علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

لا يدين لك إلا بزيادة في اللفظ ، أو نقصان فيه ، فاعلم أنه من المتكلف الممقوت.

٣ ـ أن تكون المعاني الحاصلة عند التركيب مألوفة غير مستنكرة.

٤ ـ أن تدل كل واحدة من السجعتين على معنى يغاير ما دلت عليه الأخرى حتى لا يكون السجع تكرارا بلا فائدة.

ومتى استوفى هذه الشروط كان حلية ظاهرة في الكلام ، ومن ثم لا تجد لبليغ كلاما يخلو منه كما لا تخلو منه سورة ، وإن قصرت ، بل ربما وقع في أوساط الآيات ، كقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(١).

أقسامه

هو على ثلاثة أضرب : مرصع ، ومتواز ، ومطرف :

١ ـ فالمرصع ما اتفقت ألفاظ إحدى الفقرتين أو أكثرها في الوزن والنقفية كقول الحريري ، فهو يطبع الاسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه ، وقول أبي الفتح البستي : ليكن إقدامك توكلا ، وإحجامك تأملا.

٢ ـ والمتوازي ما اتفق فيه الفقرتان في الكلمتين الأخيرنين نحو قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)(٢) ، وقوله عز وعلا : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٣).

٣ ـ والمطرف ما اختلفت فاصلتاه في الوزن واتفقتا في الحرف الأخير نحو : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(٤) ، وقوله : جنابه محط الرحال ، ومخيم الآمال.

وأيضا السجع إما قصير نحو : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٠٠.

(٢) سورة المرسلات الآية ١.

(٣) سورة الغاشية الآية ١٣.

(٤) سورة نوح الآية ١٣.

٣٦١

وإما متوسط نحو : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(١) ، وإما طويل نحو : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢).

تنبيهات

الأول ـ أحسن السجع ما تساوت قرائنه كقوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٣) ، ثم ما طالت قرينته الثانية كقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(٤) ، أو الثالثة ، نحو قوله عز وعلا : (خُذُوهُ ، فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(٥) ، فلا يحسن أن تكون القرينة الثانية أقصر من الأولى كثيرا ، لأن السجع إذا استوفى أمده في الأولى بطولها وجاءت الثانية أقصر منها كثيرا ، يكون كالشيء المبتور ، يؤيد ذلك الذوق السليم.

الثاني ـ الاسجاع مبنية على سكون أواخرها ، لأن المزاوجة بين الفقر في جميع الصور لا تتم إلا بالوقف ، ألا ترى أنك لو وصلت قولهم : ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت ، لم يكن بد من إعطاء أواخر القرائن ما يستلزمه حكم الإعراب فتختلف أواخرها ويفوت السجع.

الثالث ـ يقال للجزء الواحد من السجع سجعة ، وجمعها سجعات ، وفقرة وجمعها فقر وفقرات وفقرات ، وقرينة لمقارنة أختها ، وتجمع على قرائن ، وللحرف الأخير منها حرف الروي أو الفاصلة.

الرابع ـ ربما غيرت الكلمة عن موضوعها في تصريف اللغة طلبا للسجع والمزاوجة بين الكلمة وأخواتها ، ألا ترى قوله عليه‌السلام في تعويذه لابن ابنته :

__________________

(١) سورة القمر الآية ١.

(٢) سورة الأنفال الآيتان ٤٣ و ٤٤.

(٣) سورة الواقعة الآية ٢٨.

(٤) سورة النجم الآية ١.

(٥) سورة الحاقة الآية ٣٠.

٣٦٢

«أعيذه من الهامة والسامة ، والعين اللامة» ، وأصلها الملة لأنها من ألم ، فعبر عنها باللامة لموافقة ما قبلها ، وقوله للنساء : انصرفن مأزورات غير مأجورات ، والأصل موزورات أخذا من الوزر ، لكنه قال ذلك لمكان مأجورات.

الخامس ـ يرى بعض العلماء ومنهم الباقلاني وابن الأثير كراهة إطلاق السجع على القرآن الكريم لأنه نوع من الكلام يعتمد الصنعة وقلما يخلو من التكلف والتعسف ، الى أنه مأخوذ من سجع الحمام ، وهو هديره ، وإنما يقال في مثل ذلك فواصل ، أخذا من قوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ)(١).

السادس ـ يرى بعضهم أن السجع غير مختص بالنثر ، بل يكون في النظم ، كقول أبي تمام يمدح أبا العباس نصر بن بسام :

تجلى به رشدي وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي وأورى به زندي (٢)

وقول الخنساء :

حامي الحقيقة محمود الخليفة

مهدي الطريقة نفاع وضرار

جواب قاصية جزار ناصية

عقاد ألوية للخيل جرار

وقول الآخر :

ومكارم أوليتها متورعا

وجرائم ألغيتها متبرعا

ومنه على هذا الرأي التشطير ، وهو أن يجعل في كل من شطري البيت سجعتان على روى مخالف لروى سجعتي الشطر الآخر كقول أبي تمام :

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب في الله مرتقب (٣)

فالشطر الأول محتو على سجعتين مبنيتين على الميم ، والثاني محتو على سجعتين مبنيتين على الباء.

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٣.

(٢) قبله :

سأحمد نصرا ما حييت وإنني

لأعلم أن قد جل نصر عن الحمد

وأثرت صارت ذات ثروة ، والثمد الماء القليل ، وأورى صار ذا ورى أي نار.

(٣) مرتغب أي راغب ، ومرتقب منتظر ثوابه.

٣٦٣

الموازنة

هي أن تكون الفاصلتان (١) متساويتين في الوزن دون التقفية كقوله تعالى : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(٢).

فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثر ما فيها مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن خص باسم المماثلة.

فالأول كقول البحتري يمدح الفتح بن خاقان ويذكر مبارزته للأسد :

فأحجم لما لم يجد فيك مطعما

وأقدم لما لم يجد عنك مهربا

والثاني كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٣).

وقول أبي تمام من قصيدة يمدح بها الوزير محمد بن عبد الملك الزيات :

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس

قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (٤)

القلب

هو أن يكون الكلام بحيث لو عكس وبديء بحرفه الأخير الى الأول لم يتغير الكلام عما كان عليه.

ويجري ذلك في النثر والنظم ، كقوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٥).

وقول عماد الدين الكاتب للقاضي الفاضل :

«سر فلا كبا بك الفرس»

__________________

(١) أي الكلمتان الأخيرتان من الفقرتين كما في الآية أو المصراعين ، كقوله :

هو الشمس قدرا والملوك كواكب

هو البحر جودا والكرام جداول

(٢) إذ الاولى على الفاء ، والثانية على الثاء ، ولا عبرة بتاء التأنيث ، كما بين في علم القافية ، (سورة الغاشية).(٣) سورة الصافات الآية ١١٨.

(٤) مها الوحش أي كمها الوحش في سعة الأعين وسوادها ، وقنا الخط أي كقنا الخط في الاستقامة.

(٥) سورة المدثر الآية ٣.

٣٦٤

وقول القاضي الأرجاني :

مودته تدوم لكل هول

وهل كلّ مودته تدوم (١)

وقد يكون في المصراع الواحد ، نحو : «أرانا الإله هلالا أنارا».

التشريع

هو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى اذا وقفت على كل واحدة منهما ، وإنما يقع ذلك ممن كان ضليعا متمكنا من صناعة النظم ، بارعا مقتدرا ، كقول بعضهم :

اسلم ودمت على الحوادث مارسا

ركنا ثبير أو هضاب حراء

ونل المراد ممكنا منه على

رغم الدهور وفز بطول بقاء

فيمكن أن يذكرا على قافية أخرى ، وضرب آخر بأن يقال :

اسلم ودمت على الحوا

دث مارسا ركنا ثبير

ونل المراد ممكنا

منه على رغم الدهور

لزوم ما لا يلزم ـ الالزام ـ الشديد ـ الاعنات

هو أن يلتزم قبل الروي في الشعر ، أو الفاصلة في النثر شيء (٢) يتم السجع بدونه ، كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ، ثم لا يقصرون ، وقول الشاعر (٣) :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النبل زلت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت

__________________

(١) وقبله :

«أحب المرء ظاهره جميل

لصاحبه وباطنه سليم»

(٢) أي لو جعلت القوافي أو الفواصل أسجاعا لم يحتج الى الاتيان بذلك الشيء وهذا الشيء أحد أمور ثلاثة : حرف وحركة معا كما في الآية والأبيات بعدها ، وحرف فقط : كالقمر ومستمر ، في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، وحركة فقط كقول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد

(٣) هو عبد الله بن الزبير (بفتح الزاي) الأسدي في مدح عمر بن عثمان بن عفان.

٣٦٥

تتمة

قال الإمام عبد القاهر : لا يحسن هذا النوع (المحسن اللفظي) إلا إذا كانت الألفاظ تابعة للمعاني ، فإن المعاني اذا أرسلت على سجيتها ، وتركت وما تريد ، طلبت لأنفسها الألفاظ ولم تكتس إلا ما يليق بها ، فإن كان خلاف ذلك ، كان كما قال أبو الطيب :

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها فالحسن عنك مغيّب

وقد يقع في كلام بعض المتأخرين ما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع الى ما له اسم في البديع ، على أنه نسي أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين ويخيل اليه أنه اذا جمع عدة من أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياه وأن يجعل السامع يتخبط خبط عشواء.

٣٦٦

السرقات الشعرية وما يتصل بها

إذا توافق الشاعر أن على اللفظ والمعنى ، أو المعنى وحده ، فإن لم يعلم أخذ الثاني من الأول ، جاز أن يكون من قبيل اتفاق القرائح وتوارد الأفكار من غير قصد الى سرقة وأخذ ، ويسمى ذلك مواردة ، ويرشد الى ذلك ابن ميادة لما أنشد ابن الأعرابي قوله لنفسه :

مفيد ومتلاف إذا ما أتيته

تهلل واهتز اهتزاز المهند

قيل له : أين يذهب بك ، هذا للحطيئة ، قال : الآن علمت أني شاعر إذ وافقته على قوله ولم أسمعه إلا الساعة.

ولذا لا ينبغي لأحد أن يحكم على شاعر بالسرقة ما لم يعلم جلية أمره بأن يتيقن أنه كان يحفظ قول من سبقه حينما نظم أو بأن يخبر عن نفسه بأنه أخذ ممن تقدمه فإن لم يعرف ذلك فالواجب أن يقال : قال فلان كذا وقد سبقه اليه فلان فقال كذا ، حتى يتباعد عن دعوى العلم بالغيب ويسلم من انتقاص غيره ويكون صادقا فيما حكم وقال.

واعلم أن اتفاق القائلين إن كان في الغرض ، كالوصف بالشجاعة ، والسخاء ، والذكاء ، أو في وجه الدلالة على الغرض كوصف الرجل حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح ، وقلة الفكر ، ووصف الجواب بالتهلل عند ورود العفاة والارتياح لرؤيتهم ـ لا يعد هذا سرقة ولا استعانة لأن تلك أمور اشتركت فيها العقول وتقررت بحكم العادات واستوى فيها الفصيح والأعجم ، كقولهم في الغزل : إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه ، وفي الممدوح : إن الممدوح يجود ابتداء من غير مسألة ، وفي الرثاء ، إن هذا الرزء أول حادث ، وإن هذا الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة ، الى أشباه ذلك مما يجري هذا المجرى.

أما اذا احتاج المعنى الى كدّ الفكر فذاك هو الذي يدعى فيه الاختصاص

٣٦٧

والسبق ، لأنه لا يصل الى مثله كل أحد ، فهو جدير بالتفاضل بين القائلين فيقال : إن أحدهما يفضل الآخر وإن الثاني زاد على الأول ، أو نقص ، كما فعل أبو تمام فابتدع معنى جديدا ، ذاك أنه حين أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها :

ما في وقوفك ساعة من باس

تقضي حقوق الأربع الادراس

حتى انتهى الى قوله :

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

قال الحكيم الكندي : وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمام ، ثم أنشد :

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلا من المشكاة والنبراس

فهذا معنى ابتكره ولم يتقدمه أحد به ، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه عدّ سارقا له.

وهذه السرقات ، وإن تعددت فنونها وكثرت مذاهبها ، لا تخرج عن ثمانية أنواع ، وهي :

١ ـ النسخ ـ الانتحال ، وهو سرقة مذمومة ، وحقيقته أن يأخذ أحد الشاعرين معنى صاحبه ولفظه ، كله أو أكثره ، فهو إذا على قسمين :

(أ) أن يأخذ لفظ الأول ومعناه ، ولا يخالفه إلا يروي القصيدة ، كقول امرىء القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

أخذه طرفة وأجراه على منواله الأول ، فقال :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلّد

(ب) أن يأخذ المعنى وأكثر اللفظ ، كقول الابيرد اليربوعي :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

إذا السنة الثهباء أعوزها القطر

وقول أبي نواس :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور

٣٦٨

٢ ـ المسخ أو الاغارة ، وهو أن يأخذ الشاعر بعض اللفظ ، أو يغيّر بعض النظم ، وهو ثلاثة أضرب :

(أ) أن يكون الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بحسن السبك ، أو جودة الاختصار ، أو الايضاح ، أو زيادة المعنى ، وهو مقبول ممدوح كقوله :

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا

مع قول ابن نباتة ، وهو بعده :

خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب

فقد زاد هذا معنى لم يطرقه الأول ، وهو إشارة الى انهزامهم.

(ب) أن يكون الثاني دون الأول في البلاغة ، وهذا خليق بالرد ، كقول أبي تمام :

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

مع قول أبي الطيب ، وقد أخذ عنه ، وقصر عن الغاية التي وصل اليها سابقه :

أعدى الزمان سخاؤه فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا (١)

إذ قوله يكون بلفظ المضارع لم يقع موقعه ، إذ المعنى على المضي لكن الوزن ألجأه الى ذلك.

(ج) أن يكون الثاني مثل الأول ، وحينئذ يكون بعيدا من الذم ، والفضل للسابق ، كقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنية لم يجد

إلا الفراق على النفوس دليلا (٢)

مع قول أبي الطيب :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا الى أرواحنا سبلا

__________________

(١) المعنى أن الزمان سخا به علي ، وكان بخيلا به ، فلما أعداه سخاؤه أسعدني بضمي اليه وهدايتي له.

(٢) حار تحير في التوصل الى إهلاك النفوس ، ومرتاد المنية الاضافة فيه للبيان أي مرتاد هو المنية ، والمعنى : لو تحيرت المنية لم تجد لها طريقا يوصلها لذلك إلا فراق الاحبة.

٣٦٩

٣ ـ السلخ والإلمام ، وهو أخذ المعنى وحده ، وهو أيضا ينقسم الى ثلاثة أقسام :

(أ) أن يكون الثاني ممتازا بحسن سبكه ، وبلاغته ، ورصانته ، كقول البحتري :

تصد حياء أن تراك بأوجه

أتى الذنب عاصيها فليم مطيعها

مع قول أبي الطيب ، وهو أحسن منه سبكا :

وجرم جره سفهاء قوم

وحل بغير جارمه العذاب

وكأنه اقتبسه من قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)(١).

(ب) أن يكون الثاني دون الأول ، كقول بعض الأعراب :

وريحها أطيب من طيبها

والطيب فيه المسك والعنبر

مع قول بشار ، وقد أخذ منه وقصر عنه في المعنى ، حيث يقول :

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل

(ج) أن يتساوى الأول والثاني ، كقول بعضهم يذكر ابنا له قد مات :

الصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

مع قول أبي تمام بعده :

وقد كان يدعي لابس الصبر حازما

فأصبح يدعي حازما حين يجزع

وهذه الأنواع الثلاثة من الأخذ الظاهر ، أما غير الظاهر فهو ذو شعب كثيرة ، أهمها :

٤ ـ التشابه ، وهو أن يتشابه معنى الأول والثاني ، كقول الطرماح ابن حكيم الطائي :

لقد زاد حبا لنفسي أنني

بغيض الى كل امرىء غير طائل

مع قول المتنبي :

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٥٥.

٣٧٠

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

فإن ذم الناقص أبا الطيب كبغض من هو غير طائل الطرماح ، وشهادة ذم الناقص أبا الطيب كزيادة حب الطرماح لنفسه.

وليس بضائر في التشابه اختلاف الغرضين كأن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاء أو افتخارا ، فإن الحاذق من يتحيل في إخفاء مأخذه بتغيير لفظه والعدول عن الوزن والقافية.

٥ ـ النقل ، وهو أن ينقل معنى الأول الى غير محله ، كقول البحتري :

سلبوا فشرقت الدماء عليهم

محمرة فكأنهم لم يسلبوا (١)

نقله المتنبي الى السيف فقال :

يبس النجيع عليه وهو مجرد

عن غمده فكأنما هو مغمد (٢)

٦ ـ أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأول ، كقول جرير :

اذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلهم غضابا

أخذه أبو نواس ، وعمم فيه ، فقال ، يستعطف الرشيد لما سجن الفضل البرمكي :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

٧ ـ القلب ، وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول ، كقول أبي الشيص :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم

قلبه أبو الطيب فقال :

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه (٣)

__________________

(١) يريد أنهم سلبوا ثيابهم فكانت الدماء الملابسة لاشراق الشمس بمنزلة الثياب لهم.

(٢) النجيع الدم الماثل الى السواد ، يريد أن الدم اليابس صار بمنزلة الغمد له.

(٣) الاستفهام فيه للانكار ، وجملة وأحب فيه ملامة حالية ، والانكار راجع للجمع بين محبته ومحبة الملامة فيه.

٣٧١

فأبو الشيص يصرح بحب الملامة من حيث اشتمال اللوم على ذكر المحبوب ، وهذا محبوب له.

والمتنبي صرح بكراهتها لصدورها من أعدائه ، وكل ما يصدر من العدو فهو مبغوض ، فكل منهما نحا منحى غير الآخر.

٨ ـ أن يؤخذ بعض المعنى ، ويضاف اليه زيادة تحسنه ، كقول الأفوه الأودي :

وترى الطير على آثارنا

رأي عين ثقة أن ستمار

مع قول أبي تمام :

لقد ظللت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدماء نواهل (١)

فقد أفاد الأفواه بقوله : رأى عين قربها ، لأنها اذا بعدت تخيلت ولم تر ، وهذا القرب إنما كان لتوقعها الفريسة ، وبقوله : ثقة أن ستمار ، تأكدها مما هي طامحة اليه.

أما أبو تمام فلم يحم حول هذا ، ولكنه زاد عليه قوله : إلا أنها لم تقاتل ، وقوله : في الدماء نواهل ، ثم بإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش ، ومن أجل هذا حسن أن يقول : إلا أنها لم تقاتل ، وهذه الزيادة أكسبت كلامه حسنا وطلاوة ، وإن كان قد ترك بعض ما ألم به الأفوه.

(تنبيه) الأنواع التي ليس الأخذ فيها ظاهرا مقبولة كلها ، بل منها ما يدق فيه الصنع ويخفى فيه مكان الأخذ حتى يخرج بحسن التصرف وجودة السبك من حيز الأخذ والاتباع ، الى أن يكون أشبه بالاختراع والابتداع.

أما ما يتصل بالسرقات الشعرية ، فهو : الاقتباس ، والتضمين ، والعقد ، والحل ، والتلميح :

١ ـ الاقتباس ، أن يضمن المتكلم منثوره شيئا من القرآن ، أو الحديث ،

__________________

(١) إضافة عقبان الى الأعلام من إضافة المشبه به للمشبه أي الأعلام التي هي كالعقبان في تلونها وفخامتها لأن الأعلام بمعنى الرايات فيها ألوان مختلفة كالعقبان ، وقوله بعقبان طير متعلق بظللت أي انها لزمت فوق الأعلام فألقت ظلها عليها ، والنواهل من نهل اذا روى.

٣٧٢

تفخيما لشأنه وتزيينا لسبكه على وجه لا يشعر (١) بأنه منه ، كقول ابن نباتة الخطيب :

«فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ، ما لكم لا تشفقون فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما انكم تنطقون».

وقول الحريري : أنا أنبئكم بتأويله ، وأميز صحيح القول من عليله.

وقول الحماسي :

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحب ميعاد السلو المقابر

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة حب (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)

وقول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني :

لآل فريغون في المكرمات

يد أولا واعتذار اخيرا

إذا ما حللت بمغناهم

(رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)(٢)

وقول الحريري : «وكتمان الفقر زهادة وانتظار الفرج بالصبر عبادة».

فقوله : انتظار الفرج بالصبر عبادة ، لفظ الحديث.

وقول الصاحب بن عبّاد :

قال لي إن رقيبي

سيء الخلق فداره

قلت دعني «وجهك

الجنة حفت بالمكاره»

اقتبسه من الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، والاقتباس ضربان :

(أ) ما لا ينقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصلي الى معنى آخر ، كما تقدم من الأمثلة.

(ب) ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي ، كقول ابن الرومي :

__________________

(١) أما اذا قال في أثناء الكلام : قال الله تعالى كذا ، أو : قال النبي عليه‌السلام كذا ، فلا يسمى اقتباسا.

(٢) سورة الانسان الآية ٢٠.

٣٧٣

لئن أخطأت في مدحك ماأخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

فهو مقتبس من قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) ، فمعناه في القرآن واد لا ماء فيه ولا نبات.

نقله ابن الرومي الى رجل لا خير فيه ولا نفع ، ولا بأس بتغيير يسير في اللفظ المقتبس للوزن أو غيره ، كقول بعض المغاربة عند وفاة بعض أصحابه :

قد كان ما خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

(تتمة) الاقتباس على ثلاثة أقسام :

(أ) مستحسن ، وهو ما كان في الخطب والمواعظ.

(ب) مباح ، ما كان في الغزل والرسائل والقصص.

(ج) مردود ، ما كان في الهزل ، كقول القائل :

أوحى الى عشاقه

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)

(وردفه ينطلق من خلفه)

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)

٢ ـ التضمين (٢) ، وهو أن يضمن الشاعر كلامه شعرا من شعر غيره مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا لدى نقاد الشعر وذي اللسن ، كقول الحريري يحكي ما قاله الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع :

على اني سأنشد عند بيعي

(أضاعوني وأي فتى أضاعوا)

المصراع الأخير للعرجي ، وأصله :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر (٣)

أما تضمينه فلا تنبيه عليه لشهرته ، فكقوله :

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٣٧.

(٢) تضمين البيت فما زاد استعانة وتضمين المصراع فما دونه يسمى رفوا وإبداعا.

(٣) الكريهة : الحرب ، والسداد : سد الثغر بالخيل والرجال ، والثغر : الموضع الذي يخشى منه العدو ، والاستفهام أي أضاعوني وأنا أكمل الفتيان في وقت الحاجة لسداد الثغر.

٣٧٤

قد قلت لما أطلعت وجناته

حول الشقيق الغض روضة آس

أعذاره الساري العجول ترفقن

ما في وقوفك ساعة من باس (١)

المصراع الأخير مطلع قصيدة مشهورة لأبي تمام :

ما في وقوفك ساعة من بأس

نقضي حقوق الأربع الادراس

وأحسن التضمين أن يزيد المضمن في كلامه نكتة لا توجد في الأصل كالتورية والتشبيه في قوله :

اذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكرت ما بين العذيب وبارق

ويذكرني من قدماها ومدامعي

مجر عوالينا ومجرى السوابق (٢)

المصراعان الأخيران مطلع قصيدة لأبي الطيب :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجحر عوالينا ومجرى السوابق

يريد المتنبي أنهم كانوا نزولا بين هذين الموضعين يجرون الرماح عند مطا الفرسان ويسابقون على الخيل ، أما الآخر فأراد بالعذيب تصغير عذب وعزبه شفة الحبيبة وببارق ثغرها ، أي ثغرها الشبيه بالبرق وبما بينهما ريقها ، وهذه تورية بديعة نادرة في بابها ، وشبه تبختر قدها بتمايل الرماح وتتابع دموعه بجريان الخيل السوابق.

٣ ـ العقد ، هو نظم المنثور لا على جهة الاقتباس (٣) ، ومن شرطه أن يأخذ المنثور بجملة لفظه ، أو بمعظمه ، فيزيد النظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر ، فعقد القرآن كقوله :

أنلني بالذي استقرضت خطا

وأشهد معشرا قد شاهدوه

فإن الله خلاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)

وعقد الحديث كقوله :

__________________

(١) أطلعت : أبدت ، والشقيق : ورد أحمر.

(٢) اللمى : سمرة الشفتين ، ومجر : رؤوس الرماح.

(٣) فان كان النتر قرآنا أو حديثا وأريد نظمه فلا بد أن يغير فيه تغييرا كثيرا ، أو يشير إلى أنه من القرآن أو الحديث.

٣٧٥

إن القلوب لأجناد مجندة

بالاذن من ربها تهوى وتأتلف

فما تعارف منها فهو مؤتلف

وما تناكر فهو مختلف

عقد لقوله عليه‌السلام : «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

٤ ـ الحل ، وهو نثر النظم ، وشرط قبوله أمران :

(أ) أن يكون سبكه جيدا لا ينقص عن سبك أصله.

(ب) أن يكون حسن الموقع مستقرا في محله غير قلق ولا ناب ، كقول بعضهم في وصف السيف : أورثه عشق الرقاب ، نحو : فبكى والدمع مطر ، تزيد به الخدود محولا ، حل قول أبي الطيب :

في الخد إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا (١)

وقول بعض المغاربة : فإنه قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ، لم يزل سوء الظن يقتاده ويصدق توهمه الذي يعتاده (٢) ، حل قول أبي الطيب (٣) :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

٥ ـ التلميح ، هو أن يشير الناثر أو الناظم في قرينة سجع ، أو بيت شعر ، الى قصة معلومة ، أو نكتة مشهورة ، أو بيت حفظ لتواتره ، أو مثل رائع ، أو حكمة مستملحة.

وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود ، كقول بعضهم في مليح اسمه بدر :

يا بدر أهلك جاروا

وعلموك التجري

وقبحوا لك وصلي

وحسنوا لك هجري

فليفعلوا ما أرادوا

فإنهم أهل بدر

__________________

(١) الخليط من يخالطك وأراد به الحبيب ، ومحول الخدود ذهاب نضارتها.

(٢) الفعلات الأفعال وحنظلت نخلاته أي صارت كالحنظل والمراد بها نتائج افكاره.

(٣) قاله يشكو سيف الدولة واسماعه لقول أعدائه.

٣٧٦

إشارة الى قوله عليه‌السلام لعمر حينما سأل قتل حاطب (١) بن أبي بلعتة ، وكان ممن شهد بدرا ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وقول الحريري : بتّ بليلة نابغية ، أومأ به الى قول النابغة :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

وقول آخر :

لعمرو من الرمضاء والنار تلتظي

أرقّ وأحفى منك في ساحة الكرب

إشارة الى البيت المشهور :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار (٢)

وقد وقع هذا النوع كثيرا في القرآن الكريم كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٣) ، يشير إلى المثل : أرق من نسج العنكبوت وأضعف من بيتها.

__________________

(١) لأنه أرسل خطابا مع امرأة لأهل مكة سرا يخبرهم بعزم النبي عليه‌السلام وأصحابه على فتحها ، ليكون له يد عندهم ، فعلم النبي ذلك بالوحي.

(٢) عمرو هو قاتل كليب ، وقد طلب منه ماء حين أجهز عليه وطلب إغاثته فامتنع.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤١.

٣٧٧

خاتمة

ينبغي للمتكلم أن يتأنق في ثلاثة مواضع : الابتداء ، التخلص ، الانتهاء.

١ ـ فالابتداء هو أن يجعل المتكلم مبدأ كلامه حسن الوصف عذب اللفظ ، صحيح المعنى ، فإذا اشتمل على إشارة الى المقصود سمي براعة استهلال.

قال ابن رشيق في «العمدة» : إن حسن الافتتاح ، داعية الانشراح ، ومطية النجاح ، كما جاء في الخبر الشعر قفل أوله مفتاحه ، فعلى الشاعر أن يجوّد ابتداء شعره ، فإنه أول ما يقرع السمع وبه يستدل على ما عنده ، وليتجنب (ألا وخليلي وقد) فلا يستكثر منها في ابتدائه فإنها من علامات الضعف والتكلان إلا للقدماء وليجعله حلوا سهلا وفخما جزلا ، اه.

ومن جيد الابتداءات قول امرىء القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (١)

فقد وقف واستوقف وبكى واستبكى ، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد ، وقول النابغة الجعدي :

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وقد فضلوا بيت النابغة على البيت الأول ، لأن الشطر الثاني منه كثير الألفاظ قليل المعنى غريب اللفظ.

وقد كان أبو تمام في الموضع الذي لا يجارى في فخم ابتداءاته لما لها من الروعة والجلال ، كقوله يهنيء المعتصم بفتح عمورية ، مع أن المنجمين كانوا قد زعموا أنها لا تفتح في ذلك الوقت :

__________________

(١) السقط : منقطع الرمل حيث يدق ، واللوى رمل معوج ملتو ، والدخول وحومل : موضعان.

٣٧٨

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحدّ بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف

في متونهن جلاء الشك والريب

ومن جيد الابتداءات المشتملة على براعة الاستهلال قول حافظ إبراهيم في تحية عام هجري :

أطل على الأكوان والخلق تنظر

هلال رآه المسلمون فكبّروا

وقول أحمد شوقي في رثاء إسماعيل صبري :

أجل وإن طال الزمان موافي

أخلى يديك من الخليل الوافي

وقوله أيضا في فوز الأتراك على اليونان :

الله أكبر كم في الفتح من عجب

يا خالد الترك جدد خالد العرب

وربما خان الحظ بعض الشعراء المفلقين وأوقعهم نحس الطالع في مهواة سحيقة لا قرار لها إما من غفلة أو غلطة في الطبع أو استغراق في الصنعة وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب ، واعتبر ذلك بما أنشده ذو الرمة حين دخل على هشام بن عبد الملك بن مروان من قوله :

ما بال عينك منها الماء منسكب

كأنه من كلى مقرية سرب (١)

وكان به رمش فهي تدمع أبدا ، فظن أنه عرّض به ، فقال : بل عينك ، وأمر بإخراجه.

وقيل إنه لما بنى المعتصم قصره بميدان بغداد وجمع عظماء دولته وجلس فيه في يوم حفل أنشده إسحاق الموصلي :

يا دار غيّرك البلى ومحاك

يا ليت شعري ما الذي أبلاك

فتطير المعتصم بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.

فعلى الحاذق الفطن أن ينظر في أحوال المخاطبين ويختار للأوقات ما يشاكلها فيقصد ما يحبون ويتجنب ما يكرهون سماعه.

٢ ـ التخلص ـ الخروج ، هو أن ينتقل الشاعر من فن الى آخر باحسن أسلوب مع لطف تخيل وحسن تخلص ، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال لشدة

__________________

(١) الكلى جمع كلية (بضم الكاف) والمقرية المحزوزة ، والسرب الجاري.

٣٧٩

الالتئام ، كأنهما أفرغا في قالب واحد ، وذلك يحرك من نشاط السامعين ويعين على إصغائهم ، وأحسنه ما تهيأ للناظم في بيت واحد كقول مسلم بن الوليد يمدح يحيى البرمكي :

أجدك ما تدرين أن رب ليلة

كأن دجاها من قرونك ينشر

سريت بها حتى تجلت بغرّة

كغرة يحيى حين يذكر جعفر (١)

ويليه ما جاء في بيتين كقول المتنبي يمدح المغيث بن علي العجلي :

مرّت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا (٢)

وأكثر الناس ولوعا بهذا النوع أبو الطيب ، ولأجله يسقط سقوطا قبيحا ، كقوله :

ها فانظري أو فظني بي ترى حرقا

من لم يذق طرفا منها فقد وألا

على الأمير يرى ذلي فيشفع لي

إلى التي ترتكتني في الهوى مثلا (٣)

فقد تمنى أن يكون الأمير قوادا له.

والمتأخرون كلهم على الجملة فلما يفوتهم سلوك هذه الطريق ، أما العرب فما كانوا يذهبون هذا المذهب في الخروج من المديح ، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله : دع ذا ، وعد عن ذا ، ثم يأخذون فيما يريدون ، ويسمى هذا اقتضابا ، كقوله :

فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجرا (٤)

أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه ، وكثيرا ما كان البحتري يسلك هذه الطريقة كقوله :

__________________

(١) أجدك (بكسر الجيم وفتحها) لا يتكلم به إلا مضافا ، والمعنى : أيجد منك هذا ، فنصبه على طرح الباء ، فاذا سبق بالواو فقيل : وجدك ، فهو مفتوح الجيم ليس غير.

(٢) الترب واللدة المساوي في السن ، والشادن : الظبي اذا شدت قرنه وقوي ، واستضحكت : ضحكت ، والثري مأسدة مشهورة.

(٣) الحرق جمع حرقة ما يجده الانسان من لذعة حب أو حزن ، ووأل نجا.

(٤) الجسرة الطوية الضخمة من النوق ، والذمول التي تسير ذميلا أي حثيثا ، وصام النهار قام قائم الظهيرة واعتدل.

٣٨٠