الخُلعاء والظرفاء ، الذين يستخفّون بالنواميس في أيام شبيبته ، وانه لذلك لم يصرف شيئاً من شعره في فنون المهازل والمجون ، فإن هذا يدلّنا على أنه لم يعمل ما يعتذر عنه ، ولا يصانع أحداً ستراً على نفسه ، ولذا نجده وهو بمرصد من أعدائه لا يحفل أن يجاهر بمثل قوله :
عف السرائر لم تلطّ بريبة |
|
يوماً عليّ مغالقي وسجوقي |
وقوله :
أنا المرء لا عرضي قريب من العدا |
|
ولا فيّ للباغى علي مقال (١٦) |
باء : إننا نجده يقول عن نفسه :
وإني لمأمور على كل خلوة |
|
أمين الهوى ، والقلب ، والعين والفم |
وغيري الى الفحشاء إن عرضت له |
|
أشد من الذؤبان عدواً على الدم (١٧) |
جيم : وحين يخبر عن نفسه رحمه الله بأنه قد طلّق الدنيا ، حيث يقول :
مالي الى الدنيا الغرورة حاجة |
|
فليخز ساحر كيدها النفاث |
سكناتها محذورة وعهودها |
|
منقوضة وحبالها أنكاث |
طلقتها ألفاً لأحسم داءها |
|
وطلاق من عزم الطلاق ثلاث |
نجد مهيار الديلمي يؤكّد صحة هذا الطلاق وواقعيته حيث قال في مرثيته له :
أبكيك للدنيا التي طلقتها |
|
وقد اصطفتك شبابها وغرامها |
ورميت غاربها بفتلة حبلها |
|
زهداً وقد القت إليك زمامها |
دال : وقد قالوا عن شعر الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه الشيء الكثير ،
________________________________
(١٥) راجع في ذلك روضات الجنات : ٥٥٠ ، ولآليء الأخبار ٤ : ٣٨ ـ ٣٩ ، ط أيران ـ قم ـ ، منشورات مكتبة العلامة.
(١٦) مقدمة حقائق التأويل : ٥٠ ـ ٥١.
(١٧) أعيان الشيعة ج ٩ ص ٢٢٠ ، ط بيروت ، سنة ١٤٠٣ هـ.
وهذه بعض النماذج التي لابدّ من ملاحظتها في هذا المجال :
١ ـ «ليس له شعر في الهجاء يشبه هجاء الشعراء الذين كانوا يهجون بقبيح القول ، والألفاظ الفاحشة ، فالشريف إن وجد في شعره مايشبه الهجاء فهو بألفاظ نقيّة إلى آخره».
٢ ـ «ولم يكن يخرج من فم هذا الرجل النبيل حقيقة كلمة واحدة من الكلمات القبيحة التي يتلفّظ بها العامة ، التي نجد مثلها عند ابراهيم الصابي صاحب ديوان الرسائل ، وعند الوزير المهلبي ، وعند الوزير ابن عباد.
وإذا كان غيره من الشعراء قد استباحوا لأنفسهم في الذم كل قبيح ، فإننا لا نجد للشريف الرضي في باب الهجاء أقوى من ذمّه لمغن بارد قبيح الوجه :
تغفي بمنظره العيون إذا بدا |
|
وتقيء عند غنائه الأسماع |
أشهى إلينا من غنائك مسمعاً |
|
زجل الضراغم بينهن قراع (١٨) |
ونحن نلاحظ هنا كذلك أنه حتى في هذا المورد قد نزع الى التغني بما تهفو اليه نفسه ، ويشدّه إليه طموحه ووجده ، ألا وهو معالي الاُمور وعظائمها ، التي لا تنال إلّا بركوب الأهوال ، ومقارعة الرجال الأبطال ، كما صرح به في البيت الثاني آنف الذكر.
وفيما يرتبط بغزل الشريف نجدهم يقولون :
«لم يزل زلة واحدة ، ولم ينحرف به الطريق عن العفة ، والشرف ، والخلق الرفيع في هذا الباب» (١٩).
ويقولون : «... والذي نقرؤه من مجموعتي أخلاقه وشعره ترفّعه عن نوع من الغزل ، يستعمله الخلعاء ، أو ما يشبه العبث والمجون ، وهذا النوع قد لا تطاوعه شاعريته عليه لو أراده ، وهو الذي يخلّ بمقامه وشرفه» (٢٠)
واما فيما يرتبط بوصفه للخمرة ، ومجالس الغناء ، ونحو ذلك ، فيرى المحققون أنه «إذا تحقّقنا أن الشريف لم يشرب ، ولم يسمع ، ولم يجالس أرباب اللّهو والمهازل ، ولم يتخذ
________________________________
(١٨) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، ١ : ٥٠٦ ، ط بيروت سنة ١٣٨٧ هـ.
(١٩) أعيان الشيعة ٦ : ٢٢٣.
(٢٠) حقائق التأويل ، مقدمة الشيخ عبدالحسين الحلّي : ١٠٦.
الندمان ، ولم يستعمل الملاهي ، فإننا نعذره في الأوصاف ، سيّما ما يكون منها مقترحاً عليه ، لأنها تقع في زمنها لأسباب مجهولة ، لا يصح الحكم عليها بشيء ، والوصف بمجرّده لا يقدح بصاحبه ، وإن أظهره بمظهر الحاضر المشاهد» (٢١).
وكذلك هم يقولون : « ... ولا يليق بنا أن نمدح الشريف الرضي بأن شعره خال من المجون الذي كان شائعاً في ذلك العصر ، فهو أجل قدراً ، وأرفع شأناً من أن نمدحه بذلك. كما ان شعره خال من وصف الخمرة ، وإن وصفها كثير من الشعراء الذين لا يتعاطونها. ولكن الشريف لم يصفها إلّا بسؤال من سأله ذلك على لسان بعض الناس ، فوصفها بعدة أبيات لم يصفها بغيرها» (٢٢).
وأخيراً ، فإننا حين نسمع الشريف الرضي يقول :
وقور فلا الألحان تأسر عزمتي |
|
ولا تمكر الصهباء لي حين أشرب |
فإننا نعرف : إن ذلك ما هو إلا استرسال شاعر ، لا يمكن أن يريد به معناه الحقيقي المطابقي أبداً ، وإنما يريد به التأكيد على لازم المعنى ليس الا ، ثم هو يتبع ذلك بقوله :
ولا أعرف الفحشاء إلّا بوصفها |
|
ولا أنطق العوراء والقلب مغضب |
وبعد كل ما تقدم ، نقول : انه إذا كان السيد الشريف يتحاشى حتى عن إيراد الكلمات النابية حتى وهو في مقام الهجاء في شعره. وإذا كان يترسم طريق العفة والشرف والكرامة ، ولا يجيز لنفسه أن يصدر فيه شيء مما يتعاطاه الشعراء حتى أهل النبل والكرامة منهم ، وإذا كان يربأ بنفسه حتى عن وصف الخمرة ومجالس اللهو والغناء ، فإننا لا نستطيع أن نتصوره مشاركاً في تلك المجالس أو ممعناً في تناول النبيذ الذي يعتقد حرمته تديناً ، وهو الرجل الزاهد الورع ، والنزيه الجليل ، الشريف النفس ، عالي الهمة ، ولا سيما وهو يعلم أن هذه المجالس ، وتلكم الأحوال لا تخلو من صدور شيء مما يتنافي مع الشرف والكرامة والسؤود. وهكذا ، فإننا نجد أنفسنا مضطرين لقبول قول بعض الباحثين انه رحمه الله : «لم يجالس الخلفاء والظرفاء ، الذين يستخفون بالنواميس في أيام شبيبته» (٢٣).
________________________________
(٢١) حقائق التأويل ، مقدمة الحلي : ٥٣.
(٢٢) أعيان الشيعة ٩ : ٢١٧.
(٢٣) حقائق التأويل ، مقدمة الشيخ عبدالحسين الحلّي : ٥٠.
ويقول : «... ولم يكن حتى في إبان شبيبته يسامر الظرفاء ، الذين يغازلون ويتغزلون» (٢٤).
ويقول : «ونحن لتلك العزة ، وتلك الآنفة والمرؤة نذعن انه لآخر نظرة : انه لم يغترف مأثماً» (٢٥).
وثالثاً : يقول المعتزلي الحنفي وغيره :
«حدثني فخار بن معد الموسوي ، قال : رأى المفيد في منامه : كأن فاطمة بنت النبي دخلت إليه وهو في مسجده بالكرخ ، ومعها ولداها الحسن والحسين عليهما السّلام صغيرين ، فسلمتهما إليه ، وقالت : علّمهما الفقه !
فانتبه متعجباً ، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة دخلت اليه في المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها ، وبين يديها إبناها محمد وعلي الرضي والمرتضى صغيرين ، فقام اليها وسلّم ، فقالت : أيها الشيخ ، هذان ولدان قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه ، فبكى المفيد ، وقصّ عليها المنام ، وتولى تعليمهما ، وفتح الله عليهما من العلوم ما اشتهر في الآفاق» (٢٦).
الا إنّ لنا على هذه الرواية ملاحظة ، وهي :
إن هذه الرواية تذكر :
ألف : إن الرضيين رحمهما الله كانا حينما جاءت بهما اُمهما الى المفيد صبيين صغيرين.
باء : ان اُم الرضيين قد خاطبت المفيد رحمه الله بقولها : «أيها الشيخ».
مع ان المفيد قد تُوفّي في سنة ٤١٣ عن ستة وسبعين عاما ، وقد كانت ولادة المرتضى رحمه الله في سنة ٣٥٥ وولادة الرضي رحمه الله في سنة ٣٥٩ هـ. ومعنى ذلك ان عمره رحمه الله كان حين ولادتهما ٢٠ و٢٢ عاماً ، فلو انها أتت بهما إليه وعمرهما عشر
________________________________
(٢٤) المصدر السابق : ١٠٧.
(٢٥) المصدر السابق : ٥٠.
(٢٦) راجع شرح النهج للمعتزلي الحنفي ١ : ٤١ ، وأعيان الشيعة ٩ : ٢١٦ ، وقاموس الرجال ٨ : ١٤٧ ، ورجال أبي علي : ٢٩٢ ترجمة المفيد ، ورجال السيد بحر العلوم ٣ : ١٣٤ ـ ١٣٥ ، والغدير ٤ : ١٨٤ عن المعتزلي ، وعن صاحب الدرجات الرفيعة.
سنوات أو ثلاث عشرة سنة لكان عمر المفيد آنئذ ما بين الثلاثين والخمس وثلاثين عاماً فقد كان في عنفوان شبابه ، فلا يصح منها مخاطبته بـ «أيها الشيخ» !!
إلا أن الحقيقة هي أن المراد بالشيخ هو : شيخ التعليم ، وقد لقب الشيخ المفيد بالشيخ المفيد وهو في عنفوان شبابه ، واما احتمال أن تكون هذه الكلمة مقحمة من قبل الناقلين اجتهاداً منهم ، فهو أيضاً غير بعيد.
ومهما يكن من أمر ، فإننا نقطع بأن رواية كوران المغني لا أساس لها من الصحة ، ولعلّها من وضع حساد السيد الشريف ، الذي لم يشف ما في صدورهم موت هذا الرجل الفذ ، حتى راحوا يحسدونه حتى على ما يرثيه به الشعراء ويعيبون عليهم رثاءهم له بما يعبر عن سموه وعظمته ، كما كان الحال بالنسبة لمهيار الديلمي ، الذي صمّم على أن يكيدهم ويثير المزيد من كوامن حقدهم فراح يرثيه بقصيدة اُخرى تظهر المزيد من فضائله وكراماته ، وتشيد بمآثره ، وجلائل كرائمه.
فرحم الله الشريف ، ورحم الله مهياراً.
أهل البيت عليهم السّلام في بعض شعر الشريف الرضيّ |
الدكتور حمودي |
بسم الله الرحمن الرحيم
ها نحن اُولاء في أفياء دوحة العلياء ، نفيء إليها ولا نسامتُها ، وهل تسامت قاماتنا دوحة تضرب أطنابُها في أعماق نهج البلاغة ، وتشارف أغصانها قرص الشمس ؟ وهل لنا أن ندرك شأو شريف الشعراء ، ورضي الاُدباء ؟ مَن جده ـ صلّى الله عليه وآله ـ أفصح العرب ومنها قريش ، ومَن جده الأدنى أميرالمؤمنين عليه السّلام ، صاحب السيف والنهج وكعبة عشاق الفصاحة ؟
ليس لنا ـ والله ـ إلّا ثُمالة من كأس ، وقطرة من بحر فرات لذة للشاربين ، ليس لنا ـ والله ـ إلّا ذلك النزر اليسير ، لأننا ظلمنا الشريف الرضي حياً وميتاً ، حتى ردّدت جنبات شعره صدى ألمه ، وها نحن اليوم ـ وبعد ألف عام ـ لانجد لآثاره من يتصدّى لها بإخراج علمي رصين ، وتحديث يسيغه أهل هذا الزمان.
لقد عرفنا من الشعراء من لا يصحّ أن يستفيء بشعره الى ظلال تلك الدوحة الباذخة ، وأقمنا الحرّاس على آثار شعراء ليسوا أكثر من سفوح لهذه القمة التي سامتت الشمس وأطلّت على التاريخ ، أين الشريف الرضي ؟ أين ديوان شعره ؟ أين تراثه العريق ؟ أين الكلية التي تحمل اسمه ؟ أين الجامعة التي تتعطر بذكره ، بشعره وبنثره ؟.
إنّ هذه الثُمالة التي نترشّفها من سؤر كأس الشريف
الرضي كثيرة علينا ، لا تتحملها نفوسنا التي بعدت عن عالم الكبرياء ، واخلدت الى راحة الكسلاء الصُغراء ، ولا تسيغها أطماعنا التي تتعجل الثمن الربيح ، ولا يرتضيها انهيارنا الثقافي الذي
لا يصبر
على لأواء الإخلاص والجدّ ، فلا نقوى ـ بعد ـ على خوض غمرات تراثنا الأثيل ، وفي الربيئة منه تراث هذا الشاعر البطل النبيل.
سلام على الرضي ، وعلى من يُعنى بالرضي ، وعلى من يسعى سعياً علمياً دؤوباً مخلصاً ليقرب الأجيال للرضي ويكشف عن عظمته لها ، فتسيغه شملاً لها في أخلاقها وأشعارها وكبرياء العظمة ، والسمو العريق.
وهذه السطور التي أكتبها رجوت لها أن تكون محاولة جادة للكشف عن جوانب شعر الرضي ، وموضوع من موضوعاته المحببة اليه ، وهو «اهل البيت عليهم السّلام في شعر الشريف الرضي» في محاولة إجابة أسئلة ماذا يمثّل أهل البيت (ع) بالنسبة له ؟ وأيّ حيّز يحتلون بشعره ؟ وكيف نظر إليهم عليهم السّلام ؟
والله أسأل أن يوّفق قادة هذه الاُمة في نهضتها الرشيدة الحديثة للعناية الجادة الصادقة برموز التراث وقممه العالية.
ومن الله التوفيق والسداد ، وله الكمال وحده.
وقفة مع النسب الشريف للشريف :
هو أبو الحسن محمد ابن أبي طاهر الطاهر ذي المنقبتين : الحسين بن موسى بن محمد ابن موسى بن إبراهيم بن «موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب» ، عليهم السّلام.
واُمه فاطمة بنت الحسين ـ بن أحمد ، على قول ـ بن الحسن الناصر الاصم صاحب الديلم ، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن «علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب» عليهم السّلام ، وفي المذكور في النهج شيء من الخلاف.