كمال الدّين وتمام النّعمة

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]

كمال الدّين وتمام النّعمة

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٦

حدث السنِّ ، له جلالة وهيبة ، فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطىً ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هشام ولا بالقوَّاد ولا بأولياء العهد ، فلمّا دنامنه عانقه وقبّل وجهه ومنكبيه وأخذ بيده فأجلسه على مصلّاه الّذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه ، مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه ويكنيه ، ويفديه بنفسه وبأبويه ، وأنا متعجّب ممّا أرى منه إذ دخل عليه الحجّاب فقالوا : الموفّق قد جاء (١) ، وكان الموفّق إذا جاء ودخل على أبي تقدم حجابه وخاصة قواده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدَّار سماطين (٢) إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً عليه (٣) يحدِّثه حتّى نظر إلى غلمان الخاصّة فقال حينئذ : إذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبا محمّد ، ثمّ قال لغلمانه : خذوا به خلف السماطين كيلا يراه الامير ـ يعني الموفّق ـ فقام وقام أبي فعانقه وقبّل وجهه ومضى ، فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا الّذي فعل به أبي هذا الّذي فعل؟ فقالوا : هذا رجلٌ من العلويّة يقال له : الحسن بن علىٍّ يعرف با ابن الرِّضا ، فازددت تعجّباً ، فلم أزل يومى ذلك قلقا متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتّى كان الليل وكانت عادته أن يصلّي العتمة ، ثمّ يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان فلمّا صلّى وجلس (٤) جئت فجلست بين يديه فقال ، : يا أحمد ألك حاجة؟ فقلت : نعم يا أبة أن أذنت سألتك عنها؟ فقال : قد أذنت لك يا بنيَّ فقل ما أحببت فقلت له : يا أبة من كان الرجل الّذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الاجلال والاكرام والتبجيل ، وفديته بنفسك وبأبويك؟ فقال : يا بني ذاك إمام الرافضة ، ذاك ابن الرِّضا ، فسكت ساعة فقال : يا بنيَّ لوزالت الخلافة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقها

____________

(١) الموفق هو أخو الخليفة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل وكان صاحب جيشه.

(٢) السماط : الصف من النّاس ، يعنى رديفين منظمين ، وفى الكافي « فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن. »

(٣) أي مقبلا على أبى محمّد عليه‌السلام.

(٤) في بعض النسخ « فلمّا نظر وجلس ».

٤١

أحد من بني هاشم غير هذا ، فإنَّ هذا يستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيراً فاضلاً ، فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي ممّا سمعت منه فيه ولم يكن لي همة بعد ذلك إلّا السؤال عن خبره ، والبحث عن أمره ، فما سألت عنه أحداً من بني هاشم ومن القوّاد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس إلّا وجدته عندهم في غاية الاجلال والاعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه وغيرهم وكلُّ يقول : هو إمام الرَّافضة ، فعظم قدره عندي إذ لم أرله وليا ولاعدوا إلّا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.

فقال له بعض أهل المجلس من الاشعريّين : يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال : ومن جعفر فيسأل عن خبره (١) أو يقرن به ، إنَّ جعفراً معلن بالفسق ، ماجن (٢) ، شرّيب للخمور ، وأقلّ من رأيته من الرِّجال وأهتكهم لستره ، فدم خمّارٌ (٣) قليلٌ في نفسه ، خفيف ، والله لقد ورد على السّلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليٍّ عليهما‌السلام ما تعجّبت منه وما ظننت أنَّه يكون وذلك أنَّه لمّا اعتلَّ بعث إلى أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتلَّ ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة ، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته فمنهم نحرير (٤) وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليٍّ عليهما‌السلام وتعرُّف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه (٥) وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنَّه قد ضعف فركب حتّى بكر إليه ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي

__________________

(١) المراد به جعفر الكذاب.

(٢) الماجن : من لم يبال بما قال وما صنع ، والشريب ـ كسكين ـ المولع بالشراب.

(٣) الفدم : العيى عن الكلام في رخاوة وقلة فهم ، والاحمق والمراد الثاني.

(٤) كان من خواص خدم الخليفة ، وكان شقياً من الاشقياء. والنحرير : الحادق الفطن.

(٥) يعنى بالاختلاف : النردد للاطلاع على أحواله عليه‌السلام.

٤٢

القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه‌السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً فلم يزالوا هناك حتّى توّفي عليه‌السلام لأيّام مضت من شهر ربيع الأوّل من سنة ستّين ومائتين ، فصارت سر من رأى ضجّة واحدة ـ مات ابن الرِّضا ـ وبعث السّلطان إلى داره من يفتِّشها ويفتِّش حجرها ، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل ، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنَّ فذكر بعضهنَّ أنَّ هناك جارية بها حمل (١) فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطلت الاسواق وركب أبى وبنو هاشم والقوّاد والكتاب وسائر النّاس إلى جنازته عليه‌السلام فكانت سرَّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة ، فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السّلطان إلى أبى عيسى بن المتوكّل فأمره بالصّلاة عليه ، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلويّة والعبّاسيّة والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين ، وقال : هذا الحسن ابن عليّ بن محمّد ، ابن الرِّضا مات حتف أنفه (٢) على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطبّبين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ثمّ غطى وجهه وقام فصلى عليه وكبّر عليه خمساً وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الّذي دفن فيه أبوه عليه‌السلام.

فلمّا دفن وتفرَّق النّاس اضطرب السّلطان وأصحابه في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الّذين وكلوا بحفظ الجارية الّتى توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتّى تبيّن لهم بطلان الحبل فقسم ميراثه بين أمّه وأخيه جعفر وادعت أمه وصيّته ، وثبت ذلك عند القاضي. والسّلطان على ذلك يطلب أثر ولده ، فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي ، وقال له : اجعل لي مرتبة

__________________

(١) في بعض النسخ « لها حبل » وفى بعضها « بها حبل ».

(٢) يعنى مات من غير قتل ولاضرب ولاخنق.

٤٣

أبي وأخي وأوصل إليك في كلِّ سنة عشرين ألف دينار مسلّمة ، فزبره (١) أبي وأسمعه وقال له : يا أحمق إنَّ السّلطان ـ أعزَّه الله ـ جرد سيفه وسوطه في الّذين زعموا أنَّ أباك وأخاك أئمّة ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه ولم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول فيهما ، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك ، فإنَّ كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السّلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير السلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا ، واستقلّه (أبي) عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه ، فلم يأذن له بالدُّخول عليه حتّى مات أبي وخرجنا والامر على تلك الحال ، والسّلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي عليها‌السلام حتّى اليوم.

وكيف يصحُّ الموت إلّا هكذا وكيف يجوز ردُّ العيان وتكذيبه ، وإنّما كان السلطان لا يفتر عن طلب الولد لأنّه قد كان وقع في مسامعه خبره وقد كان ولد عليه‌السلام قبل موت أبيه بسنين ، وعرضه على أصحابه وقال لهم : « هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه فلا تتفرَّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، أما إنكم لن تروه بعد يومكم هذا ، فغيبه ولم يظهره ، فلذلك لم يفتر السّلطان عن طلبه.

وقد روى أنَّ صاحب هذا الامر هو الّذي تخفى ولادته على النّاس ويغيب عنهم شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج وأنّه هو الّذي يقسم ميراثه وهو حيٌّ ، وقد أخرجت ذلك مسنداً في هذا الكتاب في موضعه ، وقد كان مرادنا بايراد هذا الخبر تصحيحاً لموت الحسن بن علي عليهما‌السلام ، فلمّا بطل وقوع الغيبة لمن ادُّعيت له من محمّد بن عليّ بن الحنفيّة ، والصادق جعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، والحسن بن عليٍّ العسكري عليهم‌السلام بما صحَّ من وفاتهم فصحَّ وقوعها بمن نصَّ عليه النبيُّ والائمّة الاحد عشر صلوات الله عليهم وهو الحجّة بن الحسن بن عليّ بن محمّد العسكري عليهم‌السلام وقد أخرجت الاخبار المسندة في ذلك الكتاب في أبواب النصوص عليه صلوات الله عليه.

__________________

(١) أي زجره.

٤٤

وكلُّ من سألنا من المخالفين عن القائم عليه‌السلام لم يخل من أن يكون قائلاً بامامة الائمّة الأحد عشر من آبائه عليهم‌السلام أو غير قائل بامامتهم ، فإنَّ كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بامامة الامام الثاني عشر لنصوص آبائه الائمّة عليهم‌السلام عليه باسمه ونسبه وإجماع شيعتهم على القول بامامته وإنّه القائم الّذي يظهر بعد غيبة طويلة فيملا الأرض قسطاً وعدلاً كما مئلت جوراً وظلماً. وإن لم يكن السائل من القائلين بالائمة الاحد عشر عليهم‌السلام لم يكن له علينا جواب في القائم الثاني عشر من الائمّة عليهم‌السلام وكان الكلام بيننا وبينه في إثبات إمامة آبائه الائمّة الأحد عشر عليهم‌السلام ، وهكذا لو سألنا يهودي فقال لنا : لم صارت الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعتمة أربعا والغداة ركعتين والمغرب ثلاثا؟ لم يكن له علينا في ذلك جواب ، بل لنا أن نقول له : إنّك منكر لنبوّة النبيّ الّذي أتى بهذه الصّلوات وعدد ركعاتها ، فكلّمنا في نبوّته وإثباتها فإنَّ بطلت بطلت هذه الصّلوات وسقط السؤال عنها ، وإن ثبتت نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله لزمك الاقرار بفرض هذه الصلوات على عدد ركعاتها لحصة مجيئها عنه واجتماع امته عليها ، عرفت علّتها أم لم تعرفها ، وهكذا الجواب لمن سأل عن القائم عليه‌السلام حذو النّعل بالنّعل.

جواب عن اعتراض :

وقد يعترض معترضٌ جاهل بآثار الحكمة ، غافل عن مستقيم التدبير لاهل الملّة بأن يقول : ما بال الغيبة وقعت بصاحب زمانكم هذا دون من تقدَّم من آبائه الائمّة بزعمكم وقد نجد شيعة آل محمّد عليهم‌السلام في زماننا هذا أحسن حالا وأرغد عيشاً منهم في زمن بني امية إذ كانوا في ذلك الزَّمان مطالبين بالبراءة من أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى غير ذلك من أحوال القتل والتشريد. وهم في هذا الحال وادعون سالمون ، قد كثرت شيعتهم وتوافرت أنصارهم وظهرت كلمتهم بموالاة كبراء أهل الدّولة لهم وذوى السّلطان والنجدة منهم.

فأقول ـ وبالله التوفيق ـ : أنَّ الجهل غير معدوم من ذوي الغفلة وأهل التكذيب والحيرة وقد تقدَّم من قولنا أنَّ ظهور حجج الله عليهم‌السلام واستتارهم جرى في وزن

٤٥

الحكمة (١) حسب الامكان والتدبير لاهل الايمان ، وإذا كان ذلك كذلك فليقل ذو والنظر والتمييز : إنَّ الامر الان ـ وإن كان الحال كما وصفت ـ أصعب والمحنة أشدُّ ممّا تقدَّم من أزمنة الائمّة السالفة عليهم‌السلام وذلك أنَّ الائمّة الماضية أسرُّوا في جميع مقاماتهم إلى شيعتهم والقائلين بولايتهم والمائلين من النّاس إليهم حتّى تظاهر ذلك بين أعدائهم أنَّ صاحب السّيف هو الثاني عشر من الائمّة عليهم‌السلام وأنّه عليه‌السلام لا يقوم حتّى تجييء صيحة من السماء باسمه واسم أبيه والانفس منيتة (٢) على نشر ما سمعت وإذاعة ما أحسّت فكان ذلك منتشراً بين شيعة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعند مخالفيهم من الطواغيت وغيرهم وعرفوا منزلة أئمّتهم من الصّدق ومحلهم من العلم والفضل ، وكانوا يتوقفون عن التسرُّع إلى إتلافهم ويتحامون القصد لانزال المكروه بهم مع ما يلزم من حال التدبير في إيجاب ظهورهم كذلك ليصل كلّ امرء منهم إلى ما يستحقه من هداية أو ضلالة كما قال الله تعالى : « من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً » (٣) وقال الله عزَّ وجلَّ : « وليزيدنَّ كثيراً منهم ما انزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين » (٤) وهذا الزَّمان قد استوفى أهله كل إشارة من نصٍّ وآثار فتناهت بهم الاخبار واتصلت بهم الاثار إلى أنَّ صاحب هذا الزَّمان عليه‌السلام هو صاحب السّيف والأنفس منيتة (٢) على ما وصفنا من نشر ما سمعت وذكر ما رأت وشاهدت ، فلو كان صاحب هذا الزَّمان عليه‌السلام ظاهراً موجوداً لنشر شيعته ذلك ولتعدّاهم إلى مخالفيهم بحسن ظنٍّ بعضهم بمن يدخل فيهم ويظهر الميل إليهم وفي أوقات الجدال بالدّلالة على شخصه والاشارة إلى مكانه كفعل هشام بن الحكم مع الشاميِّ وقد ناظره بحضرة الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) كذا ، يعنى في ميزان الحكمة.

(٢) في بعض النسخ « مبنية » والمنيتة أي المائلة كما في بعض اللغات. وفي بعض النسخ « منبعثة ».

(٣) الكهف : ١٧.

(٤) المائدة : ٦٨.

٤٦

فقال الشامي لهشام : من هذا الّذي تشير إليه وتصفه بهذه الصفات؟ قال هشام : هو هذا وأشار بيده إلى الصادق عليه‌السلام فكان يكون ذلك منتشراً في مجالسهم كانتشاره بينهم مع إشارتهم إليه بوجود شخصه ونسبه ومكانه ، ثمّ لم يكونوا حينئذ يمهلون ولا ينظرون كفعل فرعون في قتل أولاد بني إسرائيل للّذي قد كان ذاع منهم وانتشر بينهم من كون موسى عليه‌السلام بينهم وهلاك فرعون ومملكته على يديه ، وكذلك كان فعل نمرود قبله في قتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلب إبراهيم عليه‌السلام زمان انتشار الخبر بوقت ولادته وكون هلاك نمرود وأهل مملكته ودينه على يديه كذلك طاغية زمان وفاة الحسن بن ـ على عليهما‌السلام والد صاحب الزَّمان عليه‌السلام وطلب ولده والتوكيل بداره وحبس جواريه وانتظاره بهنَّ وضع الحمل الّذي كان بهن (١) ، فلو لا أنَّ إرادتهم كانت ما ذكرنا من حال إبراهيم وموسى عليهما‌السلام لمّا كان ذلك منهم ، وقد خلّف عليه‌السلام أهله وولده وقد علموا من مذهبه ودينه أن لا يرث مع الولد والأبوين أحد إلّا زوج أو زوجة ، كلّاً ما يتوهّم غير هذا عاقل ولافهم غير هذا مع ما وجب من التدبير والحكمة المستقيمة ببلوغ غاية المدة في الظهور والاستتار فإذا كان ذلك كذلك وقعت الغيبة فاستتر عنهم شخصه وضلّوا عن معرفة مكانه ، ثمّ نشر ناشرٌ من شيعته شيئاً من أمره بما وصفناه وصاحبكم في حال الاستتار فوردت عادية من طاغوت الزَّمان أو صاحب فتنة من العوام تفحّص عمّا ورد من الاستتار وذكر من الأخبار فلم يجد حقيقة يشار إليها ولا شبهة يتعلّق بها انكسرت العادية وسكنت الفتنة وتراجعت الحميّة ، فلا يكون حينئذ على شيعته ولا على شيء من أشيائهم (٢) لمخالفيهم متسلّق ولا إلى اصطلامهم سبيلٌ متعلّق (٣) وعند ذلك تخمد النائرة وترتدع العادية ، فتظاهر أحوالهم عند الناظر في شأنهم ، ويتّضح للمتأمل أمرهم ، ويتحقّق المؤمن المفكّر في مذهبهم ، فيلحق بأولياء الحجّة من كان في حيرة الجهل و

__________________

(١) في بعض النسخ « وضع حمل أن كان بهن ».

(٢) في بعض النسخ « من اسبابهم ».

(٣) تسلق الجدار : تسوره وصعد عليه ، والمتسلق : آلة التسلق. والاصطلام : الاستيصال.

٤٧

ينكشف عنهم ران الظلمة (١) عند مهلة التأمل للحقِّ (٢) بيّناته وشواهد علاماته كحال اتّضاحه وانكشافه عند من يتأمّل كتابنا هذا مريداً للنجاة ، هارباً من سبل الضّلالة ، ملتحقاً بمن سبقت لهم من الله الحسنى ، فآثر على الضّلالة الهدى.

جواب عن اعتراض آخر

ومما سأل عنه جهّال المعاندين للحقِّ أن قالوا : أخبرونا عن الامام في هذا الوقت يدعى الامامة أم لا يدَّعيها ونحن نصير إليه فنسأله عن معالم الدِّين فإنَّ كان يجيبنا ويدّعي الامامة علمنا أنَّه الامام ، وإن كان لا يدَّعي الامامة ولا يجيبنا إذا صرنا إليه فهو ومن ليس بامام سواء.

فقيل لهم : قد دل على إمام زماننا الصادق الّذي قبله وليست به حاجةٌ إلى أن يدَّعى هو أنَّه إمام إلّا أن يقول ذلك على سبيل الاذكار والتأكيد ، فأمّا على سبيل الدَّعوى الّتي نحتاج إلى برهان فلا ، لأنَّ الصادق الّذي قبله قد نصَّ عليه وبيّن أمره وكفاه مؤونة الادِّعاء ، والقول في ذلك نظير قولنا في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في نصِّ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستغنائه عن أن يدَّعي هو لنفسه أنَّه إمام ، فأمّا إجابته أياكم عن معالم الدِّين فإنَّ جئتموه مسترشدين متعلّمين ، عارفين بموضعه ، مقرِّين بامامته عرَّفكم وعلّمكم. وإن جئتموه أعداءً له ، مرصدين بالسعاية إلى أعدائه ، منطوين على مكروهه عند أعداء الحقِّ ، متعرِّفين مستور امور الدِّين لتذيعوه لم يجبكم لأنّه يخاف على نفسه منكم ، فمن لم يقنعه هذا الجواب قلبنا عليه السؤال في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الغار أن لو أراد النّاس أن يسألوه عن معالم الدِّين هل كانوا يلقونه ويصلون إليه أم لا ، فإنَّ كانوا يصلون إليه فقد بطل أن يكون استتاره في الغار ، وإن كانوا لا يصلون إليه فسواء وجوده في العالم وعدمه على علتكم ، فإنَّ قلتم : أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متوقيّاً ، قيل : وكذلك الامام عليه‌السلام في هذا الوقت متوق ، فإنَّ قلتم : أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك قد ظهر ودعا إلى نفسه ، قلنا : وما في ذلك من الفرق أليس قد كان نبيّاً قبل أن يخرج من الغار

__________________

(١) أي تغطية الظلمة. وفي بعض النسخ « درن الظلمة » والدرن : الوسخ.

(٢) في بعض النسخ « المتأمل للحق ».

٤٨

ويظهر وهو في الغار مستتر ولم ينقض ذلك نبوَّته ، وكذلك الامام يكون إماماً وإن كان يستتر بامامته ممّن يخافه على نفسه ، ويقال لهم : ما تقولون في أفاضل أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والمتقدّم في الصدق منهم لو لقيتهم كتيبة المشركين يطلبون نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يعرفوه فسألوهم عنه هل هو هذا؟ وهو بين أيديهم أو كيف أخفى؟ (١) وأين هو؟ فقالوا : ليس نعرف موضعه أو ليس هو هذا؟ هل كانوا في ذلك كاذبين مذمومين غير صادقين ولا محمودين أم لا؟ فإنَّ قلتم : كاذبين خرجتم من دين الاسلام بتكذيبكم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن قلتم : لا يكون ذلك كذلك لأنّهم يكونون قد حرفوا كلامهم وأضمروا معنى أخرجهم من الكذب وإن كان ظاهره ظاهر كذب ، فلا يكونون مذمومين بل محمودين لأنّهم دفعوا عن نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله القتل.

قيل لهم : وكذلك الامام إذا قال : لست بامام ولم يجب أعداءه عمّا يسألونه عنه لا يزيل ذلك إمامته لأنّه خائف على نفسه ، وإن أبطل جحده لاعدائه أنَّه إمام في حال الخوف إمامته أبطل على أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكونوا صادقين في إجابتهم المشركين بخلاف ما علموه عند الخوف ، وإن لم يزُل ذلك صدق الصحابة لم يزل أيضاً ستر الامام نفسه إمامته ، ولا فرق في ذلك ، ولو أنَّ رجلاً مسلماً وقع في أيدي الكفّار وكانوا يقتلون المسلمين إذا ظفروا بهم فسألوه هل أنت مسلمٌ؟ فقال : لا ، لم يكن ذلك بمخرج له من الاسلام ، فكذلك الامام إذا جحد عند أعدائه ومن يخافه على نفسه أنَّه إمام لم يخرجه ذلك من الامامة.

فان قالوا : إنَّ المسلم لم يجعل في العالم ليعلّم النّاس ويقيم الحدود ، فلذلك افترق حكماهما ووجب أن لا يستر الامام نفسه.

قيل لهم : لم نقل إنَّ الامام يستر نفسه (عن جميع النّاس) (٢) لأنّ الله عزَّ وجلَّ قد نصبه وعرَّف الخلق مكانه بقول الصادق الّذي قبله فيه ونصبه له ، وإنّما قلنا : أنَّ الامام لا يقرُّ عند أعدائه بذلك خوفاً منهم أن يقتلوه فأمّا أن يكون مستوراً عن

__________________

(١) أي كيف أخفى نفسه. وفى بعض النسخ « كيف أخذ ».

(٢) هذه الزيادة بين القوسين كانت في بعض النسخ دون بعض.

٤٩

جميع الخلق فلا ، لأنّ النّاس جميعاً لو سألوا عن إمام الاماميّة من هو؟ لقالوا : فلان بن فلان مشهورٌ عند جميع الاُمّة ، وإنّما تكلّمنا في أنَّه هل يقر عند أعدائه أم لا يقرُّ ، وعارضناكم باستتار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار وهو مبعوثٌ معه المعجزات وقد أتى بشرع مبتدع ونسخ كلّ شرع قبله وأريناكم أنَّه إذا خاف كان له أن يجحد عند أعدائه أنَّه إمام ولا يجيبهم إذا سألوه ، ولا يخرجه ذلك من أن يكون إماماً ، ولا فرق في ذلك ، فإنَّ قالوا : فإذا جوّزتم للامام أن يجحد إمامته أعداءه عند الخوف فهل يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجحد نبوَّته عند الخوف من أعدائه؟ قيل لهم : قد فرق قوم من أهل الحق بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين الامام بأن قالوا : أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الدّاعي إلى رسالته والمبيّن للنّاس ذلك بنفسه فإذا جحد ذلك وأنكره للتقيّة بطلت الحجّة ، ولم يكن أحد يبين عنه ، والامام قد قام له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحجته وأبان أمره فإذا سكت أو جحد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كفاه ذلك. وليس هذا جوابنا ، ولكنا نقول : أنَّ حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكم الامام سيان في التقية إذا كان قد صدع بأمر الله عزَّ وجلَّ وبلغ رسالته وأقام المعجزات ، فأمّا قبل ذلك فلا وقد محى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اسمه من الصحيفة في صلح الحديبية حين أنكر سهيل بن عمرو ، وحفص بن الاحنف نبوَّته فقال لعليٍّ عليه‌السلام : امحه واكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله. فلم يضر ذلك نبوَّته إذا كانت الاعلام في البراهين قد قامت له بذلك من قبل ، وقد قبل الله عزَّ وجلَّ عذر عمّار حين حمله المشركون على سبِّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرادوا قتله فسبه ، فلمّا رجع إلى النبيّ صلى عليه وآله قال : قد أفلح الوجه يا عمار ، قال : ما أفلح وقد سببتك يا رسول الله ، فقال عليه‌السلام : أليس قلبك مطئمنٌّ بالايمان؟ قال : بلى يا رسول الله ، فأنزل الله تبارك وتعالى « إلّا من اكره وقلبه مطمئنٌّ بالايمان » (١) والقول في ذلك ينافي الشريعة من إجازة ذلك في وقت وحظره في وقت آخر ، وإذا جاز للامام أن يجحد إمامته ويستر أمره جاز أن يستر شخصه متى أوجبت الحكمة غيبته وإذا جاز أن يغيب يوماً لعلّه موجبة جاز سنة ، وإذا جاز

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

٥٠

سنة ، جاز مائة سنة ، وإذا جاز مائة سنة جاز أكثر من ذلك إلى الوقت الّذي توجب الحكمة ظهوره كما أوجبت غيبته ، ولا قوَّة إلّا بالله.

ونحن نقول مع ذلك (١) : إنَّ الامام لا يأتي جميع ما يأتيه من اختفاء وظهور وغيرهما إلّا بعهد معهود إليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قد وردت به الاخبار عن أئمتنا عليهم‌السلام.

حدثنا محمّد بن موسى بن المتوكّل رضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا عليٌّ بن ـ إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد السلام بن صالح الهرويَّ ، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرِّضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي بعثني بالحقِّ بشيراً ليغيبنَّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي حتّى يقول أكثر النّاس : ما لله في آل محمّد حاجة ، ويشكُّ آخرون في ولادته ، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه ، ولا يجعل للشّيطان إليه سبيلا بشكّه (٢) فيزيله عن ملّتي ويخرجه من ديني ، فقد أخرج أبويكم من الجّنة من قبل ، وإن الله عزَّ وجلَّ جعل الشياطين أولياء للّذين لا يؤمنون.

اعتراضات لابن بشار :

وقد تكلّم علينا أبو الحسن عليُّ بن أحمد بن بشّار في الغيبة وأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيُّ (٣) وكان من كلام عليّ بن أحمد بن بشّار علينا في ذلك أن قال في كتابه أقول : إنَّ كلّ المبطلين أغنياء عن تثبيت إنيّة من يدّعون له ، وبه يتمسكون ، وعليه يعكفون ، ويعطفون لوجود أعيانهم وثبات إنياتهم وهؤلاء

__________________

(١) في بعض النسخ « في ذلك ».

(٢) في بعض النسخ « يشككه ».

(٣) محمّد بن عبد الرحمن بن قبة ـ بالقاف المكسورة وفتح الباء الموحدة الرازي أبو جعفر متكلم عظيم القدر حسن العقيدة كان قديماً من المعتزلة وتبصر وانتقل ، وكان شيخ الاماميّة في زمانه كما في (جش وصه).

٥١

(يعني أصحابنا) فقراء إلى ما قد غني عنه كلُّ مبطل سلف من تثبيت إنيّة من يدّعون له وجوب الطاعة ، فقد افتقروا إلى ما قد غني عنه سائر المبطلين واختلفوا بخاصة ازدادوا بها بطلاناً وانحطّوا بها عن سائر المبطلين ، لأنّ الزيادة من الباطل تحطُّ والزيادة من الخير تعلو ، والحمد لله ربِّ العالمين.

ثم قال : وأقول قولاً تعلم فيه الزيادة على الانصاف منّا وإن كان ذلك غير واجب علينا. أقول : إنَّه معلوم إنَّه ليس كلّ مدَّع ومدَّعى له بمحقٍّ ، وإن كلّ سائل لمدَّع تصحيح دعواه بمنصف (١) وهؤلاء القوم ادَّعوا أنَّ لهم من قد صح عندهم أمره ووجب له على النّاس الانقياد والتسليم وقد قدمنا أنَّه ليس كلّ مدَّع ومدَّعى له بواجب له التسليم ، ونحن نسلّم لهؤلاء القوم الدّعوى ونقرُّ على أنفسنا بالابطال ـ وإن كان ذلك في غاية المحال ـ بعد أن يوجدونا إنيّة المدّعى له ولا نسألهم تثبيت الدَّعوى ، فإنَّ كان معلوماً أنَّ في هذا أكثر من الانصاف فقد وفينا بما قلنا ، فإنَّ قدروا عليه فقد أبطلوا ، وإن عجزوا عنه فقد وضح ما قلناه من زيادة عجزهم عن تثبيت ما يدّعون على عجز كلّ مبطل عن تثبيت دعواه. وأنّهم مختصون من كلّ نوع من الباطل بخاصّة يزدادون بها انحطاطاً عن المبطلين أجمعين لقدرة كلّ مبطل سلف على تثبيت دعواه إنيّة من يدَّعون له وعجز هؤلاء عمّا قدر عليه كلّ مبطل إلّا ما يرجعون إليه من قولهم « إنَّه لابدّ ممّن تجب به حجّة الله عزَّ وجلَّ » وأجل لابد من وجوده فضلاً عن كونه ، فأوجدونا الانية من دون إيجاد الدَّعوي.

ولقد خبرت عن أبي جعفر بن أبي غانم (٢) أنَّه قال لبعض من سأله فقال : بم تحاجَّ الّذين (٣) كنت تقول ويقولون : إنَّه لابدَّ من شخص قائم من أهل هذا البيت؟ قال

__________________

(١) في بعض النسخ « ليس كلّ مدع ومدعى له فمحق وان كان (كل ـ خ ل) سائل للمدعى تصحيح دعواه فمنصف ».

(٢) هو غير عليّ بن أبي غانم الّذي عنونه منتجب الدِّين بل هو رجل آخر لم أعثر على عنوانه في كتب الرجال.

(٣) في بعض النسخ « الّذي ».

٥٢

له (١) : أقول لهم : هذا جعفر.

فياعجبا أيخصم النّاس بمن ليس هو بمخصوم (٢) وقد كان شيخ في هذه النّاحية رحمه‌الله يقول : قد وسمت هؤلاء باللّابديّة أي أنَّه لا مرجع لهم ولا معتمد إلّا إلى أنَّه لابدّ من أن يكون هذا الّذي (ليس) في الكاينات ، فوسمهم من أجل ذلك ، ونحن نسمّيهم بها أي أنهم دون كلّ من له بدَّ يعكف عليه إذ كان أهل الأصنام الّتى أحدها البدّ قد عكفوا على موجود وإن كان باطلاً ، وهم قد تعلّقوا بعدم ليس وباطل محض وهم اللّابدّيّة حقّاً ، أي لابدّ لهم يعكفون عليه (٣) إذ كان كلُّ مطاع معبود ، وقد وضح ما قلنا من اختصاصهم من كلّ نوع الباطل بخاصّة يزدادون بها انحطاطاً والحمد لله.

ثمَّ قال : نختم الان هذا الكتاب بأن نقول : إنّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الاجماع على أنَّه لابدّ من إمام قائم من أهل هذا البيت تجب به حجّة الله ويسدُّ به فقر الخلق وفاقتهم ومن لم يجتمع معنا على ذلك فقد خرج من النظر في كتابنا فضلا عن مطالبتنا به ونقول لكلِّ من اجتمع معنا على هذا الاصل من الّذي قدَّمنا في هذا الموضع : كنّا وإيّاكم قد أجمعنا على أنَّه لا يخلو أحد من بيوت هذه الدّار من سراج زاهر ، فدخلنا الدّار فلم نجد فيها إلّا بيتاً واحدا فقد وجب وصحَّ أنَّ في ذلك البيت سراجاً. والحمد لله رب العالمين.

فأجابه أبو جعفر محمّد بن عبد الرَّحمن بن قبة الرَّازيُّ بأن قال : إنّا نقول : ـ وبالله التوفيق : ـ ليس الاسراف في الادِّعاء والتقوُّل على الخصوم ممّا يثبت بهما حجّة ، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الحجاج بين المختلفين واعتمد كلُّ واحد على إضافة ما يخطر بباله من سوء القول إلى مخالفه وعلى ضدِّ هذا بني الحجاج ووضع

__________________

(١) يعنى أبو جعفر قال للمعترض.

(٢) لمّا كان جواب أبي جعفر ابن أبي غانم للمعترض : « أقول أنَّه جعفر ». تعجب منه ابن بشارلان جعفر ليس بقابل أن يخاصم فيه أولم يكن مورداً لها.

(٣) كذا.

٥٣

النظر والانصاف أولى ما يعامل به أهل الدِّين وليس قول أبي الحسن ليس لنا ملجأ نرجع إليه ولا قيّماً نعطف عليه ولا سنداً نتمسّك بقوله حجّة لأنّ دعواه هذا مجرّد من البرهان ، والدّعوى إذا انفردت عن البرهان كانت غير مقبول عند ذوي العقول والالباب ولسنا نعجز عن أن نقول : بلى لنا ـ والحمد لله ـ من نرجع إليه ونقف عند أمره ومن كان ثبتت حجّته وظهرت أدلّته ، فإنَّ قلت : فأين ذلك؟ دلّونا عليه قلنا : كيف تحبّون أن ندلّكم عليه أتسألوننا أن نأمره أن يركب ويصير إليكم ويعرض نفسه عليكم أو تسألونا أنَّ نبني له داراً ونحوّله إليها ونعلم بذلك أهل الشرق والغرب فإنَّ رمتم ذلك فلسنا نقدر عليه ولا ذلك بواجب عليه ، فإنَّ قلتم : من أيِّ وجه تلزمنا حجّته وتجب علينا طاعته؟ قلنا : إنّا نقرُّ أنَّه لا بدّ من رجل من ولد أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما‌السلام تجب به حجّة الله دللناكم على ذلك حتّى نضطرُّكم إليه أن أنصفتم من أنفسكم ، وأوَّل ما يجب علينا وعليكم أن لا نتجاوز ما قد رضي به أهل النظر واستعملوه ورأوا أنَّ من حاد عن ذلك فقد ترك سبيل العلماء ، وهو أنّا لا نتكلّم في فرع لم يثبت أصله وهذا الرجل الّذي تجحدون وجوده فانّما يثبت له الحقُّ بعد أبيه وأنتم قوم لا تخالفونا في وجود أبيه فلا معنى لترك النظر في حق أبيه والاشتغال (١) بالنظر معكم في وجوده فانه إذا ثبت الحق لابيه ، فهذا ثابت ضرورة عند ذلك باقراركم ، وإن بطل أن يكون الحقُّ لابيه فقد آل الأمر إلى ما تقولون وقد أبطلنا ، وهيهات لن يزداد الحقّث إلّا قوة ولا الباطل إلّا وهناً ، وإن زخرفه المبطلون ، والدّليل على صحّة أمر أبيه إنّا وإياكم مجمعون على أنَّه لا بد من رجل من ولد أبي الحسن تثبت به حجّة الله وينقطع به عذر الخلق وإن ذلك الرجل تلزم حجّته من نأى عنه من أهل الاسلام كما تلزم من شاهده وعاينه ونحن وأكثر الخلق ممّن قد لزمتنا الحجّة من غير مشاهدة فننظر في الوجه الّذي لزمتنا منه الحجّة ما هي ، ثمّ ننظر من أولى من الرّجلين اللّذين لا عقب لابي ـ الحسن غيرهما فأيهما كان أولى فهو الحجّة والامام ولا حاجة بنا إلى التطويل ، ثمّ

__________________

(١) في بعض النسخ « والانتقال ».

٥٤

نظرنا من أيِّ وجه تلزم الحجّة من نأى عن الرُّسل والائمّة عليهم‌السلام فإذاً ذلك بالاخبار الّتى توجب الحجّة وتزول عن ناقليها تهمة التواطؤ عليها والاجماع على تخرُّصها ووضعها ثمّ فحصنا عن الحال فوجدنا فريقين ناقلين يزعم أحدهما أنَّ الماضي نصَّ على الحسن عليه‌السلام وأشار إليه ويروون مع الوصيّة وما له من خاصّة الكبر أدلة يذكرونها وعلماً يثبتونه ، ووجدنا الفريق الاخر يروون مثل ذلك لجعفر لا يقول غير هذا فانّه أولى بنا نظرنا فإذاً الناقل لاخبار جعفر جماعة يسيرة والجماعة اليسيرة يجوز عليها التواطؤ والتلاقي والتراسُل فوقع نقلهم موقع شبهة لا موقع حجّة وحجج الله لا تثبت بالشبهات ونظرنا في نقل الفريق الاخر فوجدناهم جماعات متباعدي الديّار والاقطار ، مختلفي الهمم والاراء متغايرين ، فالكذب لا يجوز عليهم لنأي بعضهم عن بعض ولا التواطؤ ولا التراسل والاجتماع على تخرُّص خبر ووضعه ، فعلمنا أنَّ النقل الصحيح هو نقلهم وأن المحق هؤلاء ، ولانه أنَّ بطل ما قد نقله هؤلاء على ما وصفنا من شأنهم لم يصحّ خبرٌ في الأرض وبطلت الاخبار كلّها فتأمل ـ وفّقك الله ـ في الفريقين فانّك تجدهم كما وصفت ، وفي بطلان الاخبار هدم الاسلام وفي تصحيحها تصحيح خبرنا ، وفي ذلك دليل على صحّة أمرنا ، والحمد لله رب العالمين.

ثمَّ رأيت الجعفريّة (١) تختلف في إمامة جعفر من أيِّ وجه تجب؟ فقال قوم : بعد أخيه محمّد ، وقال قوم : بعد أخيه الحسن ، وقال قوم : بعد أبيه. ورأيناهم لا يتجاوزون ذلك ورأينا أسلافهم وأسلافنا قد رووا قبل الحادث ما يدلُّ على إمامة الحسن وهو ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا توالت ثلاثة أسماء : محمّد وعليٌّ والحسن فالرّابع القائم » وغير ذلك من الرّوايات وهذه وحدها توجب الامامة للحسن ، وليس إلّا الحسن وجعفر. فإذا لم تثبت لجعفر حجّة على من شاهده في أيّام الحسن والامام ثابت الحجّة على من رآه ومن لم يره فهو الحسن اضطراراً ، وإذا ثبت الحسن عليه‌السلام وجعفرٌ عندكم مبرَّء تبرّأ منه والامام لا يتبرّأُ من الامام والحسن قد مضى ولابدَّ عندنا وعندكم من

__________________

(١) يعنى القائلين بامامة جعفر الكذاب.

٥٥

رجل من ولد الحسن عليه‌السلام تثبت به حجّة الله ، فقد وجب بالاضطرار للحسن ولدٌ قائم عليه‌السلام.

وقل يا أبا جعفر ـ أسعدك الله ـ لابي الحسن أعزَّه الله (١) : يقول محمّد بن عبد الرحمن قد أوجدناك إنيّة المدّعى له فأين المهرب؟ هل تقرُّ على نفسك بالابطال كما ضمنت أو يمنعك الهوى من ذلك فتكون كما قال الله تعالى : « وإنَّ كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم » (٢).

فأمّا ما وسم به أهل الحقِّ من اللّابديّة لقولهم : « لابدَّ ممّن تجب به حجّة الله » فيا عجبا فلا يقول أبو الحسن لابدَّ ممّن تجب به حجّة الله؟ وكيف لا يقول وقد قال عند حكايته عنا وتعييره إيّانا : « أجل لابدّ من وجوده فضلاً عن كونه » فإنَّ كان يقول ذلك فهو وأصحابه من اللابدية وإنّما وسم نفسه وعاب إخوانه ، وإن كان لا يقول ذلك فقد كفينا مؤونة تنظيره ومثله بالبيت والسراج ، وكذا يكون حال من عاند أولياء الله يعيب نفسه من حيث يرى أنَّه يعيب خصمه ، والحمد لله المؤيد للحق بأدلته. ونحن نسمي هؤلاء بالبُدِّية إذ كانوا عبدة البدَّ قد عكفوا على ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا. وهكذا هؤلاء ، ونقول : يا أبا الحسن ـ هداك الله ـ هذا حجّة الله على الجنِّ والانس ومن لا تثبت حجّته على الخلق إلّا بعد الدعاء والبيان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخفى شخصه في الغار حتّى لم يعلم بمكانه ممّن احتج الله عليهم به إلّا خمسة نفر (٣).

__________________

(١) يعنى بأبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة ، وبابى الحسن عليّ بن أحمد ابن بشار.

(٢) الانعام : ١١٩.

(٣) المراد بالخمسة : عليّ بن أبي طالب ، وأبو بكر ، وعبد الله بن اريقط الليثي ، واسماء بنت أبي بكر ، وعامر بن فهيرة. والقصة كما في اعلام الورى هكذا : بقى رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ثمّ اذن الله له في الهجرة وقال : يا محمّد اخرج عن مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل راع لبعض قريش يقال له ابن اريقط فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا ابن اريقط أئتمنك على دمي؟ قال إذا احرسك وأحفظك ولا

٥٦

فان قلت : إنَّ تلك غيبة بعد ظهوره وبعد أن قام على فراشه من يقوم مقامه ، قلت لك : لسنا نحتجُّ عليك في حال ظهوره ولا استخلافه لمن يقوم مقامه من هذا في قبيل ولا دبير (١) وإنّما نقول لك : أليس تثبت حجّته في نفسه في حال غيبته على من لم يعلم بمكانه لعلّة من العلل فلا بدَّ من أن تقول : نعم ، قلنا : ونثبت حجّة الامام وإن كان غائباً لعلّة اخرى وإلّا فما الفرق؟ ثمّ نقول : وهذا أيضاً لم يغب حتّى ملا آباؤه عليهم‌السلام آذان شيعتم بأن غيبته تكون وعرَّفوهم كيف يعملون عند غيبته.

فان قلت في ولادته ، فهذا موسى عليه‌السلام مع شدَّة طلب فرعون إيّاه وما فعل بالنِّساء والاولاد لمكانه حتّى أذن الله في ظهوره ، وقد قال الرِّضا عليه‌السلام في وصفه : « بأبي واُمّي شبيهي وسمّي جدِّي وشبيه موسى بن عمران.

وحجّة اخرى نقول لك : يا أبا الحسن أتقرُّ أنَّ الشيعة قد روت في الغيبة أخبارا؟ فإنَّ قال : لا ، أوجدناه الاخبار ، وإن قال : نعم ، قلنا له : فكيف تكون حالة النّاس إذا غاب إمامهم فكيف تلزمهم الحجّة في وقت غيبته ، فإنَّ قال : يقيم من يقوم مقامه ، فليس يقوم عندنا وعندكم مقام الامام إلّا الامام ، وإذا كان إماماً قائماً (٢)

__________________

أدل عليك فأين تريد يا محمد؟ قال : يثرب ، قال : والله لاسلكن بك مسلكا لا يهتدى إليه أحد ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائت عليا وبشره بان الله قد أذن لي في الهجرة فيهييء لي زاداً وراحلة. وقال أبو بكر : ائت اسماء بنتي وقل لها : تهيأ لي زادا وراحلتين ، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا ـ وكان من موالي أبي بكر وقد كان أسلم ـ قل له : ائتنا بالزاد والراحلتين ، فجاء ابن اريقط إلى علي وأخبره بذلك فبعث عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بزاد وراحلة ، وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الغار وأخذ به ابن اريقط علي طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلّا بقديد.

(١) القبيل ما اقبلت به إلى صدرك. والدبير ما أدبرت به عن صدرك ، ويقال : فلان ما يعرف قبيلا ولا دبيرا. والمراد ما أقبلت به المرأة من غزلها وما أدبرت. وهذا الكلام تعريض لابن بشار يعنى أنَّه لا يدرى ما يقول ولسنا نحتج عليه في هذا الامر.

(٢) يعنى إذا كان من يقوم إماماً قائماً.

٥٧

فلاغيبة وإن احتج بشيء آخر في تلك الغيبة فهو بعينه حجّتنا في وقتنا لا فرق فيه ولافصل.

ومن الدّليل على فساد أمر جعفر موالاته وتزكيته فارس بن حاتم ـ لعنه الله (١) ـ وقد بريء منه أبوه ، وشاع ذلك في الامصار حتّى وقف عليه الاعداء فضلاً عن الأولياء.

ومن الدّليل على فساد أمره استعانته بمن استعان في طلب الميراث من أمِّ الحسن عليه‌السلام وقد أجمعت الشيعة أنَّ آباءه عليهم‌السلام أجمعوا أنَّ الاخ لا يرث مع الاُمِّ.

ومن الدّليل على فساد أمره قوله : إنّي إمام بعد أخي محمّد ، فليت شعري متى تثبت إمامة أخيه وقد مات قبل أبيه حتّى تثبت إمامة خليفته ، ويا عجبا إذا كان محمّد يستخلف ويقيم إماماً بعده وأبوه حيٌّ قائم وهو الحجّة والامام فما يصنع أبوه ، ومتى جرت هذه السنّة في الائمّة وأولادهم حتّى نقبلها منكم ، فدلونا على ما يوجب إمامة محمّد حتّى إذا ثبتت قبلنا إمامة خليفته. والحمد لله الّذي جعل الحقَّ مؤيّداً والباطل مهتوكا ضعيفاً زاهقاً.

فأما ما حكى عن ابن أبي غانم رحمه‌الله فلم يرد الرَّجل بقوله عندنا يثبت إمامة جعفر ، وإنّما أراد أن يعلم السائل أنَّ أهل هذه البيت لم يفنوا حتّى لا يوجد منهم أحدا.

وأما قوله : « وكلُّ مطاع معبود » فهو خطأ عظيم لانا لا نعرف معبودا إلّا الله ونحن نطيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا نعبده.

وأما قوله : نختم الان هذا الكتاب بأن نقول : إنّما نناظر ونخاطب من قد سبق منه الاجماع بأنه لابدّ من إمام قائم من أهل هذه البيت تجب به حجّة الله ـ إلى قوله ـ وصح أنَّ في ذلك البيت سراجاً ، ولا حاجة بنا إلى دخوله فنحن ـ وفّقك الله ـ لا نخالفه وأنّه لابدّ من إمام قائم من أهل هذا البيت تجب به حجّة الله وإنّما

__________________

(١) هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني نزيل العسكر من اصحاب الرضا عليه‌السلام غال ملعون أهدر أبو الحسن العسكري عليه‌السلام دمه وضمن لمن يقتله الجنة فقتله جنيد. راجع منهج المقال ص ٢٥٧.

٥٨

نخالفه في كيفيّة قيامه وظهوره وغيبته.

وأمّا ما مثّل به من البيت والسراج فهو مُنى ، وقد قيل : إنَّ المنى رأس أموال المفاليس ، ولكنّا نضرب مثلاً على الحقيقة لا نميل فيه على حضم ولا نحيف فيه على ضدِّ ، بل نقصد فيه الصواب فنقول : كنّا ومن خالفنا قد أجمعنا على أنَّ فلاناً مضى وله ولدان وله دار وأن الدّار يستحقّها منهما من قدر على أن يحمل باحدى يديه ألف رطل وأن الدّار لا تزال في يدي عقب الحامل (١) إلى يوم القيامة ، ونعلم أنَّ أحدهما يحمل والاخر يعجز ، ثمّ احتجنا أن نعلم من الحامل منهما فقصدنا مكانهما لمعرفة ذلك فعاق عنهما عائق منع عن مشاهدتهما غير أنّا رأينا جماعات كثيرة في بلدان نائية متباعدة بعضها عن بعض يشهدون أنّهم رأوا أنَّ الاكبر منهما قد حمل ذلك ، ووجدنا جماعة يسيرة في موضع واحد يشهدون أنَّ الاصغر منهما فعل ذلك ، ولم نجد لهذه الجماعة خاصّة يأتوا بها ، فلم يجز في حكم النظر وحفيظة الانصاف وما جرت به العادة وصحّت به التجربة ردُّ شهادة تلك الجماعات وقبول شهادة هذه الجماعة والتهمة تلحق هؤلاء وتبعد عن أولئك.

فان قال خصومنا : فما تقولون في شهادة سلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وشهادة تلك الجماعات وأولئك الخلق لغيره أيّهما كان أصوب؟

قلنا لهم : لامير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه امورٌ خَصّ بها وخَصّوا بها دون من بازائهم ، فإنَّ أوجدتمونا مثل ذلك أو ما يقاربه لكم فأنتم المحقّون : أوَّلها أنَّ أعداءه كانوا يقرُّون بفضله وطهارته وعلمه ، وقد روينا ورووا له معنا أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خبر « أنَّ الله يوالي من يواليه ويعادي من يعاديه » فوجب لهذا أن يتّبع دون غيره ، والثاني أنَّ أعداءه لم يقولوا له : نحن نشهد أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشار إلى فلان بالامامة ونصبه حجّة للخلق وإنّما نصبوه لهم علي جهة الاختيار كما قد بلغك ، والثالث أنَّ أعداءه كانوا يشهدون على أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام أنَّه لا يكذب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما

__________________

(١) يعنى اولاده وأحفاده.

٥٩

أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر » فكانت شهادته وحده أفضل من شهادتهم ، والرَّابع أنَّ أعداءه قد نقلوا ما نقله أولياؤه ممّا تجب به الحجّة وذهبوا عنه بفساد التأويل ، والخامس أنَّ أعداءه رووا في الحسن والحسين أنّهما سيدا شباب أهل الجنّة ، ورووا أيضاً أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من كذب علىَّ متعمّداً فليتبوَّأ مقعده من النّار » فلمّا شهدا لأبيهما بذلك وصحَّ أنّهما من أهل الجنة بشهادة الرَّسول وجب تصديقهما لانّهما لو كذبا في هذا لم يكونا من أهل الجنّة وكانا من أهل النار وحاشا لهما الزّكيّين الطيّبين الصادقين ، فليوجدنا أصحاب جعفر خاصّة هي لهم دون خصومهم حتّى يقبل ذلك ، وإلّا فلا معنى لترك خبر متواتر لا تهمة في نقله ولا على ناقليه وقبول خبر لا يؤمن على ناقليه تهمة التواطؤ عليه ، ولا خاصة معهم يثبتون بها ولن يفعل ذلك إلّا تائه حيران. فتأمل ـ أسعدك الله ـ في النظر فيما كتبت به إليك ممّا ينظر به الناظر لدينه ، المفكر في معاده المتأمل بعين الخيفة والحذار إلى عواقب الكفر والجحود موفّقاً إن شاء الله تعالى أطال الله بقاءك وأعزك وأيّدك وثبتك وجعلك من أهل الحق وهداك له وأعاذك من أن تكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدُّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. ومن الّذين يستزلهم الشيطان بخدعه وغروره وإملائه وتسويله وأجرى لك أجمل ما عوَّدك.

وكتب بعض الاماميّة إلى أبي جعفر بن قبة كتاباً يسأله فيه عن مسائل ، فورد في جوابها أمّا قولك ـ أيدك الله ـ حاكياً عن المعتزلة أنّها زعمت أنَّ الاماميّة تزعم أنَّ النَّص على الامام واجب في العقل فهذا يحتمل أمرين إن كانوا يريدون أنَّه واجب في العقل قبل مجيء الرُّسل عليهم‌السلام وشرع الشرايع فهذا خطأ وإن أرادوا أنَّ العقول دلّت على أنَّه لابدّ من إمام بعد الأنبياء عليهم‌السلام ، فقد علموا ذلك بالأدلّة القطعيّة وعلموه أيضاً بالخبر الّذي ينقلونه عمّن يقولون بامامته.

وأما قول المعتزلة : إنّا قد علمنا يقينا أنَّ الحسن بن عليٍّ عليهما‌السلام مضى ولم ينَّص فقد ادَّعوا دعوى يخالفون فيها وهم محتاجون إلى أن يدلّوا على صحّتها وبأيِّ شيء ينفصلون ممّن زعم من مخالفيهم أنّهم قد علموا من ذلك ضدّ ما ادَّعوا أنّهم علموه.

٦٠