علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

١ ـ سهولة الحفظ ، فقد قيل لأبي عمرو بن العلاء : هل كانت العرب تطيل؟

قال : نعم كانت تطيل ليسمع منها ، وتوجز ليحفظ عنها.

٢ ـ إخفاء الأمر عن غير المخاطب.

٣ ـ ضيق المقام خوف فوات الفرصة.

٤ ـ ذكاء المخاطب ، حيث تكفيه اللمحة والوحي والاشارة.

ومن دواعي الاطناب :

(١) توكيد المعنى وتثبيته في النفس ، أفلا ترى الى قوله تعالى في باب الموعظة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(١).

(٢) دفع اللبس الذي كان يحتمل وجوده مع الايجاز واعتبر ذلك بما تراه في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(٢) فكلمة القلب تحتمل أحد معنيين : القطعة من اللحم ، والفهم والادراك ـ لهذا أتي بكلمة في جوفه ليتعين المعنى الثاني ، ويزول اللبس ، وقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٣) ، فأتى بكلمة في الصدور لدفع اللبس بأن المراد بها العيون الباصرة.

(٣) التعظيم والتهويل ، انظر الى قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(٤) ، إذ كان يكفي في الدلالة على وقت علم النفس ما أحضرت قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أو غيره مما بعده من الاثني عشر المذكورة ، لكنه عدّدها لتهويل شأن هذا اليوم.

__________________

(١) سورة الأعراف الآيتان ٩٨ و ٩٩.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٤.

(٣) سورة الحج الآية ٤٦.

(٤) سورة التكوير الآيات ١ ـ ١٤.

٢٠١

تدريب أول

بيّن الايجاز والاطناب والمساواة ، مع ذكر السبب فيما يلي :

١ ـ (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ،) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

٢ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً)(١)

٣ ـ وقال اعرابي : إن شككت فيّ فاسأل قلبك عن قلبي.

٤ ـ واحرص على حفظ القلوب من الأذى

إن الزجاجة كسرها لا يشعب

٥ ـ (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(٢)

٦ ـ جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين فزلت

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا

إلى حجرات أدفأت وأظلت

٧ ـ أخرج منها ماءها ومرعاها.

٨ ـ (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)(٣)

الاجابة

__________________

(١) سورة النبأ الآية ٣٣.

(٢) سورة الفجر الآيات ٣ و ٤ و ٥.

(٣) سورة الزخرف الآية ٧١.

٢٠٢

تدريب ثان

١ ـ علمتني نبوتك سلوتك ، وأسلمني يأسي منك الى الصبر عنك.

٢ ـ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(١)

٣ ـ والسعي في الرزق والأرزاق قد قسمت

بغي ألا إن بغي المرء يصرعه

٤ ـ لا تودع السر وشاء به مذلا

فما رعى غنما في الدو سرجان

٥ ـ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(٢)

٦ ـ ألا حبذا حبذا حبذا

حبيب تحملت منه الأذى

٧ ـ قال أبو دعبل الجمحي يمدح النبي عليه‌السلام :

نزر الكلام من الحياء تخاله

ضمنا وليس بجسمه سقم

٨ ـ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.

الاجابة

__________________

(١) سورة الانشراح الآيتان ٥ و ٦.

(٢) سورة الطلاق الآية ٣.

٢٠٣

تمرين أول

بيّن الايجاز والاطناب والمساواة وأسبابها فيما يلي :

١ ـ يهون بالرأي ما يجري القضاء به

من أخطأ الرأي لا يستذنب القدرا

٢ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ)(١).

٣ ـ تراه كأن الله يجدع أنفه

(وعينيه) إن مولاه ثاب له وفر

٤ ـ أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة

ونأي حبيب إن ذا لعظيم

وإن امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنه لكريم

٥ ـ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٢).

٦ ـ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا.

٧ ـ فسائل هداك الله أي بني أب

من الناس يسعى سعينا ويقارض

٨ ـ سئل بعض الأدباء : ما كان سبب موت أخيك؟ فقال : (كونه) فأحسن ما شاء.

٩ ـ (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)(٣).

تمرين ثان

١ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

٢ ـ (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)(٤).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «حبك الشيء يعمي ويصمّ».

٤ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٥).

__________________

(١) سورة غافر الآية ٣٩.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٠٤.

(٣) سورة آل عمران الآية ٣٦.

(٤) سورة الإسراء الآية ١٩.

(٥) سورة الواقعة الآية ٧٥.

٢٠٤

٥ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(١).

٦ ـ حليم اذا ما الحلم زين أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب

٧ ـ فدعوا نزال فكنت أول نازل

وعلام أركبه اذا لم أنزل

٨ ـ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.

٩ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢).

نموذج عام على المعاني

تكلم من المعاني على ما يأتي :

تهوى الثناء مبرّر ومقصّر

حب الثناء طبيعة الإنسان

الاجابة

إن تطبيق جملة من النثر أو بيت من الشعر على فن المعاني يستدعي أن نعرض أبوابه ، فنرى في هذا البيت :

(١) جملتان خبريتان أولاهما فعلية مضارعة تقتضي الاستمرار التجددي ، بدليل أن الغرض الموعظة ، والثانية اسمية تفيد الاستمرار والدوام ، كما هو شأن الاخلاق والغرائز.

(٢) كل من الجملتين ضرب ابتدائي خال من المؤكدات.

(٣) ذكر المفعول لأن القصد تعلق الفعل به.

(٤) قدم المفعول على المستند اليه في الجملة الأولى ، لأنه الأهم في الكلام.

(٥) نكر المسند اليه لقصد التعميم.

(٦) عرف المفعول بأل لإرادة الجنس.

(٧) فصل بين الشطرين ، لأن بينهما شبه كمال الاتصال ، لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر.

(٨) في البيت إطناب بالتذييل الجاري مجرى المثل.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٩٢.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٣٤.

٢٠٥

نموذج ثان

أنشأ يمزق أثوابي يؤدبني

أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا

الاجابة

(١) في الشطر الأول جملتان خبريتان من الضرب الابتدائي وفي الشطر الثاني جملة إنشائية.

(٢) الغرض من إلقاء الخبر فيهما التحسر على تلك المعاملة القاسية التي عامله بها ابنه.

(٣) قدم الظرف وهو بعد في الشطر الثاني لأنه محط الإنكار.

(٤) الاستفهام فيه للتوبيخ.

(٥) قيد الجملة الأولى بتابع وهو عطف البيان لغرض الايضاح والبيان ، وقيد الجملة الثانية بظرف الزمان ، لأنه هو المقصود بالإنكار.

(٦) فصل بين جملتي : أنشأ ويؤدبني ، لأن بينهما كمال الاتصال ، لأن الثانية بيان للأولى ، وبين جملتي : أنشأ ، وأبعد شيبي ، لأن بينهما كمال الانقطاع لاختلافهما خبرا وإنشاء.

(٧) في البيت اطناب بالتذييل غير الجاري مجرى المثل.

٢٠٦

علم البيان

البيان لغة الكشف والايضاح ، يقال : فلان أبين من فلان ، أي أوضح منه كلاما واصطلاحا ـ علم يستطاع بمعرفته إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة ، وتراكيب متفاوتة في وضوح الدلالة ، مع مطابقة كل منها مقتضى الحال.

وتقييد الاختلاف بالوضوح لتخرج الألفاظ المترادفة كليث وأسد وغضنفر ، فإنها وإن كانت طرقا مختلفة لإيراد المعنى الواحد ، فاختلافهما إنما هو في اللفظ والعبارة ، لا في الوضوح والخفاء.

واللام في المعنى الواحد للاستغراق العرفي ، أي كل معنى يدخل تحت قصد المتكلم وإرادته ، فلو عرف أحد إيراد معنى واحد ، كقولنا : علي جواد ، بطرق مختلفة لم يكن بذاك عارفا بالبيان.

إيضاح هذا التعريف ، أن الضليع بهذا الفن ، اذا حاول التعبير عما يختلج في صدره من المعاني وجد السبيل ممهدا ، فيختار ما هو أليق بمقصده وأشبه بمطلبه من فنون القول وأساليب الكلام ، فإذا حث همة الشجعان على اقتحام غمار الوغى بهرهم بساحر بيانه وعظيم إحسانه ، فإن شاء شبههم بأسود خفان ، فقال : كأنكم أسود لها في غيل خفّان (١) أشبل ، وإن شاء استعار ، وقال : إني أرى هنا أسودا تتحفز للكر والفر وتثب لاقتناص فرائسها ولها قرم (٢) الى الأخذ بنواصيها وحز رؤسها ، وإن أراد كنى عن مقصده وروى عن مراده فقال : البسوا لعدوكم جلد النمر (٣) واقلبوا له ظهر المجن فإنه قد ورم أنفه عليكم وداسكم تحت أقدامه.

__________________

(١) مأسدة مشهورة بضراوة أسدها.

(٢) شهوة الطعام.

(٣) كناية عن إظهار العداوة ، ومثله ما بعده.

٢٠٧

هنالك تناديه القلوب وتتسابق اليه الفرسان قائلة : لبيك لبيك ها نحن أولاء نحمي الذمار ، ونجير الجار ، ونجدل الأقران ، ونصرعهم في الميدان ، ونبيع النفوس رخيصة ونشتري بها المجد والسؤدد :

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وإن دعا النفوس لمكرمة وهز العطف لمحمدة أمكنه أن يقول : كأنكم البحور يعمّ فيضها القاصي والداني وتطعم بأنعامها الفقير والغني.

أو يقول : هذه البحور على سواحلها القصاد تقذف أمواجها ما يفرج كربة البائس ويدفع الضر عن المعدم.

أو يقول : إني أرى مجدا مد سرادقه ، وندى ضربت خيامه.

إذ ذاك تسخو كف البخيل ويهتز عطف الكريم وتصبو النفوس لاكتساب المحامد ونيل المجد بالثمن الربيح.

موضوعه : اللفظ العربي ، من حيث التفاوت في وضوح الدلالة بعد رعاية مطابقته مقتضى الحال.

فائدته : ستعلم مما يلي أن مباحث البيان محصورة في المجاز على أنحائه ، أي انه بمعنى أعم يشمل الكناية ، وأن التشبيه إنما ذكر فيه لبناء الاستعارة عليه.

والمجاز ثروة كبيرة في اللغة من جهات عدة ، منها :

١ ـ الإكثار من الألفاظ وتعدد الوضع تفننا في التعبير كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث ، على ما سيأتي.

٢ ـ التذرع الى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات ، كقولهم : ساق الشجرة ، وإبط الوادي ، وعنق الابريق ، وذوابة الرحل (١).

٣ ـ التذرع الى الوضع لتمثيل صور المعاني ، كقولهم : نبض (٢) البرق ، سبح (٣) الفرس.

__________________

(١) الجلدة المعلقة على آخر الرحل.

(٢) لمع خفيفا ، أخذوه من نبض العرق.

(٣) مد يديه في الجري ، كما يفعل السابح.

٢٠٨

٤ ـ الرمز الى حقائق المعاني كقولهم : سافر ولا ظهر (١) له ، وفلان يملك رقبة أي عبدا.

وهاك مثلا يبين لك اتساع اللغة بالمجاز ، ذلك أن مادة كف أصلها الكف ، وهو الجارحة ، ثم تصرفوا فيها واستعملوها على أنحاء شتى مجازا ، فقالوا :

كفه عن الأمر ، اذا منعه ، كأنه دفعه بكفه من استعمال اللفظ في لازمه مجازا مرسلا ، وكف هو عن الأمر اذا امتنع وهو من وادي سابقه ، واستكف السائل وتكفف اذا طلب بكفه ، واستكف بالصدقة اذا مد يده بها لتعطيه إياها ، وكفه الميزان لشبهها بالكف في الشكل ، والكفة النقرة المستديرة ، يجتمع فيها الماء ، واستكفوا حوله اذا أحاطوا به ينظرون اليه ، الى نحو هذه المعاني التي ترجع كلها إلى معنى الكف.

فالمجاز إذا غذاء اللغة والروح الذي لا تحيا بدونه ، ولا قوام لها إلا به ، ولولاه ما كنا نرى فيها البهجة والجمال اللذين يتذوقهما كل ناطق بالضاد.

(واضعه) أول من دوّن مسائل هذا العلم أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه «مجاز القرآن» ، وتبعه الجاحظ ، وابن المعتز ، وقدامة بن جعفر ، وأبو هلال العسكري ، وما زال يشدو شيئا فشيئا حتى جاء الإمام عبد القاهر فأحكم أساسه وشيد بناءه.

الدلالة

علمت مما سبق أن فائدة هذا العلم إبراز المعنى بطرق مختلفة في وضوح الدلالة فناسب تعريف الدلالة وبيان أقسامها ، فنقول :

الدلالة فهم أمر من أمر ، والأول المدلول ، والثاني الدال ، وهي : إما لفظية وإما غير لفظية.

والثانية لا علاقة لها بمباحث هذا الفن .. والأولى أقسام ثلاثة :

١ ـ دلالة اللفظ على تمام مسماه وتسمى دلالة المطابقة : كدلالة الإنسان والأسد على حقيقتيهما.

__________________

(١) أي لا دابة له يركب ظهرها.

٢٠٩

٢ ـ دلالة اللفظ على بعض مسماه ، وتسمى : دلالة التضمن ، كدلالة البيت على السقف أو الحائط.

٣ ـ دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة الإنسان على كونه متحركا أو شاغلا لجهة ، أو نحو ذلك ، وشرطه اللزوم الذهني (١) (سواء أصاحبه لزوم خارجي ، أم لا) بحيث يلزم من حصول المعنى الموضوع له في الذهن حصول فيه إما على الفور ، أو بعد التأمل في القرائن والامارات ، لكن لا يشترط أن يكون اللزوم مما يثبته العقل (٢) ، بل يكفي أن يكون لعرف عام (٣) ، أو عرف خاص (٤) ، كاصطلاحات أرباب الصناعات والاصطلاحات الشرعية واللغوية.

والدلالة الأولى تسمى عند البيانين وضعية ، ويستحيل تفاوتها وضوحا وخفاء لأن السامع لشيء من الألفاظ الموضوعية ، إما أن يكون عالما بالوضع للمسمى أولا ، فإن كان الأول فإنه يعرفه بتمامه بلا زيادة ولا نقصان ، وإن كان الثاني فإنه لا يعرف منه شيئا أصلا.

والثانية والثالثة تسميان : عقليتين ، لأن دلالة اللفظ على الجزء ، واللازم مصدرها العقل الحاكم بأن حصول الكل مستلزم حصول الجزء ، ووجود الملزوم مستلزم وجود اللازم ، ويتأتى فيهما الاختلاف وضوحا وخفاء ، إذ اللوازم كثيرة بعضها قريب اللزوم يسبق الى الذهن فهمه بسرعة ، وبعضها بعيد ، فيصح اختلاف الطرق فيها ويكون بعضها أكمل من بعض في الإفادة.

وكذا يجوز أن يكون المعنى جزءا من شيء وجزءا من شيء آخر ، فدلالة الشيء الذي ذلك المعنى جزء منه على ذلك المعنى ، أوضح دلالة من الشيء الذي ذلك المعنى جزء من جزئه على ذلك المعنى.

__________________

(١) أي أنه لا يشترط باللزوم الخارجي أيضا ، ألا ترى أن العمى يدل على البصر التزاما إذ هو عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا مع التنافي بينهما في الخارج.

(٢) وهو اللزوم البين المعتبر عند المنطقيين وإلا لما تأتى الاختلاف بالوضوح في دلالة الالتزام ولخرج كثير من المعاني المجازية والكنائية ، لأنه ليس بينها وبين ملزوماتها مثل هذا اللزوم.

(٣) كلقاء الحبيب بالنسبة لاختلاج العين ، إذ كثير من الناس يعتقد أن اختلاج العين يبشر بلقاء الحبيب ، فاذا قلت لواحد : من هؤلاء عيني تختلج ، فهم من ذلك أنك ستلقى حبيبا.

(٤) كما اذا قلت : هذا قدوم ، على فهم السامع أنه نجار.

٢١٠

فدلالة الحيوان على الجسم أوضح (١) من دلالة الإنسان عليه ، ودلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة البيت عليه.

وفي هذا مجال لقائل : إذ الدلالة الوضعية ربما يعرض لها الوضوح والخفاء ، ألا ترى أنا نجد في أنفسنا ألفاظا محفوظة لدينا ، معلومة الوضع ، ومع ذلك يحضر لنا معنى بعضها بنفس الالتفات اليه ، لكثرة الممارسة ، أو لقرب العهد باستعماله في معناه ، أو لقرب العهد بعلم وضعه ، وبعضها لا يحضر معناه إلا بالمراجعة مرة بعد أخرى لطول العهد بعلم وضعه ولعدم تداوله.

أضف الى ذلك أن التركيب الذي فيه تعقيد لفظي لا يفهم معناه إلا بعد التأمل ، مع العلم بوضع جميع ألفاظه ، فليس ببعيد إذا أن تكون قابلة للوضوح والخفاء. وقد أجيب عن الأول بأن التوقف والمراجعة لطلب تذكر الوضع المنسي ، لا لخفاء الدلالة ، بدليل أنه عند ما نتذكر الوضع نعلم المعنى من غير توقف ، وعن الثاني بأن الهيئة مختلفة ، والكلام عند اتفاقها ، لأن لها دخلا في الفهم الوضعي.

أبواب الفن

اعلم أن اللفظ إن استعمل في معناه الموضوع له فحقيقة ، وإن استعمل في غيره ، لعلاقة مع قرينة ، فإما مانعة من إرادة المعنى الأصلي فمجاز ، وإما غير مانعة فكناية.

والمجاز إن كان لعلاقة المشابهة فاستعارة مفردا كان أو مركبا ، وإن كان لعلاقة غير المشابهة فإن كان مفردا سمي مجازا مرسلا ، وإن كان مركبا قيل له : مجاز مركب مرسل.

والاستعارة مبنية على التشبيه ، فوجب التعرض له ، فعلم من هذا وبما تقدم من أن الدلالة الوضعية لا تتفاوت وضوحا وخفاء على المشهور ، أن أبواب هذا الفن أربعة : التشبيه المجاز بقسميه ، الكناية ـ أما الحقيقة فإنما تذكر فيه ليتضح مقابلها ، وهو المجاز أشد الوضوح (وبضدها تتميز الأشياء) وأيضا فهي أصل المجاز ، وهو فرع لها تناسب ذكرها في الفن تبعا.

__________________

(١) لأن دلالة الحيوان عليه بلا واسطة ، بخلاف الثانية.

٢١١

ويمكن إيضاح ذلك بما تراه في الرسم الآتي :

٢١٢

الباب الاول في التشبيه

وفيه اثنا عشر مبحثا

المبحث الأول في شرح حقيقته وبيان جليل فائدته

التشبيه لغة التمثيل ، يقال : هذا شبه هذا ومثيله ، وشبهت الشيء بالشيء أقمته مقامه لما بينهما من الصفة المشتركة.

واصطلاحا : إلحاق أمر (المشبه) بأمر (المشبه به) في معنى مشترك (وجه الشبه) بأداة (الكاف وكأن وما في معناهما) لغرض (فائدة) (١).

(أركانه) مما سبق تعلم أن أركانه أربعة : مشبه ومشبه به ، ويسميان بالطرفين ، ووجه شبه ، وأداة.

(فائدته) إيضاح المعنى المقصود مع الايجاز والاختصار ، ألا ترى أنك إذا قلت : علي كالأسد ، كان الغرض أن تبين حال علي ، وأنه متصف بقوة البطش وشدة المراس وعظيم الشجاعة ، وما الى ذلك من أوصاف الأسد البادية للعيون.

ولا شيء أدل على ذلك من تشبيهه بالأسد من أجل أن كانت هذه الصفات خصيصي بالأسد مقصورة عليه ، فصار هذا القول أكشف وأبين للقصد من قولك علي شجاع جريء ، الى أشباه ذلك.

ومن أسباب ذلك ما يلي :

١ ـ ما يحصل للنفس من الأنس به بإخراجها من الخفي الى الجلي الواضح ، ألا ترى أنك اذا وصفت يوما بالقصر ، فقلت : هذا يوم من أقصر ما يتصور ، لم يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولك : يوم كإبهام القطاة.

__________________

(١) عرفه ابن رشيق في «العمدة» بأنه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة ، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية كان إياه ، وقيل : هو إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها واختلفا في كيفيتها قوة وضعفا.

٢١٣

أو لنحو قوله :

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذباب (١)

٢ ـ ما يحصل لها من الانس بإخراجها مما لم تألفه ، الى ما هي به آلف ، فإذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمر على شاطىء نهر وأردت أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على فائدة ، فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له : انظر ، هل حصل في كفي شيء من الماء ، فكذلك أنت في أمرك ـ كان لذلك تأثير في النفس وتمكين للمعنى في القلب يزيد على القول المرسل إرسالا.

٣ ـ ما يحصل لها بالانتقال مما تعلمه الى ما هي به ، فإنك ترى الفرق بينها وبين أن تقول : الدنيا لا تدوم ، ثم تسكت ، وبين أن تذكر عقب ذلك قوله عليه‌السلام : «من في الدنيا ضيف ، وما في يده عارية ، والضيف مرتحل ، والعارية مؤداة» ، أو تنشد قول لبيد :

وما المال والأهلون إلا وديعة

ولا بد يوما أن ترد الودائع

المبحث الثاني في الطرفين

ينقسم الطرفان الى حسيين وعقليين ومختلفين ، وإلى مفردين ومركبين ومختلفين ، فالحسيان ما يدركان هما أو مادتهما أي أجزاؤهما بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ، وبهذا التفسير دخل في الحسي شيئان :

ما كان للطرفان فيه مشتركين ، إما : في صفة مبصرة كتشبيه الحور الحسان بالياقوت والمرجان في قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٢).

وقول عنترة يصف غدرانا :

جادت عليها كل عين ثرة

فتركن كل قرارة كالدرهم (٣)

أو في صفة مسموعة كتشبيه الصوت الحسن بالموسيقى ، والأسلحة في وقعها بالصواعق ، والأصوات غير المفهومة بأصوات الفراريج ، في قول عياش بن سلمة يذم بني دالان :

__________________

(١) السالفة صفحة العنق ، وأراد هنا العنق كله.

(٢) سورة الرحمن الآية ٥٨.

(٣) الثرة كالثرثارة النويرة الماء ، والقرارة الحفرة ، والعين مطر أيام لا تقلع.

٢١٤

كأن بني دالان إذا جاء جمعهم

فراريج يلقى بينهن سويق (١)

أو في صفة مذوقة ، كتشبيه الفواكه الحلوة بالعسل ، والبرقوق الكرز ، والريق بالخمر ، في قول امرىء القيس :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر

يعل به برد أنيابها

إذا طرب الطائر المستحر (٢)

أو في الصفة المشمومة كتشبيه رائحة الرياحين المجتمعة بالغالية (٣) والنكهة بريح العنبر.

أو في الصفة الملموسة ، كما يشبه الجسم بالحرير في النعومة ، كقول ذي الرمة :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

(الخيالي) وهو المعدوم الذي يفرض مجتمعا من أمور عدة ، كل منها مدرك بالحس ، كقول أبي الغنائم المحصي :

خود كأن بنانها

في خضرة النقش المزرد

سمك من البلور في

شبك تكون من زبرجد (٤)

فسمك على هذه الشاكلة ، وشبك بهذه الصفة لا يوجدان حتى يدركا بالحس ، لكن ما يتألفان منه وهو السمك والبلور وشبك والزبرجد ، يدركان بالحس.

والعقليان ما لم يدركا ، هما ولا مادتهما بإحدى الحواس ، كتشبيههم الضلال عن الحق بالعمى ، والعلم بالحياة ، وبهذا التفسير دخل في العقلي.

(الوهمي) (٥) وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس ، لكنه لو أدرك ، لكان مدركا بها ، كرؤوس الشياطين ، وأنياب الأغوال ، في قوله تعالى :

__________________

(١) الفراريج صغار الدجاج ، والسويق : الناعم من دقيق الحنطة والشعير ، وشبههم بذلك لدقة أصواتهم وعجلة كلامهم.

(٢) الصوب المطر ، والخزامى نبت طيب الرائحة ، والنشر الريح الطيبة ، والمستحر المغرد في السحر.

(٣) أخلاط من الطيب.

(٤) الخود الشابة الناعمة.

(٥) هو ما تخترعه المتخيلة من نفسها ، وهي قوة من قوى الادراك من شأنها اختراع أشياء لا حقيقة لها ، كما تصور الغول بصورة السبع وتخترع له أنيابا.

٢١٥

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(١) ، وقول امريء القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فهاتان لا تدركان بالحس ، لعدم وجودهما ، لكن لو أدركتا لم تدركا إلا بحاسة البصر.

(الوجداني) كتشبيههم الجوع بالنار ، والعطش باللهب وتسعر النار.

والمختلفتان إما بأن يكون المشبه عقليا والمشبه به حسيا ، كما يشبه العدل بالقسطاس ، والرأي بسواد الليل في قوله :

الرأي كالليل مسود جوانبه

والليل لا ينجلي إلا بإصباح

أو بالعكس بتقدير المعقول كأنه محسوس ويجعل كالأصل لذلك المحسوس مبالغة ، ويكون حينئذ من التشبيه المقلوب كما في تشبيه العطر بحسن الخلق في قول الصاحب بن عباد :

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدي له أخلاقه

والمفردان إما مطلقان ، كما في تشبيه الشعر بالليل ، والمخاطب بالحالم ، في قوله :

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة

فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

وأما مقيدان بوصف أو إضافة أو ظرف أو حال ، أو نحو ذلك ، مما يكون له تعلق بوجه الشبه ، كقولهم لمن يفخر بما ليس له ، كالحادي ، وليس له بعير (٢) ، فهذه الجملة الحالية محتاج اليها في تحقيق الشبه بينهما ، وكقول القاضي الفاضل :

والشمس بين الأرائك قد حكت

سيفا صقيلا في يد رعشاء

وأما مختلفان ، والمقيد هو المشبه ، نحو :

كأن فجاج الأرض وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفة حابل (٣)

ونحو قول المتنبي :

__________________

(١) سورة الصافات الآية ٦٥.

(٢) يضرب مثلا للرجل يفخر بما ليس له.

(٣) الفجاج جمع فج الطريق الواسع بين جبلين ، والكفة ما يصاد به (الشبكة).

٢١٦

وإذا الأرض أظلمت كان شمسا

وإذا الأرض أمحلت كان وبلا

وأما بالعكس كقول الخنساء :

أغرّ أبلج تأثمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وقول السري الرفاء :

والفجر كالراهب قد مزقت

من طرب عنه الجلابيب

واما مركبان (١) كقول بشار :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٢)

فالشبه (٣) هو مجموع الغبار والسيوف المتألقة في خلاله والمشبه به هو الليل الذي تتهافت كواكبه إذ لم يقصد تشبيه النقع بالليل والسيوف بالكواكب ، بل عمد الى تشبيه هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها ، وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب وتضطرب اضطرابا شديدا وتتحرك بسرعة الى جهات مختلفة ، وكذا الى هيئة الكواكب في تهاويها وتصادمها وتداخلها واستطالة أشكالها عند السقوط.

وهذا القسم ضربان :

١ ـ ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الثاني كقول القاضي التنوخي :

كأنما المريخ والمشتري

قدامه في شامخ الرفعة (٤)

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدامه شمعة

فإن المريخ في مقابلة المنصرف عن الدعوة ، ولو قيل : كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة ، كان ضربا من الهذيان.

__________________

(١) ليس الفرق بين المقيد والمركب باعتبار التركيب اللفظي لاستوائه فيهما غالبا ، بل باعتبار قصد المتكلم الهيئة بالذات والأجزاء يالتبع في المركب وباعتبار قصد جزء من الأجزاء والربط بغيره بالتبع في المفرد المقيد.

(٢) المثار من أثار الغبار.

(٣) ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من سقوط أجرام مستطيلة منيرة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم.

(٤) واو المشتري للحال ، فهو يقصد الهيئة التي تكون للمريخ متى كان المشتري أمامه.

٢١٧

٢ ـ ما يصح تشبيه كل جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر ، غير أن الحالة تتغير ، كقول أبي الطيب الرقيّ :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزر

فلو قيل : كأن النجوم درر وكأن السماء بساط أزرق ، كان تشبيها صحيحا ، ولكن أين هذا من ذاك الذي يملأ نفسك عجبا ، إذ يريك هيئة نجوم طالعة متألقة متفرقة في أديم سماء صافية الزرقة.

واما مختلفان ، وهو ضربان :

١ ـ أن يكون المشبه مفردا والمشبه به مركبا ، كقول الصنوبري :

وكأن محمر الشقيق

إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد (١)

فالمشبه هو الشقيق عند تصوبه (٢) وتصعده ، والمشبه به مركب ، وهو الصورة الحادثة من نشر أجرام حمر مبسوطة على رؤوس سيقان خضر مستطيلة.

٢ ـ أن يكون المشبه مركبا ، والمشبه به مفردا ، كقول أبي تمام يصف الربيع :

يا صاحبيّ تقصيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الربا فكأنما هو مقمر (٣)

يريد أن النبات لشدة خضرته مع كثرته وتكاثفه ، صار لونه يميل الى السواد فنقص من ضوء الشمس حتى صار كأنه ليل مقمر.

فهو قد شبه النهار الذي خالطه زهر الربا (وهذا مركب) بالليل المقمر (وهذا مفرد مقيد بالصفة).

__________________

(١) محمر الشقيق ورد أحمر في وسطه سواد ، يقال له : شقائق النعمان.

(٢) فهو مفرد مقيد بالظرف ، لأن أوراق الشقائق إنما تكون على هيئة العلم اذا مالت الى السفل أو العلو.

(٣) تقصيت الشيء بلغت أقصاه ، وشابه خالطه ، والربا جمع ربوة وهي المكان المرتفع ، وخص زهر الربا لأنها أنضر وأشد خضرة ، وفي الكلام حذف مضاف أي لون زهر الربا.

٢١٨

المبحث الثالث في تقسيم التشبيه

باعتبار الطرفين الى ملفوف ومفروق

الطرفان إن تعددا كان ذلك على ضربين :

١ ـ أن يؤتى بالمشبهات أولا على طريق العطف ، أو غيرها ، ثم يؤتى بالمشبهات بها كذلك ، ويسمى حينئذ تشبيها ملفوفا ، كقول امريء القيس يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

ولدى وكرها العناب والحشف البالي (١)

فقد شبه الرطب من قلوب الطير بالعناب ، وشبه اليابس العتيق منها بالحشف البالي.

وفضيلة هذا الضرب من التشبيه اختصار اللفظ ، وحسن الترتيب ، إلا أن في الجمع فائدة في المقصود من التشبيه كما هو الحال في التشبيه المركب.

٢ ـ أن يؤتى بمشبه ومشبه به ، ثم بآخر وآخر ، ويسمى تشبيها مفروقا ، كقول ابن سكرة :

الخد ورد والصدغ غالية

والريق خمر والثغر كالدر (٢)

المبحث الرابع في تقسيم التشبيه

باعتبار الطرفين الى تشبيه تسوية ، وتشبيه جمع

اذا تعدد أحد الطرفين كان ذلك على ضربين :

١ ـ فان كان المتعدد المشبه سمي تشبيه التسوية ، كقوله :

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كالليالي

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي (٣)

__________________

(١) العناب بزنة رمان حب أحمر مائل الى الكدرة قدر قلوب الطير يثمره السدر البستاني والحشف أردأ التمر.

(٢) الغالية أخلاط من الطيب مركبة تركيبا خاصا.

(٣) للصدغ إطلاقان ما بين الأذن والعين ، والشعر المتدلي ، وهو المراد هنا ، والسواد في حاله تخييلي.

٢١٩

فقد شبه في البيت الأول صدغ الحبيب (وهو الشعر البادي من الرأس فيما بين الأذن والعين) وحاله بالليالي ، وشبه في البيت الثاني ثغر الحبيب (وهو مقدم أسنانه) ودموعه باللآليء في القدر والصفاء والإشراق.

٢ ـ وإن كان المشبه به سمي تشبيه الجمع كقول البحتري :

بات نديما لي حتى الصباح

أغيد مجدول مكان الوشاح

كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضد أو برد أو أقاح

المبحث الخامس في وجه الشبه

وجه الشبه هو الوصف الخاص (١) الذي قصد اشتراك الطرفين فيه ، فقولك : علي كالأسد ، ووجه سعدى كالشمس ـ الوجه في الأول الجرأة والإقدام وشدة البطش المشهورة في الأسد ، وفي الثاني الحسن والبهاء الثابتان للشمس.

فمن أراد أن يشبه حركة أو هيئة بغيرها فعليه أن يتطلب أمرا يشترك فيه الطرفان ، كما فعل ابن المعتز حين يقول :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرة وانفتاحا (٢)

فهو لم ينظر الى جميع صفات البرق ، بل نظر الى انبساط يعقبه انقباض ، وانتشار يتلوه انضمام ، فشبه ذلك بمصحف ، القارىء يفتحه مرة ، ويطبقه مرة أخرى.

ومما ذكر تعلم أن قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» يريدون به أن الكلام لا ينتفع به إلا بمراعاة أحكام النحو فيه ، كما لا ينتفع بالطعام ما لم يصلح بالملح ، إلا أن القليل من النحو مفيد والكثير مفسد ، كما يفسد الملح الطعام ، اذا كثر فيه ، إذ لا تتصور زيادة ولا نقصان في جريان أحكامه في الكلام ، لأنه إن استوفى احكامه من رفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك ، فقد وجد النحو وانتفى الفساد وانتفع به في فهم المراد وإلا لم يوجد وكان

__________________

(١) قال ابن رشيق في «العمدة» : التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته ، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه ، ألا ترى أن قولهم : فلان كالبحر ، إنما يريدون كالبحر سماحة وعلما ، ولا يريدون ملوحة البحر وزعوقته. انتهى.

(٢) قار أصله قارىء حذفت منه الهمزة بعد قلبها ياء ، ثم أعلى إعلال قاض.

٢٢٠