علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

أو أمر ونهي ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١) ، وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٢).

ومن الطباق ما سماه بعضهم التدبيج من دبج الأرض زينها ، واصطلاحا أن يذكر في معنى كالمدح وغيره ألوان لقصد الكناية أو التورية.

فتدبيج الكناية كقول أبي تمام يرثي أبا نهشل محمد بن حميد :

تردى ثياب الموت حمرا فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر

فقد كنى عن القتل بلبس الثياب الحمر وعن دخول الجنة بخضر السندس ، إذ هو من شعار أهلها ، وجمع بين الحمرة والخضرة على سبيل الطباق.

وتدبيج التورية كقول الحريري : فمذ ازورّ المحبوب الأصفر واغبر العيش الأخضر ، اسودّ يومي الأبيض وابيضّ فودي الأسود ، حتى رثى لي العدو الأزرق فيا حبذا الموت الأحمر ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر إنسان ذو صفرة ، والبعيد الذهب ، وهو المراد هنا ، فيكون تورية ، وأما بقية العبارة فكناية (٣) ويلحق بالطباق شيئان أحدهما ما يسمى : إيهام التضاد ، وهو الجمع بين معنيين غير متقابلين ، معبرا عنهما بلفظين متقابلين ، كقول دعبل الخزاعي :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

فإن ضحك بمعنى ظهر ، وبكى بمعناه الحقيقي.

وثانيهما : الجمع بين معنيين يتعلق أحدهما بما يقابل الآخر نوع تعلق كالسببية واللزوم ، كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(٤) فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون (٥).

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٢٢.

(٢) سورة المائدة الآية ٤٤.

(٣) اخضرار العيش كناية عن طيبه ونعومته ، والاغبرار عن ضيقه ، والفودان شعر جانبي الرأس مما يلي الأذنين.

(٤) سورة القصص الآية ٧٣.

(٥) وإنما عدل عن الحركة الى ابتغاء الفضل من قبل أن الحركة ضربان : حركة لمصلحة وحركة لمفسدة ، والمراد الأولى لا الثانية.

٣٢١

المقابلة

ومن الطباق نوع يخص باسم المقابلة ، وهي أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر ثم يؤتي بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب.

فمقابلة اثنين باثنين كقوله عليه‌السلام لأم المؤمنين عائشة : «عليك بالرفق يا عائشة فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه».

وقول النابغة الجعدي :

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا

ومقابلة ثلاثة بثلاثة كقوله تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(١).

وقول المتنبي :

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر

ومقابلة أربعة بأربعة ، نحو : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(٢) وتتضح لك مقابلة اتقى باستغنى اذا علمت أن المراد بالاستغناء الزهد فيما عند الله كأنه استغنى عنه ، فلم يتق ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ، فلم يتق.

ومقابلة خمسة بخمسة (٣) كقول أبي الطيب :

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

ومقابلة ستة بستة كقول الآخر (٤) :

على رأس عبد تاج عز يزينه

وفي رجل حر قيد ذل يشينه

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٥٧.

(٢) سورة الليل الآيات ٥ و ٦ و ٧.

(٣) كذا ذكر الواحدي في شرحه لديوان أبي الطيب ، قال في الايضاح : وفيه نظر لأن لي وبي صلتان ليشفع ويغري ، فهما من تمامهما بخلاف اللام وعلى في قوله تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ».

(٤) نسبه بعض الحواشي لعنترة.

٣٢٢

مراعاة النظير ـ التناسب ـ الائتلاف

هي أن يجمع في الكلام بين أمرين ، أو أمور متناسبة ، لا بالتضاد ، وبالقيد الأخير يخرج الطباق.

فالجمع بين أمرين كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(١).

وبين ثلاثة كقول البحتري يصف إبلا بالإنضاء والهزال : «كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار»

فقد اختار تشبيهها بالقسى دون العراجين والأطناب (٢) مثلا من أجل أنه أراد تشبيهها بالأسهم والأوتار ، فيحصل بذكرها معها ملاءمة لا تحصل بدونها.

وبين أربعة كقول بعضهم للوزير المهلبي : أنت أيها الوزير إسماعيليّ الوعد ، شعبيّ التوفير ، يوسفي العفو ، محمدي الخلق.

وبين أكثر من أربعة كقول ابن رشيق :

أصح وأقوى ما سمعناه في الندى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا

عن البحر عن جود الأمير تميم

فقد لائم بين الصحة والقوة والسماع والخبر والأحاديث والرواية ، ثم بين السيل والحيا ، أي المطر والبحر ، وكف تميم ، وبذا صار الكلام ملتئم النسج ، محكم التأليف والحوك ، مع ما أدخله في البيت الثاني من حسن الصنعة ، إذ أتى بصحة الترتيب في العنعنة ، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر ، كما يقع في سند الأحاديث ، ألا ترى أن السيول أصلها المطر ، وهو أصله البحر ، وهو أصله كف الممدوح على حسب ما ادعاه مبالغة في المدح.

تشابه الأطراف

من مراعاة النظير ما يسمى : تشابه الأطراف ، وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٣).

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٥.

(٢) العراجين جمع عرجون ، الكياسة والاطناب جمع طنب حبل الخيمة ونحوها.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٠٣.

٣٢٣

فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا ، لأن الخبير من له علم بالخفيات ، ومن جملة الخفيات بل الظواهر الأبصار فيدركها.

ويلحق بها ما يسمى إيهام التناسب ، وهو الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظ يكون لهما معنيان متناسبان ، وإن لم يكونا مقصودين هنا ، كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(١) ، فالنجم هنا النبات الذي لا ساق له كالبقول وهو أن لم يكن مناسبا للشمس والقمر يوهم نجم السماء وهو مناسب لهما.

الارصاد ـ التسهيم

الارصاد لغة نصب الرقيب في الطريق والتسهيم جعل البرد ذا خطوط كأنها فيه سهام واصطلاحا أن يجعل قبل آخر الفقرة أو البيت ما يفهمها عند معرفة الروي ، كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢) ، وقول البحتري :

أحلت دمي غير جرم وحرّمت

بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بحرام

فالسامع اذا وقف على قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي ،) بعد الاحاطة بما تقدم علم أنه ليس (إِلَّا الْكَفُورَ) ، والحاذق بمعاني الشعر وتأليفه يعلم بعد أن عرف البيت الأول وصدر الثاني في بيتي البحتري أن ليس عجزه إلا ما قاله.

المشاكلة

هي لغة المماثلة واصطلاحا ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا ، فالأول كقوله عز وعلا : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٣) ، إذ الجزاء على السيئة ليس بسيئة في الحقيقة لكنه سمي سيئة للمشاكلة اللفظية ، وقوله عليه‌السلام : «إن الله لا يملّ حتى تملوا» (٤) ، فقد وضع : لا يمل ، موضع : لا يقطع عنكم ثوابه.

__________________

(١) سورة الرحمن الآيتان ٦ و ٧.

(٢) سورة سبأ الآية ١٧.

(٣) سورة الشورى الآية ٤٠.

(٤) المعنى إن الله لا يقطع عنكم نعمه وفضله حتى تملوا عن مسألته.

٣٢٤

وقول أبي الرقعمق ، وقد تظرف ما شاء :

قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

فقد عبر عن خياطة الجبة بالطبخ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام.

والثاني كقوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ)(١) ، وهو مصدر مؤكد لآمنا بالله ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس.

وأصل ذلك أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون إنه تطهير لهم ، فعبر عن الإيمان بالله بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة الحالية (٢).

المزاوجة

هي لغة مصدر زاوج بين الشيئين قرن بينهما ، واصطلاحا أن يجمع بين الشرط والجزاء في ترتب لازم من اللوازم عليهما معا نحو :

اذا ما بدت فازداد منهما جمالها

نظرت لها فازداد مني غرامها

فقد زاوج بين معنيين هما بدوها وظهورها ونظره لها في الشرط والجزاء في أن رتب عليهما لزوم شيء ، وهو ازدياد الجمال وازدياد الغرام.

ونحوه قول البحتري :

إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى

أصاخ الى الواشي فلج به الهجر

فقد جمع بين الشرط والجزاء في لزوم شيء وهو لجاج الهوى ولجاج الهجر ، ولا يخفى ما في ترتب لجاج الهوى على النهي من المبالغة في الحب لاقتضائه أن ذكرها ولو على وجه العتب يزيد حبها ويثيره كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوم

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٣٨.

(٢) فان الصبغ ليس بمذكور في كلام الله ، ولا في كلام النصارى لكن لما كان غمسهم أولادهم في الماء الأصفر يستحق أن يسمى صبغا وإن لم يتكلموا بذلك حين الغمس وكانت الآية نازلة في سياق ذلك الفعل كأن لفظ الصبغ مذكور ، إذ أن المسلمين أمروا أن يقولوا : صبغنا الله تعالى بالايمان صبغة ولم نصبغ صبغتكم.

٣٢٥

وما في ترتب لزوم الهجران على وشي الواشي من المبالغة في كون حبه على شفا جرف ، إذ يزيله مطلق الوشاية ، فكيف يكون لو سمع أو رأى عيبا ، كما قال الآخر :

ولا خير في ود ضعيف تزيله

هواتف وهم كلما عرضت جفا

العكس ـ التبديل

هو أن تقدم في الكلام جزءا ، ثم تعكس فتقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت وهو على وجوه ، منها :

١ ـ أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف اليه ذلك الطرف نحو قولهم : عادات السادات سادات العادات (١) ، فالعادات أحد طرفي الكلام ، والسادات مضاف الى ذلك الطرف ، وقد وقع العكس بينهما بأن قدم أولا العادات على السادات ثم السادات على العادات.

ونحوه قول بعضهم لآخر : لم لا تفهم ما يقال؟ فأجاب : لأنك لم تقل ما يفهم.

وقول متصدق : لا سرف في الخير ، ردا على من اتهمه بالتبذير ، وقال له : لا خير في السرف.

وقول المتنبي :

أرى كل ذي ملك اليك مصيره

كأنك بحر والملوك جداول

إذا أمطرت منهم ومنك سحابة

فوابلهم طلّ وطلّك وابل

٢ ـ أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين نحو : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

وقول الحماسي :

رمى الحدثان نسوة آل حرب

بأمر قد سمدن له سمودا (٢)

فرد شعورهن السود بيضا

ورد وجوههن البيض سودا

__________________

(١) أي أن العادة التي تصدر من سيد الناس هي العادة الحسنى التي تستحق أن تسمى سيدة العادات.

(٢) الحدثان نوائب الدهر ومصائبه ، وسمد لها : غفل.

٣٢٦

٣ ـ أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين نحو : ما عليك من حسابهم من شيء يوما من حسابك عليهم من شيء ، وقول الحسن البصري : إن من خوّفك حتى تلقى الامن خير ممن آمنك حتى تلقي الخوف ، وقول المتنبي :

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله

ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

الرجوع

هو رجوع المتكلم الى الكلام السابق بنقضه وإبطاله لنكتة كالتحسر والتحزن في قول زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بل وغيّرها الأرواح والديم

فإنه حين وقف على الديار دهش (١) وذهل ، فأخبر بما هو غير حاصل فقال : لم يعفها القدم ثم ثاب اليه رشده فتدارك كلامه وقال : يلي وغيرها الأرواح والديم. ونحو قول الحماسي :

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك وكلا ليس منك قليل

التورية (٢) ـ الايهام ـ التخيير

هي لغة مصدر ورى الخبر اذا ستره وأظهر غيره ، واصطلاحا أن يذكر المتكلم لفظا له معنيان ، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ، ودلالة اللفظ عليه خفية ويريد المعنى البعيد ، ويورى عنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريده ، وهو ليس بمراد ، ومن ثم سميت إيهاما ، كقول لصلاح الصفدي :

وصاحب لما أتاه الغنى

تاه ونفس المرء طماحه

وقيل هل أبصرت منه يدا

تشكرها قلت ولا راحه

فللراحة معنيان : قريب ، وهو الكف ، وهو المتبادر بقرينة ذكر اليد ، وبعيد مراد وهو ضد التعب.

__________________

(١) أي فظن الشيء واقعا وليس هو كذلك ثم عاد الى إبطاله بعد أن أفاق فأخبر بالحقيقة مع التأسف على فوات ما رغب فيه والتحسر على ما رأى.

(٢) الفرق بينهما وبين المجاز والكناية أنه لا يعتبر بين معنى التورية لزوم وانتقال من أحدهما إلى الآخر ولا علاقة بينهما كذلك بخلافهما.

٣٢٧

ونحوه قول الآخر :

أيها المعرص عنا

حسبك الله تعالى

وقول الباخرزي صاحب دمية القصر :

يا خالق حملت الورى

لما طغى الماء على جاريه

وعبدك الآن طفى ماؤه

في الصلب فاحمله على جاريه

وهي ثلاثة أضرب :

١ ـ مجردة ، وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المعنى القريب ، نحو قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١) ، للاستواء معنيان : أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود لأن الحق تعالى منزّه عن ذلك ، والثاني : الاستيلاء والملك ، وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور.

وقول أبي بكر ، وقد سئل عن النبي عليه‌السلام حين الهجرة ، فقيل له : من هذا؟ فقال : «هاد يهديني» ، أراد أبو بكر : هاديا يهديني الى الإسلام ، لكنه ورى عنه بهادي الطريق ، وهو الدليل في السفر.

٢ ـ مرشحة ، وهي التي يذكر فيها لازم المورّى به ، وهو المعنى القريب ، وهي قسمان :

(أ) قسم يذكر فيه الترشيح قبلها كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها)(٢) بأيد ، فاليد هنا القدرة ، وهي المعنى البعيد ، وقد قرنت بالبناء الذي يناسب المعنى القريب ، وهو الجارحة ، ونحو قوله :

حملناهم طرا على الدّهم بعد ما

خلعنا عليهم بالطعان ملابسا

فالمعنى القريب للدهم الخيول السود ، وهو ليس بمراد ، والمعنى البعيد القيود من الحديد وهو المراد ، ورشح التورية بذكر حملناهم المناسب للمعنى القريب.

(ب) قسم يذكر بعدها ، كقوله :

__________________

(١) قال الزمخشري : ولا ترى بابا في البيان أدق وألطف من هذا الباب ولا أعون على تعاطي تأويل المشبهات من كلام الله وكلام رسوله وكلام صحابته رضي‌الله‌عنهم أجمعين (سورة طه).

(٢) سورة الذاريات الآية ٤٧.

٣٢٨

أقلعت عن رشف الطلا

واللثم في خد الحبب

وقلت هذي راحة

تسوق للقلب التعب (١)

فالمعنى القريب للراحة ضد التعب وليس بمراد ، والآخر بمعنى الخمر ، وهو المراد ، ورشحه بذكر التعب بعده.

٣ ـ مبينة ، وهي ما قرنت بما يلائم المعنى البعيد ، كقول ابن سناء الملك :

أما والله لو لا خوف سخطك

لهان عليّ ما ألقى برهطك

ملكت الخافقين فتهت عجبا

وليس هما سوى قلبي وقرطك

فالمعنى القريب للخافقين : المشرق والمغرب ، وذا ليس بمراد ، والمعنى البعيد المراد القلب ، والقرط ، وقد بينه الشاعر بالنص عليه.

الاستخدام

هو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة ضمير أو إشارة عليه بمعنى آخر ، أو إعادة ضميرين عليه تريد بثانيهما غير ما تريد بأولهما ، فالأول كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،) فالمراد بالشهر الهلال وبضميره الزمان المعلوم.

وقول ابن معتوق الموسوي المتوفى سنة ١٠٢٥ ه‍ :

تالله ما ذكر العقيق وأهله

إلا وأجراه الغرام بمحجري

إذ المراد بالعقيق الوادي الذي بظاهر المدينة ببلاد الحجاز وبالضمير الذي يعود اليه الدم الأحمر الشبيه بالعقيق.

والثاني ، كقوله :

رأى العقيق فأجرى ذاك ناظره

متيم لج في الأشواق خاله

فقد أراد بالعقيق أولا المكان ، ثم أعاد اسم الإشارة اليه بمعنى الدم.

والثالث ، كقول شوقي يخاطب الإله جل وعلا :

العقل أنت عقلّته وسرحته

وأحرت فيك دليله وأرحته

آتيته الحجر الأصم ونحتة

والنجم يعبد فوقه أو تحته (٢)

__________________

(١) الطلا ما طبخ من عصير العنب ، والحبب الفقاقيع التي تعلو في الكأس.

(٢) أحرته أي بالشك وأرحته أي باليقين ، ومفعول يعبد محذوف أي يعبدك.

٣٢٩

فالنجم يطلق على ما لا ساق له من النبات وعلى الكواكب وقد أعاد اليه الضمير الأول في فوقه بمعناه الأول ، وفي تحته بمعناه الثاني.

ونحوه قول البحتري :

فسقى الغضا والساكنيه وإن همو

شبوه بين جوانح وقلوب (١)

فقد أراد بضمير الغضا في قوله : والساكنيه المكان ، وفي قوله : شبوه ، أي أوقدوه الشجر.

اللف والنشر

هو ذكر متعدد مفصل أو مجمل ، ثم ذكر ما لكل من آحاده بلا تعيين ، اتكالا على أن السامع يرد الى كل ما يليق به لوضوح الحال (٢).

فالمفصل قسمان :

١ ـ إما مرتب ، كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ،) فقد جمع بين الليل والنهار بواو العطف ، ثم أضيف الى كل ما يليق به ، فأضيف السكون الى الليل ، لأن فيه النوم والراحة ، وابتغاء الرزق الى النهار لما فيه من الكد والعمل.

وقول ابن حيوس :

فهل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

٢ ـ وإما بعكس ترتيب اللقب ، كقول ابن حيوس أيضا :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدا وردفا

فاللحظ للغزال والقد للغصن والردف للحقف وهو الرمل المتراكم.

والمجمل ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٣).

__________________

(١) الغضا : شجر شديد الاشتعال ، يريد الدعاء له ويطلب لأحبابه النازلين به السقيا ، وإن أحرقوا قلبه بنار الجوى.

(٢) أما لقرينة لفظية أو معنوية فالأولى كما تقول رأيت شخصين ضاحكا وعابسة ، فتأنيث عابسة دل على أن الشخص العابس هي المرأة والضاحك هو الرجل والثانية كما تقول : لقيت الصاحب والعدو فأكرمت واهنت.

(٣) سورة البقرة الآية ١١١.

٣٣٠

فضمير قالوا لليهود والنصارى على سبيل اللف (١) ، ثم أضيف ما لكل اليه بعد ، إذ التقدير وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.

ونحوه قوله عليه‌السلام : «فإن المرء بين يومين يوم قد مضى أحصى فيه عمله فحتم عليه ، ويوم قد بقي لا يدري لعله لا يصل اليه».

الجمع

هو أن يجمع بين شيئين مختلفين ، أو أكثر ، في حكم واحد ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)(٢).

وقول أبي العتاهية :

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أيّ مفسدة (٣)

وقول ابن الرومي :

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم

في الحادثات اذا دجون نجوم

التفريق

هو أن يعمد المتكلم الى نوعين مندرجين تحت جنس واحد فيوقع بينهما تباينا في المدح أو الذم أو غيرهما كقول الوطواط في المدح :

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء (٤)

وقول صفي الدين الحلي :

فجود كفيه لم تقلع سحائبه

عن العباد وجود السّحب لم يدم (٥)

__________________

(١) لف بين قولي الفريقين ، فلم يبين مقول كل فريق ، ثقة بأن السامع يرد الى كل فريق قوله لما علم من تعادي الفريقين.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٠.

(٣) الجدة الاستغناء ، يقال : وجد في المال وجدا بتثليث الواو وجدة أيضا.

(٤) البدرة : كيس فيه عشرة آلاف درهم.

(٥) أقلعت السحابة : ذهبت.

٣٣١

التقسيم

هو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل اليه على التعيين ، وبقيد التعيين يخرج اللف فإنه لا تعيين فيه ، بل الأمر موكول الى السامع ، وذلك كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)(١).

وقول أبي تمام :

فما إلا الوحي أو حد مرهف

تميل ظباه أخدعي كل مائل

فهذا دواء الداء من كل عالم

وهذا دواء الداء من كل جاهل (٢)

وللتقسيم إطلاقان آخران :

١ ـ ذكر أحوال الشيء مضافا الى كل حال ما يليق بها ، كقول علي كرم الله وجهه : «أحسن الى من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج الى من شئت تكن أسيره».

وقول أبي الطيب :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهمو من طول ما التثموا مرد

ثقال اذا لاقوا خفاف اذا دعوا

كثير اذا شدوا قليل اذا عدّوا

وقوله أيضا :

بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (٣)

٢ ـ استيفاء أقسام الشيء كقوله عليه‌السلام : «هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».

وقول أبي تمام :

إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا

شرا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا

وقول نصيب :

فقال فريق القوم : لا وفريقهم

نعم وفريق وايمن الله ما ندري

__________________

(١) سورة القارعة الآيات ٣ و ٤ و ٥.

(٢) الوحي الاشارة والمرهف السيف والظبا حد السيف والاخدعان عرقان في صفحتي العنق.

(٣) الخوط الغصن الناعم لسنته ، والبان شجر سبط القوام لين ، ورنا نظر.

٣٣٢

الجمع مع التفريق

هو أن يجمع بين شيئين في معنى ويفرق بين جهتي الادخال ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً)(١).

وقول رشيد الدين الوطواط :

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرها

فقد شبه وجه الحبيب وقلبه هو بالنار ، ثم فرق بين وجهي المشابهة بأن جعله في الوجه الضوء واللمعان وفي القلب الحرارة والاحتراق.

وقول البحتري :

ولما التقينا والنقا موعد لنا

تعجب رائي البدر منا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

الجمع مع التقسيم

هو جمع أمور متعددة تحت حكم واحد ، ثم تقسيمها أو تقسيمها ثم جمعها ، فالأول كقول المتنبي يمدح سيف الدولة حين غزا خرشنة بأرض الروم ولم يفتحها :

حتى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الروم والصلبان والبيع

للسبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا (٢)

فقد جمع البيت الأول شقاء المقيمين بنواحي تلك البلدة بما يلحقهم من الإهانة ثم فصله في البيت الثاني.

والثاني كقول حسان :

قوم اذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرّها البدع

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ١٢.

(٢) خرشنة بلد بديار بكر ، وأرباض البلد ما حولها (الضواحي) وحتى متعلقة بما قبلها ، وهو قوله :

قاد المقانب أقصى شربها نهل

مع الشكيم وأدنى سيرها سرع

وبعدهما :

الدهر معتذر والسيف منتظر

وأرضهم لك مصطاف ومرتبع

٣٣٣

قسم في البيت الأول صفات الممدوحين قسمين ضر الأعداء ، ونفع الأولياء ، ثم جمعها في البيت الثاني بقوله : سجية تلك ، ثم أشار الى شر الأخلاق ما كان مستحدثا مبتدعا لا ما كان غريزة وجبلة.

الجمع مع التفريق والتقسيم

هذا النوع جامع للأنواع الثلاثة المتقدمة ، وقد مثلوا له بقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١) فالجمع في قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) ، لأن النفس متعددة في المعنى إذ هي نكرة في سياق النفي تعمّ ، والتفريق في قوله عزوجل : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، والتقسيم في قوله عز وعلا : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا).

ومن هذا النوع أيضا قول ابن شرف القيرواني :

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى وللخائف الأمن

التجريد

هو لغة : إزالة الشيء عن غيره ، واصطلاحا هو أن ينتزع من أمر ذي صفة أو أكثر ، أمر آخر أو أكثر مثله فيها ، لإفادة المبالغة بادعاء كمال الصفة في ذلك الأمر حتى كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة مبلغا يصح أن ينتزع منه موصوف آخر متصف بتلك الصفة ، فهي فيه كأنها تفيض بمثالاتها لقوتها كما يفيض الماء عن ماء البحر.

وهو أقسام :

١ ـ ما يكون بمن التجريدية كقولهم : لي من فلان صديق حميم ، بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه صديق آخر مثله فيها.

__________________

(١) سورة هود الآيتان ١٠٧ و ١٠٨.

٣٣٤

٢ ـ ما يكون بالباء التجريدة الداخلة على المنتزع منه ، نحو : لئن سألت فلانا لتسألن به البحر ، فقد بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا فيها.

٣ ـ ما يكون بدخول باء المعية على المنتزع كقوله :

وشوهاء تعدو بي الى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحل (١)

يريد أنها تعدو بي ومعي من نفسي لكمال استعدادها للحرب.

٤ ـ ما يكون بدخول (في) على المنتزع منه ، نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(٢) ، فإن جهنم هي دار الخلد ، لكنه انتزع منها دارا أخرى وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة.

٥ ـ ما يكون بدون توسط حرف ، نحو قول قتادة بن مسلمة الحنفي :

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة

تحوى الغنائم أو يموت كريم

يعني بالكريم نفسه وقد انتزع من نفسه كريما للمبالغة في كرمه.

٦ ـ ما يكون بطريق الكناية ، نحو قول الأعشى :

يا خير من يركب المطى ولا

يشرب كأسا بكف من بخلا

يريد أنه يشرب الكأس بكف الجواد ، فقد انتزع من المخاطب وهو الممدوح جوادا يشرب هو أي الممدوح بكفه على سبيل الكناية (٣) لأنه اذا نفي عنه الشرب بكف البخيل فقد أثبت له الشرب بكف الكريم ، ومن البين أنه يشرب غالبا بكف نفسه ، فهو حينئذ ذلك الكريم.

٧ ـ ما يكون بمخاطبة الإنسان نفسه فينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سبق لها الكلام ويخاطبه كقول الأعشى :

ودّع هريرة أن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرّجل

__________________

(١) وشوهاء أي فرس قبيحة المنظر لسعة أشداقها ، والمستلئم : اللابس الدرع ، والفنيق : الفحل المكرم.

(٢) سورة فصلت الآية ٢٨.

(٣) حيث أطلق اسم الملزوم الذي هو نفي الشرب بكف البخيل على اللازم ، وهو الشرب بكف الكريم يعني نفسه.

٣٣٥

(تنبيهان) الأول ـ قال أبو علي الفارسي في سر تسمية هذا النوع بهذا الاسم أن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله ، فتخرج ذلك المعنى الى ألفاظها مجردا عن الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه ، كقولهم : لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر ، وهو عينه الأسد والبحر إلا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه.

ثم قال : وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره ، كما فعل الأعشى في قوله : «ودع هريرة إن الركب مرتحل»

الثاني ـ لهذا الضرب من الكلام فائدتان :

إحداهما : التمكن من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره لأنه موجه خطابه الى غيره فيكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقول.

ثانيتهما : طلب التوسع في الكلام ، وذا من مزايا اللغة العربية.

المبالغة ـ آراء العلماء فيها ـ أقسامها

هي ادعاء (١) بلوغ وصف في الشدة أو في الضعف حدا مستحيلا أو بعيدا آراء العلماء فيها : للعلماء في المبالغة ثلاثة آراء :

١ ـ الرفض مطلقا ، وحجتهم أن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهاج الصدق من غير إفراط ولا تفريط ، كما قال حسان :

وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه

على المجالس إن كيسا وإن حمقا

فإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال اذا أنشدته صدقا

٢ ـ القبول مطلقا ، وحجة أولئك أن خير الشعر أكذبه ، وأفضل الكلام ما بولغ فيه.

٣ ـ التوسط بين الأمرين ، فتقبل مع الحسن إذا جرت على منهج الاعتدال ، وهذا رأي جمهرة العلماء ، ودليل ذلك وقوعها في التنزيل على ضروب مختلفة ،

__________________

(١) إنما يدعي ذلك خوفا من أن يظن أن ذلك الوصف غير متناه في الشدة أو الضعف ، بل هو متوسط أو دون المتوسط.

٣٣٦

وتردّ إذا جاءت على جهة الإغراق والغلو ، ويذم مستعملها ، كما درج على ذلك أبو نواس وابن هانىء الأندلسي والمتنبي وأبو العلاء ، وغيرهم.

(أقسامها) ـ أقسام المبالغة ثلاثة (١) : تبليغ وإغراق وعلو ، لأن المدّعي للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه أولا الثاني الغلو ، والأولى إما أن يكون ممكنا في العادة أولا ، الأول : التبليغ ، والثاني : الإغراق :

١ ـ فالتبليغ (٢) ما يكون المدعي فيه ممكنا عقلا ، وعادة ، كقول امرىء القيس :

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل (٣)

فقد وصف هنا الفرس بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيتين في مضمار واحد ولم يعرق ، وذلك مما لا يمتنع عقلا ولا عادة.

ونظيره قول المتنبي :

وأصرع أيّ الوحش قفيته به

وأنزل عنه مثله حين أركب

فقد مدحه أولا بأنه يلحق كل وحش ولم يستثن شيئا ، ثم عقبه بمدح أعظم ومبالغة أكثر في الشطر الثاني من أجل أنه أفاد به وفرة جريه وشدة صلابته.

٢ ـ والإغراق ما يكون المدعي فيه ممكنا عقلا لا عادة ، وهذا على ضربين :

(أ) وهو أجلبهما الى حسن الاصغاء أن يقترن به ما يقرّ به من نحو لو ولو لا وكاد وكأن ، وإذ ذاك يظهر حسنه ويبهر شكله ، كقول امرىء القيس في وصف محبوبته :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من النمل فوق الإتب منها لأثرا (٤)

فقد وصفها بالرقة ونعومة الجسم ، وقرب الدعوى بلفظ لو حتى جعل السامع يصغي إلى ما يقول.

__________________

(١) انحصارها في هذه الأقسام بالاستقراء وبالعقل.

(٢) التبليغ والإغراق مقبولان في صنعة البديع لعدم ظهور الكذب فيهما الموجب لردها ، وكذا بعض أنواع الغلو.

(٣) عادى عداء والى موالاة بين الصيدين يصرع أحدهما إثر الآخر ، ودراكا متتابعا ، والنضح الرشح.

(٤) المحول ما أتى عليه الحول ، والاتب ما قصر من الثياب وقميص بلا كمين.

٣٣٧

ونحوه قول المتنبي :

كفى بجسمي نحولا أنني رجل

لو لا مخاطبتي إياك لم ترني

(ب) أن يجيء مجردا عما ذكر ، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

فقد ادعى أنه يتبع جاره الكرامة حيث سار ، وهذا ليس بجائز في شرعة العادة ، وإن أجازه العقل.

٣ ـ والغلو ما يكون المدعي فيه غير ممكن لا عادة ولا عقلا ، وهذا مسرح الشعراء المفلقين في مدحهم وهجوهم ، وهو على قسمين : مقبول ، ومردود.

فالمقبول أنواع :

١ ـ أن يقترن به ما يقرّ به الى الإمكان كلفظ يكاد في قول ابن حمديس :

ويكاد يخرج سرعة من ظله

لو كان يرغب في فراق رفيق (١)

وأجمل منه قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)(٢).

٢ ـ أن يتضمن نوعا حسنا من تخييل الصحة ، كقول أبي الطيب :

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (٣)

فقد ادعى تراكم الغبار المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها بحيث صار أرضا يمكن السير عليها ، وهذا وإن كان غير ممكن ، يخيل الى الوهم من ادعاء كثرته وكونه كالجبال صحته ، وقد اجتمع السبب الأول والثاني في قول القاضي الأرّجاني يصف طول الليل :

يخيّل لي أن سمر الشهب في الدجى

وشدت بأهدابي اليهن أجفاني

٣ ـ أن يخرج مخرج الخلاعة والهزل كقوله :

«أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب».

__________________

(١) يصف فرسا بسرعة الجري.

(٢) سورة النور الآية ٣٥.

(٣) السنابك : حوافر الخيل ، والكثير : الغبار ، والعنق : السير السريع ، وضمير عليها يعود للخيل.

٣٣٨

فلا شك أن سكره على هذه الصفة محال ، لكن حسّنه الهزل لمجرد سرور المجالس ومضاحكته ، والمردود ما جرى من الاعتبارات المتقدمة كقول أبي نواس يمدح هارون الرشيد :

وأخفت أهل الشرك حتى إنه

لتخافك النّطف التي لم تخلق

وقول أبي الطيب :

كأني دحوت الأرض من خبرتي بها

كأني بنى الاسكندر السد من عزمي

شبه نفسه بالخالق جل وعلا في دحوه الأرض ، ثم فجأة نزل الى الحضيض فشبه نفسه بالاسكندر.

المذهب الكلامي (١)

هو أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة عقلية قاطعة تصح نسبتها الى علم الكلام.

ولم يستشهد على هذا النوع بأعظم من شواهد القرآن ، فمن لطيف ذلك قوله عز وعلا : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢) ، إذ تمام الدليل : لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)(٣) لأن تحليل القياس : القمر آفل وربي ليس بآفل فالقمر ليس بربي.

وقوله عليه‌السلام : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» ، إذ تمام الدليل : لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم.

ويرى أن أبا دلف العجلي قصده شاعر تميمي ، فقال له : ممن أنت؟ فقال : من تميم ، فقال أبو دلف :

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا

ولو سلكت سبل الهداية ضلت

فقال له التميمي : بتلك الهداية جئت اليك ، فأفحمه.

__________________

(١) هذه التسمية تنسب للجاحظ.

(٢) المراد بالفساد خروجهما من النظام الذي هما عليه (سورة الانبياء).

(٣) أي بقياس حملي يفيد أن المجيء اليه ضلال ، لكن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب (سورة الأنعام).

٣٣٩

حسن التعليل

هو أن يدعي شاعر أو ثاثر لشيء علة مناسبة غير العلة الحقيقية على جهة الاستظراف وذلك لإيهام تحقيقه وتقريره من قبل أن الشيء معللا آكد في النفس من إثباته مجردا عن التعليل.

وأقسامه أربعة : لأن الوصف إما ثابت قصد بيان علته ، أو غير ثابت أريد إثباته ، والثابت إما ألا يظهر له علة في العادة ، أو يظهر له علة غير المذكورة ، وغير الثابت إما ممكن أو غير ممكن.

١ ـ فالأول ، كقول أبي تمام :

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسيل حرب للمكان العالي

فقد جل علة حرمان الكريم من الغنى هي العلة التي من أجلها حرم المكان العالي السيل ، فكما أن العلو هو السبب في حرمان المكان العالي كذلك علو قدر الكريم هو المانع له من الغنى الذي هو كالسيل في حاجة الخلق اليه.

ومما جاء بديعا نادرا من هذا الضرب قول أبي هلال العسكري :

زعم البنفسج أنه كعذاره

حسنا فسلوا من قفاه لسانه

فخروج ورقة البنفسج الى الخلف مما لا تظهر علته ، لكنه جعلها الافتراء على المحبوب.

٢ ـ والثاني ، كقول المتنبي :

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

جرت العادة بأن الملوك إنما يقتلون أعداءهم ليسلموا من أذاهم وضرهم ، لكن أبا الطيب اخترع سببا غريبا وتخيل أن الباعث له على قتل الأعادي لم يكن إلا محبته لإجابة من يطلب الإحسان ، فهو قد فتك بهم لعلمه علم اليقين بأنه اذا غدا للحرب رجت الذئاب والوحوش الضواري أن يتسع عليها رزقها (١) ، وتنال من علوم أعدائه القتلى ، فما أراد أن يخيب لها مطلبا ، ومن لطيف هذا النوع قول ابن المعتز :

__________________

(١) يستفاد من ذلك ضمنا أنه ليس من المسرفين في القتل تشفيا وانتقاما.

٣٤٠