علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

مبارك الاسم أغرّ اللقب

كريم الجرشي شريف النسب (١)

وكالنقاخ فيما أنشده شمر :

وأحمق ممن يلعق الماء قال لي

دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد (٢)

لكن البصير بصنعة الكلام يعلم أن استثقال الطبع لما يسمع ، إنما يتصور من جهة غرابة الكلمة ووحشيتها ، ففي ذكر الغرابة غنية عن ذكرها.

تدريب أول

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

قال المتنبي يمدح سيف الدولة :

١ ـ وما أرضى لمقلته بحلم

اذا انتبهت توهمه (ابتشاكا) (٣)

٢ ـ لم يلقها إلا بشكة باسل

يخشى الحوادث حازم (مستعدد) (٤)

٣ ـ يا نفس صبرا كل حي لاق

وكل (اثنين) إلى افتراق

٤ ـ فلا يبرم الأمر الذي هو (حالل)

ولا (يحلل) الأمر الذي هو يبرم

٥ ـ أن بني للئام زهده

مالي في صدورهم من (مودده)

٦ ـ كتب بعض أمراء بغداد رقعة طرحها في المسجد الجامع حين مرضت أمه فقال : صين أمرؤ ورعى دعا لامرأة (إنقحلة) ، (مقسئنة) فقد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله (الاستمصال) أن يمن الله عليها (بالاطرغشاش) ، و (الابرغشاش) (٥).

__________________

(١) مبارك الاسم لأن اسمه علي من العلو ، وأغر اللقب أي مشهوره لأنه سيف الدولة.

(٢) يلعق يلحس ، والنقاخ العذب من الماء.

(٣) الابتشاك الكذب والحلم والرؤيا التي يراها النائم.

(٤) الضمير يعود الى الحرب ، والشكة الخصلة ، والباسل الشجاع.

(٥) أنقحلة يابسة ومقسئنة مسنة عجوز ومنيت ابتليت والطرموق الخفاص والاستمصال الاسهال والاطرغشاش والابرغشاش البرء من المرض.

٢١

الاجابة

تدريب ثان

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ قال ابن نباته في خطبة له يذكر أهوال يوم القيامة :

(أقمطر) وبالها ، و (اشمخرّ) نكالها ، فما ساغت ولا طابت (١).

٢ ـ يوم (عصبصب) و (هلوف) ملا السجسج طلا (٢).

٣ ـ قد قلت لما (اطلخمّ) الأمر وانبعثت

عشواء تالية غبسا (دهاريسا) (٣)

٤ ـ نعم متاع الدنيا حباك به

أروع لا (جبدر) ولا جبس (٤)

__________________

(١) اقمطر اشتد والوبال الثقل والوخامة واشمخر طال.

(٢) والعصبصب الشديد الحر والهلوف الذي يستر غمامه شمسه والسجسع الارض السهلة والطل المطر الندى أو المطر القليل.

(٣) اطلخم اشتد وعظم والدهاريس الدواهي والعشواء الناقة الضعيفة البصر والغبس جمع أغبس وغبساء وهي الشديدة الظلمة وهو لأبي تمام وبعده :

لي حرمة بك أضحى حق نازلها

وقفا عليك فدتك النفس محبوبا

(٤) حباك أعطاك والاروع المعجب والجيدر القصير والجبس الثقيل.

٢٢

٥ ـ تقي نقي لم يكثر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا (بحقلد) (١)

٦ ـ قال امرؤ القيس حين أدركته المنية وكان قد ذهب الى ملك الروم يستنجده على قتلة أبيه : رب جفنة (مثعنجره) ، وطعنة (مسحنفره) ، وخطبة مستحضسره ، وقصيدة محبره ، تبقى غدا بأنقره (٢).

الاجابة

تمرين (١)

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ تشكو الوجى من (أظلل وأظلل)

من طول إملال وظهر ممللّ (٣)

٢ ـ فأرحام شعر تتصلن (لدنّه)

وأرحام مال ما تني تقطّع (٤)

٣ ـ رواق العز حولك (مسبطر)

وملك عليّ ابنك في كمال (٥)

__________________

(١) النهكة الغلب والحقلد الاثم.

(٢) المثعنجرة الملأى والمسحنفرة المتسعة ، وأنقرة بلد بآسيا الصغرى.

(٣) الوجى الحفي والأظل باطن خف البعير وبعير ممل أكثر ركوبه حتى دبر ظهره.

(٤) تنا تتأخر ، وتنقطع تتمزق.

(٥) مسبطر ممتد.

٢٣

٤ ـ لا نسب اليوم ولا خلة

(إتسع) الفتق على الراقع (١)

٥ ـ فأيقنت أني عند ذلك ثائر

غد اتئذ أو هالك في (الهوالك) (٢)

٦ ـ قال أبو علقمة يوما لحاجمه : أرهف ظبات المشارط ، وأمر المسح ، واستنجل الرشح ، وخفف الوطء ، وعجل النزع ، ولا تكرهن أبيا ، ولا تردّن أتيا ، فقال له الحجّام : ليس لي علم بالحروف (٣).

تمرين (٢)

بيّن ما أخل بفصاحة الكلمات التي وضعت بين قوسين :

١ ـ جرت سحا فقلت لها (اخبريني)

نوى مشمولة فمتى اللقاء (٤)

٢ ـ اعاذل قد جربت من خلقي

أني أجود لأقوام وإن (ضننوا)

٣ ـ من كلام أم الهيثم الأعرابية لأبي عبيدة الراوية ، وقد عادها في علة أصابتها ، كنت وحمى (سدكة) ، وشهدت مآدبة ، فأكلت (جبجبة) ، من صفيف (هلعة) فاعترتني (زلخّة) ، فقيل لها أي شيء تقولين ، فقالت أو للناس كلامان ، والله ما كلمتكم إلا بالعربي الفصيح (٥).

٤ ـ يا نرجس الدنيا أقم أبدا

(للاقتراح) ودائم النخب (٦)

٥ ـ قال بعض الأدباء لكاتبه يوصيه بحسن الجلسة للكتابة والاستماع لما يملي عليه ، ألصق روانفك (بالجبوب) ، وخذ المسطر (بشناترك) ،

__________________

(١) الخلة للصداقة والفتق الشق والراقع مصلح الفتق.

(٢) الثابار الذي لا يبقى على شيء حتى يدرك ثأره.

(٣) أرهف رقق ، والظبات جمع ظبة وهي السيف والموسى ، والمشارط جمع مشرط وهو مبضع الحجام الذي يشرط به الجلد واستنجل استخرج والرشح النز والأبي الممتنع والأتي الجائي والحروف هنا اللغات.

(٤) السح الشديدة والنوى البعد وهو خبر لمبتدأ محزوف أي هذه والمشمولة العامة.

(٥) سدكة مشتهية للطعام والجبحبة كرش يحشى باللحم المقطع ، والصفيف الشواء ، والهلعى أنثى المعز ، والزلخة وجع في الظهر.

(٦) الاقتراح الابتداع والاختيار ، والنخب الشربة العظيمة من الخمر وغيرها.

٢٤

واجل (حندورتيك) الى (قيهلى) حتى لا أنغى نفية ، إلا أودعتها (حماطة جلجلانك) (١).

فصاحة الكلام

يراد بالكلام هنا ما يشمل المركب للتام والناقص (٢)

وفصاحته تكون بسلامته من كل ما ينغلق به معناه وينبهم مغزاه ، وإلا كان مردودا خارجا عن حدود البلاغة ، ورسوم الفصاحة ، ولو احتوى على أجل المعاني وأشرفها ، وإنما يتم له ذلك اذا عرى عن الأشياء الآتية :

١ ـ تنافر الكلمات مجتمعة ، ويدخل فيه كثرة التكرار وتتابع الإضافات.

٢ ـ ضعف التأليف.

٣ ـ التعقيد اللفظي.

٤ ـ التعقيد المعنوي.

تنافر الكلمات ـ المعاظلة (٣) اللفظية

هو وصف يعرض للكلمات مجتمعة فيوجب ثقلها واضطراب اللسان عند النطق بها ، وقد علم بالاستقراء أن منشأه إما :

١ ـ تكرير حرف أو حرفين من كلمة في المنثور أو المنظوم ، وهو قسمان :

(ا) ما اشتد ثقله وتناهى كالذي أنشده الجاحظ :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر (٤)

فأنت ترى أن قافاته وراءاته قلقة نابية ، وكأنها سلسلة تتبرأ بعض حلقاتها من بعض.

__________________

(١) الروانف جمع رانفة الالية والجبوب الأرض ، والقلم والشناتر الأصابع ، والحندورتان حدتتا العين ، والقيهل الوجه ، والحماطة حبة القلب ، والجلجلان الصدر.

(٢) كالمركب الاضافي ، والمركب التقييدي ، وهو مجاز من اطلاق الخاص على العام.

(٣) عاظل الكلام عقده ووالى بعضه فوق بعض.

(٤) حرب هو حرب بن أمية بن عبد شمس ولشدة الثقل فيه زعموا أنه من شعر الجن قالوه لما قتلوه بثأر حية منهم ودفنوه بناحية بعيدة وقفر ، نعت مقطوع للضرورة أو هو خبر ، والباء بمعنى في أي مكان.

٢٥

(ب) ما كان فيه بعض الثقل كقول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدى (١)

وقول المتنبي :

كيف ترثي التي ترى كل جفن

راءها غير جفنها غير راقي (٢)

فتكرار الحاء والهاء المتقاربتي المخرج في بيت أبي تمام ، والجيم والراء في أكثر كلمات بيت المتنبي ، أوجب الثقل فيهما.

وقال بعض الوعاظ في كلام أورده : (حتى جنأت وجنات جنّات الحبيب) فلما سمعه بعض الحاضرين صاح وقال : سمعت جيما في جيم فصحت.

٢ ـ إيراد أفعال يتبع بعضها بعضا بدون عطف ، سواء اختلفت بين المضي والاستقبال نحو قول القاضي الأرجاني يحدث عن الشمع :

بالنار فرقت الحوادث بيننا

وبها نذرت أعود أقتل روحي (٣)

أم لم تختلف كقول المتنبي يمدح سيف الدولة :

أفل أنل أقطع احمل على سل أعد

زدهش بش تفضل أدن سر صل (٤)

فورود نذرت أعود أقتل متتابعة على تلك الشاكلة في البيت الأول جاء ثقيلا متعاظلا ، كما أن مجيء أفعال الأمر متكررة في البيت الثاني جعل للثقل فيها حظا عظيما ، فإن جاءت الأفعال مع حرف العطف لم تكن في الثقل كالأول نحو قول عبد السّلام بن رغبان المعروف بديك الجن :

احل وامرر وضر وانفع ولن واخشن وأبرر ثم انتدت للمعالي (٥).

__________________

(١) وفيه عيب آخر وهو مقابلة المدح باللوم وأنما يقابل بالذم ، وكأنه أراد أن ينفي الذم عنه بنفيه اللوم بالطريق الأولى.

(٢) وراءها رآها فحصل فيه إعلال بالقلب بتقديم الألف وتأخير الهمزة ورقا الدمع والدم انقطع ، يريد أنها لا ترحم باكيا لأنها تحسب الدمع في أجفان العشاق خلقيا.

(٣) يقول بلسان الشمع أنه ألف العسل وهو أخوه الذي ربي معه لكن النار فرقت بينه ، وأنه نذر أن يقتل نفسه بها أيضا من ألم الفراق.

(٤) أقل من الاقالة وأقطع من الأقطاع لأرض ونحوها وعل من العلو وصل ، أي بالعطية.

(٥) أبرر من قولهم أبر اليمين أمضاها على الصدق وانتدب لكذا ساسها.

٢٦

٣ ـ إيراد صفات متعددة على طريق واحدة كقول المتنبي في المديح ، وقد أولع كثيرا بهذا النوع :

دان بعيد محب مبغض بهج

أغرّ حلو ممر لين شرس

ند أبي غر واف أخي ثقة

جعد سرنه ندب رضى ندس (١)

ولا يخفي ما فيه من الثقل فما أشبه بسلسلة طويلة متصلة الحلقات.

٤ ـ تعاقب الأدوات ومجيء بعضها إثر بعض كمن وإلى ، وفي وعن وعلى كقول أبي تمام :

كأنه في اجتماع الروح فيه له

في كل جارحة من جسمه روح (٢)

وقول المتنبي يصف فرسا :

وتسعدني في عمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد (٣)

فمجيء في بعد له في البيت الأول ، ولها منها عليها في البيت الثاني ، أورث فيهما ثقلا جعل اللسان يتعثر عند النطق بهما ، قال صاحب الصناعتين : وسبيل تلافي ذلك أن تفصل بين الحرفين كأن تقول : اقمت به شهيدا عليه.

٥ ـ تتابع الإضافات كما تقول : سرج فرس تابع الأمير ، وعليه ورد قول ابن بابك :

حمامة جرعي حومة الجندل اسجعي

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع (٤)

قال في دلائل الإعجاز : ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الإستكراه ، قال الصاحب بن عبادة : إياك والإضافات المتداخلة ، وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقوله :

__________________

(١) الشرس الصلب هنا والقرى المغرى بفعل الجميل وجعد الماضي في الأمور والسري الشريف والنهي العاقل والندب السريع في أموره ، والندس العارف البحاثة ، يريد أنه محب لأهل الفضل مبغض لأهل النقص يبهج بالقصاد ويحلو لأوليائه ويمر على أعدائه.

(٢) الجارحة العصو يريد أن يقظ نشيط.

(٣) الغمرة الشدة ، والسبوح الفرس الحسن العدو الذي لا يتعب راكبه كأنه يسبح في الماء يريد أنه يعينه على الشدائد ، وله شواهد دالة على كرم خصاله.

(٤) الجرعى تأنيث الأجرع وهي الرملة لا تنبت شيئا ، والحومة معظم الشيء ، والجندل الحجارة ، والسجع هديل الحمام المعنى اطربي لأن الحبيبة تراك وتسمعك.

٢٧

يا علي بن حمزة بن عمارة

أنت والله ثلجة في خيارة (١)

(تنبيه) لا يقبح القسمان الأخيران إلا اذا أوجبا ثقلا على اللسان ، وإلا فلا يخلان بالفصاحة ، فقد تكررت الأدوات وكانت حسنة مليحة في قول قطري بن الفجاءة :

ولقد أراني للرماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي (٢)

كما تكررت الإضافة ولطفت في قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)(٣) وقول ابن المعتر :

وطلت تدير الراح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح (٤)

ومن ذلك تعلم أنه لا وجه لعد هذين القسمين بعيدين عن التنافر.

ضعف التأليف

هو أن يكون تأليف الكلام مخالفا لما اشتهر من قوانين النحو المشهورة ، كوصل الضميرين ، وتقديم غير الأعراف (مع وجوب الفصل في نحو هذا) ، كقول المتنبي :

خلت البلاد من الغزالة ليلها

فأعاضهاك الله كي لا تحزنا (٥)

وكنصب المضارع بلا ناصب نحو :

أنظرا قبل تلوماني الى

طلل بين النقا والمنحنى (٦)

وكحذف نون يكن في الجزم حين يليها ساكن نحو :

__________________

(١) قوله ثلجة في خيارة في أي خيارة ثلجة ، وفي هذا اشتباه من عبد القاهر ، لأنه ليس فيه تتابع اضافات.

(٢) الدريئة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن والرمي (النشان).

(٣) سورة مريم.

(٤) الراح الخمر ، والجاذر جمع جؤذر ولد البقر الوحشية تشبه به الحسان لجمال عينيه ، والعتاق النجائب ودنانير الوجوه أي وجوههم متلألئة كالدنانير.

(٥) الغزالة الشمس ، يريد أن البلاد اذا خلت من الشمس ليلا جعلك الله عوضا منها.

(٦) الطلل ما بقي من آثار الديار ، والنقا والمنحنى موضعان.

٢٨

لم يك الحق سوى أن هاجه

رسم دار قد تعفّت بالمرر (١)

وكالاضمار قبل الذكر لفظا ومعنى وحكما (٢) في قول حسان بن ثابت :

ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده الدهر مطعما (٣)

التعقيد

هو ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى المراد ، ولذلك سببان ، أحدهما يرجع الى خلل في النظم والتركيب وهو التعقيد اللفظي ، وثانيهما يرجع الى المعنى وهو التعقيد المعنوي.

التعقيد اللفظي (٤)

حقيقته أن تكون الألفاظ مرتبة لا على وفق ترتيب المعاني ، فيفسد نظام الكلام وتأليفه بسبب ما يحصل فيه من تقديم وتأخير ونحو ذلك ، كتقديم الصفة على الموصوف ، والصلة على الموصول.

وهو مذموم مرفوض عند أهل البيان لأنه يوجب اختلال المعنى واضطرابه ، وذلك ضد الفصاحة التي هي ظهور وإبانة ، ومن ثم قال العتابي : الألفاظ أجساد والمعاني أرواح ، وإنما تراها بعين القلوب ، فإذا قدمت منها مؤخرا أو أخرت منها مقدما ، أفسدت الصورة وغيرت المعنى ، كما لو حوّل رأس الى موضع يد أو يد الى موضع رجل ، فإن الخلقة تتحول والحلية تتغير.

وأكثر من استعمله الفرزدق وكأنه كان يقصده لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا ، إذ لو خلى الإنسان ونفسه تجري على سجيتها في الاسترسال لم يعرض لها شيء من هذا النوع ، فمن ذلك قوله يمدح الوليد بن عبد الملك :

__________________

(١) هاج ثار ورسم الدار أثرها وتعفت درست واضمحلت والمرر موضع.

(٢) فان تقدم الضمير لفظا وتأخر معنى جاز نحو ضرب غلامه محمد ، وكذا إن تقدم لفظا وتأخر حكما نحو نعم رجلا على.

(٣) يرثي مطعم بن عدي أحد رؤساء المشركين وكان يدافع عن النبي عليه الصلاة والسّلام.

(٤) قد يحصل التعقيد باجتماع عدة أمور موجبة لصعوبة فهم المعنى وإن كان كل منها جاريا على قانون النحو ، فلا يغني ذكر ضعف التأليف عنه.

٢٩

إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره (١)

يريده الى ملك أبوه ليست أمه من محارب ، فقدم وأخر حتى أبهم المعنى.

وقوله في البيت المشهور الذي جرى مجرى المثل في التعقيد يمدح به إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك :

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حمي أبوه يقاربه (٢)

مراده : وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه ويشبهه في الفضائل إلا مملكا أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح ، فيكون الممدوح خال الملك ، وخلاصة ذلك أنه لا يماثله إلا ابن أخته.

فانظر رعاك الله كيف عقد المعنى ، وصار به الى النعمية دون الافصاح ، ولهذا قال الرماني : قد اجتمع في البيت أسباب الإشكال الثلاثة : سوء الترتيب وبه تغير نظام الكلام ، وسلوك الطريق الأبعد في قوله : أبوه أمه أبوه ، وكان يجزئه أن يقول : خاله ، وإيقاع مشترك الألفاظ في قوله : حي يقاربه ، لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان بالحياة.

قال في المثل السائر ومن أقبح هذا النوع قول الآخر :

فأصبحت بعد خط بهجتها

كأن قفرا رسومها قلما (٣)

يريد فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها ، ففصل بين الفعل الناقص وخبره ، وبين كأن واسمها ، وبين المضاف والمضاف اليه ، وقدم خبر كأن عليها ، وعلى اسمها.

التعقيد المعنوي

هو خفاء دلالة الكلام على المعنى المراد من أجل ما عاقها من اللوازم البعيدة والكنايات المفتقرة الى وسائط ، أو اللوازم القريبة الخفية العلاقة ، مع عدم

__________________

(١) محارب وكليب قبيلتان.

(٢) فصل فيه بين المبتدأ والخبر وهو أبو أمه أبوه بالأجنبي الذي هو حي ، وبين الموصول الصفة ، أعني حي يقاربه بالأجنبي الذي هو أبوه ، وتقديم المستثنى أعنى مملكا على المستثنى منه ، وهو حي ، وفصل كثير بين البدل وهو حي ، والمبدل منه وهو مثله.

(٣) الظاهر أنه يصف ديارا درست وعفت آثارها.

٣٠

ظهور القرائن الدالة على المقصود ، فبعجز الكلام عن أداء المعنى ، كقول العباس ابن الأحنف :

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

يريد أنه يتحمل الفراق وآلامه ، ويوطن النفس على الحزن والأسى ، عله يحظى بوصل يدوم ، وسرور لا ينقطع ، فطالما نال الصابرون أمانيهم ، وفرجت كروبهم. وهذا المعنى مطروق لهجت به ألسن الشعراء والكتاب ، قال عروة ابن الورد :

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا

ولم تدر أني للمقام أطوف

وقال أبو تمام :

أآلفة النحيب كم افتراق

ألمّ فكان داعية اجتماع (١)

وقيل للربيع بن خيثم ، وقد صلى ليلة حتى أصبح : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها أطلب.

إلا أن ابن الأحنف لم يتم له ما أراد على سنن قويم ، فإنه كنى عما قصد بكنايتين أصاب في أولاهما ، المحزّ وطبّق المفصل ، وأخطأ في آخراهما وجه الحقيقة ، ولم يسلك المهيع الواضح في الرمز والإيماء الى ما أراد ، بيان هذا أنه دل بديئا بسكب الدمع على ما يلزم فرقة الأحباب من الحزن والكمد والتعب والنصب ، فأصاب شاكلة الصواب ، فإن البكاء عنوان الحزن والأمارة الدالة عليه ، فيرمز به اليه حتى قالوا : «أبكاني وأضحكني» على معنى ساءني وسرني ، كما قال الحماسي :

أبكاني الدهر ويا ربما

أضحكني الدهر بما يرضى (٢)

ثم تلا ذلك فدل بجمود العين على ما يوجبه دوام التلاقي ، من الفرح والسرور ، لكن التوفيق لم يكن حليفه في هذا ، إذ الجمود إنما هو خلو العين من البكاء عند الداعية اليه ، فهو كناية عن البخل بالدموع حين الحاجة اليها ، كما قال أبو عطاء يرثي أبي هبيرة :

__________________

(١) ألم نزل ، ولنحيب البكا.

(٢) قبله : أنزلني الدهر على حكمه من شامخ عال الى خفض.

٣١

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك مجاري دمعها لجمود

لا كناية عن السرور لأنه لو صح ذلك لجاز أن يدعى به فيقال : لا زالت عينك جامدة ، كما يقال : لا أبكى الله عينك ، ولا خفاء في بطلان ذلك ، كما يرشد اليه قول أهل اللغة : سنة جماد لا مطر فيها وناقة جماد لا لبن فيها ، على معنى أن السنة بخيلة بالقطر ، والناقة لا تسخو بالدر.

وهكذا حال الكنايات التي استعملها العرب ، لأغراض اذا غيرها المتكلم وأراد بها أغراضا أخرى ، كما اذا استعمل قولهم : بيته كثير الجرذان ، كناية عن وسخ المنزل وسوء نظامه ، وقولهم : أبيض سربال الطباخ ، كناية عن نظافة الطاهي وحسن هندامه ، كان ذلك خروجا من سنن العرب واستعمالاتهم ، وعد ذلك تعقيدا ، إذ هذا غير ما يتبادر الى الفهم ، لأن العرب كنت بالأولى عن كثرة الطعام ، وبالثانية عن البخل.

تدريب أول

أذكر ما أخلّ بفصاحة الكلام فيما يلي :

١ ـ تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

٢ ـ لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا

وكاد لو ساعد المقدور ينتصر

٣ ـ لو كنت كنت كتمت السر كنت كما

كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن

٤ ـ لما عصى أصحابه مصعبا

أدوا اليه الكيل كيلا بصاع

٥ ـ ولم أر مثل جيراني ومثلي

لمثلي عند مثلهم مقام

الاجابة

١ ـ في البيت تعقيد لفظي ، إذ تقديره : نكن يا ذئب مثل من يصطحبان.

٢ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في طالبوه يعود الى مصعب وهو متأخر لفظا ومرتبة.

٣ ـ فيه تنافر في الكلمات ، أوجبه تكرار لفظ كنت عدة مرات.

٤ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في أصحابه يعود الى مصعب المتأخر لفظا ومرتبة.

٥ ـ فيه تنافر في الكلمات ، سببه تكرار لفظ : مثل.

٣٢

تدريب ثان

اذكر ما أخلّ بفصاحة الكلام فيما يلي :

١ ـ ولذا اسم أغطية العيون جفونها

من أنها عمل السيوف عوامل

٢ ـ تجمعت في فؤادهم همم

ملء فؤاد الزمان إحداها

٣ ـ ألا ليت شعري هل يلومنّ قومه

زهيرا على ما جرّ من كل جانب

٤ ـ لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو

عقمت بمولد نسلها حواء

٥ ـ قبيل أنت أنت أو كنت منهم

وجدّك بشر الملك الهمام

٦ ـ جواب مسائلي اله نظير

ولا لك في سؤالك لا ألالا

الاجابة

١ ـ فيه تعقيد لفظي ، لأن تقديره من أجل أن العيون عوامل عمل السيوف سميت أغطيتها جفونا.

٢ ـ فيه تنافر ، أوجبه ثقل النطق بالهاء والميم مجتمعتين في كلمتين.

٣ ـ فيه ضعف التأليف ، لأن الضمير في قومه يعود الى متأخر لفظا ورتبة.

٤ ـ فيه تنافر ، لثقل تأليف البيت وركة صوغه.

٥ ـ فيه تعقيد وتنافر ، لأن تقديره قبيل أنت على شرف قدرك ، أنت منهم ، وأنت أنت ، واذا كنت أنت منهم وجدك بشر فكفاهم بذلك فخرا.

٦ ـ فيه تنافر ، أوجبه تكرار لا عدة مرات ، حتى قال الصاحب بن عباد : ما قدرت أن مثل هذا البيت يلج سمعا ، وقد سمعت الفأفاء ولم أسمع باللألاء حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف الذي لا يقف حيث يعرف.

تمرين (١)

أذكر سبب خروج ما يأتي من الأساليب الفصيحة :

١ ـ وازور من كان له زائرا

وعاف عافي العرف عرفانه (١)

٢ ـ لم تر من نادمت إلا كا

لا لسوى ودك لي ذا كا

__________________

(١) ازور عدل وعاف كره والعافي طالب المعروف والعرف النوال والعطاء.

٣٣

٣ ـ وبه يضنّ على البرية لا بها

وعليه منها لا عليها يوسى (١)

٤ ـ هو السيف الذي نصر بن أروى

به عمان مروان المصابا

٥ ـ ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٢)

٦ ـ الطيب أنت اذا أصابك طيبه

والماء أنت اذا اغتسلت الغاسل (٣)

تمرين (٢)

(١)وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا

قلاقل عيسى كلهن قلاقل (٤)

(٢) ليس إلاك يا عليّ همام

سيفه دون عرضه مسلول

(٣) ومن جاهل بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بي جاهل

(٤) صان اللئيم وصنت وجهي ماله

ووني فلم يبذل ولم اتبذل (٥)

(٥) فما من فتى كنا من الناس واحدا

به نبتغي منهم عديلا نبادله (٦)

(٦) فتنتني فجنتني تجني

بتجن يفتن غب تجني (٧)

(٧) زار داود أروى وأروى

ذات دل اذا رأت داودا (٨)

فصاحة المتكلم

هي صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التعبير عما يجول في خاطره من الأغراض والمقاصد.

__________________

(١) الضن البخل والبرية الخلق ، يوسي يحزن ، يريد أنه يبخل بالممدوح على الناس كلهم لا بهم يبخل عليه.

(٢) نهنه كف وزجر.

(٣) يريد أنك أطيب من الطيب وأطهر من الماء اذا اغتسلت به.

(٤) قلقل حرك والحشا داخل الجوف وقلاقل الأولى جمع قلقلة وهي الناقة السريعة والثانية جمع قلقة وهي الحركة ، وضمير كلهن للعيس لا للقلاقل ، والمعنى : حركت بسبب الهم الذي حرك نفسي نوقا حفافا في السير سريعات الحركة.

(٥) الأصل صان اللئيم ماله وونى ، فلم يبذل وصنت وجهي ولم أتبذل.

(٦) تقديره فما فتى واحدا من الناس كنا نبتغي به عديلا نبادله منهم ، أي أنه لا نظير له يكون عوضا منه.

(٧) تجبني آخر المصراع الأول اسم امرأة وبتجن ، أي بدعوى ذنب ، ويفتن بتنوع ، وغب عقب.

(٨) أروى اسم امرأة ، والدل الدلال.

٣٤

وبتلك الصفة يتمكن من صياغة ضروب الكلام ، من مديح وهجاء وتهان ومراث ، وخطب محبرة ، ورسائل منمقة في الوعظ والإرشاد ، والمفاخرات والمنافرات.

ولن يبلغ شاعر أو ناثر هذه المنزلة إلا اذا كان ملما باللغة كثير الاطلاع على كتب الأدب ، محيطا بأسرار أساليب العرب ، حافظا لعيون كلامهم من شعر جيد ونثر مختار ، عالما بأحوال الشعراء والخطباء ، ومجالس الملوك والأمراء ، محيطا بعدات العرب وأخبار أيامهم.

البلاغة

تقع البلاغة وصفا للكلام ، والمتكلم ، ولم يسمع وصف الكلمة بها.

بلاغة الكلام

بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال التي يورد فيها مع فصاحته (١).

ولن يطابق الحال إلا إذا كان وفق عقول المخاطبين واعتبار طبقاتهم في البيان وقوة المنطق ، فللسوقة كلام لا يصح غيره في موضعه والغرض الذي يبني له ، ولسراة القوم والأمراء فن آخر لا يسد مسداه سواه ، ولقد أفصح عن ذلك الحطيئة حين خاطب عمر بن الخطاب فقال :

تحنن على هداك المليك

فإن لكل مقام مقالا

قال صاحب الصناعتين : وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية ، فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ، والسراة كأبي علقمة إذ قال لطبيب : «أجد رسيسا في أسناخي وأرى رجعا فيما بين الوابلة الى الأطرة من دأيات العنق» (٢) فقال له الطبيب (متهكما) : هل من وجع القرشي؟ قال له : وما يبعدنا منهم يا عدي نفسه ، نحن من أرومة واحدة ونجل واحد. قال الطبيب : كذبت ، وكلما خرج هذا الكلام من جوفك كان أهون لك. قال : بل لك الهوان والخسارة والسباب.

__________________

(١) فاذا قلت : فلان مستعدد للامر ، لم يكن بليغا.

(٢) الرسيس ابتداء الحمى اذا فتر الجسم ، والاسناخ منابت الأسنان ، والوابلة طرف الكتف والأطرة كل ما أحاط بشيء ، ودأيات العنق نقارها.

٣٥

ومما سبق تعلم أن :

(١) الحال (المقام) هو الأمر الذي يدعو المتكلم الى إيراد خصوصية في التركيب.

(٢) المقتضى (الاعتبار المناسب) هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة.

(٣) مقتضى الحال هو إيراد الكلام على تلك الصورة.

فمثلا الوعظ حال ومقام يقتضي البسط والأطناب ، وذلك البسط مقتضى ، وإيراد الكلام على صورة الأطناب مطابقة للمقتضى.

وكذا كون المخاطب منكرا يوم البعث حال يقتضي التأكيد ، والتأكيد مقتضى ، وكونك تخاطبه بقولك «إن يوم الساعة لا شك فيه» مطابقة لمقتضى الحال ، وهكذا مقام الذكي يخالف في الخطاب مقام الغبى ، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ، لأن لكل منهما من الاعتبارات واللطائف وما يخالف ضده.

مراتب البلاغة

بلاغة الكلام متفاوتة ، لأن الألفاظ اذا ركبت لإفادة المعاني المرادة منها حصل لها بالتركيب صور مختلفة لا يحصرها العد ، ألا ترى أن طلبة الفرقة اذا كتبوا في موضوع واحد في منشئاتهم تناولوا معاني متقاربة ، أو متشابهة ، لكنهم يتفاوتون في الأشياء الآتية :

(١) العبارة التي ينشئونها.

(٢) ترتيب المعاني.

(٣) بسط الألفاظ أو إيجازها.

وكلما كان المتكلم أكثر مراعاة للمقتضيات والاعتبارات ازداد الكلام حسنا وكلما كان أوفى بها كان أبلغ ، وبالعكس اذا قل وفاؤه بتلك الخصوصيات المعتبرة عند البلغاء كان أقل مرتبة في البلاغة ، ولا يزال ينزل حتى يصل الى المرتبة السفلى ، فيلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوان ، وإن كان صحيح الإعراب.

والمرتبة العليا وما يقرب منها هي مرتبة المعجز ، وهو كلام الله تعالى الذي عجز البشر قاطبة أن يأتوا بأقصر سورة من مثله ، وقد نزل في أرقى العصور

٣٦

فصاحة وأكملها بلاغة ، ومع ذلك وجم العرب ، وخرست شقاشقهم مع طول التحدي وشد النكير عليهم ، وحقت له الكلمة العليا.

ثم يليه في الرتبة كلام رسوله عليه‌السلام ، فقد أوتي من جوامع الكلم ما حارت في أمره جهابذة الفصاحة وأساطين البلاغة ، ثم كلام البلعاء من العرب جاهليين وإسلاميين.

شواهد

من فصيح الكلام تشرح أسرار الفصاحة وتبين مراتب البلاغة

القرآن الكريم هو الينبوع الذي لا يغيض ماؤه والشجرة التي لا ينقطع ثمرها والجديد الذي لا تبلى جدته ، فقد ضرب الأمثال ، وتفجرت منه ضروب الحكمة وقص علينا من أخبار الماضين وسير الغابرين ما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وبسط ذلك برائع الأساليب ، وبديع التراكيب ، انظر الى ما جاء فيه عند ذكر الحساب والصراط والميزان ، تجد اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، نحو : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١). كما تجد السهل المهلهل خطابا لنبيه عليه‌السلام نحو : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٢) الى آخرها.

وقد اغترفت السنّة النبوية من ذلك البحر وقطفت من تلك الرياض فأوتيت من موجز الحكم وجامع الكلم ما لا يزال نجعة الرائد وكعبة القاصد ، فمن جزلها قوله عليه‌السلام : «يابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح ، أنت فيما يكفيك ، وتطلب ما يطغيك ، لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع».

__________________

(١) سورة الزمر.

(٢) سورة الضحى.

٣٧

ومن مهلهلها وسهلها قوله عليه‌السلام : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى ، فإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح ، واذا أصبحت فلا تحدثها بالمساء ، وخذ من صحتك لسقمك ، ومن شبابك لهرمك ، ومن فراغك لشغلك».

وإن شئت إيضاحا وبيانا ، وعلما وعرفانا ، فوازن بين قول النمر بن تولب يذم الحياة :

يود الفتى طول السلامة والغنى

فكيف ترى طول السلامة يفعل

يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة

ينوء اذا رام القيام ويحمل

وقول الفند الزمّاني :

أيا تملك يا تمل

وذات الطوق والحجل

ذريني وذرى عذلي

فإن العذل كالقتل

تجد المدى واسعا والهوة بينهما سحيقة والتفاوت لا حد لغايته ، أو اقرن بين قول معن بن أوس في الفخر :

لعمرك ما أهويت كفي لريبة

ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة

من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي

وقول بشار بن برد :

ربابة ربة البيت

تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصوت

ترى عجبا عاجبا وتفاوتا في الصنعة لا يحتاج الى مراء أو جدل.

وإن شاقك أن تعرف فاخر الكلام ورصينه ، وما يسابق معناه ولفظه ، ولفظه معناه ، وما لا يكون لفظه أسبق الى سمعك من معناه الى قلبك ، وما قالوا في مثله إنه يدخل في الآذان بلا استئذان فانظر قول الرقاشي في العظة والاعتبار : «سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا». وقول بعض الكتاب : مثلك أوجب حقا لا يجب عليه ، وسمح بحق وجب له ، وقبل واضح العذر ، واستكثر قليل الشكر ، لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك ، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك.

٣٨

بلاغة (١) المتكلم

هي ملكة يقتدر بها على التصرف في فنون الكلام وأغراضه المختلفة ، ببديع القول وساحر البيان ، ليبلغ من المخاطب غاية ما يريد ، ويقع لديه الكلام موقع الماء من ذي الغلة الصادي ، وتلك الملكة لا يصل اليها إلا من أحاط بأساليب العرب خبرا ، وعرف سنن تخاطبهم في منافراتهم ومفاخراتهم ومديحهم وهجوهم واعتذارهم وشكرهم ، ليلبس لكل حال لبوسها ، ويراعي الخصائص والمقتضيات التي تناسبها.

انظر الى النبي عليه‌السلام تجده راعى حال من يخاطبه ، فكتب الى أهل فارس بما يسهل ترجمته ، فقال : «من محمد رسول الله الى كسرى أبرويز عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، فأدعوك بداعية الإسلام فإني أنا رسول الله الى الخلق كافة ، لينذر من كان حيا ويحق للقول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإثم المجوس عليك».

وكتب بضدها الى وائل بن حجر الحضرمي وقومه ففخم لهم اللفظ لما عرف من فضل قوتهم على فهمه ، وعادتهم سماع مثله فقال : «من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، على النيعة الشاة ، والتيمة لصاحبها ، وفي السيوب الخمس ، لا خلاط ولا وراط ، لا شناق ولا شغار ، ومن أجبى فقد أربى ، وكل مسكر حرام» (٢).

__________________

(١) قال صاحب الصناعتين : وصف المتكلم بالبلاغة من قبل التوسع ، والمجاز ، وحقيقته بليغ الكلام كما تقول رجل محكم وتعني إحكام أفعاله كما قال تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) فوصف الحكمة بالبلاغة ولم يصف بها الحكيم.

(٢) الأقيال واحدة قيل بفتح القاف وهو الملك ، والعباهلة الذين أقروا على ملكهم ، والنيعة الأربعون من الغنم ، والنيمة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى ، والسيوب المغادن ، ولا خلاط أي لا يخلط رجل إبله بابل غيره أو بقره ليمنع الصدقة ، والوراط الخديعة والغش ، والشباق ما بين الفريضتين حتى تنم ، والشغار أن يزوج كل واحد صاحبه امرأة على أن يزوجه أخرى بلا مهر ، والاجباء بيع الزرع قبل أن يعدو صلاحه.

٣٩

متممات

أولا : علمت مما سبق في بيان تعريف الفصاحة والبلاغة ، ما يعتور الكلام من العيوب ، ويزري بقيمته ويحط من قدره ، فوجب أن تعرف بم تداوي هذه العيوب ، فتقول :

(أ) مخالفة القياس ـ يمكن تجنبها بالاطلاع على علم التصريف ، فهو الكفيل بمعرفة سنن المفردات العربية ونهج استعمالها ، ألا ترى أن نافع بن أبي نعيم ، وهو من أكابر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا ، قال في معايش ، معائش بالهمز ، مع أن الياء (١) فيها ليست زائدة لأنها من العيش ، فعيب عليه ذلك ، حتى إن أبا عثمان المازني قال : إن نافعا لم يدر ما العربية.

(ب) ضعف التأليف والتعقيد اللفظي ـ يتباعد عنهما بملاحظة قواعد النحو ، إذ هو الباحث عن كيفية استعمال المركبات على وجه الصواب. وقد يشذ عن قانونه الخاصة بله العامة فينزل كلامهم الى الدرك الأسفل ويكون عرضة للقادح ، انظر ما وقع فيه أبو نواس حيث يقول في مدح الأمين :

يا خير من كان ومن يكون

إلا النبيّ الطاهر الميمون

فرفع المستثنى في موجب الكلام ، ومعرفة هذا من ظواهر النحو لا من خوافيه.

(ج) الغرابة ـ يسهل التباعد عنها بالاطلاع على متن اللغة ، فإذا تتبع المتكلم مشهور الكتب وأحاط بمعاني المفردات المأنوسة ، عرف أن ما سواه مما يفتقر إلى بحث وتنقير ، أو تخريج على وجه بعيد فغريب.

(د) الأحوال ومقتضياتها ـ تعلم من دراسة علم المعاني.

(ه) التعقيد المعنوي ـ يمكن التجافي عنه بدراسة علم البيان.

(و) وجوه تحسين الكلام التي تكسوه طلاوة وتكسبه رقة ، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ووضوح الدلالة ـ تعرف من علم البديع.

(ز) التنافر ـ وملاك معرفته الذوق السليم والشعور النفسي.

__________________

(١) ظن أن مفردها فعلية فجمعها على فعائل ، وليس كذلك ، بل هي مفعلة بكسر العين ، فأصلها معيشة بكسر الياء ، فياؤها ليست كياء صحيفة فلا تنقلب في الجمع همزة.

٤٠