علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

الكلام فاسدا. فقول أبي بكر الخوارزمي : «والبغض عندي كثرة الاعراب» كلام ليس له معنى ، وينقسم الوجه الى عدة أقسام :

١ ـ تحقيقي وتخييلي :

(أ) فالتحقيقي ما كان متقررا في الطرفين على وجه التحقيق كقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)(١) ، فوجه الشبه وهو العظم والضخامة ، موجود في كل من المراكب والجبال حقيقة.

(ب) والتخييلي ما لا يكون وجوده في أحد الطرفين إلا على ضرب من التأويل ، فمثاله في المشبه قوله : صدغ الحبيب وحالي ، كلاهما كالليالي ، ومثاله في المشبه به قول التنوخي :

وكأن النجوم بين دجاه

سنن لاح بينهن ابتداع

فوجه الشبه هو الهيئة الحادثة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود ، وهي غير موجودة في المشبه به ، إلا على طريقة التخييل ، ذاك أنه لما كانت البدع والضلالات تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي الى الطريق الذي تقع له به النجاة!!

شبهت بالظلمة وشاع ذلك حتى قيل : شاهدت سواد الفكر من جبين فلان ، لتخييل أن البدعة نوع له زيادة اختصاص بسواد اللون ، وبطريق العكس شبه الهدى ، والعلم بالنور ، واشتهر ذلك كما ورد : «أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها» من حيث تخيل أن السنن ونحوها جنس من الأجناس التي لها إشراق (٢) وبياض في العين.

ومن أجل هذا صار تشبيه النجوم بين الدياجي بالسنن بين الابتداع واضحا جليا كتشبيهها ببياض الشيب في سواد الشباب.

٢ ـ واحد ومركب من متعدد منزل منزلة الواحد ، وكل منهما : إما حسي ، وإما عقلي ، ومتعدد (يقصد فيه اشتراك الطرفين في عدة أمور كل منها وجه شبه

__________________

(١) سورة الرحمن الآية ٢٤.

(٢) فتمام التشبيه يكون بأن يتخيل ما ليس بمتلون متلونا ، ثم يتخيل كونه أصلا للمتلونات الحقيقية من ذلك الجنس.

٢٢١

على حدته ، وبهذا يخالف المركب المنزل منزلة الواحد ، فإن وجه الشبه فيه الهيئة المنتزعة من عدة أمور) وهو : إما حسي ، وإما عقلي ، وإما مختلف بعضه حسي وبعضه عقلي :

(أ) فالواحد الحسي طرفاه لا يكونان إلا حسيين ، فإن الوجه أمر منتزع من الطرفين موجود فيهما ، وكل ما يؤخذ من العقلي وينتزع منه يجب أن يدرك بالعقل لا بالحس ، لأن أوصاف العقلي يجب أن تكون عقلية ، وذلك كتشبيه الخد بالورد بجامع الحمرة والغضاضة.

(ب) والواحد العقلي طرفاه إما عقليان كما يشبه وجود ما لا ينتفع به بعدمه بجامع العراء عن الفائدة في قولهم : وجوده كالعدم ، وإما حسيان كتشبيه الرجل بالأسد في الجرأة والإقدام والبطش ، وإما المشبه عقلي والمشبه به حسي ، كما يشبه العلم بالنور بجامع الهداية في كل ، وإما بالعكس كما يشبه العطر بخلق الكريم بجامع ارتياح النفس وانتعاشها.

(ج) والمركب الحسي طرفاه إما مفردان كتشبيه الثريا بعنقود من الكرم لاشتراكهما في الهيئة الحادثة من تقارن الصور البيض المستديرة الصفار في رأي العين على كيفية مخصوصة ومقدار معين في قول كسناجم محمود بن الحسين :

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نوّرا (١)

وإما مركبان كالهيئة الحاصلة من سقوط أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم في قول بشار :

كأن مثار النقع فوق رؤوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

إما مختلفان كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد ، فالمشبه مفرد ، والمشبه به مركب ، وإما بالعكس كتشبيه النهار المشمس الذي شابه زهر الربا بليل مقمر.

ومن بديع المركب الحسي ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة ، وذلك على وجهين :

__________________

(١) الملاحية بضم الميم وتشديد اللام ، والأكثر تخفيفها عنب أبيض في حبه طول وحين نور ، أي تفتح نوره بفتح النون.

٢٢٢

١ ـ أن تقترن هيئة الحركة بغيرها من أوصاف الجسم ، كالشكل واللون ، كقول جبار بن جزء بن أخي الشماخ :

والشمس كالمرآة في كف الأشل

لما رأيتها بدت فوق الجبل

فوجه الشبه : الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة مع الإشراق حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من الوسط الى جوانب الدائرة ، ثم يبدو له أن يرجع من الانبساط الذي هم به الى الانقباض كأنه يرجع من الجوانب الى الوسط ، فإن الإنسان اذا أحدّ النظر لينظر الى الشمس ، ولا سيما أول شروقها ، ليتبين جرمها ، وجدها تؤدي هذه الهيئة ، وكذلك المرآة في كف الاشل.

٢ ـ أن تجرد هيئة الحركة عن غيرها من الأوصاف ، فهناك لا بد من اختلاط حركات كثيرة للجسم الى جهات مختلفة ، كان يتحرك بعضه الى اليمين وبعضه الى الشمال وبعضه الى العلو وبعضه الى السفل ، فحركة الدولاب والرحا والسهم ، لا تركيب فيها لاتحاد الحركة.

وحركة المصحف في قول ابن المعتز :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرة وانفتاحا

فيها تركيب لأنه يتحرك في حالتي الانطباق والانفتاح الى جهتين في كل حال الى جهة ، ومن لطيف ذلك قول الأعشى ، يصف السفينة في البحر ، وتقاذف الأمواج بها :

تقص السفين بجانبيه كما

ينزو الرياح خلاله كرع (١)

شبه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه ، فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ويكون هناك تسفل وتصعيد على غير ترتيب ، وبحيث تكاد تدخل إحدى الحركتين في الأخرى ، فلا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه متسفلا ، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين تتدافعها الأمواج.

__________________

(١) تقص تثب ، والنزو الوثوب والرياح كرمان ، ويخفف القرد أو الفصيل ، والكرع ماء السماء ، وخلا فعل ماض.

٢٢٣

وكما يقع التركيب في هيئة الحركة ، قد يقع في هيئة السكون ، كقول أبي الطيب في صفة الكلب :

يقعى جلوس البدي المصطلي

بأربع مجدولة لم تجدل (١)

فلم ينل التشبيه حظا من الحسن إلا لما فيه من التفصيل من حيث كان لكل عضو من أعضاء الكلب في إقعائه موقع خاص ، وكان مجموع تلك الجهات في حكم أشكال مختلفة تؤلف منها صورة خاصة ، وكذلك صورة جلوس البدوي عند الاصطلاء.

والمركب العقلي كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٢) ، فالتشبيه منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها الى بعض ، ذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل ، وأن يكون المحمول أوعية العلوم ومستودع ثمار العقول ، وأن الحمار جاهل لما فيها ، فلاحظ له إلا أن يثقل عليه الحمل أو يكد جنبيه ، وكذا في جانب المشبه ، فقد روعي أنهم فعلوا فعلا مخصوصا ، هو الحمل المعنوي ، وكون المحمول أوعية العلوم وكونهم جاهلين لما فيها.

(تنبيه) قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها ، فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها ، كقوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت (٣)

فإنه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه ، لا حاجة به الى الثاني ، على أن المراد به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة اليه ،

__________________

(١) الاقعاء الجلوس على الاليتين ، والاصطلاء الاستدفاء بالنار ، ومجدولة محكمة الخلق لم يحد لها انسان ، والغرض مدح الكلب بشدة الحرص.

(٢) سورة الجمعة الآية ٥.

(٣) أقشعت اضمحلت وذهبت ، وأبرقت قوما أي لقوم ، ففي الأساس : أبرقت لي فلانه إذا تحسنت لك وتعرضت ، وعطاش جمع عطشان. وقبله :

لقد أطمعتني بالوصال تبسما

وبعد رجائي أعرضت وتولت

٢٢٤

لكن ، بعد التأمل ، يظهر أن مقصد الشاعر أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس ، وذلك يتوقف على البيت كله.

وهذا بخلاف التشبيهات المجتمعة في نحو : محمد كالأسد ، والسيف والبحر ، فإن المقصد فيها التشبيه بكل واحد على حدته ، حتى لو حذف بعضها ، لا يتغير الباقي في إفادة معناه ، بخلاف المركب ، فإن المقصود يختل باسقاط بعض الأمور ، كما أنه لو قدم بعضها وأخر بعضها الآخر لا يتغير المعنى ، إذ ليس لهذه التشبيهات نسق مخصوص ، ولا ترتيب معين (١) بخلاف المركب.

والمتعدد الحسي : كالموت والطعم والرائحة ، في تشبيه النبق الكبير بالتفاح في هذه الأمور الثلاثة.

والمتعدد العقلي : كحدة النظر وكمال الحذر وإخفاء السفاد ، عند تشبيه طائر بالغراب ، فيما ذكر.

والمتعدد المختلف ، كحسن الطلعة ونباهة الشأن عند تشبيه إنسان بالشمس ، واعلم أنه قد ينتزع التشبه من نفس التضاد لاشتراك الضدين فيه ، فينزل التضاد منزلة التناسب ، فيشبه أحد الضدين بالآخر ، للتلميح والظرافة ، أو للتهكم والاستهزاء ، كما يشبه بخيل بحاتم ، وعي بقس في الفصاحة ، كما قال الإمام المرزوقي ، وفي قول شقيق الأسدي :

أتاني من أبي أنس وعيد

فسل لغيظه الضحاك جسمي (٢)

إن قائل هذا البيت قصد به الاستهزاء والتلميح بما يستظرفه السامعون.

المبحث السادس في تقسيم التشبيه باعتبار الوجه الى تمثيل وغيره

التمثيل تشبيه وجه منتزع من متعدد أمرين ، أو أمور ، كقوله :

وكأن النجوم والليل داج

نقش عاج يلوح في سقف ساج (٣)

__________________

(١) فقد ظهر من هذا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في أمرين : الأول أنه لا يجب فيها ترتيب خاص ، والثاني أنه اذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف.

(٢) الوعيد التخويف ، وسل ذاب ، وهو بصيغة المبني للمجهول ، والضحاك هو أبو أنس ، وهو بالجر بدل من الهاء ، ففيه إظهار في موضع الاضمار زيادة الاستهزاء لذكره باسمه العلم.

(٣) الساج : شجر ينبت ببلاد الهند.

٢٢٥

فوجه الشبه هيئة مأخوذة من أشياء بيضاء مستديرة لامعة في وسط شيء أسود ، وكقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١) فقد شبهت حال المنافقين بحال من استوقد نارا الى آخر هذه الآية ، بجامع الطمع في حصول شيء بوشرت أسبابه وهيئت وسائله ، ثم تلا ذلك الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب وتقويض أركانها رأسا الى عقب ، وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك ، نحو : فلان كالسيف في المضاء.

الفرق بين التشبيه والتمثيل

التشبيه أعم من التمثيل ، فكل تمثيل تشبيه دون عكس إذ التمثيل مختص بما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد.

وللتمثيل موقعان :

١ ـ أن يكون في مفتتح الكلام فيكون قياسا موضحا وبرهانا مصاحبا ، وهو كثير جدا في القرآن الكريم نحو : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)(٢).

٢ ـ ما يجيء بعد تمام المعاني لإيضاحها وتقريرها فيشبه البرهان الذي تثبت به الدعوى ، كقول أبي العتاهية :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

تأثير التمثيل في النفس

إذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى الى النفس بوضوح وجلاء مؤيدا بالبرهان ، واذا أتى بعد استيفاء المعاني كان :

١ ـ إما دليلا على إمكانها ، كقول المتنبي :

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

٢ ـ أو تأييدا للمعنى الثابت ، كقوله :

ونار لو نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٦١.

٢٢٦

وهو في كلتا الحالين يكسب المعاني منقبة ، ويرفع قدرها ، ويجعل لها في القلوب هزة وارتياحا ، فإنك اذا تأملت حالك وحال المعنى قبل التمثيل وبعده ترى بونا شاسعا ومسافة الخلاف متسعة ، ألا تراك تحس الفرق بين أن تقول : أرى قوما لهم بهاء ومنظر وليس لهم مخبر ، وأن تنشد قول الشاعر :

في شجر السرو منهم مثل

له رواء وما له ثمر (١)

فإن جاء في باب المدح كسا المعنى حلة من الفخامة وقضى للمادح بغر المنائح كقوله :

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا

وإن جاء في باب الذم كان وقعه أشد وحده ، كقوله تعالى : فيأوتي الآيات فانسلخ منها (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٢).

وإن جاء في مقام الاحتجاج كان ساطع البرهان باهر البيان ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣).

وإن جاء في مقام الوعظ كان أبلغ في التنبيه والزجر ، كقوله تعالى في وصف نعيم الدنيا : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً)(٤).

وإن جاء في موضع الاعتذار خلب القلب وسحر اللب وسل السخيمة وأزال الموجدة والضغينة ، كقول المتنبي :

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا

فالطير يرقص مذبوحا من الألم

وهكذا حاله في كل فنون القول وضروب الكلام ، ولا سيما باب الوصف ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)(٥).

__________________

(١) هو فصيلة الصفصاف.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٧٦.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤١.

(٤) سورة الحديد الآية ٢٠.

(٥) سورة إبراهيم الآية ٢٤.

٢٢٧

وقول الشاعر :

والليل تجري الدراري في مجرته

كالروض تطفو على نهر أزاهره

المبحث السابع في تقسيم التشبيه

باعتبار الوجه الى مجمل مفصل

فالمجمل هو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه ، وهو قسمان :

١ ـ ظاهر يفهمه كل أحد كأن يشبه الشيء اذا استدار بالكرة في وجه والحلقة في وجه آخر ، وكقوله :

إنما الدنيا كبيت

نسجته العنكبوت

٢ ـ خفي لا يعرف المقصود منه ببديهة السمع ، بل يحتاج الى تأويل كقول كعب بن معدان الأشعري في وصف بني المهلب (هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها) ، فهذا يحتاج الى فضل تأمل ورفق ، ولا يفهمه إلا من ارتفع عن طبقة العامة ودخل في عداد الخاصة.

ومن المجمل ما ذكر معه وصف المشبه به ، كقول زياد الأعجم :

وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق

أو وصفهما معا ، كقول أبي تمام يمدح الحسن بن رجاء :

ستصبح العيس بي والليل عند فتى

كثير ذكر الرضا في ساعة الغضب

صدفت عنه ولم تصدف مواهبه

عني وعاوده ظني فلم يخب

كالغيث إن جئته وافاك ريقه

وإن ترحلت عنه لج في الطلب (١)

فقد وصف المشبه ، أعني الممدوح ، بأن عطاياه فائضة عليه ، أعرض أو لم يعرض ، ووصف المشبه ، أعني الغيث ، بأنه يصيبك ، جئته أو ترحلت عنه ، والوصفان دالان على وجه الشبه ، أعني الإفاضة ، في حالتي الطلب وعدمه ، وحالتي الإقبال عليه والإعراض عنه.

__________________

(١) العيس ابل ابيض ، والليل أي سيره ، وصدفت أعرضت ، والريق من كل شيء أفضله وترحلت تباعدت ، ولج تمادى. وقد تركنا ما ذكر معه وصف المشبه فقط لعدم الظفر له بمثال عربي مسموع.

٢٢٨

والمفصل ما ذكر (١) فيه وجه الشبه أو ذكر فيه مكان الوجه أمر يستلزمه فالأول نحو :

يا هلالا يدعي أبوه هلالا

جل باريك في الورى وتعالى

أنت بدر حسنا وشمس علوا

وحسام حزما وبحر نوالا

والثاني كقولهم للألفاظ إذا وجدوها لا تثقل على اللسان ولا تبعد دلالتها على معانيها ، وهي كالعسل حلاوة ، وكالماء سلاسة ، وكالنسيم رقة.

والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة ، وهو ميل الطبع ولازم السلاسة والرقة ، وهو نشاط النفس وانتعاشها.

المبحث الثامن في تفسير التشبيه

باعتبار الوجه الى قريب مبتذل وبعيد غريب

فالقريب المبتذل هو ما ينتقل فيه المشبه الى المشبه به من غير تدقيق لظهور وجه الشبه بادىء ذي بدء ، فيسهل تداوله بين العامة والخاصة ، كما اذا نظرت الى السيف الصقيل عند سله وبريق لمعانه ، لم يتباعد عنك أن تذكر لمعان البرق.

وسبب ظهوره أحد أمرين :

١ ـ كونه أمرا جمليا لا تفصيل فيه ، فإن الجملة أسبق الى النفس من التفصيل إذ الرؤية تصل الى الوصف أولا على الجملة ثم يتلوها التفصيل ، ألا ترى أن السمع يدرك من تفاصيل الصوت ، والذوق يدرك من تفاصيل المذوق في المرة الثانية ما لا يدركه في المرة الأولى.

٢ ـ كونه (٢) قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن ، إما مطلقا لتكرره على الحس ، كما تقدم من تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة ، وإما عند حضور المشبه ، لقرب المناسبة ، كما تشبه الضبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل والمقدار ، والجرة الصغيرة بالكوز.

__________________

(١) على جهة التمييز أو الجر بفي.

(٢) أي ليس جمليا ، بل فيه تفصيل ، لكنه قليل.

٢٢٩

والبعيد الغريب ما يحتاج في الانتقال من المشبه الى المشبه به الى فكر ودقة نظر ، لخفاء وجهه.

وسبب خفاء الوجه (١) أحد أمرين :

١ ـ كونه كثير التفصيل كما سبق من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل ، فإن هذه الهيئة لا تقوم في نفس الرائي المرآة الدائمة الاضطراب ، إلا أن يتمهل في نظره ويستأنف التأمل مليا حتى يتجلى له وجه الشبه فيهما.

٢ ـ ندور حضور المشبه به في الذهن ، إما عند حضور المشبه لبعد المناسبة بينهما ، كما في تشبيه البنفسج بنار الكبريت ، وإما مطلقا لكونه وهميا كما سبق من تشبيه نصاب السهام بأنياب الأغوال ، أو مركبا خياليا كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام الياقوت المنشورة على رماح من زبرجد ، أو مركبا عقليا كما في تشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا.

تنبيهات

١ ـ يراد بالتفصيل أن ينظر في الأوصاف واحدا فواحدا ، ويفصل بعضها من بعض بعد التأمل ، وينظر في الشيء الواحد لغير جهة ، ويقع ذلك على ضروب ، أشهرها :

(أ) أن يؤخذ بعض ويترك بعض ، كما فعل امرؤ القيس في قوله :

حملت ردينيا كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان (٢)

فقد اعتبر في اللهب والشكل واللون واللمعان ، ونفى اتصاله بالدخان.

(ب) أن يعتبر الجميع ، كما فعل الآخر في قوله (وقد تقدم) :

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نوّرا

__________________

(١) خلاصة ذلك أن الوجه يكون قريبا اذا كان مفردا أو متعددا أو مركبا حسيا ابتذل بكثرة الاستعمال ويكون غريبا اذا كان وهميا أو خياليا أو مركبا حسيا يجري على ألسنة الخاصة أو نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه.

(٢) الرديني : رمح منسوب لردينه ، وهي اموأة صناع كانت تجيد صنع الرماح ، والسنا : الضوء والاشراق.

٢٣٠

فإنه قد لاحظ في الأنجم الشكل والمقدار واللون واجتماعها على مسافة مخصوص في القرب ، ثم نظر الى مثل ذلك في العنقود المنور من الملاحية.

وكلما كان التركيب (خياليا كان أو عقليا) من أمور أكثر كان التشبيه أبعد لكون تفاصيله أكثر.

٢ ـ التشبيه البليغ هو البعيد الغريب لغرابته ، ولأن الشيء إذا نيل بعد طول الاشتياق اليه كان نيله أحلى وموقعه من النفس ألطف ، كما قال الجاحظ : يذكر ما في الفكر والنظر من الفضيلة ، وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع (١) الدم وأكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه.

٣ ـ ربما تصرف الفطن الحاذق بصنعة الكلام في القريب المبتذل فجعله بديعا نادرا وغريبا لا ترتقي اليه أفكار العامة ، كأن يشترط في تمام التشبيه وجود وصف لم يكن ، وانتفاء وصف قد كان ولو ادعاء ، ويسمى التشبيه المشروط ، وذلك على ضروب ، منها :

١ ـ أن يكون كقول المتنبي :

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلا بوجه ليس فيه حياء (٢)

فتشبيه الحسناء بالشمس مطروق مبتذل يستوي فيه الخاصة والعامة ، لكن حديث الحياء وما فيه من الدقة والخفاء أخرجه من الابتذال الى الغرابة وشبيه به قول أبي نواس :

إن السحاب لتستحي اذا نظرت

الى نداك فقاسته بما فيه

حتى تهم باقلاع فيمنعها

خوف من السخط من إجلال منشيها

٢ ـ أن يكون كقول الوطواط :

عزماته مثل النجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أفول (٣)

__________________

(١) لطع : لحس.

(٢) تلق إما بمعنى تبصر ، فالتشبيه غير مصرح به ، وإما من لقيته بمعنى قابلته وعارضته ، فهو فعل يدل على التشبيه ، وهو تشبيه مقلوب ، إذ المقصود تشبيه الوجه بالشمس ، لا العكس.

(٣) العزمات جمع عزمة ، وهي المرة من العزم ، والثواقب اللوامع.

٢٣١

فقد شرط لتمام المماثلة بين النجوم وبينه عدم مغيبها ، ونظيره قول البديع الهمداني :

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

٣ ـ أن يكون كقول ابن بابك :

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى

نسيمك مسروق ووصفك منتحل

حكيت أبا سعد فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل

٤ ـ أن يجمع بين عدة تشبيهات فيزداد بذلك لطفا وعرابة ، كقوله :

كأنما يبسم عن لؤلؤ

أو فضة أو برد أو أقاح

المبحث التاسع في الكلام على أدوات التشبيه

أدوات التشبيه هي : الكاف ، وكأن ، ومثل ، ونحوها مما يفيد معنى المماثلة والمشابهة ، نحو : فجعلهم كعصف مأكول ، كأنهم الياقوت والمرجان ، وإنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء .. الى آخر الآية.

ويفرق بين الكاف وكان بوجوه :

(أ) أن الكاف يليها المشبه به (١) ، وكأن يليها المشبه ، نحو :

الحليم كالجبل في سكونه

كأنك سحبان فصاحة

(ب) أن الكاف تدل دائما على التشبيه ، وكأن تفيد التشبيه ، اذا كان خبرها جامدا أو مؤولا به ، نحو :

وكأن دجلة إذ تلاطم موجها

ملك يعظم خيفة ويبجل

وتفيد الشك اذا كان خبرها مشتقا ، نحو :

كأنك قائم فيهم خطيبا

وكلهم قيام للصلاة

(ج) التشبيه بكأن أبلغ من التشبيه بالكاف ، لما فيه من التوكيد ، لتركبها من : الكاف ، وأن.

__________________

(١) قد يليها غير المشبهة به اذا كان التشبيه مركبا نحو : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء .. الآية ، إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا ، ولا بمفرد آخر يتحمل تقديره ، بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن.

٢٣٢

وقد ينوب عن الأداة ويغني عنها فعل من أفعال اليقين (١) أو الرجحان كعلم وظن وحسب ، ويكون منبئا عن حال التشبيه في القرب أو البعد ، ولا يعتبر أداة ، بل الأداة محذوفة ، كقوله :

قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها

سجا مزردة على أقمار (٢)

المبحث العاشر في تقسيم التشبيه باعتبار الأداة

ينقسم التشبيه باعتباره الأداة إلى :

١ ـ مؤكد ، وهو ما حذفت أداته ، نحو : وهي تمر مر السحاب. وقوله :

هم البحور عطاء حين تسألهم

وفي اللقاء اذا تلقاهم بهم (٣)

ومنه ما أضيف المشبه به الى المشبه ، كقوله :

فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى

مصباح رأيك تزده ضوء مصبح

٢ ـ مرسل ، وهو ما ذكرت فيه الأداة ، نحو :

كأن عيون النرجس الغض حولنا

مداهن درّ حشوهن عقيق

التشبيه البليغ (٤)

هو ما ذكر فيه الطرفان فقط وحذف منه الوجه والأداة ، وسبب تسميته بذلك أن حذف الوجه والأداة يوهم اتحاد الطرفين وعدم تفاضلهما فيعلو المشبه إلى مستوى المشبه به ، وهذه هي المبالغة في قوة التشبيه ، أما ذكر الأداة فيفيد ضعف المشبه وعدم إلحاقه بالمشبه به ، كما أن ذكر الوجه يفيد تقييد التشبيه وحصره في جهة واحدة.

ومن أمثلته ما يأتي :

__________________

(١) إذ ادعى فيه كمال المشابهة وألفاظ الرجحان ان بعد التشبيه ، لما في الحسبان ونحوه من عدم التيقن.

(٢) الدرع ثوب ينسج من زرد الحديد يلبس في الحرب للوقاية ، والسحب : جمع سحابة ، والمزردة المنسوجة.

(٣) البهم : جمع بهمة ، وهو الشجاع الذي يستبهم على أقرانه مأتاه.

(٤) هذه طريقة لبعضهم ، وتقدم أن بعضهم يسمي التشبيه البعيد الغريب بالبليغ.

٢٣٣

فالأرض ياقوته والجو لؤلؤه

والنبت فيروزج والماء بلور

طلعن بدورا وانقبن أهلة

ومسن غصونا والتفتن جآذرا

فاقضوا مآربكم عجالا إنما

أعماركم سفر من الأسفار

التشبيه الضمني (١)

هو ما لم يصرح فيه بأركان التشبيه على الطريقة المعلومة ، بل يفهم من معنى الكلام وسياق الحديث كقوله :

علا فما يستقر المال في يده

وكيف تمسك ماء قنة الجبل

فإنه قد شبه الممدوح المفهوم من ضمير علا بقنة الجبل ووجه الشبه عدم استقرار شيء والأداة محذوفة ، ونحوه قول المتنبي :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وقول الطغرائي :

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع

والشمس رأدالضحى كالشمس في الطفل (٢)

المبحث الحادي عشر في الغرض من التشبيه

الغرض من التشبيه وهو الإيضاح والبيان مع الايجاز والاختصار يعود في الأغلب (في التشبيه غير المقلوب) الى المشبه لوجوه ، منها :

١ ـ بيان إمكانه ، إذا كان أمرا غريبا لا يمكن فهمه وتصوره إلا بالمثال ، كقول البحتري :

دنوت تواضعا وعلوت مجدا

فشأناك انحدار وارتفاع

كذلك الشمس تبعد أن تسامي

ويدنو الضوء منها والشعاع

فحين أثبت للمدوح صفتين متناقضتين ، هما القرب والبعد ، وكان ذلك غير ممكن في مجرى العرف والعادة ، ضرب لذلك المثل بالشمس ، ليبين إمكان ما قال.

__________________

(١) سمي ضمنيا لأنه يفهم ضمن القول وسياق الكلام.

(٢) شرع أي سواء ، ورأد الضحى : ارتفاعه ، والطفل : احمرار الشمس عند الغروب.

٢٣٤

٢ ـ بيان حاله ، إذا كان غير معروف الصفة قبل التشبيه ، كقول النابغة يمدح النعمان :

كأنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

فالوجه عظم حال النعمان وصغر حال الملوك الآخرين إذا قيسوا به.

ويكثر استعماله على هذا النحو في العلوم والفنون للايضاح والبيان لتقريب الحقائق الى أذهان المتعلمين ، كما يقال لهم : الأرض كالكرة ، والذئب كالكلب في الحجم.

٣ ـ بيان مقدار حاله في القوة والضعف إذا كان معروف الصفة قبل التشبيه فبه يعرف مقدار نصيبه ، كقول الأعشى :

كأن مشيتها من بيت جارتها

مرّ السحابة لا ريث ولا عجل (١)

٤ ـ تقرير حاله في نفس السامع ، بإبرازها فيما هي فيه أظهر وأقوى ، ويكثر في تشبيه الأمور المعنوية بأخرى تدرك بالحس كقولك للمشتغل بما لا فائدة فيه : أنت كالراقم على الماء ، إذ بالتشبيه يظهر أنه قد بلغ من الخيبة أقصى الغاية وكقول المتنبي :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام (٢)

وقوله :

إن القلوب إذا تنافر ودها

مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

٥ ـ تزيين المشبه وتحسين حاله ليرغب فيه ، كقول ابن المعتز يصف الهلال :

أهلا بفطر قد أنار هلاله

فالآن فاغد على الشراب وبكر

انظر اليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر (٣)

٦ ـ تشويه المشبه وذمه ليكره ويرغب عنه ، نحو :

كلف في شحوب وجهك يحكي

نكتا فوق وجنة برصاء

__________________

(١) الريث : البطء.

(٢) فيه تشبيه ضمني إذ قد شبه حال من يقبل الهوان بحال الميت بجامع عدم التأثر ، وذلك مفهوم ضمنا.

(٣) الحمولة : ما يحمل فيه ويوضع ، والوجه وجود شيء أسود في داخل شيء أبيض.

٢٣٥

وقوله في ذم القصر :

وترى أناملها دبت على أوتارها

كخنافس دبت على أوتار

٧ ـ استطرافه وجعله مستحدثا بديعا إما لابرازه في صورة ما يمتنع عادة كما يشبه الجمل الموقد ببحر من المسك موجه الذهب وإما لندور حضور المشبه به في النفس عند حضور المشبه كقولى ابن الرومي في تشبيه بنفسجة :

ولازوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها بين قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت (١)

قال الإمام عبد القاهر : فقد أراك شبها لنبات غض يرف (٢) وأوراق رطبة من لهب نار في جسم مستول عليه اليبس ، ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه ، وخرج من موضع ليس بعدن له كانت صيانة النفوس به أكثر وكان الشغف به أجدر.

ونحوه قول عدي ابن الرّفاع يصف قرن غنان :

تزجى أغن إبرة روقه

قلم أصاب من الدواة مداها

وقد يعكس التشبيه (فيجعل المشبه مشبها به وبالعكس) ، وعندئذ يجعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، ويشبه الزائد بالناقص للمبالغة ، وإيهام أن المشبه أقوى وأتم من المشبه به في وجه الشبه ، فتعود الفائدة حينئذ الى المشبه به لا الى المشبه ، كقول محمد ابن وهيب يمدح المأمون :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح (٣)

فقد جعل وجه الخليفة كأنه أعرف وأتم من غرة الصباح في الإشراق والضياء ، وقوله :

وأرض كأخلاق الكريم قطعتها

وقد كحل الليل السماك فأبصرا

__________________

(١) الواو واو رب ، واللازوردية أزهار من البنفسج ، وحمر اليواقيت الأزهار ، والقامات السيقان ، وضعفن بها : أي ضعفن عن حملها.

(٢) يرف : يهتز.

(٣) في قوله يمتدح : دلالة على اتصاف الممدوح بمعرفة حق المادح وتعظيم شأنه لدى الحاضرين بالاصغاء اليه حيث يرتاح لسماع المدائح وتظهر عليه علامات البشر والسرور.

٢٣٦

وذلك أنه لما رأى استمرار وصف الأخلاق بالضيق وبالسعة ، تعمد تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم بادعاء أنه في السعة أكمل من الأرض المتباعدة الأطراف ، وقوله تعالى حكاية عن مستحلي الربا : إنما البيع مثل الربا ، إذ مقتضى الظاهر أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، لكنهم خالفوا ذلك ذهابا منهم الى جعل الربا في الحل أقوى حالا من البيع.

ومنه قول البحتري :

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تئنيها

وقوله في وصف بركة المتوكل :

كأنها حين لجت في تدفقها

يد الخليفة لما سال واديها

وكل هذا إذا أريد إلحاق الناقص في وجه الشبه حقيقة ، أو ادعاء بالزائد فيه فإن أريد مجرد الجمع بين شيئين في أمر جاز التشبيه ، ولكن الأحسن تركه والعدول الى التشابه ليكون كل من الطرفين مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر ، كما فعل أبو إسحاق الصابي في قوله :

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي

فمن مثل ما في الكاس عيني تسكب

فو الله ما أدري أبالخمر أسلبت

جفوني أم من عبرتي كنت أشرب (١)

ويجوز التشبيه أيضا كتشبيههم غرة الفرس بالصبح وعكسه متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه ، من غير قصد ، الى المبالغة في وصف الغرة بالضياء وفرط التلألؤ ، ونحو ذلك ، وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة ، أو الدينار الخارج من السكة ، كما قال ابن المعتز :

وكأن الشمس المنيرة دينا

ر جلته حدائد الضراب

وعكسه متى أريد استدارة متلألىء متضمن لخصوص في اللون ، وإن عظم التفاوت بين نور الشمس ونور المرآة ، والدينار وبين الجرمين ، إذ ليس شيء من ذلك بمنظور اليه في التشبيه.

__________________

(١) سكب الدمع : إرساله ، وأسبل الدمع والمطر اذا مطل.

٢٣٧

المبحث الثاني عشر في أقسام التشبيه باعتبار الغرض

ينقسم التشبيه باعتبار الغرض الى : حسن وقبيح ، أو : مقبول ومردود :

١ ـ فالحسن هو الوافي (١) بإفادة الغرض المطلوب منه ، وذلك هو النمط الذي تسمو اليه نفوس البلغاء ، كقول امرىء القيس يصف فرسا :

على الذبل جياش كأن اهتزامه

إذا جاش فيه حمية غلى مرجل (٢)

وقول ابن نباتة في وصف فرس أغر أبلق :

وكأنما لطم الصباح جبينه

فاقتص منه فخاض في أحشائه

وقول الآخر :

نشرت إلي غدائرا من شعرها

حذر الكواشح والعد والموبق

فكأنني وكأنها وكأنه

صبحان باتا تحت ليل مطبق (٣)

٢ ـ والقبيح هو ما لم يف بالغرض لعدم وجود وجه شبه بين المشبه والمشبه به ، أو مع وجوده ، لكن على بعد ، وما أحق مثل هذا بالاستكراه والذم ، وأي شيء أولى بنفور الطبع السليم منه ، وذلك كقول أبي نواس يصف الخمر :

وإذا ما الماء واقعها

أظهرت شكلا من الغزل

لؤلؤات ينحدرن بها

كانحدار الذر من جبل

فهذا تشبيه بعيد ركيك ، غث اللفظ بشعه ، فهو قد شبه الحبب بنمل صغار ينحدر من جبل ، وشبيه به قول الفرزدق :

يمشون في حلق الحديد كما مشت

جرب الجمال بها الكحيل المشعل (٤)

__________________

(١) وذلك بأن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه اذا كان الغرض بيان حال المشبه أو مقدار الحال ، أو أتم شيء فيه اذا قصد إلحاق الناقص بالكامل ، أو مسلم الحكم معروفا عند المخاطب اذا كان الغرض بيان إمكان الوجود.

(٢) الذبل والذبول : الضمور وقلة اللحم ، والاهتزام : التكسر ، والحمى : حرارة القيظ ، والمرجل : القدر.

(٣) الكاشح الذي يضمر العداوة ، والموبق المهلك.

(٤) الكحيل : القطران ، تطلى به الابل ، والمشعل : الكثير.

٢٣٨

فقد شبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب ، وذلك من البعد بمكان لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما فيه ، فإن لون حديد الدروع أبيض ، وإن أراد شيئا آخر فليس بواضح مع ما فيه من السخف ، ونحوه قول المتنبي :

وجرى على الورق النجيع القاني

فكأنه النارنج في الأغصان (١)

إذ لا مشاكلة بين لون الدم ولون النارنج.

تذييل

وفيه أمران :

١ ـ التشبيه ، باعتبار المبالغة أقسام ثلاثة :

(أ) أعلاها ما حذف فيه الوجه والأداة ، نحو : محمد أسد.

(ب) المتوسط في المبالغة ، وهو ما حذف فيه الوجه ، أو الأداة ، نحو :

علي كالبدر ، أو : علي بدر في الحسن والبهاء.

(ج) أدناها ما ذكر فيه الوجه والأداة ، نحو : علي كالأسد في الشجاعة.

ذاك أن القوة إما بعموم وجه الشبه ظاهرا (٢) ، أو بحمل المشبه به على المشبه وإيهام أنه هو ، فما اشتمل على الوجهين معا فهو في غاية القوة ، وهو القسم الأول ، وما خلا منهما معا ، فلا قوة له ، وهو القسم الثالث ، وما اشتمل على أحدهما فقط فهو متوسط ، وهو القسم الثاني.

٢ ـ اختلف القوم في التشبيه ، أيعد من المجاز أم لا؟ فأهل التحقيق قالوا : الطرفين مستعمل في موضوعه.

وذهب ابن الأثير الى أنه مجاز وحجته أن مضمر الأداة من التشبيه معدود في الاستعارة فيجب أن يكون مظهرها كذلك إذ لا فرق بينهما إلا بظهور الأداة وظهورها إن لم يزده قوة ودخولا في المجاز لم يكن مخرجا له عن سننه ، كذا في «الطراز» بتصرف.

__________________

(١) النجيع : الدم الطري ، يريد أنه جرت دماء القتلى على ورق الشجر.

(٢) إنما قلنا ظاهرا لأن الوجه لا بد أن يكون صفة خاصة قصد اشتراك الطرفين فيها كالشجاعة ونحوها ، لكن قولك : كالأسد ، يفيد أن وجه الشبه عام في أوصاف كثيرة ، كالشجاعة والمهابة والقوة وكثرة الجري ، الى غير ذلك من أوصاف الأسد.

٢٣٩

أثر التشبيه في النفس

قال المبرد في «الكامل» : التشبيه جار كثيرا في كلام العرب حتى لو قال قائل هو أكثر كلامهم لم يبعد ، قال الله عزوجل وله المثل الأعلى في الزجاجة : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ)(١).

وقال أبو هلال في «الصناعتين» : التشبيه يزيد المعنى وضوحا ، ويكسبه تأكيدا ، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه ، ولم يستغن أحد عنه.

وسر هذا أن للخيال نصيبا كبيرا فيه ، فهو يفتنّ حتى لا يقف عند غاية ، وأنه يعمل عمل السحر في إيضاح المعاني وجلائها ، فهو ينتقل بالنفس من الشيء الذي تجهله ، الى شيء قديم الصحبة ، طويل المعرفة ، وغير خاف ما لهذا من كثير الخطر ، وعظيم الأثر.

انظر قوله عليه‌السلام في ذم من يعلم الخير ولا يعمل به : «مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس وهو يحترق».

وإنك لترى فيه تشنيع حال من اتصف به ، وكأنك تشاهد النار وهي تعلق به وتأخذ منه بالنواصي والأقدام.

وتأمل قول أبي العلاء المعري :

إن الشبيبة نار إن أردت بها

أمرا فبادره إن الدهر مطفيها

تجده جعل عزيمة الشباب الوثابة المتحفزة للعمل كالنار ، يمتد لهيبها ، ويشتد أوارها ، لكنها لا تلبث حتى تخمد جذوتها ، وينطفىء ذلك اللهب المتقد ، ومن ثم طلب الى الشباب البدار الى نيل المآرب ، وعدم التواني في درك المقاصد.

وإلى قول مهيار الديلمي :

وبعض مودات الرجال عقارب

لها تحت ظلماء العقوق دبيب

تره صور بعض المودات بصورة عقارب ، تسير في الظلماء على غير هدى ، وتنفث سمومها ما استطاعت الى ذلك سبيلا.

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٥.

٢٤٠