علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

أو مبينا بالمشبه صريحا ، أو ضمنا كقوله (١) تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٢) ، فقد بيّن الخيط الأبيض بالفجر صريحا ، وفي ضمنه تبيين الخيط الأسود بالليل ، فكل هذا تشبيه محذوف الأداة.

قال الإمام عبد القاهر في بيان هذا : اذا دلت القرينة على تشبيه شيء ، فهذا على ضربين :

١ ـ أحدهما أن يسقط ذكر المشبه من البين حتى لا يعلم من ظاهر الحال أنك أردته ، كقولك : عنت لنا ظبية ، وأنت تريد امرأة ، ووردنا بحرا ، وأنت تريد الممدوح ، وهذا تقول : إنه استعارة ولا تتحاشى البتة.

٢ ـ أن يكون المشبه مذكورا أو مقدرا ، وحينئذ فالمشبه به إن كان خبرا أو في حكم الخبر ، فالوجه أن يسمى تشبيها ولا يسمى استعارة ، لأن الاسم اذا وقع هذه المواقع كان الكلام موضوعا لإثبات معناه لما يعتمد عليه ، أو نفيه عنه فإذا قلت : زيد أسد ، فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد ، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له ، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه ، فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها إذا كان إنما جاء ليفيده ، بخلاف الحالة الأولى ، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء ، كما اذا قلت :

جاءني أسد ، ورأيت أسدا ، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد والرؤية واقعا منك عليه لا لإثبات معنى الأسد لشيء ، فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير لا يعلم إلا بعد الرجوع الى شيء من النظر والتأمل.

(إذا افترقت الصورتان هذا الافتراق ناسب أن يفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة بأن نسمي احداهما تشبيها ، والأخرى استعارة).

__________________

(١) وقول بعضهم :

فما زلت في ليلين شعر وظلمة

وشمسين من خمر ووجه حبيب

وقول شوقي :

ودخلت في ليلين فرعك والدجي

ولثمت كالصبح المنور فاك

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٧.

٢٦١

ثم قال : فإن أبيت إلا أن تطلق اسم الاستعارة على هذا القسم ، فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه ، وذلك كأن يكون المشبه به معرفة كقولك : زيد الأسد ، فإنه يحسن أن يقال : زيد كالأسد ، وإن حسن دخول بعضها دون بعض هان الخطب في إطلاقه ، وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة كقولك : زيد أسد ، فإنه لا يحسن أن يقال : زيد كأسد ، ويحسن أن يقال : كأن زيد أسدا ، ووجدته أسدا ، وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير صورة الكلام كان إطلاقه أقرب لغموض تقدير أداة التشبيه فيه ، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به كقولك : هو بدر يسكن الأرض ، وهو شمس لا تغيب ، وكقوله :

شمس تألق والفراق غروبها

عنا وبدر والصدود كسوفه

فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة إلا بتغيير صورته كقولك : هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض ، وكالشمس إلا أنه لا تغيب ، وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها ، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه. انتهى بتصرف واختصار كثير.

والتشبيه الذي يجب تناسيه هو الذي من أجله وقعت الاستعارة لا كل تشبيه فليس بمحظور أن تقول : رأيت أسدا في الحمام مثل الفيل في الضخامة ، ولا : جاورت ليثا كأنه بحر متلاطم الأمواج.

ومن اشتراط ادعاء دخول المشبه في المشبه به يتضح لك أنه لا بد أن يكون المشبه به كليا كاسم الجنس وعلم الجنس ، فلا تتأتى الاستعارة في الأعلام الشخصية لعدم تصور الشركة فيها حتى يمكن ادعاء دخول شيء في حقائقها إلا اذا تضمنت أوصافا بها يصح أن تعتبر كأنها أجناس كتضمن حاتم الجود ، ومادر البخل ، وقسّ الفصاحة ، وباقل العي والفكاهة ، فتقول : رأيت اليوم حاتما أو قسا ، وتدعي كلية حاتم ، أو قسّ ، ودخول المشبه في جنس الجواد والفصيح ، حتى كأن حاتما موضوع لمن اتصف بالجود سواء أكان هو ذلك الطائي المشهور أم غيره ، وإن كان إطلاقه على الطائي حقيقة وعلى غيره ادعاء ، وكذا القول في قسّ ، وكل ما كان من هذا الضرب فسبيله هذه السبيل.

٢٦٢

المبحث السادس في الاستعارة

أمجاز لغوي هي أم مجاز عقلي

يرى الجمهور أن الاستعارة مجاز لغوي وأيده الإمام في «أسرار البلاغة» ، وحجتهم على ذلك أنا إذا أجرينا اسم الأسد على الرجل الشجاع ، فإننا لا ندعي فله صورة الأسد وشكله وعبالة عنقه ومخالبه ، ونحو ذلك من الأوصاف الظاهرة التي تبدو للعيون وتشاهد بالحواس ، وإنما ندعي له ذلك من أجل اختصاصه بالشجاعة التي هي من أخص أوصاف الأسد وأمكنها.

ومن الجلي الواضح أن اللغة لم تضع الاسم لها وحدها ، بل لها في مثل تلك الجثة وهاتيك الصورة والهيئة ، ولو كانت وضعته للشجاعة وحدها لكان صفة لا اسما ، ولكان كل شيء يبلغ في شجاعته الى هذا الحد جديرا بهذا الاسم على جهة الحقيقة ، لا على طريق التشبيه والتأويل.

ويرى آخرون أنها مجاز عقلي بمعنى أن التصرف (١) فيها في أمر عقلي لا لغوي واختاره الإمام في «دلائل الإعجاز» ودليلهم على ذلك أنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به ، لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كيزيد ويشكر تستحق هذا الاسم ، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة ، لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه.

وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى كان مستعملا فيما وضع له ، ومن ثم صح التعجب في قول ابن العميد (٢) يصف غلاما له جميلا :

قامت تظللني من الشمس

نفس أعز عليّ من نفسي

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

كما صح النهي عنه في قول الحسن بن طباطبا :

__________________

(١) في هذا إشارة الى أنه لا يراد بالعقل هنا المجاز العقلي الآتي ، إذ هنا المجاز في الكلمة ، وفيما سيأتي المجاز في الاسناد ، بل المراد بالعقلي المتصرف فيه هو المعاني الحقيقية والتصرف فيها جعل بعضها نفس البعض الآخر ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة.

(٢) هو أبو الفضل محمد بن الحسين كاتب «ديوان الرسائل» للملك نوح بن نصر من الدولة البويهية.

٢٦٣

يا من حكى الماء فرط رقته

وقلبه في قساوة الحجر

يا ليت حظي كحظ ثوبك من

جسمك يا واحدا من البشر

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر (١)

فلو لا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقي لما كان لهذا التعجب وجه ، إذ ليس ببدع ولا منكر أن يظلل إنسان حسن الوجه إنسانا ويقيه وهج الشمس بشخصه ، ولو لا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى لأن الكتان إنما يسرع اليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي لا إنسانا بلغ الغاية في الحسن.

وأنت إذا أنعمت النظر رأيت حجة الجمهور دامغة وأنها أحرى بالقبول ، بيان هذا أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يخرجه عن كونه مستعملا في غير ما وضع له ، وأما صحة التعجب والنهي عنه فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه به عين المشبه حتى تتم المبالغة ، إذ من الواضح أن أسدا في قولك : رأيت أسدا ، مستعمل في الشجاع ، والمعنى الموضوع له الأسد الحقيقي لا الادعائي ، فكأنك ادعيت أن للأسد صورتين ، إحداهما متعارفة وهي التي لها الإقدام والبطش في الهيئة المعروفة للحيوان المعروف ، وثانيتهما غير متعارفة وهي التي لها الجرأة والقوة ، لكن لا مع تلك الصورة ، بل مع صورة أخرى على النحو الذي ادعاه المتنبي في عد نفسه وجماعته من جنس الجن ، وعد جماله من جنس الطير حين يقول :

نحن ركب ملجن في زي ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

مستشهدا لدعواه بما يتخيل عرفا من نحو حكمهم اذا رأوا إنسانا لا يقاومه أحد ، إنه ليس بإنسان ، وإنما هو أسد ، أو هو أسد في صورة إنسان.

والقرينة التي تنصب في الكلام تنفي المتعارف الذي يسبق الى الفهم ، وهو المعنى الأول ، وتعين ما أنت تستعمل له الأسد ، وهو ثاني المعنيين.

__________________

(١) البلى من بلى الثوب وقدم ، والغلالة ثوب صغير صبق الكمين كالقميص ، وزررت القميص عليه شددت أزراره ، وقد قيل : إن هذا تشبيه لا استعارة ، لأن المشبه مذكور ، وهو الضمير في : غلالته ، وأزراره.

٢٦٤

(تنبيه) الفرق بين الاستعارة والكذب من وجهين :

(أ) بناء الدعوى فيها على التأويل ، أي تأويل دخول المشبه في جنس المشبه به.

(ب) نصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها ، أما الكاذب فيتبرأ من التأويل ، ويركب كل صعب وذلول لترويج ما يدعيه وإيهام أن ليس الحق إلا ما يقول ولا ينصب دليلا على خلاف ما يزعم ، وعلى هذا فليس ببدع أن تقع في كلام الله تعالى وكلام رسوله.

المبحث السابع في قرينة الاستعارة

الاستعارة نوع من المجاز ، فلا بد لها من قرينة تفصح عن الغرض ، وترشد الى المقصود ، ويمتنع معها إجراء الكلام على حقيقته ، وهي قسمان :

١ ـ حالية ، تفهم من سياق الحديث ، نحو : رأيت قسا يخطب.

٢ ـ مقالية ، سواء أكانت معنى (١) واحدا ، نحو : يرمي بالسهام ، من قولك : لرأيت أسدا يرمي بالسهام ، أو أكثر ، نحو :

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإن في إيماننا نيرانا (٢)

فكل من العدل والإيمان باعتبار تعلق الإعاقة به قرينة على أن الغرض من النيران السيوف ، إذ هو دليل على أن جواب الشرط محذوف ، يقدر بنحو :

تحاربون أو تلجئون الى الطاعة.

أو معاني ملتئمة ، مربوطا بعضها ببعض ، بحيث تكون كلها قرينة ، لا كل واحد منها ، كما في قول البحتري :

وصاعقة من نصله تنكفي بها

على أرؤوس الأقران خمس سحائب

فإذا نظرت الى ما صنع رأيته قد استعار السحائب الخمس لأنامل يمين الممدوح

__________________

(١) سواء أكان من ملائمات المشبه كما في التصريحية ، أم من ملائمات المشبه به ، كما في المكتبة.

(٢) المعنى أنكم إن كرهتم العدل والانصاف وملتم الى الجور والخلاف فان في أيدينا سيوفا تلمع كشعل النيران نلجئكم بها الى الطاعة.

٢٦٥

كما هي عادتهم في تشبيه الجواد بالبحر الخضم طورا ، وبالسحاب الهطال طورا آخر ، وتخيل لما أراد ، فذكر أن هناك صاعقة وبيّن أنها من نصل سيفه ، ثم قال إنها على رؤوس الأقران تفتك بهم ، ثم قال : خمس ، وهي عدد أنامل اليد ، فاستبان للسامع من كل هذا غرضه ، واتضح له مقصده.

المبحث الثامن في انقسام الاستعارة الى عنادية ووفاقية

تنقسم الاستعارة باعتبار الطرفين الى قسمين :

١ ـ وفاقية ، وهي التي يمكن اجتماع طرفيها المستعار منه والمستعار له في شيء واحد ، وسميت بذلك لما بين طرفيها من الوفاق.

٢ ـ عنادية ، وهي التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد ، وسميت بذلك لتعاند الطرفين ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(١) أي من كان ضالا فهديناه ، استعير الإحياء من معناه الحقيقي وهو جعل الشيء حيا للهداية التي هي الدلالة على الطريق الموصل الى المطلوب ، والاحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما إذ لا يوصف الميت بالضلال.

ومن العنادية الاستعارة التهكمية والتمليحية (٢) ، وهما ما نزل فيهما التضاد منزلة التناسب لأجل التهكم والاستهزاء ، أو لأجل الملاحة والظرافة ، نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣) استعيرت للبشارة ، وهي الخبر بما يسر للإنذار الذي هو ضدها بإدخاله في جنس البشارة هزؤ وسخرية بهم ، ونظيره كلمة نعاتبه في قول بشار :

إذ الملك الجبار صعر خده

أتينا اليه بالسيوف نعاتبه (٤)

والتحية في قول عمرو بن معد يكرب (تحية بينهم ضرب وجيع) والثواب في قولهم ما ثوابه إلا السيف.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٢٢.

(٢) الفارق بينهما أنه إن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه الهزؤ والسخرية بالمقول فيه كانت تهكمية وإن كان الغرض بسط السامعين وإزالة السآمة عنهم بواسطة الاتيان بشيء مستملح مستظرف كانت تمليحية.

(٣) سورة الانشقاق الآية ٢٤.

(٤) صعر خده : أماله عن الناس كبرا.

٢٦٦

ومنها أيضا استعارة اسم الموجود للمعدوم الذي بقيت آثاره الجميلة أو المعدوم أو لا شيء للموجود ، اذا لم تنتج منه فائدة ، ولم يحل منه بطائل من قبل أنه شارك المعدوم في عدم غنائه ونفعه كما قال أبو تمام :

هب من له يريد حجابه

ما بال لا شيء عليه حجاب

المبحث التاسع في انقسامها باعتبار الجامع الى داخل وخارج

تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع وهو الوجه الذي يقصد اشتراك الطرفين فيه الى قسمين :

١ ـ ما يكون الجامع فيها داخلا في مفهوم الطرفين كاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب :

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم (١)

إذ النثر أن تجمع أشياه في كف أو وعاء ، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ولا نظام ، وقد استعاره لما يتضمنه ذلك التفرق على الوجه المخصوص وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة بلا ترتيب ولا نظام ، ونسبه الى الممدوح لأنه سببه.

٢ ـ ما لا يكون داخلا في مفهومها ، كقولك : وردت بحرا يتهلل وجهه ، وأنت تريد إنسانا جوادا ، فالجامع ، وهو الجود ، غير داخل في مفهومها.

المبحث العاشر في انقسامها باعتبار الجامع أيضا الى عامية وخاصية

تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع الى :

١ ـ عامية مبتذلة لاكتها الألسن لظهور الجامع فيها ، كقولك : رأيت شمسا ووردت بحرا ، وأنت تعني إنسانا جميل المحيا وجوادا كريما.

٢ ـ خاصية غريبة وهي التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة ، كقول طفيل الغنوي :

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل (٢)

__________________

(١) الأحيدب : جبل.

(٢) الكور : الرحل ، والناجية : الناقة السريعة ، تنجو براكبها.

٢٦٧

انظر تر عجبا ، ألا تراه قد استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام ، وساعده التوفيق فيما عناه من قبل أن كان الشحم مما يصلح للقوت ، وأن الرحل أبدا ينتقص منه ويذيبه.

والغرابة على ضروب ، منها :

١ ـ أن تكون في الشبه نفسه ، كما في قول يزيد بن مسلمة عبد الملك يصف فرسا له بالأدب :

عودته فيما أزور حبائبي

إهماله وكذاك كل مخاطر

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشكيم الى انصراف الزائر (١)

فقد شبه (٢) هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج ممتدا الى جانبي فم الفرس بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبتي المحتبى ممتدا الى جانبي ظهره ، ثم استعار الاحتباء وهو جمع الرجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره لوقوع العنان في قربوس السرج ، فجاءت الاستعارة غريبة كما ترى لغرابة الشبه.

٢ ـ أن تحصل بتصرف الاستعارة العامية ، كقول ابن المعتز :

سألت عليه شعاب الحي حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير (٣)

فهذا تشبيه معروف ، لكنه تصرف فيه بأن أسند الفعل الى الشعاب دون ووجوههم ، وعدى الفعل الى ضمير الممدوح بعلى ، فأفاد اللطف والغرابة من حيث أبان أن الشعاب امتلأت من الرجال وغصت بها من كل ناحية وجانب.

٣ ـ أن تحصل بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل ، كقول امرىء القيس :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف اعجازا وناء بكلكل

فقد أراد وصف الليل بالطول ، فاستعار له اسم الصلب وجعله متمطيا لما هو مشاهد من أن كل ذي صلب يزيد طوله شيئا ما عند التمطي ، ثم ثنى واستعار

__________________

(١) القربوس مقدم السرج ، والعلك المضغ ، والشكيم الشكيمة الحديدة المعترضة في فم الفرس ، وعنى بالزائر نفسه ، دلالة على تأدب فرسه ، حيث يقف مكانه وإن طال مكثه.

(٢) ووجه الشبه إحاطة شيء بشيئين ، ضاما أحدهما الى الآخر ، على أن أحدهما أعلى والآخر أسفل ، والتشبيه بين مفردين باعتبار ما تضمنه كل منهما من الهيئة لا أنه واقع بين هيئتين.

(٣) يريد أن الممدوح مطاع في حيه اذا دعاهم لبوا نداءه زرافات ووحدانا.

٢٦٨

الإعجاز لثقله وبطء سيره ، وبالغ في ذلك حتى جعل بعضها يردف بعضا ، ثم ثلث فاستعار الكلكل لمعظم الليل ووسطه آخذا له من كلكل البعير وهو ما يعتمد عليه إذا برك ، وزاده مبالغة بأن جعله ينوء ويثقل ، لما في الليل من التعب والنصب على كل قلب ساهر ، وبذا تم له ما أراد من تصوير الليل بصورة البعير على أبلغ وجه وأدقه.

المبحث الحادي عشر في انقسامها باعتبار الطرفين والجامع

تنقسم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع الى ستة (١) أقسام :

١ ـ استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي ، نحو : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ)(٢) يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) استعير الموجان وهو حركة الماء للاضطراب والاختلاط الناشئين عن الحيرة والجامع بينهما الحركة الشديدة والاضطراب.

٢ ـ استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي ، نحو : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٣) فالمستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها ، والمستعار له إزالة الضوء عن ظلمة الليل وملقى ظله وهما حسيان ، والجامع بينهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر كترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وإزالته وترتب ظهور الظلمة على كشف الضوء (٤) عن مكان الليل ، وهذا الترتب أمر عقلي.

٣ ـ استعارة محسوس لمحسوس والجامع مختلف بعضه حسي وبعضه عقلي ، كما تقول : رأيت شمسا ، وأنت تريد إنسانا كالشمس في حسن الطلعة ، وهو حسي ، ونباهة الشأن ورفعة القدر ، وهي عقلية.

٤ ـ استعارة معقول لمعقول ، نحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٥).

__________________

(١) لأن المستعار منه والمستعار له إما حسيان أو عقليان أو المستعار منه حسي والمستعار له عقلي أو بالعكس فتصير أربعة ، والجامع في الثلاثة عقلي لا غير لما نقدم في التشبيه وفي القسم الأول ، إما حسي أو عقلي أو مختلف ، فهذه أقسام ستة.

(٢) الضمير يعود للانس والجن.

(٣) سورة يس الآية ٣٧.

(٤) لأن الظلمة هي الأصل والنور طارىء عليها يسترها ، فعند غروب الشمس يسلخ النهار من الليل وكأنه يكشط ويزال كما يكشط عن الشيء الشيء الطارىء عليه الساتر له.

(٥) سورة يس الآية ٥٢.

٢٦٩

استعير الرقاد وهو النوم للموت ، والجامع عدم ظهور الفعل ، والجميع عقلي ، ونظيره : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)(١) ، فقد استعير الغيظ للحالة المتوهمة للنار ، لإرادة الانتقام من العصاة.

٥ ـ استعارة محسوس لمعقول ، نحو : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٢) فقد استعير صدع الزجاجة ، وهو كسرها ، وهذا حسي لتبليغ الرسالة بجامع التأثير (٣) ، وهما عقليان.

ونحوه : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)(٤) ، فقد استعير النبذ ، وهو إلقاء الشيء باليد للأمر المتناسي حاله ، والجامع عدم العناية فيهما.

٦ ـ استعارة معقول لمحسوس ، نحو : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ)(٥) فقد استعير الطغيان ، وهو التكبر والعلو لظهور الماء وكثرته ، والجامع الخروج عن حد الاعتدال والاستعلاء المفرط ، فالمستعار منه والجامع عقليان.

المبحث الثاني عشر في تقسيم الاستعارة الى مصرحة ومكنية

تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر المشبه به أو ذكر ما يخصه الى قسمين :

١ ـ مصرحة أو مصرح بها أو تصريحية ، وهي ما صرح فيها بلفظ المشبه به كقول شوقي :

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان

شبهت الدلالة بالقول بجامع إيضاح المراد وإفهام الغرض في كل منهما واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من القول بمعنى الدلالة قائل بمعنى دال على طريق الاستعارة التصريحية ، والقرينة نسبة القول الى الدقات ، ونظيره قول الوأواء الدمشقي :

فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العناب بالبرد

__________________

(١) سورة الملك الآية ٨.

(٢) سورة الحجر الآية ٩٤.

(٣) التأثير المراد هنا نوع مخصوص لا يعود معه المؤثر فيه الى حاله الأولى ، وهو في كسر الزجاجة أقوى وأبين ، فكأنه قبل وضح الأمر وضوحا لا يزول أثره كما لا يلتئم صدع الزجاجة.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٨٧.

(٥) سورة الحاقة الآية ١١.

٢٧٠

شبه الدموع باللؤلؤ ، والعيون بالنرجس ، والخدود بالورد ، والأنامل بالعناب ، والأسنان بالبرد ، وقول الحريري :

فزحزحت شفقا غشّى سنا قمر

وتساقطت لؤلؤا من خاتم عطر (١)

فقد شبه الخمار بالشفق لحمرته والوجه بالقمر والكلام باللؤلؤ والفم بالخاتم.

٢ ـ مكنية ، وهي ما حذف فيها المشبه به ورمز اليه بشيء من لوازمه ، نحو (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(٢) ، شبه الذل بطائر بجامع الخضوع واستعير الطائر للذل ، ثم حذف ورمز اليه بشيء من لوازمه ، وهو الجناح ، على طريق الاستعارة بالكناية ، وإثبات الجناح للذل استعارة تخييلية ، وهي قرينة المكنية ، ويجعل الطائر مستعارا للمخاطب (أي للولد في معاملة والديه) والأصل واخفض لهما جناحك ذلا ، ونحوه قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣) ، وقول الكميت :

خفضت لهم مني جناحي

الى كنف عطفاه أهل ومرحب

ونحو (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)(٤) قال في «الكشاف» : ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكنوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرموزا اليه بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه ، ونحوه قولك : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ، فقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر ، انتهى.

(تنبيه) علمت أن إثبات اللازم كالجناح للذل أو للمخاطب بلين الجانب للوالدين ، والمأمور أن يذل لهما ، وإثبات النقض للعهد يسمى استعارة تخييلية ، وهي قرينة الاستعارة المكنية ، وسمي ذلك الاثبات استعارة لأجل أن متعلقة وهو الأمر المختص بالمشبه به قد استعير ونقل عما يناسبه ، واستعمل مع ما شبه

__________________

(١) وقبله : سألتها حين زارت نضو برقعها القاني وإيداع سمعي أطيب الخبز ومساقطه الحديث أن يتكلم واحد ويسكت الآخر ، ثم يتكلم الساكت ، وهكذا دواليك.

(٢) سورة الإسراء الآية ٢٤.

(٣) سورة الشعراء الآية ٢١٥.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٧.

٢٧١

بأصله ، وتخيلية لأن متعلقة وهو الأمر المختص بالمشبه به لما نقل عن ملائمة وأثبت للمشبه ، صار يخيل الى السامع أن المشبه من جنس المشبه به.

وهو حقيقة لاستعماله فيما وضع له ، ألا ترى أن الجناح استعمل في حقيقته وإنما النجور في إثباته للذل فهو مجاز عقلي في الاثبات ، كما سيأتي ، لا مجاز لغوي وهكذا يقال في نظائره.

ومن حيث إنها قرينة المكنية ، فهي لازمة لها ، لا تفارقها ، إذ لا استعارة بدون قرينة ، هذا اذا كان لازم المشبه به واحدا ، فإن تعددت اللوازم جعل أقوالها وأبينها لزوما قرينة لها ، وما عداه ترشيحا وتقوية لها ، كما ستعرف ذلك بعد.

المبحث الثالث عشر

في مذهب السكاكي والخطيب القزويني في المكنية

مذهب السكاكي أن المكنية لفظ المشبه المستعمل في المشبه به بادعاء أن المشبه عين المشبه به وإنكار أن يكون غيره بقرينة ذكر اللازم ، فالذل عنده في المثال السابق مراد به الطائر بادعاء أنه عينه بقرينة إضافة الجناح الذي هو من خواص الطائر ولوازمه اليه ، وليس المراد من الذل عنده مجرد الخضوع حتى يكون مستعملا في معناه الحقيقي ، بل الذل المفروض أنه عين الطائر ، وهو غير الموضوع له.

والجناح استعارة تخيلية بمعنى أن لفظ الجناح استعير عنده لأمر تخيلي وهمي لأنه لما استعمل الذل في الخضوع المتحد مع الطائر ادعاء ، أخذ الوهم يخترع له صورة مثل صورة الجناح ، واستعار لفظ الجناح لذلك ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف.

وذهب الخطيب الى أنها التشبيه المضمر في النفس والإثبات تخييل ، فأخرجها من المجاز ، أعني الكلمة المستعملة ، الخ .. إذ التشبيه فعل من أفعال النفس ، فكل من الجناح والذل مستعمل في معناه الحقيقي عنده.

وقال سعد الدين التفتازاني : وتفسير الاستعارة بذلك لا مستند له في كلام السلف ولا هو مبنى على مناسبة لغوية.

٢٧٢

المبحث الرابع عشر في تقسيم الاستعارة التصريحية لدى السكاكي

الى تحقيقية وتخييلية ومحتملة لهما

تنقسم الاستعارة المصرحة عند السكاكي الى ثلاثة أقسام :

١ ـ تحقيقية ، وهي ما كان المستعار له فيها محققا حسا أو عقلا بأن كان اللفظ منقولا الى أمر معلوم يمكن الإشارة اليه إشارة حسية ، أو عقلية ، فالأول كقول زهير في معلقته يمدح حصين بن ضمضم :

لدى أشد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظافره لم تقلم

والثاني نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١) ، فقد استعير في الأول الأسد للرجل الشجاع ، وهو محقق حسا ، وفي الثاني الصراط لملمة الإسلام ، وهي محققة عقلا.

٢ ـ تخييلية ، وهي ما كان المستعار له فيها غير محقق لا حسا ولا عقلا بل هو صورة وهمية محصنة لا يشوبها شيء من التحقيق نحو قول الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

فإنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال أخذ الوهم يصور المنية بصورة السبع ويخترع لوازمه لها فاخترع لها مثل صورة الأظفار ، ثم أطلق على هذه الصورة لفظ الأظفار ، فتكون الأظفار عنده تصريحية تخييلية لأن المستعار له الأظفار صورة وهمية شبيهة بصورة الأظفار الحقيقية ، وقرينتها إضافتها الى المنية ، والتخييلية عنده قد تكون بدون استعارة بالكناية كقولك : أظفار المنية الشبيهة بالسبع قتلت فلانا ، فقد صرح بالتشبيه فلا مكنية في المنية مع كون الاستعارة في الاستعارة تخييلية.

٣ ـ محتملة للتحقيقية والتخييلية كقول زهير :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطلة

وعرى أفراس الصبا ورواحله (٢)

الصحو خلاف السكر استعارة للسلو استعارة تصريحية تبعية ، وأقصر باطلة

__________________

(١) سورة الفاتحة الآية ٥.

(٢) أقصر عن الشيء امتنع عنه مع القدرة عليه ، وقصر عنه اذا تركه مع القدرة ، والمراد بالاقصار هنا مطلق الامتناع ، وباطل القلب ميله الى الهوى.

٢٧٣

أي أقلع عنه وامتنع والمراد انتهى ميله ، والتعرية الإزالة يريد أنه ترك ما كان يرتكبه زمن الحب من الجهل والغي وأعرض عن معاودة ما كان منصرف اليه من اللهو فبطلت الآلات التي كان يستعملها.

فقد شبه الصبا بجهة من جهات المسير كالحج والتجارة ، قضى منها حاجاته ، فبطلت آلاته تشبيها مضمرا في النفس واستعار الجهة للصبا وحذفها ورمز اليها بشيء من لوازمها وهي الأفراس والرواحل ، فالجهة هي المكنية عند الجمهور ، وإثبات الأفراس والرواحل لها تخييلية ، والأفراس والرواحل مستعملان في حقيقتهما عندهم أيضا ، أما عند السكاكي فيجوز أن تكون الأفراس والرواحل استعارة تحقيقية إن أراد بها دواعي النفس وشهواتها والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات ، أو أريد بها أسباب اتباع الغي من المال والأعوان لتحقق معناها عقلا إن أريد منها الدواعي ، أو حسا إن أريد منها الأسباب ، وعلى هذا فالمراد بالصبا زمان الشباب ، ويجوز أن تكون تخييلية إن جعلت الأفراس والرواحل مستعارة لأمر وهمي تخيل للصبا من الصبوة وهو الميل الى الجهل والفتوة.

المبحث الخامس عشر في انقسامها الى أصلية وتبعية

تنقسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار قسمين :

١ ـ أصلية ، وهي ما يكون اللفظ المستعار فيها اسم جنس ، وهو الذات الصالحة لأن تصدق على كثيرين ولو تأويلا نحو أسد ، وقتل اذا استعير للشجاع والضرب الشديد ، ونحو : حاتم وقس من قولك : رأيت اليوم حاتما ، وسمعت اليوم قسا يخطب ، ومثلهما كل ما شاكلهما من الأعلام التي اشتهرت مسمياتها بوصفية.

وإجراء الاستعارة في مثل هذا أن يقال شبه الرجل الشجاع بالأسد بجامع الشجاعة في كل ، واستعير لفظ الأسد الشجاع على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، وشبه الرجل الكريم بحاتم بجامع الكرم في كل ، واستعير لفظ حاتم للكريم استعارة تصريحية أصلية.

٢ ـ تبعية ، وهي ما يكون المستعار فيها :

(١) فعلا. (٢) اسما مشتقا. (٣) حرفا.

فالأول ، نحو : عضنا الدهر بنابه ، فقد وقع المصائب بالعض بجامع الايلام

٢٧٤

في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، واشتق من العض بمعنى الإيلام عض بمعنى آلم على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.

هذا اذا كان النجوز في الفعل باعتبار حدثه ، فإن كان باعتبار زمانه كان التغاير بين المصدرين باعتبار القيدين نحو : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ)(١) ، أي ينادي فيقال شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي بجامع تحقق وقوعها ، ثم استعير لفظ النداء في الماضي للنداء في المستقبل واشتق منه نادى بمعنى ينادي على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.

والثاني ، نحو : جليل عملك ناطق بفضلك ، شبهت الدلالة بالنطق بجامع إفهام الغرض في كل ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه واشتق من النطق بمعنى الدلالة ناطق بمعنى دال على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ، ونحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٢) فالمرقد مكان الرقاد استعير للقبر بجامع خفاء الأثر في كل ، ثم اشتق من الرقاد بمعنى الموت مرقد بمعنى مكان الموت وهو القبر استعارة تصريحية تبعية.

والثالث ، نحو : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٣) ، فقد شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب العلة الغائية عليه بجامع مطلق ترتب شيء على شيء فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات التي هي معاني الحروف فاستعيرت اللام الموضوعة لكل جزئي من جزئيات العلة الغائية كالمحبة والتبني للام التي تدل على العداوة والحزن استعارة تصريحية تبعية ، والى هذا يشير قول الزمخشري معنى التعليل في اللام وارد على طريق المجاز ، لأنه لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله.

ثم قال : وهذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد ، انتهى.

__________________

(١) سورة الأعراف الاية ٤٤.

(٢) سورة يس الاية ٥٢.

(٣) سورة القصص الاية ٨.

٢٧٥

ونحوه قوله عز اسمه : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)(١) ، شبه مطلق استعلاء بمطلق ظرفية بجامع التمكن في كل ، فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات التي هي معاني الحروف فاستعير لفظ (في) الموضوع لجزئي من جزئيات الظرفية لمعنى على الموضوع للاستعلاء على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

ومدار قرينة الاستعارة التبعية في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها الى الفاعل نحو : نطقت الحال بكذا ، أو الى المفعول الأول كقول ابن المعتز :

جمع الحق لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السماحا

فالذي دل على استعارة قتل وأحيا ، إنما إسنادهما الى البخل والسماح ، إذ لو قال : قتل الأعداء وأحيا الأحياء ، لم يكن هناك سبيل للاستعارة فيهما ، أو الى المفعول الثاني ، كقول القطامي :

لم تلق قوما هم شر لإخوتهم

منا عشية يجري بالدم الوادي

نقريهم لهذميات نقد بها

ما كان خاط عليهم كل زراد (٢)

فإسناد القرى الى اللهذميات قرينة على أن نقريهم استعارة ، أو الى المفعولين الأول والثاني ، كقول الحريري :

وأقرى المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشموسا (٣)

فإن تعلق أقوى بكل من المسامع والبيان دليل على أنه استعارة ، أو الى المجرور ، نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ، فذكر العذاب دليل على أن بشر استعارة تبعية تهكمية.

(تنبيهات) أولها كما تكون المصرحة أصلية وتبعية تكون المكنية كذلك (٥).

__________________

(١) سورة طه الآية ٧١.

(٢) نقريهم من قريت الضيف ، واللهذم من الأسنة القاطع واللهذميات منسوبة اليها ، والقد : القطع ، وضمن خاط معنى قد ، فعداه بعلى ، وزرد الدرع وسردها نسجها.

(٣) الحرون من الخيل ما لا يسهل قياده والشموس منها ما يمنع ظهره من الركوب.

(٤) سورة الانشقاق الآية ٢٤.

(٥) لكن لا تجري التبعية بجميع أقسامها في المكنية إذ أنها لا بد فيها من إثبات لازم المشبه به للمشبه ووضع الفعل واسمه ، والحرف يقتضي ألا يثلت لمعناها شيء لوجه ما لا بالإسناد اليه ، ولا بالايقاع عليه ولا الإضافة اليه.

٢٧٦

ثانيها ـ إنما سميت الاستعارة في القسم الثاني تبعية لأنها تابعة لاستعارة أخرى إذ هي في المشتقات تابعة لجريانها في المصدر أولا ، كما أن معاني الحروف جزئية لا تتصور الاستعارة فيها إلا بواسطة كلي مستقل بالمفهومية ليتأتي كونها مشبها ومشبها بها فلا بد من إجراء التشبيه أولا في متعلق معاني الحروف ، ثم تتبعها الاستعارة في المعاني الجزئية.

ثالثها ـ قال السكاكي : لو لم يجعلوا في الفعل والحرف استعارة تبعية بل جعلوا في مدخولهما استعارة مكنية بقرينتهما كما فعلوا في : أنشبت المنية أظفارها ، لكان أقرب للضبط.

المبحث السادس عشر في تقسيمها الى مرشحة ومجردة ومطلقة

تنقسم الاستعارة باعتبار اقترانها بما يلائم المستعار منه أو المستعار له أو عدم اقترانها بما يلائم أحدهما الى ثلاثة أقسام ، مرشحة ومجردة ومطلقة :

١ ـ فالمرشحة هي التي تقترن بما يلائم المستعار منه ، كما تقول : رأيت في الميدان أسدا دامي الأنياب طويل البراثن ، وكما قال كثير عزة :

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر

ظواهر جلدي وهو للقب جارح (١)

فقد استعار السهم للنظر يجامع التأثير في كل ثم رشح الاستعارة بذكر الريش الملائم للسهم ، وكما قال ابن هانىء المغربي :

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا

بالنصر من ورق الحديد الأخضر

٢ ـ والمجردة هي التي تقترن بما يلائم المستعار له كما تقول : رأيت أسدا في حومة الوغى يجندل الأبطال بنصله ويشك الفرسان برمحه ، وكما قال كثير يمدح عمر ابن عبد العزيز :

غمر الرداء اذا تبسم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب الملل (٢)

__________________

(١) المعنى : أنها رمته بسهم نظرها الفاتك الذي ريشه الكحل ، فجرحت قلبه ، ولم تضر ظواهر جلده.

(٢) يريد أنه كثير العطاء سخي ، والمعنى أنه اذا ضحك وسر وهب ماله وفرقه وعنى برقاب الأموال أنفسها ، وعبر عنها بالرقاب كقولهم : أعتق رقبة ، أي عبدا.

٢٧٧

فقد استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرضه كما يصون الرداء ما يلقى عليه من مكروه والقرينة تتمة البيت ، ثم وصفه بالغمر الذي هو وصف للمعروف لا للرداء على سبيل التجريد.

٣ ـ والمطلقة هي التي لم تقترن بصفة معنوية ولا تفريغ يلائم أحد الطرفين ، والفرق بينهما أن الملائم إن كان من تتمة الكلام الذي فيه الاستعارة فهو الصفة ، كما في قوله : تبسم ضاحكا ، وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد تمام الاستعارة وبني عليها فهو التفريغ ، نحو : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(١) ، بعد قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)(٢).

(تنبيهات) أولها أنه اذا اجتمع الترشيح والتجريد كانت الاستعارة في حكم المطلقة كقول زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

فشاكي السلاح هو حادة تجريد ، لأنه يناسب المشبه وهو الشجاع ، والمقذف إن أريد به في الوقائع والحروب كان تجريدا أيضا ، وإن أريد به المرمى باللحم كناية عن عظم الجثة والضخامة ، لم يكن لا تجريدا ولا ترشيحا لأنه يلائم كلا منهما ، وله لبد وهي الشعر المتراكم بين كتفي الأسد ترشيح ، وكذلك أظفاره لم تقلم لأن الأسد الحقيقي هو الذي ليس من شأنه تقليم الأظفار ، والقرينة كلمة لدى ، أو القرينة حالية ، ولدى تجريد إذ التجريد أو الترشيح إنما يكون بعد تمام الاستعارة بقرينتها ، ولذا لا تسمى قرينة الاستعارة التصريحية تجريدا ولا قرينة المكنية ترشيحا.

(ثانيها) : الترشيح أبلغ (٣) وأقوى من الإطلاق والتجريد ، لاشتماله على تقوية المبالغة وكمالها ، فإن المحور الذي يدور عليه الترشيح إنما هو تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه هو المشبه به نفسه ، وكأن الاستعارة غير موجودة ، ألا ترى أن الناثر أو الشاعر يجدّ في إنكارها ، ويخيل الى السامع أن الأمر على ما يقول حقيقة ، ومن ثم وضع أبو تمام كلامه في علو المنزلة والرقي في خلال الشرف وضعه في علو المكان حين يقول :

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة الآية ١٦.

(٣) الأبلغ في الحقيقة هو الكلام المشتمل على الترشيح لا الترشيح نفسه.

٢٧٨

ويصعد حتى يظن الجهول

بأن له حاجة في السما

فلو لا أنه قصد تناسي التشبيه وعقد العزيمة على جحده ولم يأل جهدا في إنكاره فجعله صاعدا في السماء حيث المسافة المكانية ، لما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول بشار :

أتتني الشمس زائرة

ولم تك تبرح الفلكا

وقول المتنبي :

كبرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد

ومن هذا ما سبق من التعجب والنهي عنه ، وإذا جاز البناء على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه (١) في نحو قول العباس بن الأحنف :

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع اليها الصعود

ولن تستطيع اليك النزولا

فلأن يجوز مع جحده وإنكاره في الاستعارة أولى.

(ثالثها) : المطلقة أبلغ من المجردة ، لأن التجريد يذكر بالتشبيه ، فيضعف دعوى الاتحاد.

المبحث السابع عشر في حسن الاستعارة وقبحها

لا تحسن الاستعارة ولا تقع الموقع الملائم إلا إذا حازت الشروط الآتية :

١ ـ رعاية حسن التشبيه (٢) ، إذ هو أساسها الذي تبني عليه ، خلا أنه مما يستملح هنا قوة الشبه بين الطرفين بعكس باب التشبيه ، ومن ثمة تحسن الاستعارة فيما يقوي فيه الشبه بينهما بحيث يصير الفرع كأنه الأصل ، ولا يحسن التشبيه ، ألا ترى أن الرجل يقول إذا فهم مسئلة : حصل في قلبي نور ، ولا يقول : كأن العلم الذي حصل في قلبي نور ، ويقول لمن أوقعه في شبهة : أوقعتني في ظلمة ، ولا يقول : كأن الشبهة التي أوقعتني فيها ظلمة.

__________________

(١) فان قوله هي الشمس تشبيه ، وفيه اعتراف بالمشبه ، ومع ذلك بني الكلام على المشبه به أعني الشمس.

(٢) قال الجرجاني : ملاك الاستعارة قرب التشبيه ومناسبة المستعار للمستعار له وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر.

٢٧٩

٢ ـ غرابة وجه الشبه ولطفه وكثرة التفصيل فيه وبعده من الابتذال وعدم خفائه الى الغاية حتى لا يكون نعمية وألغازا ، ومن ثم لا يحسن استعارة الأسد لإنسان أبخر لخفاء وجه الشبه في مجرى العادة في مثل هذا.

٣ ـ ألا يشم منها رائحة التشبيه لفظا ، ومن ثم ضعفت الاستعارة في قوله : قد زر أزراره على القمر (١).

٤ ـ بعدها عن الحقيقة بترشيحها تقوية لدعوى الاتحاد فيها ، ومن أجل هذا قدمت المرشحة على المطلقة والمجردة في اعتبار البلغاء ، فإن خلت الاستعارة مما سبق ذكره انحطت رتبتها واستهجنت كقول أبي نواس :

بح صوت المال مما

منك يشكو ويصيح

يريد أن المال تظلم من إهانته إياه بتمزيقه بالعطايا ، وهذا معنى حسن ، لكن العبارة عنه قبيحة لا تروق في نظر البلغاء ويأباها ذوو الفطر السليمة (٢).

وقوله أيضا وهو أسخف من الأول :

ما لرجل المال أضحت

تشتكي منك الكلالا

فأين هذا من قول مسلم بن الوليد في هذا المعنى :

تظلم المال والأعداء من يده

لا زال للمال والأعداء ظلاما

وقول أبي تمام :

بلوناك أما كعب عرضك في العلا

فعال وأما خد مالك أسفل

مراده أن عرضك مصون ومالك مبتذل ، لكنه قد ساقه مستكرها ، وأخرجه مخرجا مستهجنا ، وكقول بشار :

وجذّت رقاب الوصل أسياف هجرنا

وقدت لرجل البين نعلين من خدي

قال في «العمدة» : فما أهجن رجل البين وأقبح استعارتها ولو كانت الفصاحة بأسرها فيها ، وكذلك رقاب الوصل.

__________________

(١) إذ الضمير في أزراره لمحبوبه ولم يكن هذا من التشبيه لما تقدم من أن المشبه لم يذكر على وجه ينبي عن التشبيه بأن يكون المشبه به خبرا عنه أو حالا أو صفة ، بل فيه رائحة الأشعار فقط.

(٢) إذ أي شيء أبعد استعارة من صوت المال ، فكيف به اذا بح من الشكوى والصياح ، مع أنه ليس له صوت حين يعطى.

٢٨٠