كمال الدّين وتمام النّعمة

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]

كمال الدّين وتمام النّعمة

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٦

وعاش مستوغر بن ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ثلاثمائة وثلاثين سنّة ، ثمَّ أدرك الاسلام فلم يسلم وله شعر معروف (١).

وعاش دويد بن زيد بن نهد أربعمائة سنّة وخمسين سنّة فقال في ذلك :

ألقى عليَّ الدَّهر رجلاً ويداً

والدَّهر ما أصلح يوماً أفسدا

يُفسد ما أصلحه اليوم غدا

وجمع بنيه حين حضرته الوفاة فقال : « يا بَنيَّ أوصيكم بالنّاس شرّاً لاتقبلوا لهم معذرة ، ولا تقيلوا لهم عثرة ... » (٢).

وعاشَ تيم الله بن ثعلبة بن عُكاية مائتي سنّة (٣).

وعاش ربيع بن ضبع بن وهب بن بَغيض بن مالك بن سعد بن عدِّي بن فزارة مائتين وأربعين سنّة (٤) وأدرك الاسلام فلم يسلم.

____________

(١) أولها « ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد الستين مئينا ».

(٢) بقية وصيته : « أوصيكم بالناس شراً ، طعناً وضرباً ، قصروا الاعنة ، واشرعوا الاسنة ، وارعوا الكلاء وان كان على الصفا ، وما احتجتم إليه فصونوه ، وما استغنيتم عنه فأفسدوه على من سواكم ، فإنَّ غش النّاس يدعو إلى سوء الظن ، وسوء الظن يدعوا إلى الاحتراس » انتهى. راجع نسخة اخرى من وصية « دويد » امالي السيّد رحمه‌الله ج ١ ص ١٧١.

ونظير ذلك الكلام وصية جده نهد بن زيد. وكأن معاوية بن أبى سفيان قرأ هذه الوصية وعمل بها حين بعث سفيان بن عوف الغامدي إلى غارة الانبار حيث أوصاه ـ كما في شرح الحديدي ـ بان اقتل من لقيت ممّن ليس على مثل رأيك ، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى وانتهب الأموال ـ الخ. وكذا في وصية يزيد ابنه حين بعث مسلم بن عقبة إلى المدينة في فتنة ابن الزبير.

(٣) في « المعمرون » خمسمائة سنّة وقال : كان من دهاة العرب في زمانه.

(٤) في « المعمرون » « عاش اربعين وثلاثمائة سنّة ».

٥٦١

وعاش معدي كرب الحميريُّ من آل ذي يزن مائتين وخمسين سنة.

وعاش شرية بن عبد الله الجعفي ثلاثمائة سنّة فقدم على عمر بن الخطّاب بالمدينة فقال : لقد رأيت هذا الوادي الّذي أنتم فيه وما به قطرة ولا هضبة (١) ولا شجرة ، ولقد أدركت اخريات قومي يشهدون شهادتكم هذه ـ يعني لا إله إلّا الله ـ ومعه ابن له يهادى (٢) قد خرف ، فقيل له : يا شرية هذا ابنك قد خرف وبك بقيّة؟ فقال : والله ما تزوَّجت امّه حتّى أتت علىَّ سبعون سنّة ولكنّي تزوَّجتها عنيفة سَتيرةً إن رضيت رأيت ما تقرُّبه عيني وإن سخطت تأتّت لي حتّى أرضى ، وإنَّ ابني هذا تزوَّج امرأة بذيّة فاحشة أن رأى ما تقرُّبه عينه تعرَّضت له حتّى يسخط وإن سخط تلغّبته حتّى يهلك (٣).

حدَّثنا أبو سعيد عبد الله بن محمّد بن عبد الوهّاب بن نصر السّجزيُّ (٤) قال : سمعت أبا الحسن (٥) أحمد بن محمّد بن عبد الله بن حمزة بن زيد الشعرانيّ من ولد عمّار ابن ياسر رضي‌الله‌عنه يقول : حكي لي أبو القاسم محمّد بن القاسم المصريُّ : أنَّ أبا ـ الجيش (٦) حمادويه بن أحمد بن طولون كان قد فتح الله عليه من كنوز مصر ما لم يرزق أحد قبله ، فغزى بالهرمين (٧) فأشار إليه جلساؤه وحاشيته وبطانته بأن لا يتعرَّض لهدم الاهرام فإنّه ما تعرَّض لهذه أحد فطال عمره ، فألحَّ في ذلك وأمر ألفاً من الفعلة أن

__________________

(١) الهضبة : المطرة. وفي رواية « قصبة ».

(٢) أي يميل في المشي.

(٣) اللغب : التعب والاعياء.

(٤) في بعض النسخ « نصير الشجري »

(٥) في بعض النسخ « سمعت أبا الحسين ».

(٦) في بعض النسخ « أبا الحسن » وكذا فيما يأتي.

(٧) الهرمان ـ بالتحريك ـ : بناعان اوليان بمصر بناهما ادريس لحفظ العلوم فيهما عن الطومان. أو بناء سنان بن المشلشل ، أو بناء الاوائل لمّا علموا بالطوفان من جهة النجوم وفيها كلّ طب وسحر وطلسم. وهناك أهرام صغار كثيرة (القاموس).

٥٦٢

يطلبوا الباب ، فكانوا يعملون سنّة حواليه حتّى ضجروا وكلّوا ، فلمّا همّوا بالانصراف بعد الاياس منه وترك العمل وجدوا سَرَباً فقدروا أنَّه الباب الّذي يطلبونه ، فلمّا بلغوا آخره وجدوا بلاطة قائمة (١) من مرمر فقدروا أنّها الباب فاحتالوا فيها إلى أن قلعوها وأخرجوها [ قال محمّد بن المظفّر وجدوا من ورائها بناء منضمّاً لا يقدروا عليه فأخرجوها ثمّ نظّفوها ] فإذا عليها كتابة باليونانيّة ، فجمعوا حكماء مصر وعلماءها من سائر الأديان ، فلم يهتدوا لها.

وكان [ في القوم ] رجل يعرف بأبي عبد الله المدينيِّ أحد حفّاظ الدُّنيا وعلمائها فقال لابي الجيش حمادويه بن أحمد : أعرف في بلد الحبشة اُسقُفاً قد عمر وأتى عليه ثلاثمائة وستّون سنة يعرف هذا الخطَّ ، وقد كان عزم على أن يعلّمنيه فلحرصي على علم العرب لم أقم عنده وهو باق ، فكتب أبو الجيش إلى ملك الحبشة يسأله أن يحمل هذا الاسقف إليه ، فأجابه أنَّ هذا شيخ قد طعن في السنِّ وقد حطمه الزَّمان وإنّما يحفظه هذا الهواء وهذا الإقليم ، ويخاف عليه أن نقل إلى هواء آخر وإقليم آخر ولحقته حركة وتعب ومشقّة السفر أن يتلف ، وفي بقائه لنا شرف وفرح وسكينة ، فإن كان لكم شيء يقرؤه أو يفسره أو مسألة تسألونه فاكتب لى بذلك ، فحملت البلاطة في قارب (٢) إلى بلد اُسوان من الصعيد الاعلى ، وحملت من اسوان على العجلة إلى بلد الحبشة وهي قريبة من الاسوان ، فلمّا وصلت قرأها الاسقف وفسّر ما كان فيها بالحبشيّة ، ثمَّ نقلت إلى العربيّة فإذا فيها مكتوب :

أنا الرَّيّان بن دومغ ، فسئل أبو عبد الله المدينيُّ عن الريّان من كان؟ فقال : هو والد العزيز الملك الّذي كان في زمان يوسف النبيّ عليه‌السلام واسمه الوليد بن الريان ابن دومغ. وكان عمر العزيز سبعمائة سنّة ، وعمر الرَّيّان والده ألف وسبعمائة سنّة وعمر دومغ ثلاثة آلاف سنة.

فإذا فيها : أنا الرَّيّان بن دومغ خرجتُ في طلب علم النيل الأعظم لاعلم

__________________

(١) البلاط : الحجارة المفروشة في الدار.

(٢) أي سفينة صغيرة.

٥٦٣

فيضه ومنبعه إذ كنت أرى مفيضه فخرجت ومعي من صحبني أربعة آلاف رجل فسرت ثمانين سنّة إلى أن انتهيت إلى الظلمات والبحر المحيط بالدُّنيا فرأيت النيل يقطع البحر المحيط ويعبر فيه ولم يكن لي منفذ ، وتماوت أصحابي (١) وبقيت في أربعة آلاف رجل فخشيت على ملكي ، فرجعت إلى مصر وبنيت الاهرام والبرانيَّ وبنيت الهرمين وأودعتهما كنوزي وذخائري ، وقلت في ذلك :

وأدرك علمي بعض ما هو كائن

ولا علم لي بالغيب والله أعلم

وأتقنت ما حاولت إتقان صنعه

وأحكمته والله أقوى وأحكم

وحاولت علم النيل من بدء فيضه

فأعجزني والمرء بالعجز ملجم

ثمانين شاهورا قطعت مسايحاً

وحولي بني حجر وجيش عرموم (٢)

إلى أن قطعت الانس والجنَّ كلّهم

وعارضني لجٌّ من البحر مظلم

فأيقنت أنَّ لا منفذ بعد منزلي

لذي همّة (٣) بعدي ولا متقدم

فابت إلى ملكي وأرسيت ثاوياً

بمصر وللايام بؤس وأنعم

أنا صاحب الاهرام في مصر كلها

وباني برانيها بها والمقدَّم

تركت بها آثار كفّي وحكمتي

على الدَّهر لا تبلي ولا تتهدَّم (٤)

وفيها كنوز جمّة وعجائب

وللدّهر أمر مرَّة وتجهّم (٥)

سيفتح أقفالي ويبدي عجائبي

وليٌّ لربّي آخر الدّهر ينجم

بأكناف بيت الله تبدو اموره

فلابدَّ أن يعلو ويسمو به السم

ثمان وتسع واثنتان وأربع

وتسعون اخرى من قتيل وملجم

ومن بعد هذا كرّ تسعون تسعة

وتلك البراني تستخرّ وتهدم

__________________

(١) تماوت. تظاهر أنَّه مات وأظهر التخافت والتضاعف.

(٢) العرمرم : الجيش الكثير.

(٣) في بعض النسخ « لذي نهبة » وفي بعضها « لذى هيبة ».

(٤) في بعض النسخ « تتثلم »

(٥) في نسخة « تهجم ».

٥٦٤

وتبدى كنوزي كلّها غير أنّني

أرى كلَّ هذا أن يفرّقها الدَّم

زبرت مقالي في صخور قطعتها

ستبقي وأفنى بعدها ثمَّ اُعدم

فحينئذ قال أبو الجيش حمادويه بن أحمد : هذا شيء ليس لأحد فيه حيلة إلّا القائم من آل محمّد عليه‌السلام وردت البلاطة كما كانت مكانها.

ثم إنَّ أبا الجيش بعد ذلك بسنة قَتَله طاهر الخادم [ ذبحه ] على فراشه وهو سكران ، ومن ذلك الوقت عرف خبر الهرمين ومَن بناهما ، فهذا أصحُّ ما يقال من خبر النيل والهرمين.

وعاش ضُبيرة بن [ سعيد بن ] سعد بن سهم القرشيُّ مائة وثمانين سنّة ، وأدرك الاسلام فهلك فجأة.

وعاش لبيد بن ربيعة الجعفري مائة وأربعين سنّة وأدرك الاسلام فأسلم ، فلمّا بلغ سبعون سنّة من عمره أنشأ يقول في ذلك :

كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة

خلعت بها عن منكبي ردائيا

فلما بلغ سبعا وسبعين سنّة أنشأ يقول :

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

فان تزيدي ثلاثاً تبلغي أملا

وفي الثلاث وفاء للثمانينا

فلمّا بلغ تسعين سنّة أنشأ يقول :

كأني وقد جاوزت تسعين حجّة

خلعت بها عنّي عذار لثامي

رمتني بنات الدَّهر من حيث لا أرى

وكيف بمن يرمى وليس برام

فلو أنّني ارمى بنبل رأيتها

ولكنّني اُرمي بغير سهام

فلمّا بلغ مائة وعشر سنين أنشأ يقول :

أليس في مائة قد عاشها رجلٌ

وفي تكامل عشر بعدها عمر

فلمّا بلغ مائة وعشرين سنّة أنشأ يقول :

قد عشت دهراً قبل مجرى داحس

لو كان للنفس اللّجوج خلود

فلما بلغ مائة وأربعين سنّة أنشأ يقول :

٥٦٥

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا النّاس كيف لبيد

غلب الرِّجال وكان غير مغلب

دهر طويل دائم ممدود

يوما إذا يأتي عليَّ وليلة

وكلاهما بعد المضيِّ يعود

فلمّا حضرته الوفاة قال لابنه : يا بنيَّ أنَّ أباك لم يمت ولكنّه فني فإذا قبض أبوك فأغمضه وأقبل به القبلة وسجّه بثوبه ، ولا أعلمنَّ ما صرخت عليه صارخة أو بكت عليه باكية ، وانظر جفنتي الّتي كنت اُضيف بها فأجد صنعتها ، ثمّ احملها إلى مسجدك وإلى من كان يغشاني عليها فإذا قال الامام : « سلام عليكم » فقدّمها إليهم يأكلون منها فإذا فرغوا فقل : احضروا جنازة أخيكم لبيد بن ربيعة فقد قبضه الله عزَّ وجلَّ ثمّ أنشأ يقول :

وإذا دفنت أباك فاجعل

فوقه خشباً وطيناً

وصفائح صمّاً روا

شنها تسدّدن الغصونا

ليقين حرَّ الوجه سفساف

التراب ولن يقينا

وقد ورد في الخبر في حديث لبيد بن ربيعة في أمر الجفنة غير هذا ، وذكروا أنَّ لبيد بن ربيعة جعل على نفسه أنَّ كلّما هبت الشمال أن ينحر جزوراً فيملأ الجفنة الّتي حكوا عنها في أوّل حديثه.

فلمّا ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة خطب النّاس فحمد الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليه وصلى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : أيّها النّاس قد علمتم حال لبيد بن ربيعة الجعفريّ وشرفه ومروءته ، وما جعل على نفسه كلّما هبت الشمال أن ينحر جزوراً فأعينوا أبا عقيل على مروءته ، ثمّ نزل وبعث إليه بخمسة من الجزر ، ثمّ أنشأ يقول فيها :

أرى الجزَّار يشحذ شفرتيه

إذا هبّت رياح أبي عقيل

طويل الباع أبلج جعفريّ

كريم الجدِّ كالسيف الصيقل

وفي ابن الجفعريِّ بما لديه

على العلّات والمال القليل

__________________

(١) على العلات أي على كلّ حال.

٥٦٦

وقد ذكروا أنَّ الجزر كانت عشرين ، فلمّا أتته قال : جزي الله الأمير خيراً قد عرف أنّي لا أقول الشعر ولكن أخرجي يا بنيّة ، فخرجت إليه بنية له خماسيّة ، فقال لها : أجيبي الأمير ، فأقبلت وأدبرت ، ثمَّ قالت : نعم وأنشأت تقول :

إذا هبّـت ريـاح أبي عقيـل

دعونا عند هبّتهـا الوليـدا

طويل الباع أبلج عبشميّاً (١)

أعـان علـى مروءته لبيدا

بأمثال الهضاب (٢) كأنّ ركباً

عليهـا من بني حام قعودا

أبا وهـب جزاك الله خيـراً

نحرنـاها وأطعمنا التريـدا

فعد أنَّ الكريم له معـاد

وعهـدي بابن أروى أن تعودا

فقال : لها : أحسنت يا بنية لولا إنّك سألت ، قالت : إنَّ الملوك لا يستحيى من مسألتهم ، قال : وأنت يا بنيّة أشعر.

وعاش ذو الاصبع العدوانيُّ واسمه حرثان بن الحارث بن محرَّث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عثمان ثلاثمائة سنة.

وعاش جعفر بن قبط (٣) ثلاثمائة سنّة وأدرك الاسلام.

وعاش عامر بن الظرب العدوانيّ ثلاثمائة سنّة (٤).

وعاش محصِّن بن عتبان بن ظالم بن عمرو بن قطيعة بن الحارث بن سلمة بن مازن الزُّبيديُّ مائتين وخمسين سنّة ، وقال في ذلك :

ألا يا سلـم إنّي لسـت منكم

ولكنّي امرءٌ قوتي سغـوب (٥)

دعاني الدّاعيان فقلت : هيّا (٦)

فقالا : كلُّ من يدعى يُجيب

__________________

(١) منسوب إلى عبد شمس بجوار أو ولاء أو حلف.

(٢) شبه الجزور بالهضاب وهو الحبل المنبسط.

(٣) كذا ولعل الصواب « جعفر بن قرط » بضم القاف وسكون الراء وهو جعفر بن قرط بن كعب بن قيس بن سعد. وذكر ابن الكلبي أنَّه جعفر بن قرط بن عبد يغوث بن كعب ابن ردة الشاعر.

(٤) في « المعمرون » مائتي سنة.

(٥) السغب : الجوع وفي رواية « ولكني امرء قومي شعوب ».

(٦) في رواية « أيّهاً » وكلاهما كلمة زجر.

٥٦٧

ألا يـا سلم أعياني قيامي

وأعيتني المكاسب والذُّهوب (١)

وصرت رذية (٢) في البيت كلّا

تأذَّى بـي إلّا باعد والقريب

كذاك الدَّهر والأيّام خون (٣)

لها في كلِّ سائمة نصيـب

وعاش عوف بن كنانة الكلبيُّ ثلاثمائة سنّة فلمّا حضرته الوفاة جمع بنيه فأوصاهم وهو عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد بن ثور بن كلب فقال : يا بنيَّ احفظوا وصيّتي فإنّكم أن حفظتموها سدتم قومكم من بعدي :

إلهكم فاتقوه ، ولا تحزنوا ولا تخونوا ، ولا تثيروا السباع (٤) من مرابضها فتندموا وجاوزوا النّاس بالكف عن مساويهم فتسلموا وتصلحوا ، وعفّوا عن الطلب إليهم ولا تستقلوا (٥) ، وألزموا الصمت إلّا من حقٍّ تحمدوا ، وابذلوا لهم المحبّة تسلم لكم الصدور ، ولا تحرموهم المنافع فيظهروا الشكاة ، وتكونوا منهم في ستر ينعم بالكم ، ولا تكثروا مجالستهم فيُستخفّ بكم ، وإذا نزلت بكم معضلة فاصبروا لها ، وألبسوا للدَّهر أثوابه فإنَّ لسان الصدق مع المسكنة خيرٌ من سوء الذِّكر مع الميسرة ، ووطّنوا أنفسكم على المذلة لمن تذلّل لكم فإنَّ أقرب الوسائل المودَّة ، وإنَّ أتعبت النشب البغضة ، وعليكم بالوفاء ، وتنكّبوا العذر يأمن سربكم ، [ وأصيخوا للعدل ] وأحيوا الحسب بترك الكذب فإنَّ آفة المروءة الكذب والخلف ، ولا تعلموا النّاس أقتاركم فتهونوا عليهم وتخملوا ، وإياكم والغربة فإنّها ذلّة ، ولا تضعوا الكرائم إلّا عند الأكفاء وابتغوا لانفسكم المعالي ، ولا يختلجنّكم جمال النساء عن الصحة (٦) فإنَّ نكاح

__________________

(١) في بعض النسخ « الرهوب » وفي بعضها « الركوب ».

(٢) الرذى من أثقله المرض والضعف من كلّ شيء (القاموس).

(٣) جمع الخوان : ما يؤكل عليه الطعام.

(٤) في بعض النسخ « تستثيروا السباع ».

(٥) في بعض النسخ « لئلّا تستثقلوا ».

(٦) في رواية « عن صراحة النسب ». وفي بعض النسخ « عن النصيحة ». وفي وصية أكثم بن صيفي « يا بني لا يغلبنكم جمال النساء عن صراحة النسب.

٥٦٨

الكرائم مدارج الشرف ، واخضعوا لقومكم ، ولا تبغوا عليهم لتنالوا المنافس ، ولا تخالفوهم فيما اجتمعوا عليه فإنَّ الخلاف يزري بالرئيس المطاع ، وليكن معروفكم لغير قومكم من بعدهم ، ولا توحشوا أفنيتكم من أهلها فإنَّ إيحاشها إخماد النّار ودفع الحقوق ، وارفضوا النائم بينكم [ تسلموا ] ، وكونوا أعواناً عند الملمات (١) تغلبوا ، واحذروا النجعة (٢) إلّا في منفعة لا تصابوا ، وأكرموا الجار يخصب جنابكم ، وآثروا حقَّ الضعيف على أنفسكم ، وألزموا مع السفهاء الحلم تقلّ همومكم ، وإيّاكم والفرقة فإنها ذلة ، ولا تكلّفوا أنفسكم فوق طاقتها إلّا المضطر فإنكم لن تلاموا عند اتّضاح العذر وبكم قوَّة خيرٌ من أن تعاونوا في الاضطرار منكم إليهم بالمعذرة (٣) ، وجدُّوا ولا تفرطوا فإنَّ الجدَّ مانع الضيم ، ولتكن كلمتكم واحدة تعزُّوا ويرهف حدّكم ولا تبذلوا الوجوه لغير مكرميها فتكلحوها ولا تجشّموها أهل الدَّناءة فتقصروا بها (٤) ولا تحاسدوا فتبوروا ، واجتنبوا البخل فإنّه داء ، وابنوا المعالي بالجود والأدب ومصافاة أهل الفضل والحباء (٥) وابتاعوا المحبّة بالبذل ، ووقّروا أهل الفضل ، وخذوا عن أهل التجارب ، ولا يمنعكم من معروف صغره فإنَّ له ثواباً ، ولا تحقروا الرِّجال فتزدروا ، فإنّما المرء بأصغريه ذكاء قبله ولسان يعبّر عنه ، وإذا خوفتم داهيةً فعليكم بالتثبت قبل العجلة ، والتمسوا بالتودد المنزلة عند الملوك ، فإنهم من وضعوه اتّضع ، ومن رفعوه ارتفع ، وتنبّلوا تسم إليكم الأبصار ، وتواضعوا بالوقار ليحبّكم ربّكم ، ثمّ قال :

__________________

(١) في رواية « وكونوا أنجادا عند الملمات تغلبوا ».

(٢) النجعة وزان الرقعة طلب الكلاء في موضعه وفي رواية « واحذروا النجعة الّتي في المنعة ».

(٣) في رواية « فلئن تلاموا وبكم قوه خير من أن تعاونوا بالعجز ».

(٤) في بعض النسخ « لغير مكرمة فتخلقوها ولا تحتشموا أهل الدناءة فتقصروا بها » وفي بعض النسخ « ولا تحتشموها ». والتجشم : التكلف.

(٥) في رواية « وابتنوا المباني بالادب ومصافاة أهل الحباء ». والحباء : العطاء بلا جزاء.

٥٦٩

وما كلُّ ذي لبٍّ بموتيك نصحه

ولا كلُّ مؤت نضحه بلبيب

ولكن إذا ما استجمعا عند واحد

فحقٌّ له من طاعة بنصيب

وعاش صيفيُّ بن رياح بن أكثم أحد بني أسد بن عمر بن تميم مائتين وسبعين سنّة وكان يقول : لك على أخيك سلطان في كلِّ حال إلّا في القتال ، فإذا أخذ الرَّجل السلاح فلا سلطان لك عليه ، وكفى بالمشرفيّة واعظاً (١) ، وترك الفخر أبقى للثناء ، وأسرع الجرم عقوبة البغي ، وشرُّ النصرة التعدِّي ، وألام الاخلاق أضيقها ، ومن سوء الادب كثرة العتاب (٢) ، وأقرع الأرض بالعصاء. ـ فذهبت مثلاً ـ (٣).

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علم الانسان إلّا ليعلما

وعاش عبّاد بن شداد اليربوعيُّ : مائة وخمسين سنّة (٤).

وعاش أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ثلاثمائة وستّين سنّة وقال بعضهم مائة وتسعين سنّة وأدرك الاسلام فاختلف في إسلامه إلّا أنَّ أكثرهم لا يشكُّ في أنَّه لم يسلم فقال في ذلك :

وإنّ امرءاً قد عاش تسعين حجّة

إلى مائة لم يسأم العيش جاهل

خلت مائتان غير ستّ وأربع

وذلك من عدِّ الليالي قلائل

وقال محمّد بن سلمة : أقبل أكثم بن صيفي يريد الاسلام فقتله ابنه عطشا فسمعت أنَّ هذه الآية نزلت فيه « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » (٥) ولم تكن العرب تقدَّم عليه أحداً في الحكمة ، وإنّه

__________________

(١) المشرفية سيوف جيدة تنسب إلى مشارف الشام.

(٢) في بعض « النسخ » ومن الاذى كثرة العتاب ».

(٣) القرع ـ بالفتح ـ : الضرب ، والمراد أن ينبه الانسان صاحبه عند خطئه. وأصل المثل أنَّ عامر بن الظرب طعن في السن وأنكر قومه من عقله شيئاً ، فقال لبنيه : اذا رأيتمونى خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا إلى المحجن بالعصا فكانوا يقرعونه والارض.

(٤) في « المعمرون » مائة وثمانين سنّة وفي بعض النسخ « عاد بن شداد ».

(٥) النساء : ٩٩.

٥٧٠

لمّا سمع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث ابنه حليساً (١) فقال : يا بنيَّ إنّي أعظك بكلمات فخذ بهنَّ من حين تخرج من عندي إليَّ أن ترجع إلي ، ائت نصيبك في شهر رجب فلا تستحله فيستحلُّ منك ، فإنَّ الحرام ليس يُحرّم نفسه وإنّما يحرمه أهله ، ولا تمرنَّ بقوم إلّا نزلت عند أعزِّهم وأحدث (٢) عقداً مع شريفهم ، وإيّاك والذليل فإنّه أذلَّ نفسه ولو أعزَّها لاعزَّه قومه فإذا قدمت على هذا الرَّجل فاني قد عرفته وعرفت نسبه وهو في بيت قريش واعز العرب وهو أحد رجلين إمّا ذو نفس أراد ملكاً ، فخرج للملك بعزِّه فوقّره وشرِّفه وقم بين يديه ولا تجلس إلّا باذنه حيث يأمرك ويشير إليك فإنّه إن كان ذلك (٣) كان أدفع لشرِّه عنك وأقرب لخيره منك ، فإن كان نبيّاً فإنَّ الله لا يُحَسُّ فيتوهّم ولا ينظر فيتجسّم ، وإنّما يأخذ الخيرة حيث يعلم (٤) لا يخطيء فيستعتب إنّما أمره على ما يحبُّ وإن كان نبيّاً فستجد أمره كلّه صالحاً وخبره كلّه صادقاً ، وستجده متواضعاً في نفسه متذلّلاً لربّه ، فذلّ له فلا تحدثنَّ أمراً دوني ، فإنَّ الرَّسول إذا أحدث الامر من عنده خرج من يدي الّذي أرسله ، واحفظ ما يقول لك إذا ردَّك إلي فانّك لو توهّمت أو نسيت جشمتني (٥) رسولاً غيرك.

وكتب معه باسمك اللّهمَّ من العبد إلى العبد ؛ أما بعد : فأبلغنا ما بلغك فقد أتانا عنك خبر لا ندري ما أصله ، فإنَّ كنت اريت فأرنا ، وإن كنت عُلّمت فعلّمنا وأشركنا في كنزك والسلام.

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ذكروا : « من محمّد رسول الله إلى أكثم ابن صيفي : أحمد الله إليك أنَّ الله تعالى أمرني أن أقول : لا إله إلّا الله ، وآمر النّاس بقولها ، والخلق خلق الله عزَّ وجلَّ والأمر كلّه لله خلقهم وأماتهم وهو ينشرهم وإليه المصير ، أدَّبتكم بآداب المرسلين ولتسألن عن النبأ العظيم ولتعلّمنَّ نبأه بعد حين ».

فلمّا جاءه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابنه : يا بنيَّ ماذا رأيت؟ قال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، تجمع أكثم بن صيفي إليه بني تميم ثمّ قال :

__________________

(١) في بعض النسخ (حبيشاً).

(٢) في بعض النسخ (وأخذت).

(٣) أي أن كان ملكاً.

(٤) لعل المعنى الله يعلم حيث يجعل رسالاته.

(٥) أي كلفتني.

٥٧١

يا بني تميم لا تحضروني سفيهاً فإنَّ من يسمع بخل ، ولكلِّ انسان رأى في نفسه ، وانَّ السفيه واهن الراى وان كان قوِّى البدن ولاخير فيمن لا عقل له.

يا بني تميم كبرت سنّي ودخلتني ذلّة الكبر فإذا رأيتم منّى حسناً فاتوه ، واذا انكرتم منّى شيئاً فقوِّموني بالحقِّ أستقم له ، إنَّ ابني قد جاءني وقد شافه هذا الرَّجل فرآه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويأخذ بمحاسن الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، ويدعوا إلى أن يعبد الله وحده ، وتخلع الأوثان ويترك الحلف بالنيران. ويذكر أنَّه رسول الله ، وأنَّ قبله رسلاً لهم كتب ، وقد علمت رسولاً قبله كان يأمر بعبادة الله عزَّ وجلَّ وحده ، إنَّ أحق النّاس بمعاونة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومساعدته على أمره أنتم ، فإن يكن الّذي يدعو إليه حقّاً فهو لكم ، وإن يك باطلاً كنتم أحقُّ من كفَّ عنه وستر عليه.

وقد كان اسقف نجران يحدِّث بصفته ، ولقد كان سفيان بن مجاشع قبله يحدِّث به وسمى ابنه محمداً ، وقد علم ذوو الرأي منكم أنَّ الفضل فيما يدعو إليه ويأمر به ، فكونوا في أمره أوّلاً ولا تكونوا أخيراً ، اتّبعوه تشرَّفوا ، وتكونوا سنام العرب ، واتوه طائعين من قبل أن تأتوه كارهين ، فإنّي أرى أمراً ما هو بالهوينا لا يترك مصعداً إلّا صعّده ولا منصوباً إلّا بلّغه ، إنَّ هذا الّذي يدعوا إليه لو لم يكن دينا لكان في الاخلاق حسناً ، أطيعوني واتّبعوا أمري أسأل لكم ما لا ينزع منكم أبداً ، إنّكم أصبحتم أكثر العرب عدداً ، وأوسعهم بلداً ، وإني لارى أمراً لا يتّبعه ذليل إلّا عزّ ، ولا يتركه عزيز إلّا ذلَّ ، اتبعوه مع عزِّكم تزدادوا عزّاً ، ولا يكن أحد مثلكم ، إنَّ الاوَّل لم يدع للاخر شيئاً ، وإن هذا أمر لمّا هو بعده من سبق إليه فهو الباقي ، واقتدى به الثاني ، فأصرموا أمركم فإنَّ الصريمة قوَّة ، والاحتياط عجز (١).

فقال مالك بن نويرة : خرف شيخكم. فقال أكثم : ويل للشجيِّ من الخليِّ (٢)

__________________

(١) في بعض النسخ « فالاختلاط عجز » والصريمة : العزيمة في الشيء. والصرم القطع.

(٢) الخلى : الخالي من الهم والحزن خلاف الشجي والمثل معروف والمعنى إنّي في هم عظيم لهذا الامر الّذي أدعوكم إليه وأنتم فارغون غافلون فويل لي منكم. (البحار)

٥٧٢

أراكم سكوتاً وإنَّ آفة الموعظة الاعراض عنها.

ويلك يا مالك إنّك هالك ، إنَّ الحقَّ إذا قام وقع القائم معه وجعل الصرعى قياماً فإياّك أن تكون منهم ، أما إذا سبقتموني بأمركم فقرِّبوا بعيري أركبه ، فدعا براحلته فركبها فتبعوه بنوه وبنو أخيه ، فقال : لهفى على أمر لن ادركه ولم يسبقني.

وكتبت طيء إلى أكثم فكانوا أخواله ، وقال آخرون : كتبت بنو مرَّة وهم أخواله أن أحدث إلينا ما نعيش به فكتب :

أمّا بعد : فإني اُوصيكم بتقوى الله وصلة الرَّحم فإنّها تثبت أصلها وتنبت فرعها وأنهاكم عن معصية الله وقطيعة الرَّحم فإنّها لا يثبت لها أصل ولا ينبت لها فرع واياكم ونكاح الحمقاء فإنَّ مباضعتها قذر ، وولدها ضياع ، وعليكم بالابل فأكرموها فانّها حصون العرب ولا تضعوا رقابها إلّا في حقّها فإنَّ فيها مهر الكريمة ورقوء الدَّم (١) وبألبانها يتحف الكبير ، ويغذى الصغير ، ولو كلّفت الابل الطحن لطحنت ، ولن يهلك امرءٌ عرف قدره ، والعدم عدم العقل (٢) والمرء الصالح لا يعدم [ من ] المال ، ورب رجل خير من مائة ، ورب فئة أحب إلي من قبيلتين (٣) ومن عتب على الزَّمان طالت معتبته ، ومن رضي بالقسم طابت معيشته ، آفة الرَّأي الهوى ، والعادة أملك بالأدب ، والحاجة مع المحبّة خير من الغنى مع البغضة ، والدُّنيا دُوَل فما كان لك منها أتاك على ضعفك وإن قصرت في طلبه ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوَّتك ، وسوء حمل الفاقة (٤) تضع الشرف ، والحسد داء ليس له دواء ، والشماتة تَعقِب ، و

__________________

(١) رقأ الدم : جف وسكن ، والرقوء ـ كصبور ـ : ما يوضع على الدم ليرقئه والمعنى أنّها تعطى في الديات فتحقن بها الدماء.

(٢) العدم ـ بالضم وبضمتين وبالتحريك الفقدان وغلب على فقدان المال.

(٣) في بعض النسخ « من فئتين ».

(٤) في بعض النسخ « الريبة ».

٥٧٣

من برَّ يوماً بُرَّ به ، واللّومة مع السفاهة ، ودعامة العقل الحلم ، وجماع الامر الصبر وخير الأُمور مغبّةً العفو ، وأبقى المودَّة حسن التعاهد ، ومن يَز رغبّاً يزدد حبّاً (١).

وصية أكثم بن صيفي عند موته : جمع أكثم بنيه عند موته فقال : يا بنيَّ إنَّه قد أتى عليَّ دهر طويل وأنا مزوِّدكم من نفسي قبل الممات :

اوصيكم بتقوى الله وصلة الرَّحم ، وعليكم بالبرِّ فإنّه ينمي عليه العدد ولا يبيد عليه أصل ولا يهتصر فرع ، فأنها كم عن معصية الله وقطيعة الرَّحم فإنّه لا يثبت عليها أصل ولا ينبت عليها فرع ، كفّوا ألسنتكم فإنَّ مقتل الرَّجل بين فكيه ، إنَّ قول الحقِّ لم يدع لي صديقاً ، انظروا أعناق الابل ولا تضعوها إلّا في حقّها فإنَّ فيها مهر الكريمة ورقوء الدَّم ، وإيّاكم ونكاح الحمقاء فإنَّ نكاحها قذر وولدها ضياع ، الاقتصاد في السفر أبقى للجمام (٢) ، من لم يأس على ما فاته ودع بدنه (٣) ، من قنع بما هو فيه قرَّت عينه ، التقدُّم قبل التندُّم ، أن أصبح عند رأس الامر أحبُّ إليَّ من أن اصبح عند ذنبه ، لم يهلك امرء عرف قدره ، العجز عند البلاء آفة التجمّل (٤) لم يهلك من مالك ما وعظك ، ويل لعالم أمن من جهله (٥) ، الوحشة ذهاب الأعلام ، يتشابه الامر إذا أقبل ، فإذا أدبر عرفه الكيّس وإلّا حمق ، البطر عند الرَّخاء حمق ، وفي طلب المعالي يكون العزّ ، ولا تغضبوا من اليسير فإنّه يجنى الكثير ، لا تجيبوا فيما لم تسئلوا (٦) عنه ، ولا تضحكوا ممّا لا يضحك منه ، تبارّوا في الدُّنيا ولا تباغضوا ، الحسد

__________________

(١) يعني الزيارة يوماً ويوماً لا موجبة للحب.

(٢) كذا والظاهر « الاقتصاد في السعي أبقى للجمال » كما في رواية السجستاني ، وأمّا الجمام كما في الصلب : الراحة ، والقوة.

(٣) أي سكن. وفى بعض القراءات « ودّع » أي راح نفسه.

(٤) في بعض النسخ الحديث « الجزع عند النازلة آفة التجمل ».

(٥) كذا. وفى جمهرة الامثال ج ١ ص ٣٢٠ ومجمع الامثال ص ٦٩٨ « ويل لعالم أمر من جاهله ».

(٦) في بعض النسخ « عمّا لا تسألوا ».

٥٧٤

في القرب فإنّه من يجتمع يتقعقع عمده (١) يتقرَّب بعضكم من بعض في المودَّة ، لا تتّكلوا على القرابة فتقاطعوا ، فإنَّ القريب من قرب نفسه ، وعليكم بالمال فأصلحوه فإنّه لا يصلح الأموال إلّا باصلاحكم ، ولا يتّكلنَّ أحدكم على مال أخيه يرى فيه قضاء حاجته فإنّه من فعل ذلك كالقابض على الماء ، ومن استغنى كرم على أهله ، وأكرموا الخيل ، نعم لهو الحُرَّة المغزل ، وحيلة من لا حيلة له الصبر. وعاش قردة بن ثعلبة بن نفاثة (٢) السلوليُّ مائة وثلاثين سنّة في الجاهليّة ، ثمّ أدرك الاسلام فأسلم.

وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة بن زيد بن مناة أربعين ومائة سنّة (٣).

وعاشُ قس بن ساعدة الاياديَّ ستمائة سنّة وهو الّذي يقول :

هل الغيث مُعطي الامن عند نزوله

بحال مسيء في الأُمور ومحسن

وما قد تولّى وهو قد فات ذاهباً

فهل ينفعنّي ليتني ولو أننّي

وكذلك يقول لبيد :

وأخلف قُسّاً ليتني ولو أنّني

وأعيا على لقمان حكم التدبّر

وعاش الحارث بن كعب المذحجي ستين ومائة سنة.

قال مصنّف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : هذه الأخبار الّتي ذكرتها في المعمرين

__________________

(١) القعقعة : حكاية صوت السلاح ، وقعقعت عمدهم تقعقعت : وارتحلوا يعني إذا اجتمعوا وتقاربوا وقع بينهم الشر فتفرقوا. أو معناه لابدّ من الافتراق بعد الاجتماع. أو من غبط بكثرة العدد واتساق الامر فهو بمعرض الزوال والانتشار.

(٢) في اكثر النسخ « فروة بن ثعلبة بن نفاية » والظاهر تصحيف.

(٣) وقال شعراً منها :

ان مصاد بن جناب قد ذهب

أدرك من طول الحياة ما طلب

والموت قدر يدرك يوماً من هرب

٥٧٥

قد رواها مخالفونا أيضاً من طريق محمّد بن السائب الكلبيِّ ، ومحمّد بن إسحاق بن بشّار (١) وعوانة بن الحكم وعيسى بن زيد بن آب (٢) ، والهيثم بن عديٍّ الطائيُّ ، وقد روى عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال : كلّما كان في الامم السالفة تكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة.

وقد صحَّ هذا التعمير فيمن تقدَّم وصحّت الغيبات الواقعة بحجج الله عليهم‌السلام فيما مضى من القرون.

فكيف السبيل إلى إنكار القائم عليه‌السلام لغيبته وطول عمره مع الأخبار الواردة فيه عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الائمّة عليهم‌السلام ، وهي الّتي قد ذكرناها في هذا الكتاب بأسانيدها.

حدَّثنا عليّ بن أحمد الدَّقّاق رضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله الكوفيُّ ، عن موسى بن عمران النخعيِّ ، عن عمّه الحسين بن يزيد النوفليِّ ، عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّما كان في الامم السالفة فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذِّة.

حدَّثنا أحمد بن الحسن القطّان قال : حدَّثنا الحسن بن عليّ السكري قال : حدَّثنا محمّد بن زكريّا ، عن جعفر بن محمّد بن عمارة ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي بعثني بالحق نبيّاً وبشيراً لتركبنَّ اُمّتي سنن من كان قبلها حذو النعل بالنعل حتّى لو أنَّ حيّة من بني إسرائيل دخلت في جحر لدخلت في هذه الاُمّة حيّة مثلها.

حدَّثنا الشريف أبو الحسن عليُّ بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن محمّد بن عبيد الله (٣) رضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا أبو عليٍّ الحسن بن ركام (٤) قال : حدّثنا احمد

__________________

(١) تقدَّم الاختلاف في جده أهو يسار أو بشار.

(٢) في البحار « عيسى بن يزيد بن رئاب ».

(٣) في بعض النسخ « عبد الله ».

(٤) في بعض النسخ « أبو عليّ بن همام ».

٥٧٦

ابن محمّد النوفليِّ قال : حدَّثني أحمد بن هلال ، عن عثمان بن عيسى الكلابيِّ ، عن خالد بن نجيح ، عن حمزة بن حمران ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير قال : سمعت سيّد العابدين على بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام يقول : في القائم منّا سنن من الأنبياء عليهم‌السلام ، سنّة من نوح ، وسنّة من إبراهيم ، وسنّة من موسى ، وسنّة من عيسى ، وسنّة من أيّوب ، وسنّة من محمّد صلوات الله عليهم.

وأمّا من نوح عليه‌السلام فطول العمر ، وأمّا من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال النّاس ، وأمّا من موسى فالخوف والغيبة ، وأمّا من عيسى فاختلاف النّاس فيه ، وأمّا من أيّوب عليه‌السلام فالفرج بعد البلوى ، وأمّا من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فالخروج بالسيف.

فمتى صحَّ التعمير لمن تقدَّم عصرنا وصحَّ الخبر بأنَّ السنة بذلك جارية في القائم عليه‌السلام الثاني عشر من الائمّة عليهم‌السلام لم يجز إلّا أن يعتقد أنَّه لو بقي في غيبته ما بقي لم يكن القائم غيره ، وإنّه لو لم يبق من الدُّنيا إلّا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيملاها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الائمّة عليهما‌السلام بعده.

ولا يحصل لنا الاسلام إلّا بالتسليم لهم فيما يرد ويصحُّ عنهم ، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العلي العظيم.

وما في الازمنة المتقدِّمة من أهل الدِّين والزهد والورع إلّا مغيّبين لاشخاصهم مستترين لامرهم ، يظهرون عند الامكان والامن ويغيبون عند العجز والخوف وهذا سبيل الدُّنيا من إبتدائها إلى وقتنا هذا ، فكيف صار أمر القائم عليه‌السلام في غيبته من دون جميع الأُمور منكراً إلّا لمّا في نفوس الجاحدين من الكفر والضلال وعداوة الدِّين وأهله وبغض النبيِّ والائمّة بعده عليهم‌السلام.

[ حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال : حدَّثنا الحسن بن عليِّ السكري (١) قال : حدّثنا محمّد بن زكريّا قال : ] فقد بلغني أنَّ ملكا من ملوك الهند كان كثير الجند واسع المملكة

__________________

(١) في بعض النسخ « العسكري » وفي بعضها السكوني.

٥٧٧

مهيباً في أنفس النّاس ، مظفرّاً على الأعداء ، وكان مع ذلك عظيم النهمة (١) في شهوات الدُّنيا ولذّاتها وملاهيها ، مؤثراً لهواه ، مطيعا له ، وكان أحب النّاس إليه وانصحهم له في نفسه من زين له حاله وحسّن رأيه ، وابغض النّاس واعشّهم له في نفسه من امره بغيرها وترك امره فيها ، ، وكان قد أصاب الملك فيها في حداثة سنّة وعنفوان شبابه وكان له رأي أصيل ولسان بليغ ومعرفة بتدبير النّاس ، وضبطهم ، فعرف النّاس ذلك منه فانقادوا له ، وخضع له كلُّ صعب وذلول ، واجتمع له سكر الشباب وسكر السّلطان ، والشّهوة والعجب ، ثمَّ قوَّى ذلك ما أصاب من الظّفر على من ناصبه والقهر لاهل مملكته ، وانقياد النّاس له ، فاستطال على النّاس واحتقرهم ، ثمّ ازداد عجباً برأيه ونفسه لمّا مدحه النّاس وزيّنوا أمره عنده ، فكان لاهمّة له إلّا الدُّنيا وكانت الدُّنيا له مؤاتية ، لا يريد منها شيئاً إلّا ناله ، غير أنَّه كان مئناثاً (٢) لا يولد له ذكر ، وقد كان الدِّين فشا في أرضه قبل ملكه ، وكثر أهله ، فزين له الشيطان عداوة الدِّين وأهله وأضر بأهل الدِّين فأقصاهم مخافة على ملكه ، وقرَّب أهل الاوثان ، وصنع لهم أصناماً من ذهب وفضة ، وفضّلهم وشرَّفهم ، وسجد لأصنامهم.

فلمّا رأى النّاس ذلك منه سارعوا إلى عبادة الاوثان والاستخفاف بأهل الدِّين ، ثمّ إنَّ الملك سأل يوماً عن رجل من أهل بلاده كانت له منه منزلة حسنة ومكانة رفيعة وكان أراد ليستعين به على بعض اموره ويحبّه ويكرمه ، فقيل له : أيّها الملك أنَّه قد خلع الدُّنيا وخلا منها ولحق بالنّساك فثقل ذلك على الملك ، وشقَّ عليه ، ثمَّ إنَّه أرسل إليه فأتي به ، فلمّا نظر إليه في زيِّ النسّاك وتخشّعهم زبره وشتمه (٣)

__________________

(١) النهمة ـ بفتح النون ـ بلوغ الهمة والشهوة في الشيء ويقال : له في هذا الامر نهمة أي شهوة.

(٢) المئناث : الّتي اعتادت أن تلد الاناث وكذلك الرَّجل لانهما يستويان في مفعال. ويقابله المذكار وهى الّتى تلد الذكور كثيراً.

(٣) النساك : العباد. وزبره أي زجره.

٥٧٨

وقال له : بينا أنت من عبيدي وعيون أهل مملكتي ووجهم وأشرافهم إذ فضحت نفسك وضيّعت أهلك ومالك واتّبعت أهل البطالة والخسارة حتّى صرت ضحكه ومثلاً ، وقد كنت أعددتك لمهمِّ اموري ، والاستعانة بك على ما ينوبني ، فقال له : أيّها الملك أنَّه أن لم يكن لي عليك حقٌّ فلعقلك عليك حق ، فاستمع قولي بغير غضب ، ثمَّ ائمر بما بدالك بعد الفهم والتثبيت ، فإنَّ الغضب عدوُّ العقل ، ولذلك يحول بين صاحبه وبين الفهم ، قال الملك : قل ما بدالك.

قال النّاسك : فإنّي أسألك أيّها الملك أفي ذنبي على نفسي عتبت علىَّ أم في ذنب منّي إليك سالف؟.

قال الملك : إنَّ ذنبك إلى نفسك أعظم الذُّنوب عندي ، وليس كلّما أراد رجل من رعيّتي أن يهلك نفسه اخلي بينه وبين ذلك ، ولكنّي أعد إهلاكه نفسه كإهلاكه لغيره ممّن أنا وليّه والحاكم عليه وله ، فأنا أحكم عليك لنفسك وآخذ لها منك إذ ضيّعت أنت ذلك ، فقال له النّاسك : أراك أيّها الملك لا تأخذني إلّا بحجّة ولانفاذ لحجّة إلّا عند قاض ، وليس عليك من النّاس قاض ، لكن عندك قضاة وأنت لأحكامهم منفذ ، وأنا ببعضهم راض ، ومن بعضهم مشفق.

قال الملك : وما أولئك القضاة؟ قال : أمّا الّذي أرضى قضاءه فعقلك ، وأمّا الّذي أنا مشفق منه فهواك ، قال الملك : قل ما بدالك وأصدقني خبرك ومتى كان هذا رأيك؟ ومن أغواك؟ قال : أمّا خبري فإني كنت سمعت كلمة في حداثة سنّي وقعت في قلبي فصارت كالحبّة المزروعة ، ثمَّ لم تزل تنمي حتّى صارت شجرة إلى ما ترى ، وذلك؟ أنّي [ كنت ] قد سمعت قائلاً يقول : يحسب الجاهل الامر الّذي هو لا شيء شيئاً والأمر الّذي هو الشيء لا شيء ، ومن لم يرفض الامر الّذي هو لا شيء لم ينل الامر الّذي هو الشيء ، ومن لم يبصر الامر الّذي هو الشيء لم تطب نفسه برفض الامر الّذي هو لا شيء ، والشيء هو الاخرة ، واللّاشيء هو الدُّنيا ، فكان لهذه الكلمة عندي قرار لأنّي وجدت الدُّنيا حياتها موتاً وغناها فقراً ، وفرحها ترحاً ، وصحّتها سقماً ، وقوَّتها ضعفاً ، وعزَّها ذلّاً ، وكيف لا تكون حياتها موتاً ، وإنّما يحيى فيما صاحبها ليموت ،

٥٧٩

وهو من الموت على يقين ، ومن الحياة عليّ قلعة ، وكيف لا يكون غناؤها فقرا وليس يصيب أحد منها شيئاً إلّا احتاج لذلك الشيء إلى شيء آخر يصلحه وإلى أشياء لابدَّ له منها.

ومثل ذلك أنَّ الرَّجل ربما يحتاج إلى دابّة فإذا أصابها احتاج إلى علفها وقيّمها ومربطها (١) وأدواتها ، ثمَّ احتاج لكلِّ شيء من ذلك إلى شيء آخر يصلحه وإلى أشياء لابدَّ له منها ، فمتى تنقضي حاجة من هو كذلك وفاقته؟ وكيف لا يكون فرحها ترحاً وهي مرصدة لكلِّ من أصاب منها قرة عين أن يرى من ذلك الامر بعينه أضعافه من الحزن ، أن رأى سروراً في ولده فما ينتظر من الاحزان في موته وسقمه وجايحة أن أصابته أعظم من سروره به ، وإن رأى السّرور في مال فما يتخوَّف من التلف أن يدخل عليه أعظم من سروره بالمال ، فإذا كان الأمر كذلك فأحق النّاس بأن لا يتلبّس بشيء منها لمن عرف هذا منها. وكيف لا يكون صحّتها سقماً وإنّما صحّتها من أخلاطها وأصحُّ أخلاطها وأقربها من الحياة الدَّم ، وأظهر ما يكون الانسان دماً أخلق ما يكون صاحبه بموت الفجأة ، والذُّبحة والطّاعون (٢) والآكلة والبرسام ، وكيف لا يكون قوَّتها ضعفاً وإنّما تجمع القوى فيها ما يضرُّه ويوبقه ، وكيف لا يكون عزُّها ذلّاً ولم ير فيها عزٌّ قطُّ إلّا أورث أهله ذلّاً طويلاً ، غير أنَّ أيّام العز قصيرة ، وأيام الذُلِّ طويلة ، فأحقُّ النّاس بذمِّ الدُّنيا لمن بسطت له الدُّنيا فأصاب حاجته منها فهو يتوقَّع كلَّ يوم وليلة وساعة وطرفة عين أن يعدي على ماله فيجتاح ، وعلى حميمه فيختطف وعلى جمعه فينهب ، وأن يؤتى بنيانه من القواعد فيهدم ، وأن يدبَّ الموت إلى حشده فيستأصل ، ويفجع بكلِّ ما هو به ضنين.

فأذمُّ إليك أيّها الملك الدُّنيا الاخذة ما تعطي ، والمورثة بعد ذلك التبعة ، السلابة

__________________

(١) المربط ـ بفتح الباء وكسرها ـ موضع ربط الدواب.

(٢) الذبحة ـ بضم الذال وفتح الباء ، والعامة تسكن الباء ـ : ورم حارّ في العضلات من جانب الحلقوم الّتى بها يكون البلع. وقال العلامة : وقد يطلع الذبحة على الاختناق. والشيخ لا يفرق بينهما ، وقيل هي ورم اللوزتين (بحر الجواهر).

٥٨٠