علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

الباب الثالث في الكناية

وفيه أربعة مباحث وخاتمة

المبحث الأول في تعريفها

الكناية لغة أن تتكلم بشيء وتريد غيره ، وقد كنوت بكذا عن كذا ، أو كنيت اذا تركت التصريح به ، أنشد الجوهري :

وإني لأكنو عن قذور بغيرها

وأعرب أحيانا بها وأصارح

وفي الاصطلاح تطلق على معنيين :

١ ـ المعنى المصدري الذي هو فعل المتكلم ، أعني ذكر اللفظ الذي يراد به لازم معناه مع جواز إرادته (١) معه.

٢ ـ اللفظ المستعمل فيما وضع له ، لكن لا ليكون مقصودا بالذات ، بل لينتقل منه الى لازمه المقصود لما بينها من العلاقة واللزوم العرفي ، وعلى هذا التعريف فهي حقيقة لاستعمال اللفظ فيما وضع له ، لكن لا لذاته ، بل لينتقل منه الى لازمه فمعناه مراد لغيره مع استعمال اللفظ فيما وضع له ، واللازم مراد لذاته ، لا مع استعمال اللفظ فيه ، فهو مناط الإثبات والنفي والصدق والكذب (٢).

تفسير هذا أن العرب تلفظ أحيانا بلفظ لا تريد منه معناه الذي يدل عليه بالوضع ، بل تريد منه ما هو لازم له في الوجود بحيث اذا تحقق الأول تحقق الثاني عرفا وعادة ، فنقول : فلان رحب الصدر ، ونقصد أنه حليم من قبل أن الحليم يكون ذا أناة وتؤدة ولا يجد الغضب اليه سبيلا ، لما في صدره من السعة لاحتمال

__________________

(١) أي مع جواز إرادة المعنى الحقيقي مع اللازم كما ستعلم بعد.

(٢) فقولك : فلان طويل النجاد تريد طول القامة يكون الكلام صحيحا وإن لم يكن له نجاد قط بل قد يستحيل المعنى الحقيقي كما سيأتي.

٣٠١

كثير من الحفائظ والأضغان كما يحتمل الصندوق الواسع كثيرا من المتاع والماعون ، وتقول : فلانة تؤوم الضحى ، وتقصد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها من الخدم والحشم ، فهم يقومون بتدبير شؤون المنزل ، وقضاء الحوائج البيتية ، فلا تحتاج الى القيام مبكرة من النوم فأولئك قد كفوها مؤونة التعب والنصب.

(الفرق بينها وبين المجاز) مما سلف تعلم الفرق بين الكناية والمجاز هو أن الأولى لا يمتنع معها إرادة المعنى الأصلي ، فيسوغ في المثالين المتقدمين أن تريد أنه واسع الصدر حقيقة وأنها تنام حقا الى وقت الضحى ، وقد تمتنع إرادة المعنى الأصلي فيها أحيانا لخصوص الموضوع ، نحو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١) كناية عن الاستيلاء والملك ، (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٢) كناية عن قوة التمكن وتمام القدرة ، الى غير ذلك (٣).

أما قرينة المجاز فتمنع من إرادة المعنى الأصلي ، فلا يسوغ إرادة الأسد المفترس في قولك : رأيت أسدا في الميدان يضرب يمينا وشمالا.

المبحث الثاني في أقسامها من حيث المكنى عنه

تنقسم الكناية من حيث المكنى عنه الى ثلاثة أقسام :

١ ـ كناية يطلب بها صفة من الصفات كالجود والكرم ودماثة الأخلاق ، الى غير ذلك ، وهي ضربان :

(أ) قرينة ، وهي ما ينتقل منها إلى المطلوب بها بلا واسطة سواء أكانت واضحة كقولهم كناية عن طويل القامة طويل النجاد (٤) ، وقول الحماسي :

أبت الروادف والثدى لقمصها

مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا

كنى عن كبر الإعجاز ونهود الثدى بارتفاع القميص عن أن يمس بطنا أو ظهرا.

__________________

(١) سورة طه الآية ٥.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٧.

(٣) فهذان ونحوهما كنايات من غير لزوم كذب لأن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وطلب دلالته عليه إنما هو لقصد الانتقال منه الى لازمه المراد.

(٤) النجاد : حمائل السيف ، وقد اشتهر استعمال طويل النجاد في طويل القامة.

٣٠٢

وهذا من بديع الكناية ، أم خفية يتوقف الانتقال منها الى اللازم على التأمل وإعمال الرؤية ، كقولهم كناية عن الأبله هو عريض القفا ، إذ يزعمون أن عرض القفا وعظم الرأس اذا أفرطا دلا على الغباوة ، أو ما ترى ، الى قول طرفة :

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحية المتوقد

(ب) بعيدة ، وهي ما ينتقل منها الى المطلوب بها بواسطة كقولهم في الكناية عن المضياف : هو كثير الرماد ، فإنه ينتقل الذهن من كثرة الرماد الى كثرة الطبائخ ، ومنها الى كثرة الرماد ، ومنها الى كثرة الضيفان ، ثم الى المضيافة ، وهي المقصودة ، ونظيره قول الآخر :

وما يك في من عيب فإني

جبان الكلب مهزول الفصيل

فإن الذهن ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يقصد دارا هو مقيم على حراستها والعس دونها ، مع أن ذلك ليس من طبعه ، الى أنه قد دام زجره وتأديبه حتى تغير عن مجرى عادته ، ثم الى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه ، ومن ذا الى كونه ملجأ للقاصي وللداني ، ومن ذا الى أنه مشهور بحسن قرى الأضياف.

وكذا ينتقل من هزال الفصيل الى فقد الأم ، ومن ذا الى قوة الداعي الى نحرها مع كمال عنايتهم بالنوق ، خصوصا المثالي (١) منها ، ومن هذا الى صرفها الى الطبائخ ، ومن ذا الى أنه مضياف.

٢ ـ كناية ، يطلب بها موصوف ، نحو قولك كناية عن الأسد : قتلت ملك الوحوش ، وشرطها الاختصاص بالمكنى عنه ليحصل الانتقال منها اليه ، وهي ضربان :

(أ) ما هي معنى واحد بأن يتفق في صفة اختصاصها بموصوف معين فتذكر تلك الصفة ليتوصل بها الى ذلك الموصوف كمجامع الأضغان كناية عن القلوب في قوله :

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (٢)

__________________

(١) المتالي من أتلت الناقة اذا تلاها ولدها.

(٢) الضاربين منصوب على المدح وكذا الطاعنين ، والأبيض : السيف ، والمخذم : القاطع.

٣٠٣

ونحوه قول البحتري في قصيدته التي وصف فيها قتلة للذئب :

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرعب والحقد (١)

ففي الشطر الثاني ثلاث كنايات ، كل منها مستقل بإفادة الغرض ، لا كناية واحدة ، فقوله : بحيث يكون اللب ، الرعب ، الحقد ، ثلاثتها عن كناية القلب ، إذ هو محل العقل والخوف والضغينة.

(ب) ما هي مجموع معان بأن تؤخذ صفة فتضم الى صفة ثانية ، ثم ثالثة ، فتكون جملتها مما يختص بالموصوف ، فمتى ذكرت توصل بها اليه كقولهم كناية عن الإنسان : إنه حي مستوي القامة عريض الأظفار ، فمجموع هذه الأوصاف هو الثلاثة المختص بالإنسان لا كل واحد (٢) منها.

٣ ـ كناية ، يطلب بها نسبة (٣) ، أي ثبوت أمر لأمر ، أو نفيه عنه ، كما يقولون : المجد بين ثوبيه ، والكرم بين برديه (٤) ، فهم لم يصرحوا بثبوت المجد والكرم له ، بل كنوا عن ذلك بكونهما بين برديه وبين ثوبيه ، وكقول زياد الأعجم في مدح عبد الله بن الحشرج وكان أمير نيسابور :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فإنه أراد أن يثبت هذا الصفات خلالا للممدوح لكنه لم يصرح بذلك فيقول :

إنها مجموعة فيه ، أو مقصورة عليه ، أو نحو ذلك ، بل عدل الى ما أنت تراه فجعلها في قبة مضروبة عليه لتمكنه أن يثبتها للممدوح بطريق الكناية ، لأنه اذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبت له ، ومثل هذا وإن كان في حلة أبدع ووشى أغرب قول حسان :

بنى المجد بيتا فاستقرت عماده

علينا فأعيا الناس أن يتحولا

وقول أبي نواس :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن بصير الجود حيث يصير

__________________

(١) ضمير أتبعتها يعود الى الطعنة ، والنصل حديدة السيف.

(٢) ويسمى هذا خاصة مركبة.

(٣) ضابطها أن يصرح بالصفة ويقصد باثباتها لشيء له صلة بالموصوف وارتباط به الكناية عن إثباتها للمراد وهو الموصوف بها بخلاف كناية الصفة فانه لا يصرح فيها بالصفة المرادة.

(٤) هما الأزار والرداء وهما الثوبان.

٣٠٤

وقول الآخر : «وحيثما يك أمر صالح تكن».

ففي كل هذا توصل الى إثبات للممدوح بإثباتها في المكان الذي يحل فيه ، ولزومها بلزومه حيثما كان ، وعلى هذا المسلك يحمل قولهم : مثلك لا يبخل.

قال في «الكشاف» : نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم اذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه ، ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، فإنه أبلغ من قولك : أنت لا تخفر ، انتهى.

المبحث الثالث في أقسامها من حيث الوسائط

تنقسم الكناية باعتبار الوسائط الى أقسام أربعة :

١ ـ تعريض (١) وهو خلاف التصريح واصطلاحا ما أشير به الى غير المعنى بدلالة السياق ، كما تقول : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ، فالمعنى الأصلي انحصار الاسلام فيمن سلم الناس من يده ولسانه ، والمعنى الكنائي اللازم للمعنى الأصلي انتفاء الاسلام عن المؤذي مطلقا ، وهو المعنى المقصود من اللفظ ، ويشير بسياقه الى نفي الاسلام عن المؤذي الذي تكلمت عنده.

ومن لطيف ذلك ما كتبه عمر بن مسعدة وزير المأمون الى المأمون يوصيه على بعض أصحابه : أما بعد ، فقد استشفع بي فلان الى أمير المؤمنين ليتطول (٢) في إلحاقه بنظرائه ، فأعلمته بأن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين ، وفي ابتدائه بذلك بعد عن طاعته ، فوقع المأمون في كتابه : قد عرفنا نصيحتك له وتعريضك لنفسك وأجبناك اليهما.

٢ ـ تلويح ، وهو لغة أن تشير الى غيرك من بعد واصطلاحا كناية كثرت فيها الوسائط بين اللازم والملزوم ، نحو : (أولئك قوم يوقدون نارهم في الواد) كناية عن بخلهم ، فقد انتقل من الايقاد في الوادي المنخفض ، الى إخفاء النيران ، ومن هذا الى عدم رغبتهم في اهتداء ضيوفهم اليها ، ومن ذا الى بخلهم ، ونحوه ما تقدم من قولهم : هو جبان الكلب ، ومهزول الفصيل.

__________________

(١) قد يكون التعريض كناية كما في هذا المثال ، وقد يكون مجازا.

(٢) يتطول : أي يتكرم من الطول ، وهو الفضل والزيادة.

٣٠٥

٣ ـ رمز وهو لغة أن تشير الى قريب منك خفية بشفة ، أو حاجب ، كما قال :

رمزت إلي مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها

واصطلاحا هو كناية قلت وسائطها مع خفاء اللزوم نحو : هو غليظ الكبد ، كناية عن القسوة ، إذ ذلك تتوقف على معرفة ما كان يعتقده العرب من أن الكبد موضع الاحساس والتأثر فيلزم من رقته اللين ومن علظه القسوة ، ونحوه ما سبق.

٤ ـ إيماء وإشارة ، وهي كناية قلت وسائطها ، مع وضوح الدلالة ، كقول أبي تمام يصف إبله مادحا أبا سعيد (١) :

أبين فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد

وقول البحتري يمدح آل طلحة :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول

ومن لطيف ذلك وعجيبه قول بعضهم في رثاء البرامكة :

سألت الندى والجود مالي أراكما

تبدلتما ذلا بعز مؤبد

وما بال ركن المجد أمسى مهدما

فقالا أصبنا بابن يحيى محمد

فقلت : فهلا متما عند موته

فقد كنتما عبديه في كل مشهد

فقالا : أقمنا كي نعزي بفقده

مسافة يوم ثم نتلوه في غد

المبحث الرابع في حسن الكناية وقبحها

الكناية تكون حسنة إن جمعت بين الفائدة ولطف الإشارة كما تقدم لك من الأمثلة ، وقبيحة اذا خلت مما ذكر ، كقول الشريف الرضي يرثي امرأة :

(إن لم تكن نصلا فغمد نصال) ، فهذا من رديء الكنايات ، إذ هذا لا يفيد ما قصده من المعنى ، بل ربما جرّ الى ما يقبح من تهمتها بالريبة.

ونحوه قول أبي الطيب :

إني على شغفي بما في خمرها

لأعف عما في سراويلاتها

قال ابن الأثير : فهذه كناية عن النزاهة والعفة ، إلا أن الفجور أحسن منها ،

__________________

(١) هو أبو سعيد بن يوسف الثغري.

٣٠٦

وما ذاك إلا من سوء تأليفها وقبح تركيبها ، وقد أجاد الشريف فيما زلت فيه قدم أبي الطيب فجاء به على وصف حسن وقالب عجيب حيث قال :

أحن الى ما يضمن الخمر والحلى

وأصدف عما في ضمان المآزر

وقريب من بيت المتنبي قول الآخر :

وما نلت منها محرما غير أنني

اذا هي بالت بلت حيث تبول

خاتمة

اتفقت كلمة البلغاء على :

١ ـ أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح ، لأن الانتقال فيهما من الملزوم الى اللازم فهو كدعوى الشيء ببينة.

٢ ـ وعلى أن الاستعارة أبلغ من التشبيه ، ومن المجاز المرسل ، لما فيهما من دعوى الاتحاد ، وأن أبلغ أنواعها الاستعارة التمثيلية ، ثم المكنية ، لاشتمالها على المجاز العقلي الذي هو قرينتها.

٣ ـ وعلى أن الاستعارة سواء أكانت تمثيلية أم مكنية أم غيرهما ، أبلغ من الكناية ، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة.

وليس معنى الأبلغية في كلا من هذه الأمور يفيد زيادة في المعنى نفسه لا يفيدها خلافه ، بل المراد زيادة التأكيد في الاثبات.

قال الإمام عبد القاهر : فليست فضيلة قولنا رأيت أسدا على قولنا رأيت رجلا لا يتميز عن الأسد في جرأته وشجاعته ، أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني ، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني ، وسر هذه المزية والفخامة أنك اذا قلت : رأيت أسدا كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول ، وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده ، وذلك أنه اذا كان أسدا فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة ، وكالمستحيل والممتنع أن يعرى عنها واذا صرحت بالتشبيه فقلت : رأيت رجلا كالأسد ، كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجع بين أن يكون وألا يكون ، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء.

٣٠٧

وليست فضيلة قولنا : جم الرماد على قولنا كثير القرى أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني بل هي أن الأول أفاد تأكيد الإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني ، وذلك أن كل عاقل يعلم أن إثبات الصفة بإثبات دليلها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء اليها فتثبتها هكذا ساذجا عقلا ، وذلك أنك لا تدعي دليل الصفة إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط ، كذا في «دلائل الإعجاز» مع اختصار.

أسرار البلاغة في الكناية

الكناية فن من التعبير توخاه العرب استكثارا للألفاظ التي تؤدي ما يقصد من المعاني ، وبها يتنوفون في الأساليب ، ويزينون ضروب التعبير ، ويكثرون من وجوه الدلالة ، انظر الى امريء القيس تجده كنى عن المرأة ببيضة الخدر في قوله :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

وإلى حميد بن ثور نراه كنى عنها بالسّرحة في قوله :

أبى الله إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه (١) تروق

فيا طيب رياها وبرد خلالها

اذا حان من حامي النهار وديق (٢)

وإلى النبي عليه‌السلام وقد كنى عنها بالقارورة في قوله لأنجشه وهو يحدو بنسائه : «رفقا بالقوارير» ، وبها ينصبون الدليل على كل قضية ويقيمون البرهان على كل مدعي ، انظر الى المتنبي وهو يذكر وقيعة سيف الدولة بأعدائه :

فمسّاهم وبسطهم حرير

وصبّحهم وبسطهم تراب

تجده قد أراد أن يبين أنه قهرهم وأذلهم بعد أن كانوا أعزة ، لكنه تلطف في التعبير ونصب الدليل على صحة دعواه ، فأشار الى عزتهم أولا بافتراشهم بسط الحرير ، ثم الى ذلتهم بعد بافتراشهم بسط التراب.

وتأسل قول أبي تمام يمدح أبا سعيد بن يوسف الثغري ويذكر كرمه :

أبين فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد

__________________

(١) شجر عظيم شائك.

(٢) شدة الحر في الهاجرة.

٣٠٨

تره قد أبان كرم أبي سعيد بغاية الوضوح من حيث أبان أن إبله أبت إلا أن تزور الكرماء ، ويكفيها أن تزور من بينهم أبا سعيد.

وليس بالخفي ما للكناية من فضيلة في إلباس المعقول ثوب المحسوس ، أتراك تشاهد لطف التعبير ودقة التصوير اذا تأملت الكناية بحمالة الحطب عن النمامة التي تفسد ذات البين وتهيج الشر في قوله تعالى يصف امرأة أبي لهب : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(١) فإنك وأنت تقرؤها يخيل اليك أنها ممسكة حطبها بيديها ، ومشعلة نارا لتوقد العداوة والبغضاء بين قوم ، وتؤلب بعضهم على بعض.

الى ما فيها من حيلة بترك بعض ألفاظ الى ما هو أجمل في القول وآنس للنفس ، ألا ترى اليهم وهم يكنون عن الموت بقولهم : «فلان قد استوفى أكله» أو بقولهم : «لحق باللطيف الخبير» وعن الصحراء بالمفازة وهي مهلكة.

الى ما فيها من حسن التلطف في إطراح الألفاظ المستهجنة كما جاء في القرآن الكريم من الكنايات التي تتعلق بالنساء كالنهي عن أخذ المهور مع ذكر السبب في قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)(٢) ، وقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٣).

الى أنها قد تكون طريقا من طرق الايجاز والاختصار كقوله تعالى كناية عن كثير من الأفعال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٤) وقولهم كناية عن الجامع لكل شيء (هو سفينة نوح).

وأنك لترى فيها من العجب العجاب ومن غريب الصنعة ومن بديع السحر اذا كانت في باب الصناعات الخسيسة والأشياء الحقيرة بذكر منافعها ، كما قيل لحائك : ما صناعتك؟ قال : زينة الأحياء ، وجهاز الموتى.

وقال ابن باقلاني (بائع فول) :

أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره

وإن نزلت يوما فسوف تعود

ترى الناس أفواجا الى ضوء ناره

فمنهم قيام حوله وقعود

__________________

(١) سورة المسد الآية ٤.

(٢) سورة النساء الآية ٢١.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٧.

(٤) سورة المائدة الآية ٧٩.

٣٠٩

نموذج أول

بيّن الكناية وأنواعها باعتبار المكنى عنه وباعتبار الوسائط فيما يلي :

١ ـ وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

٢ ـ قال الحجاج : إن أمير المؤمنين نثر كنانته عودا عودا فوجدني أمرها ضرب عودا وأصابها مكسرا فرماكم بي ، والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم غرائب الإبل.

٣ ـ ولا زال بيت الملك فوقك عاليا

تشيد أطناب له عمود

٤ ـ تقول التي من بيتها خف محملي

عزيز علينا أن نراك تسير

٥ ـ أفاضل الناس أغراض لذا الزمن

يخلو من الهم أخلاهم من القطن

٦ ـ يبيت بمنجاة من اللؤم بيتها

اذا ما بيوت بالملامة حلت

الاجابة

١ ـ في مخضوب البنان كناية عن موصوف ، وهي المرأة ، إذ هذه من صفاتها الخاصة بها ، من نوع الإيماء لأن الذهن ينتقل الى ذلك بلا واسطة.

٢ ـ في هذه العبارة كنايات ثلاث :

(أ) ففي قوله : نثر كنانته الى قوله فرماكم بي كناية عن صفة هي البحث والتفتيش عن الأصلح حتى عثر عليه وهي من نوع التلويج لأن الذهن ينتقل من نثر الكنانة الى البحث والتفتيش عن أصلح سهامها ومن ذا الى العثور على ذلك الأصلح ومن ذا الى اختياره من بينها ثم إرساله اليهم لتدبير شئونهم.

(ب) وفي قوله : لأحزمنكم حزم السلمة كناية عن صفة هي الضغط عليهم والبطش بهم من نوع الإيماء.

(ج) وفي قوله : لأضربنكم الخ كناية عن صفة هي القسوة في معاملتهم والتنكيل بهم ، وهي من نوع الإيماء.

٣ ـ في هذا البيت كناية عن نسبة هي اتصافه بالملك ، لأن الذهن ينتقل من ملازمته بيت الملك وحلوله في ذلك المكان الى كونه ملكا ، وهي من نوع الإيماء.

٣١٠

٤ ـ كنى أبو نواس بقوله من بيتها خف الخ عن موصوف ، وهي امرأته ، لأن الراحلة إنما تخف من بيت صاحبها في العادة ، فهي كناية عن موصوف ، وهي امرأته لأن الراحلة إنما تخف من بيت صاحبها في العادة فهي كناية عن موصوف من نوع الإيماء لعدم الوسائط.

٥ ـ في قوله : أخلاهم من الفطن كناية عن موصوف وهم الجهال ، وهي من نوع الإيماء.

٦ ـ في هذا البيت كناية عن نسبة هي إثبات النزاهة لها ونفي الفجور عنها ذاك أنه نبه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنها ، ومن ذا الى براءتها من كل ما يشينها ، وهي من نوع الايماء.

نموذج ثان

بيّن أنواع الكناية من حيث المكنى عنه ومن حيث الوسائط :

١ ـ قال زياد بن أبيه : وإني لأقسم بالله لآخذنّ الولي بالمولى ، والمقيم بالظاعن ، والمطيع بالعاصي ، حتى يلقي الرجل قاتل أبيه فيقول : «انج سعد فقد هلك سعيد» (١) ، أو تستقيم لي قناتكم (٢).

٢ ـ (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)(٣).

٣ ـ وأقبلت يوم جد البين في حلل

سود تعض بنان النادم الحصر (٤)

٤ ـ أريد بسطة كفّ أستعين بها

على قضاء حقوق للعلا قبلي

٥ ـ لا أمتع العوذ بالفصال ولا

أبتاع إلا قريبة الأجل (٥)

٦ ـ فصبّحهم وبسطهم حرير

ومسّاهم وبسطهم تراب

__________________

(١) مثل أصله أسعد أم سعيد يضرب للفشل أو الظفر بالبغيه.

(٢) القناة الرمح ، والعصا المستوية.

(٣) الدسر جمع دسار وأصله خيط من ليف تشد به ألواح السفينة (سورة القمر).

(٤) الحصر : البخيل.

(٥) العوذ جمع عائذ الحديثة النتاج من الظباء والابل ، والفصال جمع فصيل ولد الناقة.

٣١١

الاجابة

١ ـ في هذه المقالة كنايات عدة ، فقد كنى بقوله : انج سعد الخ ، عن الفرار والهرب ، وهي نوع من التلويح لكثرة الوسائط فيها إذ ينتقل الذهن من قولهم هذا الى السبب الباعث على ذلك ، وهو الخوف من الفتك بهم ، ومن ذا الى أخذ عدتهم للهرب ، تباعدا عن التنكيل بهم ، الى الهرب وهو المراد ، وكنى باستقامة القناة عن حسن سيرهم واعتدالهم في أمورهم ، وهي كناية عن صفة من نوع الرمز.

٢ ـ كنى الله تعالى بذات الألواح والدسر عن السفينة ، إذ ذاك وصف خاص بها ، فهي كناية عن موصوف من نوع الإيماء ، وكنى بقوله : تجري بأعيننا عن شمول لطفه وعنايته بها ، وهي كناية عن صفة من نوع التلويح لوجود الوسائط إذ ينتقل الذهن من النظر اليها ، الى مراقبتها ، ومن ذا الى الاهتمام بها ، ومنه الى العناية بها.

٣ ـ كنى بعض بنان الندم عن الأسف على فوات المرغوب فيه ، فهو كناية عن صفة من نوع الإيماء.

٤ ـ كنى ببسطة الكف عن الغنى ، فهو كناية عن صفة من نوع الإيماء ، إذ ينتقل الذهن من بسطة الكف ، الى مثلها بالمال ، الى الغنى.

٥ ـ في هذا البيت كنايتان عن صفتين من نوع التلويح ، الأولى كناية عن نحو الفصال ، والثانية كناية عن أنه مضياف ، ذاك أن الذهن ينتقل من عدم امتاعها الى أنه لا يبقى لها فصالها لتأنس بها ويحصل لها الفرح الطبيعي بالنظر اليها ، ومن ذا الى نحرها ، وكذا ينتقل من قرب أجلها الى نحرها ، ومن ذا الى أنه مضياف.

٦ ـ في هذا البيت كنايتان عن صفتين ، وهما العز والذل ، من نوع التلويح إذ كنى بكون بسطهم حريرا عن عزتهم إذ ينتقل الذهن من إحرازهم الرياش والأثاث الفاخر الى غناهم ومن ذا الى كونهم أعزاء ، وكنى بكون بسطهم ترابا عن ذلهم ، إذ ينتقل الذهن من افتراش التراب الى ضياع ما يملكون ، ومن ذا الى كونهم أذلاء.

٣١٢

تمرين أول

بيّن الكناية باعتبار المكنى عنه وباعتبار الوسائط فيما يلي :

١ ـ بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا (١)

٢ ـ أبيني أفي يميني يديك جعلتني

فأفرح أم صيرتني في شمالك (٢)

٣ ـ (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(٣)

٤ ـ (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ)(٤)

٥ ـ روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد فقالت : أشكو اليك قلة الفأر في بيتي فقال : ما أحسن ما روت عن حاجتها ، املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا.

٦ ـ ومن دعا الناس الى ذمه

ذموه بالحق وبالباطل

٧ ـ تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو

ق اليها حيث النحول

تمرين ثان

١ ـ قوم ترى أرحامهم يوم الوغى

مشغوفة بمواطن الكتمان

٢ ـ وإن ذكر المجد ألفيته

تأزر بالمجد ثم ارتدى

٣ ـ ولست بخالع درعي وسيفي

الى أن يخلع الليل النهار

٤ ـ (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(٥)

٥ ـ تعرضت عجوز لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصي ، فقال لها : ألطفت في السؤال ، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا.

٦ ـ اللابس المجد لم تنسج غلائله

إلا يد الصانعين السيف والقلم

٧ ـ ولما سقط في أيديهم

__________________

(١) الصنائع : جمع صنيعة وهي الاحسان ، والمرابع : جمع مربع الموضع يتربعون فيه زمن الربيع ، والمواضي العيوف.

(٢) فان الشيء النفيس يحتفظ به في اليد اليمنى عادة ، والذي لا يؤبه له يوضع في اليسرى.

(٣) ينشأ يربى ، والخصام الجدل (سورة الزخرف).

(٤) سورة البقرة الآية ١٧٤.

(٥) سورة القصص الآية ٣٥.

٣١٣

نموذج عام في البيان

١ ـ جاء في بعض الجرائد أن ظفر الزعيم سعد زغلول في الانتخابات يسيل له لعاب ساسة الغربيين ، فجميع الروابي التي نشهدها في جميع الأقطار لا تبلغ سفح هذا الجبل.

٢ ـ وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

الاجابة

١ ـ في جملة يسيل الخ ، كناية عن صفة هي الشوق اليه من نوع التلويح ، إذ ينتقل الذهن من سيل اللعاب الى الشيء ، الى شهوته وميل النفس اليه ومحبتها له ، وفي الروابي استعارة تصريحية أصلية مجردة فقد شبه الزعماء بالروابي بجامع العظم وجلالة القدر في كل والقرينة حالية ، وفي قوله : تبلغ سفح هذا الجبل ، استعارة تصريحية مرشحة بكلمة سفح والقرينة حالية.

٢ ـ في نقض النأي مجاز عقلي علاقته السببية لأن البعد سبب النقض وخلف العهد ، وفي العهد استعارة بالكناية حيث شبه العهد بالجبل بجامع أن كلا يفيد الربط ، واستعير لفظ المشبه به للمشبه ، ثم حذف لفظ المشبه ورمز اليه بشيء من لوازمه ، وهو النقض ، على سبيل الاستعارة المكنية الأصلية ، وإثبات النقض للعهد استعارة تخييلية وهي قرينة المكنية ، وفي البنان مجاز مرسل علاقته الجزئية لأن التي تخضب هي الكف كلها ، وفي يمين مجاز مرسل علاقته السببية إذ المراد وفاء باليمين وإنفاذ لما حلفت عليه ، وفي مخضوب البنان كناية عن موصوف وهي المرأة من نوع الإيماء والإشارة ، والشطر الثاني كله استعارة تمثيلية ، لأنه جار مجرى المثل.

مزايا دراسة البيان في صوغ مختلف الأساليب

رأيت فيما سلف ألوانا مختلفة من التعبير وضروبا متنوعة من البيان ، يستطيع المتكلم أن يجعلها قبلة أنظاره اذا أراد صياغة المعاني في القوالب التي يراها أليق بغرضه وأبلغ لمقصده ، ويحوك بها ما شاء أن يحوكه من شريف المعاني التي تجيش بخاطره وتعلق بصدره فإذا طرق باب المديح وأراد وصف ممدوحه بالكرم والجود أمكن أن ينحو نحو مسلم بن الوليد حين مدح زيد بن مسلم الحنفي من وائل فقال :

٣١٤

ولو أن في كبد السماء فضيلة

لسما لها زيد الجواد فنالا

يا زيد آل يزيد ذكرك سؤدد

باق وقربك يطرد الإمحالا

نفحات كفك يا ذؤابة وائل

تركت عليك الراغبين عيالا

فيؤدي المعنى على حقيقته دون مبالغة ولا إغراق ، أو حين يمدح جعفر بن يحيى البرمكي فيقول :

تداعت خطرب الدهر عن جابر جعفر

وأمسك أنفاس الرغائب سائله

هو البحر يغشى سرة الأرض سيبه

وتدرك أطارف البلاد سواحله

فلو لم يكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

فهو قد شبهه بالبحر اللجي ، يعم فيضه الآفاق ، وتدرك سواحله أطراف البلاد ، أو نحو أبي نواس وهو يمدح الخطيب :

أنت الخطيب وهذه مصر

فتدفقا فكلاكما بحر

ويحق لي اذا صرت بينكما

ألا يحل بساحتي فقر

فجعله كالبحر المتدفق الذي اذا حل ببلدة عمها الخصب وفارقها الجدب ، أو نحو قول البحتري يمدح يوسف بن محمد :

أدراهم الأولى بداره جلجل

سقاك الحيا روحاته وبواكره

وجاءك يحكي يوسف بن محمد

فروتك رباه وجادك ماطره

إذ لم يشأ إلا أن يجعل الغيث يشبهه في فيضه ، وبالغ في التشبيه ، وافتن في الأسلوب ، وعكس ما ألفه الناس من تشبيه الجواد بالغيث والبحر ، ثم انظر إلى قول الآخر :

إذ ما رأيت رأيت البحر يبسط كفه

فلا تخش إقلالا من الدهر أو عدما

فقد لجأ في وصف ممدوحه بالكرم الى الاستعارة المصرحة وهي كما تعلم أبلغ من التشبيه وأعلى كعبا لما فيها من دعوى الاتحاد بين المشبه والمشبه به ، وقول أبي العتاهية :

للجود باب في الأنام ولم تزل

يمناك مفتاحا لذاك الباب

فقد جعل للجود بابا مفتاحه في يد الممدوح اليمنى على سبيل الاستعارة المكنية وقول المتنبي في مدح كافور :

٣١٥

قواصد كافور توارك غيره

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فصوّر لك ما يلقاه قاصدو ممدوحه من الغنى والثروة ، وأن من لا يبغي سواه ، كما أن من قصد البحر تأبى همته أن ينظر الى الجداول والغدران.

وهذه استعارة تمثيلية لها أثرها من البهجة والجمال الذي تحس به وتتذوقه ، وقول أبي نواس في الفضل بن الربيع :

وكلت بالدهر عينا غير غافلة

من جود كفك تأسو كل ما جرحا

فأضاف الجود الى الكف ، والجود ينسب عادة الى الممدوح من قبيل إضافة ما للكل الى الجزء على سبيل المجاز المرسل ، وقول مسلم :

تظلم المال والأعداء في يده

لا زال للمال والأعداء ظلاما

إذ كنى عن كثرة عطاياه وقتاله للأعداء وإفنائه إياهم بالتظلم من يده.

وللكناية أثرها البعيد في تثبيت المعنى في النفس وحسن تصويرها ، فهي تهش له وترتاح.

فها أنت ذا قد رأيت في وصف الجود ضروبا وألوانا مختلفة من التعبير وفنونا شتى من القول ، وهكذا ينفسح مجال الكلام أمام البليغ ، وتتشعب طرقه في أي معنى من المعاني التي يقصد القول فيها ، ولكن بعضها كما رأيت أبلغ من بعض بالنظر الى مقتضيات الأحوال ، فما يصلح لمقام لا يصلح مثله لآخر ، وهذا هو سر البلاغة ، فقد يكون المقام داعيا الى التشبيه لا الاستعارة ، وقد يكون الأنسب العكس ، فقد يكون المقام يدعو الى الكناية.

فتلك الصور المختلفة والأساليب المتنوعة هي موضوع علم البيان الذي درست مسائله ، فإذا أنت جعلتها رائدك في صوغ المعاني ، هدتك الصراط المستقيم ، وبلغت بك الغاية التي تسعى اليها.

ولكن دراسة العلم وحدها ، والوقوف على شواهد يسيرة من كلام الفصحاء والبلغاء لا يبلغان بك الى المقصد ، كما لو درست قواعد الحساب مثلا وحللت مسائل قليلة لكل قاعدة ، فإن هذا لا يكسبك الملكة التي بها تستطيع أن تحل كثيرا من المسائل ، بل لا بد للملكة من التمرين وممارسة حل كثير من المسائل المختلفة ، حتى تتكون لديك.

٣١٦

فبلاغة القول ورشاقة التعبير ورصانته وإصابة المرمى من نفس السامع تحتاج الى إدمان القراءة في كتب الأدب ، والوقوف على متنوع الأساليب ، من أقوال الكتاب والشعراء والخطباء ، وحفظ ما يمكنك حفظه من منثورهم ومنظومهم.

ولا نرى كاتبا بليغا ولا شاعرا مجيدا إلا جال في مختلف الأساليب الشعرية والنثرية جولة صادقة ، وروى عن عذبها ، وغاص في بحارها ، واستخرج من دررها.

فعليك أيها القارىء من الإكثار من القراءة فيما خلفه لنا العرب من تراث أدبي من النظيم والنثير في مختلف العصور ، فإنك إن فعلت ذلك ظفرت بملكة مواتية وحظ من الأدب عظيم.

٣١٧

علم البديع

البديع لغة : الجديد المخترع لا على مثال سابق ولا احتذاء متقدم ، تقول : بدع الشيء وأبدعه ، فهو مبدع ، وفي التنزيل : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)(١).

واصطلاحا : علم تعرف به الوجوه والمزايا التي تكسب الكلام حسنا وقبولا بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي يورد فيها ووضوح الدلالة على ما عرفت في العلمين السالفين (٢).

(واضعه) أول من دوّن قواعده ووضع أصوله عبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ٢٧٤ ه‍ ، فقد استقصى ما في الشعر من المحسنات وألف كتابا ترجمه باسم «البديع» ذكر فيه سبعة عشر نوعا وقال : «ما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني الى تأليفه مؤلف ومن رأى إضافة شيء من المحاسن اليه فله اختياره».

ثم ألّف معاصره جعفر بن قدامه كتابا سماه «نقد قدامه» ذكر فيه ثلاثة عشر نوعا زيادة على ما أملاه ابن المعتز.

ثم جاءت التآليف تترى ، فألف فيه أبو هلال العسكري وجمع سبعة وثلاثين نوعا ، ثم ابن رشيق القيرواني فجمع مثلها في كتاب «العمدة» ، ثم جاء شرف الدين النيفاشي فبلغ بها السبعين.

ثم ألّفت البديعيات ، فألف زكي الدين بن أبي الأصبع بديعيته ، وأوصل الأنواع الى التسعين ، ثم جاء بعده صفي الدين الحلي فأوصلها الى مائة وأربعين ، ونظم قصيدة ميمية في مديح النبي عليه‌السلام ، وذكر اسم كل نوع في بيت.

__________________

(١) سورة الاحقاف الآية ٩.

(٢) أي فالمستفاد من علم البديع الحسن العرض ، والمستفاد من العلمين السالفين الحسن الذاتي.

٣١٨

ومن بعده جاء عز الدين الموصلي فذكر مثل ما ذكره سالفه ، مع زيادة يسيرة من ابتكاره ، وهكذا ارتقت التآليف صعدا وزيدت الأنواع وكبرت البديعات في هذا العلم كبديعة ابن حجة الحموي وقد شرحها في كتاب سماه «خزانة الأدب» وبديعة عبد الغني النابلسي وقد جاوز بها المائة والستين نوعا.

أقسام المحسنات

تنقسم المحسنات الى قسمين :

١ ـ محسنات معنوية ، وهي التي يكون التحسين بها راجعا الى المعنى أولا وبالذات ، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين (١) اللفظ أيضا كالطباق بين يسرّ ويعلن في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٢) ، وعلامتها أنه لو غير اللفظ بما يرادفه فقيل مثله : يعلم ما يخفون وما يظهرون ، لم يتغير المحسن المذكور.

٢ ـ محسنات لفظية ، وهي التي يكون التحسين بها راجعا الى اللفظ أصالة وإن حسنت المعنى أحيانا تبعا كالجناس في قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)(٣) ، فالساعة الأولى يوم القيامة والساعة الثانية واحدة الساعات الزمنية ، وعلامتها أنه لو غير اللفظ الثاني الى ما يرادفه زال ذلك المحسن ، فلو قيل : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا قليلا لضاع ذلك الحسن.

المحسنات المعنوية

المحسنات المعنوية كثيرة ، لكنا رأينا ألا نذكر منها إلا ما اشتهر أمره ، وأهم الناثر والشاعر علمه :

__________________

(١) كما سيأتي في العكس في قولهم عادات السادات سادات العادات فان في اللفظ شبه الجناس اللفظي لاختلاف المعنى ، ففيه التحسين اللفظي والغرض الأصلي الاخبار بعكس الاضافة مع وجود الصحة.

(٢) سورة البقرة الآية ٧٧.

(٣) سورة الروم الآية ٥٥.

٣١٩

الطباق ـ المطابقة ـ التكافؤ ـ التضاد

هو لغة الجمع بين الشيئين ، واصطلاحا الجمع بين معنيين متقابلين ، سواء أكان ذلك التقابل تقابل التضاد أو الايجاب والسلب أو العدم والملكة أو التضايف ، أو ما شابه ذلك ، وسواء كان ذلك المعنى حقيقيا أو مجازيا (١).

وهي تنقسم أولا إلى :

(أ) مطابقة بلفظين من نوع واحد ، سواء أكانا اسمين ، نحو : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٢) ، أم فعلين نحو : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)(٣) ، وقوله عليه‌السلام للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع وتلقون عند الطمع» ، أم حرفين نحو : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٤) ، وقول القائل :

ركبنا في الهوى خطرا فإما

لنا ما قد ركبنا أو علينا

(ب) مطابقة بلفظين من نوعين نحو : وأحيي الموتى بإذن الله ، وقوله :

قد كان يدعى لابس الصبر حازما

فأصبح يدعى حازما حين يجزع

والتقابل إما ظاهر كما سبق وإما خفي نحو : أشداء على الكفار رحماء بينهم فإن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة ، وقول أبي تمام :

ما الوحش إلا أن هاتا أو إنس

قنى الخط إلا أن تلك ذوابل

لما في هاتان من القرب وتلك من البعد.

ثانيا الى :

(أ) طباق الايجاب كما سلف لك من الأمثلة.

(ب) طباق السلب ، وهو أن يجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي ،

__________________

(١) مثله أو من كان ميتا فأحييناه.

(٢) سورة الكهف الآية ١٨.

(٣) سورة آل عمران الآية ٢٦.

(٤) لأن في اللام معنى المنفعة وفي على معنى المضرة ، لأن اللام تشعر بالملكية المؤذنة بالانتفاع وعلى تشعر بالعلو الدال على التحمل المؤذن بالتضرر (سورة البقرة).

٣٢٠